قفزت آية خارج سريرها وموجة الحماس لا تفارفها رغم كلمات وفاء الجادة والمتضمنة خوفًا لا تعرف له سببًا.. حبا بالله!.. كيف لها أن تقول كلام كهذا؟ إنه لقمان الصعب المنال يتقدم لخطبتها.. هل هي في حلم؟.. ما الذي تطلبه منها وفاء؟ في أي شيء ستفكر؟ وما الذي يستدعي التفكير أساسًا؟ لقمان ينوي التقدم لخطبتها.. هذا هو الأهم ولا شيء آخر مهم.. " أفكر؟ ولا أنساق وراء مشاعري؟ وراء ماذا إذا سأنساق يا وفاء؟ أنتِ لا تقدرين حجم الفرحة التي تغمرني الآن.. أنا لا زلت غير مصدقة.. بالله عليكِ يا وفاء أخبريني أن هذا ليس مقلبًا منكِ؟ أرجوك لن أتحمل أن يكون كل هذا مجرد مزاح.." أطلقت وفاء تنهيدة مفعمة بالاحباط وهي تفرك جبينها بتعب.. لا فائدة من كل محاولاتها.. آية لن تستمع لما تقوله.. وكيف ستستمع؟ وهي تعيش هذه الفرحة الصاخبة بداخلها والاندفاع وراء تحقيق حلم راودها طويلًا ورأته صعب التحقيق، لهذا لم تجد إلا أن تجاريها وترد عليها بصبر وصدق: " ليس مقلبًا يا آية.. كيف يخطر لكِ أن أتلاعب بمشاعرك بهذا الشكل؟ وعلى العموم فإن والدتي ولا شك قد اتصلت بوالدتك لتطلب منها الإذن بزيارتكم غدًا.. تستطيعين سؤالها.." *** في اليوم التالي.. تتكئ على سريرها وهاتفها على أذنها والبسمة البلهاء لا تفارق شفتيها، بينما تعيد على مسامع وفاء للمرة الألف حجم فرحتها، وتعدد صفات لقمان وشكله الوسيم المهيب عن قرب: " لا أصدق أني قد جلست في نفس المكان معه.. لا أصدق أنني قد تمكنت من رؤيته بوضوح بهذا القرب المهلك لفؤادي المسكين.. آه.. نبضاته المرتعشة لا تتحمل كل هذه الجاذبية وهذا الوقار والهيبة.. رجل بحق.. الكلام عنده بميزان.. والنظرة لا تروي ظمآن.. ولا تسكن ما يجيش في الوجدان ..لقمان، فقط لقمان" يا حبيبي آية الهبيلة (الهبلاء) أصبحت شاعرة.. تهمس وفاء بتهكم وهي تغمض عينيها و تتثاءب بضجر، تحارب نومًا يثقل جفونها، لكن هذه الحمقاء العاشقة للتراب الذي يمشي عليه شقيقها لا ترحمها بثرثرتها التي لا تنتهي.. ابتسامة حانية ترتسم على شفتيها وحالتها المرتبكة والمشتتة هذا اليوم تثير عطفها بشكل كبير، لم تكن تستطيع السيطرة على انفعالاتها وهي تتقدم لقاعة الضيوف حيث ستقابل لقمان لأول مرة وتجلس معه ليتعرفا على بعضهما، حتى أنها تشبثت بها كأنها تتشبث بطوق نجاة من الغرق عندما انسحب الجميع تاركين لهما القاعة، واستطاعت أن تفك نفسها من قبضتها وتنسحب بدورها: " عما تحدثتما أنتِ ولقمان؟.. ماذا قال لكِ؟.." توقفت آية عن ثرثرتها التي قاطعها سؤال وفاء لتبتسم بحياء ووجهها يشتعل ويتوهج احمرارًا، بينما ذاكرتها تعود بها لبضع ساعات حيث كانت تجلس وفراشات مرفرفة بقلبها تدغدغ مشاعرها، وموقف مهيب أقوى منها يهزمها ويظهر ضعفها ووجلها وهي معه في مكان واحد، أنفاسهما تجمعها غرفة واحدة.. عطره الغامض والمجهول سابقًا تعرفت عليه أخيرًا.. عطر ساحر مثله تمامًا.. رهبة اللقاء تهيمن عليها وتتركها بلا حول ولا قوة.. جالسة بحياء منكمشة على نفسها وأصابعها تفركان بارتباك ودون توقف.. " آنسة آية.." قلبها تهاوى وغاص بداخلها وصوته الاجش يخترق أسماعها.. هل يمكن لشخص أن يختزل كل هذه الصفات المثالية في كينونته الرجولية ويستحوذ عليها لنفسه؟.. حرارة تجتاحها وتذيبها بينما ينساب صوته مجددًا كلحن عذب يخترقها ويتراقص عليه خافقها الأخرق بنبضات مشتتة: " هذه الجلسة يحق لنا أن نحظى بها أنا وأنتِ لنتعرف على بعضنا ونتحدث وننصت لبعضنا.. فرجاء ارفعي نظرك ولا تستحي فمن حقك رؤية من سيصبح شريك حياتك وتبدي رأيك به.." شلالات من العرق تتصبب على طول ظهرها وطلبه المنشود للنظر إليه عن قرب كان غاية المنى.. بحذر ترفع وجهها المطرق بخفر فطري يولد مع أي فتاة منذ الصغر.. شفتاها تنفرجان قليلًا بدون شعور وقد وقعت عيناها المسحورتين أسيرتين لوسامة وجاذبية لم تخلقا لسواه.. هالة من الهيبة والرجولة تلفه وتغرقها في بحور ضياع لم تجد فيها سبيلًا للعودة.. يا إلهي! عيناه ذهبيتان!.. هتفت لنفسها بأنفاس لاهثة ورهبة الموقف تهزمها لتعود وتطرق بوجهها.. لم تكن قد رأت أوصافه عن قرب قبلًا.. لم تعلم أن شعره الداكن وهي تراه من نافذة غرفتها هو عسلي في الحقيقة.. وشعيرات لحيته المشذبة بعناية لها نفس اللون المميز.. " ألن تقولي شيئًا؟.. آية.. اسمك جميل.." نطق اسمها دون ألقاب وبتروٍ كأنه يتعرف على حروفه ويستطعمها.. صوت غريب يصدر عنها وكأنها تختنق.. هل تسمي هذا غزلًا؟ تلك الجملة البسيطة تحملها وتطوف بها فوق غيوم وردية.. " حسنا.. لا بأس.. سأتحدث أنا.." ورغم أنه سبق و قال أنها مقابلة ليستمعا لبعضهما لكنها تحولت لجلسة استماع لها بينما كان هو المستحوذ على الحديث كله: " أنتِ ولا شك تعرفين كل ظروفي وظروف عائلتي، والدتي صحتها معتلة وشقيقتي لا تزال بحاجة لرعايتي واهتمامي.. لهذا لن أستطيع مغادرة بيتنا والانتقال إلى سكن مستقل إذا حدث وتم النصيب بيننا.. أتمنى ألا يشكل هذا أي فارق بالنسبة لكِ.." هزت رأسها نفيًا وهي لا تجرؤ على النظر أو الكلام.. تريث للحظات، يتعمق النظر إليها قبل أن يسألها بلطف مهذب: " أليس لديكِ مانع في السكن مع عائلتي؟.." عادت تهز رأسها نفيًا ووجهها يزداد توهجًا واحمرارًا.. لتصلها تنهيدة خافتة من قبله لكنه أصر عليها بالقول اللين: " أحب أن اسمعها منكِ لأتأكد.." بحثت عن صوتها الذي اختفى بقدرة قادر فحمحمت تجلي حلقها وهي تهمس بتقطع: " لا.. لا أمانع.." هز رأسه باستحسان وارتياح مباغت يغزو ملامحه بينما يقول كأنه يقطع وعدًا على نفسه قبل أن يقطعه عليها: " والدك أخبرني أنه يود أن تنهي دراستك أولًا قبل الزواج، ولكني أعطيته كلمتي ألا أحرمك منها كما لن أحرمك من بناء مستقبلك بالطريقة التي تريدين، ولن أعارض عملك كما لن أعارض عدم رغبتك في العمل، ذاك قرارك وتستطيعين التصرف فيه لوحدك، وعملي ولله الحمد يسمح لي بتوفير كل ما نحتاجه وأنا متكفل بكِ وبعائلتي.." صمت للحظات يتأكد من انصاتها ومتابعتها لكلامه قبل أن يضيف: "أنا بطبيعتي شخص مسالم وهادئ لا أحب العنف بكل أشكاله، أحترم الأنثى وأقدرها وتستطيعين القول أني أعرف كيف أحتويها؛ لأني عشت حياتي بين أنثتين هما كل حياتي، وبانضمامك ستشاركيهما نفس تلك المكانة التي تحتلانها ومنزلتك ستكون من منزلتهما.. يتوجب عليهما احترامك كما أنتِ ملزمة باحترامهما" كلماته لا تزال ترن في أذنيها وكأنها تستمع لها الآن، ولم تنتبه لوفاء ومحاولاتها لإعادتها للواقع: " أين تسرحين أيتها العاشقة المدلهة؟.. أقسم أنكِ على شفا فقدان آخر شعرة تربطك بالعقل لتغدي مجنونة لقمان" ضحكتها المرتجفة تصلها وكأن كلامها أقصى أمانيها.. هل يفعل الحب كل هذه المعجزات الخرقاء بالإنسان؟.. مصمصت وفاء شفتيها بامتعاض وهي لا تتمنى أبدًا أن تكون مكانها، وعادت تسألها بتذمر حاد والنعاس يكاد يفتك بها: " أخبريني بسرعة عما تحدثتما أنتِ ولقمان؟.. أنا نعسة جدًا ومجهدة وأريد أن أنام في هذه الليلة التي لا تنتهي.." عبست آية قليلًا من نشاز نبرتها أمام الحالة الرومانسية التي تعيشها، لتقول برقة أذابت أعصاب وفاء وفتكت بها: " قال لي أن اسمي جميل.. آهٍ من صوته الجهوري العميق يرفرف له قلبي بافتتان.." رفعت وفاء نظرها للسماء بقنوط وندمت على طرحها السؤال أصلًا لتقول بتهكم وسخرية: " قال أن اسمك جميل فقط وتعيشين هذه الحالة المدلهة؟ ماذا ستكون ردة فعلك إذا قال أحبك مثلًا؟ أو تغنى وتغزل بك؟.." " سيتوقف قلبي عن الخفقان، ويتوقف الزمن عند تلك اللحظة فتخلد للأبد.." تأوهت وفاء بنرفزة وقد فتكت تلك الحمقاء بما تبقى من أعصابها لتنفضها قائلة بحنق: " اذهبي ونامي يا هبلاء لتكملي حلمك الجميل على فراشك وعلى غيمة أحلامك.. أقسم أني أتمتع بقوة تحمل وبرودة دم لا أعرف عنهما شيئًا؛ لأني أنصت لترهاتك الفارغة عن الحب.." " مهلًا مهلًا.. لا تقفلي الخط أرجوك.." هتفت آية تمنعها من إقفال الخط وهي تضيف برجاء أكبر: " أخبريني قبل ذهابك.. ماذا قال لكِ أو لكما أنت ووالدتك عني.." صمتت وفاء للحظات وهي تجهل بماذا تجيب، فالجلف البارد القلب لم يقل شيئًا، وهذه الغبية تتوقع أن يصفها كما كانت هي تصفه.. لابد أنها قد جنت.. على كل هي من جنت على نفسها لقد حذرتها لكنها لم تنصت.. " ماذا تتوقعين أن يقول يا آية؟ ألا تعلمين بطباع لقمان؟ إنه هادئ وجدّي أكثر من اللازم.. كان الله في عون من تتزوج به.." " ومن هذه التي ستتزوج به يا وفاء؟ أليس من المفترض أن أكون أنا؟ هل غيرتم رأيكم؟.." انفجرت بها آية بخشونة وقد اختفت النعومة من صوتها وانقشعت هالة الافتتان والسحر التي كانت تحيطها، لتزمجر وفاء بحنق وهي تهتف بها ساخطة: " اذهبي للنوم آية.. ألم أقل أنكِ هبيلة؟ يجدر بي أن أقول كان الله في عون من سيتزوجك وليس العكس.. أنتما الاثنان تستحقان بعضكما.." أقفلت الخط قبل أن تنطلق موجة تذمر من جهة آية ثم ألقت الهاتف بعد أن أطفأته لتنام.. بعد يومين.. صوت رنة الإشعار بوصول الرسالة المرتقبة والمعتادة تصلها، فتتنقل برشاقة مرفرفة على أطراف أصابع قدميها لتطير لنافذتها كعادتها الصباحية المنعشة لروحها، تشيعه وتتملّى بطلّته الآسرة لقلبها المفتون تُودِعه إياه خافقًا لهواه.. دونًا عن سواه، وتستنشق أنفاسًا طويلة من نسيم الصباح الذي حمل في مجال ذراته عبير أنفاسه وعطره يحتضنهما.. يكفي أنه لامس محيطه واكتنف حضوره ليتخلّل نسماته.. تنهيدة عاشقة تتصاعد من ثنايا صدرها وتزفرها حارة ورفرفات الفراشات تكاد تحملها على أجنحتها.. يفتح باب سيارته ويتريث قليلًا وعلى شفتيه شبح ابتسامة متسلية، بينما يغالب رغبة جامحة طفولية تدعوه لرفع رأسه قليلًا ومطالعة هيئتها المنطلقة بردات فعل تلقائية لا تجيد إخفاءها، تقف في إطار نافذة غرفتها كلوحة واقعية مبهجة للنظر.. يتخذ مكانه على المقعد ثم يسحب هاتفه النقال من جيبه يضيئه ويشغل الكاميرا الأمامية لتطالعه هيئتها المبهجة والمبتهجة بفرح طفولي غريب، ترسم تلك الابتسامة المعدية لترتسم أختها على شفتيه فورًا وهو يهز رأسه بقلة حيلة منهما معًا.. هل حقًا سيتزوج بهذه الفتاة التي تغالب الأطفال باندفاعها وفرحها وهي تظن أنه لا يراها الآن، ولا يعرف بوقوفها المترقب في انتظار خروجه من البيت ومغادرته لعمله؟.. هل تسرع في ما هو مقدم عليه؟.. تساءل بابتسامة صغيرة رغم أن سؤاله لا محل له من الإعراب، فموافقتها وعائلتها على الارتباط به قد وصلت، والخطبة والزواج سيتمان بعد شهر تقريبًا، بعد أن تتم كل الاستعدادات المطلوبة كما طلب هو.. إذن لا مجال لتساؤله هذا الآن.. عاد يبتسم وهو يعبئ أنفاسًا طويلة يتضخم لها صدره ثم يطفئ الهاتف ويعيده لجيبه يستبشر خيرًا بالقادم، طالبًا من الله أن يقدم ما فيه الصالح له ولها والخير يعُم على عائلتيهما. *** بعد شهر.. تجلس شاردة، تحظى ببضع دقائق مع نفسها بعيدًا عن أية ضوضاء تستجمع تركيزها.. ها قد مر الشهر بخطفة الريح كأنه لم يكن، وما كانت تتوق له قبل هذا الشهر وتتلهف إليه باتت تخافه وقد خامرتها بعض الشكوك، لا تدري إن كانت في محلها أم أنها تبالغ بها.. أهذه هي فترة الخطبة التي تمنتها وحلمت بها؟ لا والله.. أين ما كانت تقرأه في الروايات وتشاهده في الأفلام؟ ما يجعل نفسها تتوق إليها، هل كانت وفاء على حق في مخاوفها والتي نقلتها لها منذ أول يوم؟.. لقمان لا يبدي أية مشاعر فياضة أو تلهف تجاهها كأن إقدامهما على الزواج أمر عادي.. تطلق نفسًا مختنقًا وشيء جاثم يكتم على صدرها، يوصل لها شعورًا تمقته بأنها قد تسرعت.. هل تسرعت فعلًا؟ ماذا دهاها؟ إنه لقمان!.. لقمان حلم مراهقتها وشبابها.. حتى وإن كان لا يبدي أي شوق أو حب عاصف.. أو لهفة للانفراد بها كما يفعل كل العاشقون للتنعم بقرب بعضهما واقتطاف زهرة من بستان حبهما.. لكنه سيبقى لقمان حبيب العمر الذي لم تتمنَ غيره في حياتها.. ترفع يديها تمررهما على وجهها تزيح عنه ذلك الكدر والانقباض الذي تملك ملامحها، وتستنشق أنفاسًا طويلة متتالية تعبئ بها رئتيها، وتستجلب معها صفاء ذهنها وسلام روحها، بينما ذاكرتها تسترجع معها أحداث الشهر الماضي الحافلة بكل تفاصيلها بحثًا عن ثغرة ما.. لم يطلب رقمها ليتصل بها كما هي عادة كل المخطوبين بعد إعلان موافقتها وموافقة أهلها على مطلبهم، كما أنه أجّل موعد الخطبة كأنه غير آبه بالتقرب منها والتعرف عليها خلال تلك الفترة المتاحة لأي خطيبيْن.. لم يكن يتعمد تحين الفرص للقائها أو حتى حاول الاستعانة بأخته لتدبر لهما صدفة يلتقيان فيها فيتحدثان.. لقد كانت تحمل مشاريع كثيرة لهذا الشهر المنصرم دون أن يتحقق شيء منها.. هناك شيء غريب ينبئها أن الموضوع أبدًا ليس كما تصورته، إنه يخيفها بهدوئه الكبير ورزانته ووقاره المهيمنان على كل من حوله، شخصيته المتزنة تخيفها.. هل يعرف قلبه الحب أم أنها ستعاني من بروده معها؟.. زيادة إلى شخصيته الرزينة فهو أيضًا يتمتع بقدر كبير من الصرامة والحزم، لن تنسى وجهه المحتقن قبل أيام وعيناه الغاضبتان بشكل مخيف وهو ينهرها هي وشقيقته وفاء على ضحكهما العالي وتنبيهه إلى أنهما ليستا بمفردهما.. كان قد رافقهما رفقة والدته ووالدتها لاختيار غرفة نوم العروس قبل أيام، ومن عادتها ووفاء ممازحة بعضهما البعض وكانتا تضحكان على طرفة أرتها إياها وفاء في الهاتف، لتنطلقا معًا في ضحك تلقائي صافي عندما اقترب منهما ينهرهما قائلًا بجدية صارمة: " تعقلا أنتما الاثنتان.. لقد لفتما أنظار كل من في المحل.." تلاشت ضحكاتهما وسكنت نظرة وجلة مقلتيهما معًا وهما تتلفتان حولهما لتجدا أن لا أحد ينظر إليهما أساسًا، بينما عادت عينا آية تنظر إليه وقد انطفأت عيناها المشعتان سعادة ولاحت فيهما نظرة لوم وعتاب رقيق وكأنها قد صدمت من ردة فعله، وقد انتابها احساس أنه متزمت أكثر من اللازم، بينما ارتد هو عنهما مديرًا ظهره تصلهما تمتماته المستغفرة وهو يمسح على صفحة وجهه.. عادت تزفر وهي تعود من تلك الذكرى وقد بدأ صدرها يضيق من كل تلك الهواجس.. اليوم هو يوم الخطبة وعقد القران.. عليها أن تتفاءل خيرًا.. الله لن يذرها في حيرتها تلك.. سيشرح صدرها وييسر أمرها لأنها لم تغفل عن اللجوء إليه.. لقد استخارته قبل الإقدام على أية خطوة ولن يخيب ظنها. *** كان حفل الخطبة يقتصر على العائلة والأقارب فقط، بينما الحفل الكبير غدًا سيضم كل سكان الحي وكل المعارف الآخرون، لهذا فقد أقيم في بيت "آل لخضر" ولم يخلُ من كل الطقوس التي تقام في مثل هذا اليوم.. بعد عقد القران في القاعة التي ضمت الرجال، انتقل العريس للقاعة الأخرى حيث اجتمعت النساء رفقة العروس لإلباس حلقات الخطبة تحت أنغام شعبية تحاكي مظاهر الفرح التي تعم الاجواء.. "لالّة لعروسة.. وردة محروسة.. مباركة على مولاي السلطان.. لالّة العروسة" يتقدم "مولاي السلطان" العريس يتخذ مكانه إلى جانب عروسه التي زين الحياء والخجل وجهها، ولم يكن بأفضل حال منها ورهبة الموقف وأنظار الجميع مسلطة عليه تُحدِث بَلبَلة بثباته وجَلده.. قدمت له وفاء خاتم الخطبة الذي اختاره بنفسه ليأخذه بيد بينما مد يده الأخرى ملامسًا ليدها المنقوشة برسومات زاهية تشع بحمرة الحناء فوق بياض بشرتها، فيسري الارتباك في الأوردة ويلتهب لها الجبين.. بينما ترفرف القلوب لأول لمسة وحلقة الخاتم تنزلق حول إصبعها وتستقر مزينة مكانها بأبهى صورة.. ترتجف شفتاها بابتسامة عبرت عن مشاعر مختلطة بينما تمد لها وفاء بالحلقة الأخرى لتلبسها للقمان هذه المرة.. تبتلع ريقها بتوتر، وبدت وكأنها مقدمة على مهمة مستحيلة ويده السمراء القوية تنبسط أمامها في انتظار إلباسها إياها.. ارتجفت أناملها وهي تلامسها بدورها بيد بينما تدس بيدها الأخرى الحلقة ثم تطلق أنفاسها بتنهيدة ارتياح لا شعوريًا، لتلمح ابتسامة صغيرة على طرف فمه بدّدت كل تلك الصرامة على ملامحه.. اقترب منها يقبل جبينها بعد أن ألبسها الهدية المختارة من قبله، عبارة عن سوار أنيق من الذهب الخالص وهو يهمس بصوته العميق الاجش: " مبارك يا عروس.." رجفة استحكمت أوصالها ودفء قربه يشع من حولها يغطيها، بينما تسربلت حرارة شفتيه الملامسة لبشرتها في أوردتها تتشربها، وعطره يملأ صدرها، لتأتي نبرة صوتها مهتزة بطوفان المشاعر في صدرها وهي ترد له مباركته.. عيناها تتهربان من خاصته بينما تلمح تلك الابتسامة الخلابة تزين شفتيه وهو يسألها بعتاب رقيق مشاكس: " ألن تباركي لي أنا أيضا؟.." لهثت أنفاسها وتضخمت في صدرها تخنقها وتلعثم مزعج يستولي عليها وهي تقول: " مم.. مبارك.." ولم ينقذها من هيبة هذا الموقف إلا صديقتها وفاء تعود لتقديم كوب الحليب لها كأحد الطقوس التي لا يخلو منها أي عرس تقليدي، فترفعه العروس وتقدمه لعريسها يرشف منه وبالمثل يفعل ويقدم لها الكأس الأخرى، ثم يتبعه طبق التمر المحشو بحبات اللوز فتتناول منها حبة تضعها في فمه وكذلك يفعل هو.. عندها تنطلق الزغاريد والتهليلات من حولهما والمباركات والدعوات بأن يكتب الله للعروسين السعادة ويرزقهم بالذرية الصالحة..