بينما عادت المزعجة وفاء تنقض عليها معانقة وهي تبارك لها، وسعادة وفرح معديان مرتسمان على وجهها وهي تقول بابتهاج: " سآخذ معكما أول صورة، لقد كنت أنتظر هذه الفرصة حتى لا يسبقني إليها أحد.. ولكن أولًا.." ثم تلفتت حولها تلتقط كوب الحليب الذي شربت منه آية قائلة بانتصار: " سأشرب الحليب الذي شربتِ منه؛ لأكون العروس التالية التي ستلحق بكِ.. أين هي حبة التمر التي قضمت منها أخي؟.." تظهر الجدية على وجه لقمان وهو ينهرها قائلًا: " تعقلي يا وفاء.. فتاة مثقفة وواعية مثلك تؤمن بهذه الخرافات؟!:.." رفعت وفاء حاجبها الأيسر بترفع وهي ترد بينما تشرب الحليب بعناد: " ليست خرافات.. أحب أن أسميها فأل حسن.. فأل أبيض.. نسبة إلى بياض الحليب.." تضحك آية وطبيعة وفاء المشاغبة والتلقائية تستجلب بعض الاسترخاء إليها وتخفف عنها ضغط هذا الموقف المهيب لأي فتاة في مكانها.. تبتلع ضحكها بشهقة خافتة ويده تحط على يدها المضمومة إلى حجرها و يسحبها إليه يضغط عليها قليلًا، وعندما رفعت نظرها إليه وجدت تلك النظرة المؤنبة تأنيبًا رقيقًا في عينيه وهو يهمس بلطف: " لا يجوز ضحكك بتلقائية هكذا.. تلفتين الأنظار إليكِ.." هل ضحكها يزعجه إلى الدرجة؟.. ثم ماذا يعني أنها تلفت الأنظار؟ إنها عروس وكل الأنظار مسلطة عليها من الأساس.. غصة مؤلمة تستحكم حلقها وهي تراه يرتد عنها يستوي في جلسته ويده لا تزال تحتضن يدها ببرود تام كأنه مجبر وواجب عليه أن يمسك بها أمام الكاميرات.. *** " أنا قادمة أمي.." ترفع وفاء صوتها ترد على أمها المنادية عليها وهي تقف أسفل السلم رفقة والدة آية، تتفقان على بعض الأمور بخصوص الغد، بينما حالة آية الغريبة تسترعي اهتمام وفاء وتشغل بالها وتقلقها عليها وهي تسألها دون أن تحصل منها على رد يبدّد قلقها: " آية.. ما بكِ يا صديقتي؟ أنتِ تقلقينني.. أهذه آية التي تخيلناها معًا ليلة خطبتها وعقد قرانها من حبيب عمرها لقمان؟.. لا والله.. هذه التي أمامي ليست هي.. لماذا تبدين منطفئة باهتة بهذا الشكل؟ هل بدر من لقمان أي تصرف أزعجك؟" تطلق آية نفسًا حارًا وقد احتقنت عيناها وبدتا على وشك البكاء.. الحيرة تملأ نفسها ولا تعرف كيف السبيل إلى طمئنة نفسها، كما لا تدري بماذا تجيب تساؤلات وفاء القلقة عليها.. هي نفسها لا تعرف الرد.. " لا.. لم يبدر منه أي تصرف.. وهذا ما يقلقني.." التقى حاجبا وفاء بغباء وهي لا تكاد تستوعب ما تقصده لتنظر إليها آية تهتف باختناق: " أنتِ لن تفهميني.." " فقط جربي.." حثتها وفاء بصبر عندما وجدتها على استعداد للكلام، لكن هناك شيء يمنعها فبدأت آية تقول بحيرة وتردد: " لا أعرف لماذا ينتابني احساس بأني قد تسرعت.. لقمان.. لقمان لا يبدي أي شيء.. أية مشاعر.. آه، لا أعرف كيف أشرح لكِ.." تعقد وفاء حاجبيها، تحاول عدم إظهار تلك الوساوس التي انتابتها سابقًا، وتحاول معها تهدئة آية وثنيها عن تلك الأفكار التي فات أوانها.. غدًا حفل الزفاف ولا مجال للتراجع الآن.. " أنتِ تعرفين شخصية لقمان.. كل سكان الحي يعرفون هدوءه ورزانته.. لا يترك نفسه أبدًا لينساق وراء مشاعره" رفعت آية عينين مبتلتين بالدموع وقد أطلت منهما نظرة حزن آلمت وفاء في قلبها بينما كانت تهمس بصوتها المهتز: " حتى أنه لم يطلب الانفراد معي لنتحدث قليلًا بعد انقضاء الحفل.. شهر كامل مضى ولم يطلب رقمي لنتواصل ونتعرف على بعضنا أكثر.. لقد كنت أظن أن أخلاقه وتربيته هي التي تمنعه عن ذلك، فأنا لم أكن أحلّ له بعد.. لكن بعد عقد القران.. ماذا كان يمنعه من ذلك؟" خنقتها العبرات وصمتت تسر لنفسها بلوعة: " حتى أني لم أحصل على قبلتي الأولى، ولا يبدو أنه متلهف لهذا أبدًا.." فبمجرد أن انقضى حفل الخطبة حتى انصرف مع جميع المدعوين كأن الحفل ليس حفله، وخلّف والدته ووفاء وراءه لتتفقا مع أهلها على باقي التحضيرات.. تتنهد وفاء بتعب وقد أعيتها بدورها التحليلات.. شخصية لقمان لطالما كانت مغايرة لجيله.. كان يبدو أحيانًا كثيرة متزمتًا جدًا.. لكنها تعترف أيضًا أن ذلك التزمت هناك من يسميه تشددًا في الحق ومبدأ لا يمكن أن يتزحزح عنه، لهذا كانت متخوفة من هذه الزيجة، فآية رومانسية بزيادة وقد لا تتفق شخصيتها مع شخصيته.. نفضت عنها كل تلك الأفكار وعادت تبتسم وهي تقترب منها تمسح دموعها بأصابعها قائلة بمهادنة: " توقفي عن دموعك هذه.. آه يا إلهي!.. هذا فأل شؤم وأنتِ تذرفين دموعك بقهر في ليلة عقد قرانك.. سيكون كل شيء بخير صدقيني.. سأتحدث إلى لقمان.." " لا لا.. لا تفعلي أرجوك.." قاطعتها وهي تمسك بيديها بينما جحظت عيناها بذعر، فابتسمت وفاء بحنو وهي تضمها إليها تسألها بمشاكسة: " ألم تلاحظي أنه ينظر إليكِ باهتمام أكبر لم ينظر به إلى أي فتاة من قبل.. بل إنه لم ينظر إلى أي فتاة أبدًا وهذا ما يجعله مختلفًا.. هيا، لابد أنكِ لاحظت عليه بعض الاهتمام أو صدرت عنه لفتة خلال هذا الشهر.." ابتسمت آية وسط دموعها وذاكرتها ترتحل تلقائيًا عند تساؤلها لذلك اليوم بعد أسبوع لطلبه يدها، ذلك اليوم أشعرها فيه ببعض الاهتمام وهو يخرج ما إن لمحها تخرج القمامة لترميها في الحاوية على ناصية آخر الشارع، وقف عند باب بيتهم ينتظر رجوعها لتتباطأ خطواتها وعيناها تكتشفان وجوده بينما يسألها ببعض الحدة في صوته: " ألا يوجد بالبيت غيرك ليفرغ القمامة؟.." تراقصت حدقتاها إجفالًا من سؤاله، لكن لهجته لم تبدّد حالة السعادة الهائمة التي تطير على أجنحتها لمرآه.. أطرقت وجهها المورد ترد بحياء فاتن: " أخي مريض اليوم؛ لهذا أفرغتها نيابة عنه" حرك رأسه بتفهم وتلك التقطيبة المنزعجة لا تزال تعلو جبينه بينما يضيف بلطف أكبر: " الوقت متأخر، وخروجك ليلًا ليس مستحبًا وخطر عليكِ" قلبها يتصاعد برفرفة نبضاته حتى شعرت به يكاد يتوقف وقد لمست الاهتمام والقلق في صوته، وعندما رفعت نظراتها إليه أملًا في استراق بضعة لحظات تخصهما تحفظها في دفتر ذكرياتها بادرها هو إلى القول بصرامة وقوة: " ادخلي للبيت.. لا يجوز وقوفنا هكذا.." تراقصت نظراتها إجفالًا بينما انفرجت شفتاها وبدت وكأنها تلقت صفعة إدراك جعلتها تعود للواقع، فأسرعت تلملم نبضاتها الخرقاء ومشاعرها الطفولية وتدخل.. تعود من تلك الذكرى بابتسامة مرتجفة على شفتيها وهي تتذكر جملته المشاكسة لها بعد أسبوع من ذلك الموقف وهو ينتظر عودتها من عند الحاوية: " ألم يشفَ شقيقك بعد؟.." لم يكن سؤالًا بقدر ما كان إدراكًا لكذبتها وخدعتها البريئة البيضاء، وهي تتعمد كل ليلة الخروج بالقمامة لتدفعه للخروج لحراستها لحين عودتها، ثم يدلف لداخل البيت دون كلمة لتقرر أن تكون تلك لحظاتهما المميزة النادرة التي ستملأ بها دفترها الفارغ المنتظر منذ زمن لقصص وحكايات حبها الخالدة.. لم تجبه فقط ابتسمت بحياء ووجهها يتوهج بحمرة قانية قبل أن تنسل من أمامه هاربة من حصار عينيه.. رفعت يديها تمسح وجهها من أثر الدموع تنهر نفسها على أفكارها السوداء.. كيف استطاعت أن تنسى تلك النظرة العميقة من عينيه وهو يحيطها ويشيعها بها حتى تدخل إلى البيت؟ كيف تنسى انتظاره لها في نفس التوقيت من كل ليلة لتخرج، وما إن تطأ قدمها عتبة الباب حتى تجده أمامها يفتح باب بيتهم؛ ليقف على الرصيف الفاصل بين البيتين ينتظر عودتها؟ لم يكن هناك أي خطر محتمل فهي معتادة على الخروج أحيانًا كثيرة لشراء بعض الحاجيات من المتجر القريب، حتى وإن كان ليلًا فالحي كان آمنًا، لكنها أحبت ذلك الشعور المحيط بها والذي يصلها منه كأنه يفرض حمايته حولها ويعلن بها أنها باتت تخصه.. تسحب أنفاسًا عميقة تهدئ مشاعرها المتوترة لتقول باقتناع ويقين: " أنتِ محقة يا وفاء.. أنا فقط متوترة من الزفاف.." صوت حماتها يصلها تنادي على ابنتها لتذهبا وقد تأخرتا لتُطَمئن هذه الأخيرة قائلة: " اذهبي وفاء وسأكون بخير.. ما حدث معي كان مجرد إجهاد وكبت مشاعر عانيته طيلة الأيام الفائتة من ضغط التحضيرات وقد انفجر اليوم.. اذهبي ولا تقلقي علي سأكون بخير غدًا.. لن أدع مجرد وساوس تفسد علي فرحتي.. إنه لقمان يا وفاء.. لقمان.. ولن أتنازل عن مشاعري تجاهه تحت أي ظرف كان.." تستقيم وفاء واقفة وعلامات البلادة تحتل ملامحها من تغير هذه المخلوقة من حال إلى حال في أقل من دقيقة، فتتأكد من أنها (هبيلة) فعلا كما وصفتها زيادة الى أن لديها بوادر انفصام للشخصية.. كان الله في عون لقمان المسكين. *** تصلها الزغاريد وهي تبتعد وتتلاشى تدريجيًا عبر الممر المؤدي إلى الجناح في الفندق، حيث كانت تقف وسط الغرفة بثوب زفافها الأبيض المنفوش، والحرارة تكاد تصهرها وتذيب كل رباطة جأشها من رهبة هذا الموقف الأقوى من أي أنثى كيفما كانت تكون.. انتفاضة وجلة تلقائية لم تستطع التحكم بها تسيطر عليها عندما انفتح الباب وظهر من خلفه لقمان، بعد أن ودع عائلتيهما اللتان زفتهما من قاعة الحفلات التي أقيم فيها الحفل الكبير إلى الفندق بالزغاريد، ولم ينسَ والداها كما والدته أن يوصياه عليها؛ لأنها باتت أمانة لديه.. وقف عند الباب بكامل أناقته ووسامته التي خطفتاها هذه الليلة بطقمه الأسود البراق، مع أنها قد انجذبت أكثر ووقع قلبها صريعًا لإطلالته الساحرة بالزي المغربي التقليدي الذي رافقها به أثناء تغييرها لإطلالاتها المختلفة بالقفطان المغربي الأصيل، فقد أظهر رجولته القوية واكتسب وقارًا وهيبة بالجلباب الأبيض الرجولي الأنيق، وفوقه السلهام ينفاسه بياضًا وأناقة.. يتريث للحظات عنده يشملها بعينيه وزفرة خافتة يطلق بها أنفاسه ويسألها بمودة: " هل أنتِ جائعة؟" لتسارع إلى النفي بحركة من رأسها فيبتسم ويقول بإقرار: " إذا دعينا نصلي ركعتين لله.. هل أنتِ على وضوء؟.." عادت تحرك رأسها بالإيجاب هذه المرة وهي تحس أن لسانها قد نسي كيفية الكلام.. هز رأسه بدوره وهو يقول بهدوء: " جيد.. سأتركك تغيرين ثيابك وترتدي شيئًا مريحًا أكثر.." ثم استدار وتركها لتطلق أنفاسها المحبوسة وهي تشعر أن الموقف أقوى مما كانت تعتقده.. كيف لها أن تتصرف بأريحية وهي تكاد تتهاوى أرضًا وتذوي من رهبة الموقف؟.