أنهى قصي عمله وغادر مكتبه سريعًا، تجنبًا أن يضطر لمواجهة حسناء وتحمل سخافاتها، فهو اليوم ليس لديه مزاج لها أو لغيرها، صعد إلى جناحه بدون حتى أن يمر على صديقه في المكتب الذي في نهاية الردهة، وقرر أن ينعم بحمام هادئ طويل، ولو تعدل مزاجه بعدها قد يطلب أن تحضر اختصاصية المساج ليحظى جسده ببعض العناية المميزة، وما إن وطأت قدميه الجناح، شرع على الفور بخلع ملابسه، ليغمر جسده في المياه الدافئة الممزوجة ببعض الزيوت العطرية الخاصة التي تساعد جسده على الاسترخاء والتي أعدت خصيصًا له بناءً على طلبه، ظل مستلقيًا في مياه المغطس عدة دقائق مغمضًا عينيه حتى غلبه النعاس وغفا قليلًا، وأثناء ذلك سمع صوتًا رقيقًا صادرًا من خلفه مناديًا: قصي.. قصي . لا يعلم ما انتابه، ولكنه انتفض وكاد أن يهب واقفًا، ولكنه أدرك أنه عاريًا بدون ملابس، فالتفت حوله قائلًا: مين؟، مين هنا؟، لكنه لم يرى أحد . شعر أنه يخَيل إليه هذا من شدة إرهاقه، تمنى لو يستطيع أن يعزل نفسه تمامًا عن العالم كله، فاستلقى على ظهره في أرضية المغطس وغمر جسده ورأسه داخل المياه، وحبس أنفاسه في محاولة منه للاسترخاء والراحة والانفصال عن أي أصوات خارجية حتى لو كانت في رأسه فقط، كانت عيناه مفتوحتان عندما فوجأ بصورة امرأة على صفحة الماء، امرأة لم يرها من قبل تقف بجوار المغطس وتنظر إليه، انتفض جسده داخل المياه، وأمسك الحافة بذراعيه ليخرج رأسه سريعًا وهو في قمة الغضب، وبدأ يطلق السباب والشتائم، ولكنه لم يجد من يستمع إليه، بحث بعينيه في كل أرجاء المكان لا يوجد أثر لها، شُل تفكيره وكادت رأسه أن تنفجر من شدة الحيرة، فأسندها على حافة المغطس وأغمض عينيه وهو يحدث نفسه عن تلك الأوهام التي أصبح يراها، حتى أحس بأنامل ناعمة تلامس جسده، وتتحرك على صدره المبلل العاري، لتصيبه برعشة خفيفة أجتاحت جسده بأكمله، كما لو كان جسده لم يتذوق لمسة امرأة من قبل، ثم سمع صوت يقول: استيقظ، استيقظ أنت ما زلت نائمًا. شهق قصي شهقة قوية وجلس في المغطس وهو ينظر حوله، وظل مشتتًا لبعض الوقت، لا يدرك ما حدث، وكأنه بين الحلم واليقظة، الحقيقة والخيال، هل ما شعر به حقيقي؟، أم ماذا؟، حتى أيقن أخيرًا أن كل هذا كان حلمًا، وأنه كان يغط في نومًا عميقًا، لذا نهض سريعًا من المياه وجفف جسده بالمنشفة القطنية الكبيرة التي بجواره، ثم ارتدى بنطالًا رياضيًا، ودخل الفراش لينعم بقيلولته القصيرة لعلها تفيده . خرجت شمس وشاهي من الجاليري لتناول الغذاء في المطعم المجاور والمفضل لهما، شرعت كلا منهما في اختيار وجبتها وأثناء انتظار الطعام جاء اتصال لشمس لإعلامها بوقوع الاختيار على شركتها لتنفيذ التجديدات في الفندق، وأنه قد أرسل لها إيميل بالتفاصيل، أما شاهي التي كانت تستمع للمحادثة وعلمت فحواها، فكانت تجلس متحمسة جدًا وبمجرد أن أنهت شمس الاتصال، صاحت في صديقتها بلهفة شديدة وترقب: السفر أمتى؟ فأجابتها شمس بهدوء وبلا أي اكتراث: الاجتماع يوم السبت الصبح الساعة ١٠، يعني ممكن نسافر الصبح طيران . اعترضت شاهي: لا أنتِ عارفة مش بحب الصحيان بدري، خلينا نسافر بالليل نرتاح وتقومي لاجتماعك وأنتِ فايقة . صمتت شمس قليلًا تفكر، ثم قالت: اوك ، أحسن بدل ما تروح عليكي نومة وتضيعي السفر علينا . حل المساء، وكعادته كل يوم يجلس في الملهى الليلي في الركن الخاص به على مائدته المميزة، يتابع بعينيه كل ما يدور حوله، لا يعلم ما الذي أصابه في الآونة الأخيرة؟، لقد أصبح يبغض كل شيء، لم يعد يشتهي تلك الحياة، ولم تعد تغريه الفاتنات اللاتي حوله، لقد أصابه الضجر الشديد، وأصبح يفترسه من الداخل، جلس يرتشف من الكأس الذي أمامه جرعات صغيرة حتى رأى صديقه (وليد الصيرفي) يدخل من الباب الأمامي للملهى ويتجه صوبه وعندما أصبح أمامه، صاح به معاتبًا: ايه يا ابني الندالة دي؟، فينك؟، مختفي من الصبح، لا عديت عليا نشرب قهوتنا مع بعض، اولا حتى كلمتني وأنت نازل دلوقتي . رفع قصي بصره نحو صديقه، ثم أشار له بأصابعه أن يجلس وأجابه: عادي.. نمت شوية. تفحص وليد وجه صديقه وشعر بغرابة في تصرفاته: مالك يا ابني؟، أنت متغير ليه كده؟، بقالك كام يوم مش على بعضك، في حاجة حصلت معاك؟ ابتسم قصي بسخرية شديدة وأجابه بتهكم: وهو ايه اللي ممكن يحصل معايا؟ وليد باستهجان: بطل العنجهية دي وقولي مالك . ترك قصي الكأس من يده، وبدا يطرق المنضدة بأصابعه في عصبية ملحوظة، ثم قال: ولا عنجهية ولا زفت، أنا بس زهقت ومحتاج أغير شوية . أفلتت ضحكة عالية من صديقه، تبعها ضربة خفيفة على ذراع قصي وكأنه يخبره بها (كفى مزاحًا) ثم استرسل في حديثه وقال: مين اللي زهق؟، الباشا الإمبراطور زهقان، ليه واحنا هنا لزمتنا ايه؟ وكل البنات اللي يحلوا من على حبل المشنقة دول بيعملوا ايه هنا؟ ايه يا عّم الدراما دي؟ ولا خلاص البت حسناء مبقتش جاية على هواك؟ لو مبقتش تلزمك أنا صاحبك وحبيبك، وبصراحة البت فرسة، متتسابش لوحدها . رمق قصي صديقه بنظرات يملئوها الاشمئزار، ثم قال: حسناء ايه وزفت ايه؟، دي واحدة سافلة، مخدتش في أيدي كلمة، دي كان ناقص هي اللي تعرض نفسها عليا، أنا مش عارف البنات جرالها ايه. ضحك وليد بسخرية وقال: مالهم؟ زي الفل اهو، حد يكره النعمة؟ أما هو فكان يشعر بالاستياء ولَم تعد لديه القدرة على مواصلة الحوار، فنهض مغادرًا بدون أن ينبس بأي كلمة، ولا حتى التفت لنداءات صديقه المتكرره له، بل غادر متجهًا إلى جناحه فهو لا يشعر بأي رغبة في مواصلة تلك الليلة، ولا يريد الاحتكاك بأي شخص أيا كان . توجه على الفور إلى غرفته وخلع عنه ملابسه ولَم يهتم حتى بارتداء ملابس النوم بل رمى جسده على الفراش لينعم ببعض الهدوء، ولكنه شعر بحركة غريبة في الفراش، ثم وجد ذراعان يلتفان حول جسده من الخلف، واشتم رائحة عطر أنثوي مثيرة تلهب الرغبة بداخل أي رجل، عطر يستطيع جيدًا تمييز صاحبته، ثم همس ناعم وقبلات ناعمة صغيرة على أذنه: وحشتني اوي .. كاد قصي أن يلتفت نحوها ويقذفها خارج الفراش، ولكن لمساتها المثيرة وأسلوبها الجريء أفقداه عقله.. وجعل لغة الجسد هي السائدة والغريزة هي المتحكمة، ليتلاقى الجسدان والشيطان بينهما، يتلاعب بهما كيفما شاء، ويزين لهما الخطيئة والشهوة، ليعبثا كما يحلو لهما . جلست شمس في غرفتها شاردة، عقلها مشوش، تحاول أن تعيد ترتيب أفكارها وحياتها أيضًا، ولكن هيهات أن يتدخل العقل فيما يصنعه القلب، حاولت أن تعزل مشاعرها وتفكر بهدوء فيما هو قادم، ولكن يبدو أن ذلك من المستحيل، فهي طوال حياتها، لم تفعل شيء سوى حب شريف، كان هو الغاية والهدف، الحلم الذي تنتظر تحقيقه، لقد دق القلب من أجله سنوات، كان شريكها في كل شيء منذ الطفولة، صديقها الوحيد، حبيبها الأول، حياتها كلها بكل تفاصيلها كان يشاركها بها، والآن لم يعد له وجود، وهي لم تعتد على فعل شيء بمفردها، ولا تعرف كيف سيكون شكل الحياة بدونه، مع من ستطلق ضحكاتها المرتفعة بدون خجل أو حياء، أمام من ستنهار دفاعاتها وتترك دموعها تنساب بدون أن تتردد، من سيتحمل ترددها الدائم عندما تذهب للتسوق، جلساتهم اليومية في الردهة التي بين البابين، وأحاديثهم على الهاتف التي كانت لا تنتهي إلا بسقوط أحدهما نائمًا من الأخر، كل هذا انتهى، كأنه لم يكن، كيف يستطيع إنسان أن يحب بهذا القدر؟، ثم ببساطة ينزع هذا الحب من قلبه، كيف يستطيع الاستمرار؟، ااااه، آهه أطلقتها من صدرها، ألم يعتصرها من الداخل، حيرة تطيح بعقلها، هل تسرعت في قرارها؟، أم لم يكن أمامها اختيار؟ ظل ممددًا على الفراش، بعد أن انتهى من هذا العبث، كان يشعر بالحقارة، لا يعلم ما هذا التغيير الذي انتابه؟، تلك الحياة أصبح يبغضها تمامًا، لم تعد كافية له، يعلم أنه لا يشعر بالسعادة، ثم ألقى نظرة على الجسد الممدد بجواره، لا يعلم ماذا حدث له؟، لقد كان يبغض تلك المرأة في الصباح، كيف تركها تلعب به هكذا؟، كيف استسلم لغريزته بهذه السهولة؟، هو لم يكن أبدًا ضعيف، ثم أغمض عيناه في محاولة لمحو كل تلك الأفكار من رأسه وحاول الاستسلام للنوم. لم تكن أشعة الشمس أصبحت قاسية بعد ، كان الصبح ما زال في بدايته، والهواء الرقيق يختلط بنسيم البحر ورائحته المنعشة، لا يعلم لم ذهب للجلوس على الشاطئ، فعادة يكون ما زال نائمًا في هذا الوقت، ولكن الأرق ظل مصاحبًا له؛ لذا انطلق نحو الخارج، وبالفعل استطاع الهواء أن يجدد نشاطه وطاقته، جلس يتأمل البحر أمامه، يستنشق هواءه، ويملأ صدره بتلك الرائحة المختلفة، لم يكن هناك أحد سوى بعض السياح الأجانب الذين يفضلون أن يسبحوا في هذا الوقت قبل أن يتناولوا الإفطار . كان يشعر بنشوة كبيرة، وفجأة، ظهرت هي، نعم هي، كانت تسير على الشاطئ تداعب الأمواج قدميها، لا يعلم لم اهتم بمتابعتها، ولكنه شعر بأنه هناك شيء غريب في هذه الفتاة، نهض من مكانه واتجه نحوها، وكلما اقترب كان إحساس غامض يجذبه إليها، إلى أن أصبح أمامها مباشرة، اعترض طريقها وهو يحاول أن يتفحص وجهها، وبمجرد أن رفعت بصرها نحوه، تصلبت ملامحه، وانكمش جسده للخلف، وأضيقت عيناه كما لو كان رأى جنية من جنيات البحار، وفغر فاه من الدهشة، وعندما حاول الحديث خرج الهواء من فمه صامتًا، لم يستطع سوى التحديق بها، نعم هي، هي من رآها من قبل، من تكون؟ أما هي فقد شعرت بالحيرة والدهشة اللتان ظهرا على محياه، فرفعت يدها ولامست وجهه بأناملها الصغيرة، لتعود الرجفة إلى جسده ثانيةً، ويراوده نفس الإحساس السابق، ثم تحدثت قائلة: أخيرًا لقيتك .