لن أكتب مقدمة لتلك الرواية فهي تتحدث عن نفسها، لا تحتاج أي تقديم، ستجد بها العديد من المشاعر الإنسانية التي تستطيع أن تأخذك معها إلى عالمها الحب.. الغدر.. الخيانة.. الألم.. الصداقة.. العديد والعديد.. فقط استعد.. أربط حزام مقعدك.. وأترك القيادة لي . سأنتظر فقط أن اسمع عباراتك ومشاعرك مع كل مشهد ومع كل إثارة تحدث في الرواية.. عزيزي القارئ امتطي جواد الخيال.. وأبحر معنا في عالم المشاعر الحقيقية. استيقظت من نومها بتثاقل شديد.. تمنت لو تجد أي مبرر للبقاء في البيت هذا اليوم، ولكن لا مفر من اللقاء، فالتأخير لن يفيد، وستضطر للمواجهة عاجلًا أو آجلًا، لذا لا داعي لأن تأخر الألم أكثر من هذا، فلتنته منه سريعًا حتى تتماثل للشفاء من تلك الأثار التي لا تزول رغم مرور كل تلك السنوات . أزاحت الغطاء من على جسدها، وهي لاتزال مستلقية على ظهرها، واستمرت تفرك قدماها العاريتان في طرف الغطاء، كان ذهنها مشتت تمامًا، أفكارها مبعثرة، لذا حاولت أن تستجمع كل قوتها قبل النهوض . وبعد ثلاثين دقيقة تقريبًا كانت بكامل هيئتها تقف أمام باب غرفتها مرتدية بلوزة حريرية باللون الكشميري وبنطال أسود كلاسيك، وتحمل حقيبة يدها الصغيرة بنفس لون البلوزة، لا تعلم لماذا تركت شعرها منسدلًا؟ فهي دائمًا تعقده للخلف أثناء العمل، ولكن اليوم مختلف يجب أن تكون فاتنة، بل فاتنة جدًا، لذا أسدلت شعرها البني الناعم المموج على كتفيها، وتركت العنان لخصلاته القصيرة من الأمام ترسم هالة على وجهها فتزيدها جمالًا وفتنة وأنوثة، وكحلت عيناها بالكحل البني ليظهر جمالها بدون أن يبدو صارخ أو ملفت، وأخيرًا وضعت طلاء الشفاه بلون مقارب لنفس لون البلوزة، ثم وقفت تتأمل نفسها في المرآة وعندما أعجبها ما ترى، غادرت غرفتها بثبات وثقة شديدة . وقفت خارج باب غرفتها، تتأمل والدتها وهي تضع صحون الإفطار على المائدة، وتساءلت هل ستحاول محادثتها مرة أخرى؟، هل ستعيد على مسامعها نفس الحديث الذي دار بالأمس؟، كانت شاردة تمامًا وهي تنظر لها، حتى تنبهت لوالدتها وهي تلتفت نحوها، فانتفض جسدها، وشعرت باحتياجها للتأهب لما قد يحدث، ولكن عندما تلاقت الأعين، كانت نظراتهما كفيلة بأن تبوح بكل شيء، لم يعد هناك أي داعٍ للحديث، فكلتاهما تعلم جيدًا، أنه لن يفيد، وأنه لن ترضخ أيًا منهما وتغير رأيها . تقدمت نحو المائدة في صمت بعد أن ألقت تحية الصباح، وجلست تتناول الإفطار بسرعة شديدة، حتى تتفادى أي حديث قد ينكأ جراحها، فهي اليوم يجب أن تكون صلبة.. قوية.. لا يجب أن تضعف . دقائق قليلة وهمت مسرعة نحو الباب، تهرول للخارج وتتمنى أن ترحل في سلام، وهي تلقي على والدتها وأخواتها التحية . وفي تمام التاسعة كانت أمام الجاليري الخاص بها، القابع في أحد شوارع المعادي الهادئة، وكالعادة وجدت الفتىى أكرم الذي يعمل معها في انتظارها، فقامت بإخراج سلسلة المفاتيح من حقيبتها وأعطتها له قائلة: صباح الخير يا أكرم . فأجابها وهو يقوم بفتح الأقفال: صباح الخير يا أستاذة شمس، دقايق أجيب لحضرتك النسكافيه من الكافيه اللي جنبنا وأجي أنظف الجاليري . أماءت برأسها له واتجهت إلى داخل المكان، ثم إلى مكتبها الخاص . وعلى الفور جلست تراجع عملها وتتأمل التصاميم الجديدة التي تنوي تنفيذها، دقائق ودخل الصبي حاملًا القهوة إليها، ثم ذهب إلى العمل . مرت ساعة وهي منهمكة تمامًا حتى أنها تغافلت عما كان يشغلها، ولَم تنتبه إلا عندما سمعت طرقات على باب مكتبها، ورأس أكرم تطل من خلف الباب ليخبرها بقدوم ضيف لها، لم تعلم هل تنهض؟ أم تظل جالسة؟، شعرت بالارتباك بضع ثوان، ثم أنبت نفسها على التخاذل سريعًا هكذا، وحاولت التماسك أو هكذا هيأ لها . بضع ثوان تفصلها عن رؤيته ثانية، هل ما زال وسيمًا كما عهدته؟ أم تغير شكله كما تغير نبضها؟ دقات قلبها تتسارع لتعلن الحرب عليها، معدتها تنكمش من الداخل كأنها تريد أن تعتصرها، ألا يكفيها ما هي فيه، أخفضت بصرها وظلت تطالع الأوراق التي أمامها، لا تريد أن تتشابك أعينهما من أول لمحة، لا تريد أن يجادلها قلبها، يجب أن تستعد أولًا، ظلت تلتهم الأوراق بعينيها وكأنها طوق النجاة لها من عينيه، حتى سمعت صوته وهو يناديها: شمس . أجفلت جفنيها، ووجلت نبضات قلبها في وهن، شعرت بأنها ستنهار، ولكنها كانت على علم بما سيحدث، وأعدت عدتها جيدًا لتلك اللحظة، لَم يكن عليها سوى أن تعيد لذهنها لمحات من الماضي، لترفع بصرها نحوه بهدوء شديد وثبات قائلة: أهلًا شريف.. اتفضل. تقدم نحوها وجلس في الكرسي المقابل، وهو يجول ببصره في المكان، ثم قال: أول مرة ازورك هنا، المكان جميل فعلًا، وذوقه راقي أوي، ألف مبروك يا شمس تستاهلي كل خير . فأجابته بثقة: شكرًا، اللي وصلت ليه ده أخذ مني مجهود كبير، ووقت وتعب عشان أوصل وأبقى في المكان ده، والحمد لله دلوقتي براند شمس قرب يوصل للعالمية، وقربت أني أصدر شغلي لدول أوروبية كمان . تأملها بإعجاب وهو يشعر أن مهمته لن تكون سهلة، ولكنها ليست مستحيلة: برافو عليكي يا شموسة، طول عمرك شاطرة، وفنانة في كل حاجة، أي حاجة كنتي بتلمسيها كنتي بتحوليها لقطعة فنية . ضحكت بخفوت، ثم قالت: شموسة.. أنت لسه فاكر الاسم ده؟ حدق بها قليلًا، ثم نهض من مكانه والتف حول المكتب ليقف أمامها تمامًا، ثم انحنى نحوها وهو يقترب منها هامسًا بصوت يدغدغ كيانها: أنا منستش أي حاجة تخصك . رفعت رأسها وألقت نظرة علىه وهي تقاوم من داخلها رغبتها في الاستسلام، وأجابته بجفاء: بس أنا نسيت، ثم نهضت من مكانها، مولية ظهرها له، ولكنه قبض بيده على ذراعها وأدارها تجاهه، لتصبح في مواجهته تمامًا لا يفصلهما سوى بضع سنتيمترات، نظرت له بعينين لا تخضعان، وقلب لا يلين، كانت نظراتها مليئة بالتحدي والقوة، لم يرتعش جفنها، ولَم تخفض نظراتها، ظل يبحث في وجهها عن أي بارقة أمل ولكنه لم يجد، لذا جذبها نحوه لتصطدم بصدره العريض، ونظر لها بتحدي أقوى قائلًا: لا يمكن تكوني نسيتي، قلبك أصلًا عمره ما كان ملكك عشان تنسي، قلبك طول عمره ملكي أنا، عيونك دي اللي مش عايزة تلين، بتقول إنك لسه بتعشقيني، أيديكي اللي بتحاولي تخليها متترعشش، نفسها ترجع تاني تحضن أيدي، شفايفك اللي بتحاولي تبيني إنها قاسية، نفسها تاني ... ولَم يسترسل في كلماته بل انحنى سريعًا نحو شفتيها يسرق منهما قبلة تعيد لها شعلة الحب التي خبت قليلًا، طوَّق جسدها بذراعيه وضغط عليها بشدة، وحاول أن يلتهم شفتاها ليشعل بها نار الحب ويعيد بداخلها مرة أخرى ما تحاول أن تنكره، ولكنه فوجأ بها لا تتحرك، لم تقاوم، ولم تتجاوب معه، كانت بين يديه كالتمثال لا يوجد بها حياة، فتح عيناه ليواجه نظرتها الباردة له وكأنها تقول: هل انتهيت؟ تراجع للخلف في دهشة وقال لها: ايه اللي حصلك؟!، جبتي القسوة دي مني ؟! نظرت له ببرود وابتسمت بسخرية ثم أجابته: أنت بجد مش عارف؟ ولا عامل نفسك مش عارف؟! اخفض بصره أرضًا وتحدث بتلعثم قائلًا: يا.. يا شمس!، سامحيني.. أنا.. أنا عارف أني غلطت ووجعتك، بس مفيش حاجة تستاهل إننا نضيع الحب الكبير اللي ما بينا، يا شمس احنا مع بعض من واحنا عمرنا شهور، أنا بحبك من قبل ما أفهم يعني ايه حب، أرجوكي متضيعيش العمر ده كله عشان غلطة واحدة . حدقت به بعينين حزينتين، حتى أنها لم تحاول أن تمنع دمعة من السقوط وأجابته بحزن: مفيش حاجة تستاهل.. يا قلبك يا شيخ.. ووجعي السنين اللي فاتت ولا حاجة.. وحرقة قلبي وأنت بتقدم حبيبتك ليا ولا كأنه حصل.. والخطوبة اللي اتعملت وعزمتني عليها بكل برود كأن مكنش في بينا وعد ولا عهد.. كل ده ولا حاجة، كل ده بالنسبة ليك غلطة بسيطة؟!، أمال ايه الغلطة الكبيرة؟، ايه أكبر من الخيانة؟!، من إنك تجرحني ببساطة وتقف تتفرج عليا؟!، في ايه تاني أكبر من كده؟!،صمتت لتستعيد أنفاسها المتقطعة وتهدأ، ثم قالت: أنت جاي ليه دلوقتي يا شريف؟، ايه اللي فكرك بيا؟، رجعت تاني ليه؟ تريث قليلًا يحاول أن يجد كلمات تقنعها ولكن شعور باليأس بدأ يتسلل له، أحس أن جرحها سيكون حائلًا بينهما، ولكنه يجب أن لا يستسلم فأجابها قائلًا: جاي عشان بحبك، عشان اكتشفت إني مغفل، إني كنت مخدوع، أنا طول عمري معاكي يا شمس، أنتِ اللي فتحت عيوني عليها، معرفتش حد غيرك، حتى في المدرسة مكنش ليا أصحاب بنات غيرك، أنتِ كنتي كل حياتي، لحد ما حصلت الظروف اللي خلتني أكمل لوحدي، بقيت مرتبك، مش متعود أني أكون من غيرك في أي مكان، فترة ثانوي عدت عليا زي كابوس، ولما دخلت الجامعة كنت مشتت وتايه، اتعرفت على أصدقاء كتير، شفت بنات غيرك وأتعرفت عليهم، مش حأنكر أني انبهرت بيهم مدة طويلة، وده اللي خلاني اتغيرت ومبقتش عارف أحكم على مشاعري، غصب عني تهت شوية وبعدت عنك، بس ده مش بمزاجي، ظروفك هي اللي كانت السبب، صدقيني أنا ندمت واتاكدت بعد الانبهار ما راح اني محبتش حد غيرك، وإن مفيش أي واحدة تستاهل تكون مكانك في قلبي . تعالى صوت ضحكاتها الهستيرية ردًا على كلماته، ثم هدأت قليلًا وقالت: أنت مصدق نفسك؟!، مصدق الكلام الخايب ده!، جيت لما أتاكدت من حبك ليا، يعني مش لما عرفت إني ناجحة، مش لما أتاكدت أنك مش حتتكسف لما تقدمني للناس، للأسف يا شريف أنت آخر واحد كنت متوقعة منه كده، عمري ما كنت أصدق إنك تتخلى عني، كنت فاكرة إن اللي بينا أقوى من أي حاجة، طلع اللي بينا عبارة عن بيت من ورق شوية هوا بسهولة ممكن يهدوه، أمشي يا شريف، أمشي وأنسى، اللي بينا مات واتدفن، أنا دفنته وعمري ما حأحيه تاني . قالت كلماتها ثم أدارت ظهرها له، ووقفت تنظر من النافذة، حتى سمعت صوت غلق الباب، التفتت لتجد نفسها في غرفة خاوية، كانت تلك الإشارة، إشارة لقلبها أن يسقط الأغلال التي تقيده، ولعقلها أن يأخذ هدنة ويطلق العنان لمشاعرها أن تخرج في العلن، وبالفعل انسابت دموعها على وجنتيها بهدوء، ثم بدأت تدخل في نوبة من البكاء حتى كاد قلبها أن يتوقف من شدة النحيب، لم تكن تعلم عما تبكي بالفعل، عن عمر مضى في خديعة، أم عن حب لا تعرف كيف ستستمر بدونه، ولكنها على يقين أنه مهما حدث لن تعود له ثانيةً . غادر شريف المكان كما طلبت والإحباط يتملكه ولكنه لن ييأس، كان على يقين من داخله أن علاقتهما قوية كالجبل لن تتزحزح، وأن حبهما كبير بطول عمرهما سويًا، لن ينتهي بتلك السهولة، لذا قرر أن يقدم على خطوته الثانية، نعم سيتركها قليلًا تهدأ، ولكنه لن يرحل بهذا الهدوء وسيظل يلاحقها حتى يستعيدها، لن يتنازل عنها أبدًا، فهي دائمًا كانت ملكًا له وستظل هكذا . في مكان آخر بمدينة أخرى (شرم الشيخ)، جلس في مكتبه الفخم بداخل فندقه، كان يشاهد الشاشات التليفزيونية أمامه، ليتابع سير العمل في الفندق، حتى سمع صوت طرقات خفيفة على الباب، ليفتح وتطل منه (حسناء) السكرتيرة الخاصة، مرر عيناه على جسدها ببطء من أعلى لأسفل فقد كانت ترتدي فستان قصير أعلى الركبة يلتصق بجسدها كأنه جلدها، لونه أسود بحمالات عريضة على الكتف وفتحة صدر كبيرة، تكشف أكثر ما تخفي، وعندما انتهى أشاح ببصره مرة أخرى إلى الشاشات أمامه . كانت حسناء فتاة جميلة، مثيرة، فاتنة كالعارضات، ذات قوام ممشوق، ووجه صارخ بالجمال، يفتقد البراءة فيه، شعرها ناعم طويل لونه أسود كليل حالك السواد، عيناها رمادية تميل للإخضرار، وشفتاها كحبات الكرز التي تشتهي أن تلتهمها، نعم هي تعلم جيدًا قدر نفسها، ولا تتوانى في إظهار ما تملكه حتى تصل لغايتها، وغايتها هي (قصي الدالي) سليل عائلة الدالي صاحبة سلسلة الفنادق الشهيرة في كل أنحاء العالم، ومديرها في العمل، رجل في الثلاثين من عمره، يهوى النساء الجميلات، ولكن لم تستطع أيًا منهم إيقاعه في فخ الزواج، فهو كالطائر الحر لا يبني له عش، يتنقل من غصن لأخر كما يحلو له، به كل مقومات الرجولة التي تهواها النساء.. جسد قوي.. طويل.. مفتول العضلات.. ملامحه شديدة الوسامة.. له شعر بني طويل يصل إلى مؤخرة عنقه، والأهم أن حسناء استطاعت أن تضع اسمها في قائمة نسائه، على أمل أن تتفوق على الجميع، وتصل للقب السيدة الأولى . أحكمت حسناء غلق الباب ودخلت تتبختر في مشيتها بعد أن تأكدت أنها استطاعت أن تلفت انتباهه من النظرة الأولى، وأنها أصابت الهدف، وبجرأة شديدة دارت حول المكتب واتجهت نحوه، ثم رفعت جسدها لتجلس على المكتب أمامه مباشرة لا يفصلها عنه شيء، ورفعت ساقها لتضع واحدة على الأخرى بلا أدنى حياء، ثم انحنت نحوه بدلال وهي تضع يدها على خصلات شعره المتمردة وتقول: إزيك يا بيبي، وحشتني أوي . نظر قصي لها وألقى نظرة وقحة على جسدها، ثم تحدث ببرود قائلًا: شكلك نسيتي نفسك يا حسناء، ونسيتي إنك في الشغل، اللي بتعمليه ده يتعمل في أوض النوم مش في المكاتب . ازدادت في الدلال وبنعومة أجابته: كده يا بيبي؟ أنا غلطانة يعني إنك وحشتني من امبارح بالليل، وقلت أجي أشوفك قبل ما أبدأ الشغل، ثم أعقبت كلماتها بأن وضعت ذراعاها على كتفيه، واحتضنت بكفيها عنقه من الخلف، وهي تداعب شعره، واقتربت من فمه في محاولة منها لإغراءه بشفاهها . رفع قصي بصره نحوها، ونظر لشفاهها الوقحة وجسدها الذي يسري به رعشة هو يفهم مغزاها جيدًا وما تنوي فعله، وفِي حركة واحدة نهض من مكانه وهو يحملها من خصرها ليزيحها من أمامه، ويتجه صوب الباب قائلًا: مش بقولك نسيتي نفسك، ثم توقف والتفت نحوها قائلًا: مش قصي الدالي اللي حد يفرض عليه حاجة، أنا لما أعوز حأخد، وللمرة المليون يا حسناء مكان الشغل للشغل، ولو تصرفاتك دي اتكررت يبقى بتكتبي نهايتك مع مجموعة الدالي بأيديكي، ثم غادر المكتب ليبدأ جولته الصباحية، تاركًا إياها وهي تكاد تموت غيظًا، ولكنها لن تتراجع فقط ستغير خطتها لخطة أخرى بديلة .