وقفت شمس في مكانها عاجزة عن الحركة لا تعلم ماذا تفعل مع هذا المخبول؟، وخاصةً عندما وجدته يهرع نحوها ووجهه لا يبشر بأي خير وكأنها فريسة وهو الصياد الذي ينقض عليها ليفترسها، ووقفت متصلبة تحدق به في ذهول وعندما وصل إليها ومد يده نحوها.. شعرت أنها هالكة لا محالة.. ولكن وفي لمح البصر وجدت صديقه يقف حائلًا بينهما ويحاول أن يقيد حركته ويمنعه من الوصول إليها . كادت دقات قلبها أن تعلن العصيان وتتوقف من شدة الرعب، وأنفاسها المتقطعة جعلت صدرها يعلو ويهبط بسرعة عجيبة، وبدون وعي وقفت متشبثة في ملابس صديقه من الخلف تحتمي به وتخفي وجهها، وعندما هدأت قليلًا وبدأت أنفاسها تعود لطبيعتها، واستعادت شجاعتها الزائفة، وأدركت ما يحدث حولها، وقفت بحزم خلف الرجل الآخر وقالت بصوتٍ حاد: أنت بجد واحد مجنون، طب امبارح وقلت شكلك مبلبع حاجة ومش على طبيعتك، لكن دلوقتي ايه عذرك؟! ضارب ايه تاني؟ حدق قصي بها وحاول أن يفلت من قبضة وليد وهو يصرخ قائلًا: شايف.. شايف قلة أدبها . انتفضت شمس من مكانها كما لو كانت لدغت من عقرب، واشتعلت العروق في وجهها وصرخت فيه وهي تتقدم منه وتقبض على ياقة قميصه قائلة: مين دي اللي قليلة الأدب يلا؟ أنت اتجننت رسمي، مش شمس الخطيب اللي يتقال علىها كده، اصحى كده وفوق لنفسك، مش عشان حته واد ملزق وارث فلوس من أهلك ومتعبتش فيهم تقولي أنا كده، طز فيك وفِي فلوسك وفِي الشغل، وابقى شوفْلَك شركة تانية اتعامل معاها، لكن شركة شمس متتعاملش مع الأشكال دي . كان قصي يقف محدقًا في ذهول من هول ما سمع، لم يجرؤ أحد من قبل أن يتفوه بمثل تلك الكلمات أو أن يتطاول عليه، ولَم تقل صدمة صديقه وليد عنه وقف هو أيضًا يستمع وبدون وعي خفف قبضته عنه ونسي ماذا كان يفعل؟ أما شمس فقد أنهت كلماتها وخرجت مسرعة من المكتب وهي في أوج غضبها، لم يجرؤ أحد من قبل على إهانتها هكذا، لم تمر بموقف مثل هذا من قبل، كانت تشعر بالغضب والحيرة الشديدة، لماذا يفعل هذا؟ لم كل تلك الإهانات؟، خرجت مسرعة على غرفتها وهي عاقدة العزم على الرحيل فورًا. أما الصديقان كانا كما هما يقفان في ذهول، حتى انقضت بضع دقائق وتحولت تلك الدهشة عند وليد إلى نوبة ضحك هستيري، وبصوت متقطع من شدة الضحك قال: البت.. مسحت.. بكرامتك الأرض، بس حقها، ايه الجنان الرسمي اللي أنت فيه ده؟! حد يعمل كده؟! نظر له قصي وهو يعدل من ياقة قميصه وقال: تقصد ايه؟، وبعدين قصدها ايه دي بأنها مش حتشتغل معانا!، مين دي أصلًا؟ ضرب وليد كفًا بكف وهو يحاول أن يسيطر على أعصابه وقال: يا بني دي المهندسة صاحبة شركة شمس اللي أنت طلبت نتعاقد معاها، وأنت اللي اخترتها بنفسك، وأكيد شفتها قبل كده بس أنت ناسي . نفى قصي كلام صديقه ووقف يعترض قائلًا: ما حصلش، أنا اه اخترت الشركة لما شفت شغلها، لكن ما اعرفش عنها حاجة ولا شفت صاحبتها . نظر له صديقه بإصرار وقال: متأكد؟ فأجابه: طبعًا. تحرك وليد نحو الكمبيوتر المحمول وضغط على بعض المفاتيح وفتح ملف معين، ثم أدار الشاشة لصديقه وقال: أمال مين دي؟ حدق قصي في الشاشة وهو يحاول أن يستوعب ما يحدث، هل بالفعل رآها من قبل؟، وكيف ينسى؟، ولم هي من ظهرت له في الحلم؟، وقف مندهشًا وهو يرى صورتها مرفقة بالملف الذي أرسل إلىه، ثم تحدث بكلمات تكاد تكون مسموعة: ازاي؟!.. طيب أنا ازاي مش فاكر خالص؟ طب ليه حلمت بيها؟، أنا أصلًا مش فاكر إني شفتها، ولا شكلها شدني عشان أحلم بيها، ايه الجنان ده؟! ايه اللي بيحصل؟! اقترب منه وليد في محاولة لتهدئته وأجابه: قصي أنت من فترة مش على طبيعتك، مخنوق ومش طايق حاجة، وعادي بتحصل ممكن أشوف حد مرة ومركزش معاه بس العقل الباطن بيطبع صورته، وموضوع الحلم مش حاجة مجرد وش ظهر في حلم، الموضوع بسيط أنت بس كبرت الدنيا وطلعت البت مزقوقة علينا وأن في حد بيحطلك حاجة في أكلك ودخلنا في الهلاوس والتخاريف، شغل عالي يعني . انفجر الصديقان في الضحك من سذاجة الموقف والتصرفات التي قام بها قصي، ثم انتبه وصرخ في وليد قائلًا: ألحق أجري وراها واعتذر لها، متقولش موضوع الحلم ده، دور على أي حجة قوية بس أوعى تجيب سيرة الكلام ده لأحسن تقول عليا مجنون، بسرعة . هرع وليد للخارج وهو يقول: أنت تعك وأنا أفك . عادت شمس مسرعة إلى غرفتها وهي تشتعل من الغضب لدرجة قد تجعلها تحرق كل من يقترب منها.. عبرت من الباب ثم صفعته بعنف، فأرتجت الجدران بقوة كما لو كانت ستسقط، كانت شاهي ما زالت نائمة ولكن صفعة الباب جعلتها تنتفض من نومها في ذعر شديد وتقفز فوق الفراش وهي تصرخ: زالزال .. زالزززززال، ثم انتبهت على صوت الحقائب التي تعدها شمس . بدأت تستعيد وعيها تدريجيًا وأدركت ما يحدث فجلست على الفراش مشبكة قدميها ببعضهما ووضعت يدها على وجنتها وهي تسندها على فخذها وقالت: من منظر سحنتك والدخلة المرعبة اللي أكيد قطعت خلفي، أقدر أقول أن الشغلانة بازت . كادت شمس أن تنفجر أمامها وأجابت وهي تدبدب بقدميها في الأرض وبكفيها على الحقيبة: ده حيوان.. حيوان.. والله لأوريه شغله.. أنا حأطلع عليه كل عفاريتي السود، أنا حأعرفه مقامه ابن بارم ديله ده، لو أهله معرفوش يربوه أنا حأعرفه التربية شكلها ايه، السافل ده . نظرت لها صديقتها وعيناها ما زالت ناعسة وقالت: ممكن تهدي شوية وتبطلي خبط ودبدبة وتحكي ايه اللي حصل بهدوء، عشان رأسي وجعتني . أجابتها شمس بعصبية: أهدى.. أهدى ايه؟، أنا مولعة من جوايا، أنا يقولي مجنونة، أنا يقولي قليلة الأدب، شمس يتقال لها كده من حته واد ملزق ميسواش ربع جنيه مخروم، أنا.. ماشي، والله لأوريه النجوم في عز الظهر . صمتت شاهي تستمع، ثم قالت بريبة شديدة: شمس.. هو لما قالك كده أنتِ عملتي ايه؟! نظرت لها وهي مستاءة من السؤال قائلة: يعني ايه عملت ايه؟!، بقولك قالي مجنونة وقليلة الأدب . فأعادت شاهي كلامها قائلة: دي عرفتها، أنا عايزة أعرف رد فعلك أنتِ بعد كده . فأجابتها بعفوية قائلة: أكيد مسخرت بكرامته الأرض، حأكون عملت ايه يعني؟! عدلت شاهي من جلستها وقالت: لا أنتِ تقعدي كده وتحكي من طقطق لسلامو عليكم . جلست شمس وروت لصديقتها كل ما حدث منذ بداية اللقاء وعندما وصلت للنهاية كانت الفتاة مصدومة، فاغرة فاهها ثم تحدثت قائلة: قلتي ل(قصي الدالي) يلا، وطز فيك وفِي فلوسك، وواد ملزق، وكمان مسكتيه من ياقة قميصه . نظرت لها شمس ببراءة وقالت: اه عادي، وكان ممكن كمان أرزعه قلم لولا الراجل اللي كان بيحوش بينا، النوع ده لازم يتسك على قفاه عشان يعرف أن الله حق، امال كنتي فاكرة اني حأسكت، يولع هو وفلوسه والشغل، أنا بس كل اللي حارقني فلوس اللبس اللي جبته، ثم رفعت يدها إلى السماء قائلة: إلهي يولع بيهم . حدقت شاهي بذهول وقالت: أنتِ مش معقولة، يا بنتي ده أبسط حاجة يلم عليكي الأمن يرموكي بره الفندق وتأخدي علقة محترمة . فأجابتها بثقة: طب يعملها كده وأنا أفرج عليه أمة لا إله إلا الله. وأثناء حديثها قاطعهما صوت طرقات قوية على الباب، فانتفضت شمس من مكانها وأشارت شاهي إلى الباب قائلة: شفتي.. الله ينتقم منك يا بعيدة، حأتهزق على آخر الزمن بسببك . فقفزت شمس بعصبية شديدة من على الفراش والتقطت ما وجدته أمامها (منفضة السجائر الزجاجية) وقالت وهي تهرع نحو الباب: طب يوريني نفسه، وفتحت الباب وهي ترفع يدها لتهوي بها على رأس من أمامها . صعق وليد عندما رآها هكذا وابتعد للخلف وهو يضع يده على رأسه لحمايتها ويصرخ قائلًا: أنا معملتش حاجة.. معملتش حاجة . تسمرت شمس في مكانها، ثم أخفضت يدها وحاولت أن تتماسك وقالت بحدة: نعم، عايز ايه!، ايه اللي جابك!، جاي تطردني من الجنة؟، أنا سايباها لكم إن شاء الله تتطربق على دماغكم . حاولت شاهي اللحاق بها فقفزت من الفراش، وارتدت الروب الحريري بسرعة شديدة ولَم تحاول حتى أن تعدل من هيئتها التى مهما فعلت لن تنتقص من جمالها إنشًا واحدًا، بل إنها كلما كانت على طبيعتها كلما زاد جمالها، لذا لم تهتم سوى أن تضع الروب على جسدها وتهرع خلف تلك المجنونة لتمنعها من ارتكاب أي كارثة، خرجت سريعًا وأمسكت بيد صديقتها من الخلف وهي تصرخ بها قائلة: شمس بلاش جنان، اهدي شوية، ولَم تنتبه سوى على صوت تعرفه جيدًا يقول: شهيرة؟!، سرت القشعريرة بجسدها وأمالت رأسها ببطء من خلف جسد صديقتها الذي يقف حائلًا بينها وبين صاحب هذا الصوت، ورفعت بصرها نحوه، لتتسع عيناها في دهشة وتنطق بحروف اسمه بلا وعي: وليد؟! وقف الاثنان في حالة من الصمت، لم ينطق أيًا منهما بكلمة واحدة، صمتت الألسن وتحدثت العيون لتبوح بكل ما يجيش في الصدور، وتشابكت في نظرات طويلة لا يفصلهما سوى رجفة الجفن . وقفت شمس بينهما تشاهد تلك النظرات الغريبة، والصمت المريب بينهما وعندما شعرت أن الأمر قد طال، تنحنحت بصوت مسموع وقالت وهي تحرك يد أمام عين شاهي وإلىد الأخرى أمام عين وليد: يا أخوانا يلي هنا، حد سامعني؟! انتاب شاهي الحرج الشديد فأخفضت عينيها سريعًا وقالت: أهلًا وليد، أزيك؟ وبدون أن يدرك وجد نفسه يمد يده ليحتضن كفها ويرفعه إلى فمه ليطبع قبلة رقيقة عليه قائلًا: بقيت كويس لما شفتك . أحمرت وجنتاها وحاولت أن تخفي خجلها وقالت: لسه بكاش زي ما أنت . تنهد وليد بحزن وشوق شديد، ثم قال: أنتِ عارفة يا شهيرة، أنتِ الوحيدة اللي لا يمكن أكذب عليها، بجد أنا فعلًا بقيت كويس لما شفتك . حاولت أن تغير مجري الحديث فقالت متسائلة: أنت ايه علاقتك بالمشكلة اللي مع شمس؟ شعر وليد بارتباكها فأجابها: أنا بشتغل مع قصي، أنا المدير العام لسلسلة فنادق الدالي. ابتسمت شاهي برقة بالغة وقالت: واوو.. مبروك تستحقها . صمت الإثنان مرة أخرى، فالقلوب ما زالت تحاول أن تعي ما يحدث لها، والعين في شوق ولهفة لرؤية من حرمت منه طويلًا، نعم كانا في حالة صمت، ولكنها أبلغ من أي كلمات قد تقال . ظلت شمس تنتظر نهاية لهذا المشهد الغرامي المؤثر، وعندما لم ينتهي، وكزت صديقتها في كتفها، انتفضت شاهي وحاولت أن تسيطر على مشاعرها فأضافت قائلة: طيب ممكن تنتظرنا في الريسيبشن تحت، نغير هدومنا وننزل عشان تتكلم مع شمس . شعر وليد بأنه لا يريد أن يتزحزح من أمامها، لقد طال الفراق، وزاد الشوق، وكأن رؤيتها مرة أخرى فتحت بابًا كان يظن أنه مغلقًا، ولكن يجب أن يتمالك نفسه، لن يستطيع أن يظل هكذا، فحرك رأسه بالإيجاب وقال: أوك.. في انتظاركم، ثم مضى بخطوات متثاقلة يتمنى لو أطال البقاء قليلًا. وقفت شاهي تشاهده وهو يرحل وبداخلها شعور غريب بالحنين له، أما شمس فقد تملكها الفضول والحيرة فقامت بجذبها إلى الداخل وأغلقت الباب ووقفت تحدق بها وهي تقول: ايه بقا جو التنهيد والتسبيل ده؟، مين سي وليد ده كمان؟! صمتت شاهي قليلًا وتنهدت بعمق، ثم قالت: ده أول حب في حياتي، وأكبر وجع فيها .