وصل السائق أسفل العمارة بعد طريق كان مفعم بالمشاحنات، والضرب المتتالي من شمس ومحاولتها الهروب أكثر من مرة، ولكن قصي لم يترك لها المجال، ثم فعل مثلما حدث في المشفى، جذبها من السيارة وحملها على كتفه وصعد بها إلي البيت، بدون أن يكترث للجيران أو المارة . عبر قصي باب البيت، ثم أغلقه ثانية بالمفتاح بعد أن أخبر السائق أن يعود مرة أخرى للمشفى، ويوافيه بالمستجدات أول بأول . دخل البيت ووضعها أرضًا بعد أن أحكم غلق الباب جيدًا، ثم وقف أمامها متحديًا أن تستطيع فعل شيء. كانت تشتعل من الغيظ، لم يأبه باعتراضها أو صراخها ورفضها لما يفعله.. كما لو كانت غير مرئية.. هي ترفض تمامًا التقليل منها، أو فرض السيطرة عليها، ترفض الاستهانة بها وبرغبتها.. لذا ليستعد للمواجهة، وليحتمل جنونها وعنادها، فهي لن ترضخ أبدًا، وهذا الصراع لن تكون هي الخاسرة فيه، يكفيها ما فقدته حتى الآن . وقفت أمامه بتحدي وغضب وقالت بحدة: افتح الباب حالًا وخليني امشي أحسنلك . نظر لها وقال بثقة: مش فاتح، وأخبطي دماغك في الحيطة . رمقته شزرًا والشرار يتطاير من عينيها وقالت: لا أنا مش حأخبط دماغي أنا حأخبط حاجة تانية، ثم بدأت تنظر حولها وتكتشف المكان.. شقة فاخرة جدًا تمتلىء بالأثاث الفخم والتحف والمقتنيات الثمينة، ابتسمت بخبث واتجهت نحو مزهرية من الكريستال.. تبدو باهظة الثمن، وتناولتها بيدها ووقفت تنظر نحوه وقالت بتحدي: مش ناوي ترجع في كلامك؟ رمقها بقليل من القلق.. ولكنه لن يخضع بسهولة وأجابها بحزم: لاااااا. _وبدون أي مقدمات قذفتها نحوه، ليفاجأ بفعلتها وينحني سريعًا قبل أن تصيبه فتتحطم على الحائط خلفه، وقف قصي مذهولًا مما فعلته وصاح بها قائلًا: يا مجنونة كان ممكن تموتيني . ضحكت بسخرية وهي تلتقط منفضة سجائر من الكريستال أيضًا وتقول: وده المطلوب.. ثم قذفتها مرة أخرى نحوه.. لتصيبه تلك المرة في ساقه.. ويصيح متألمًا منها، لتهتف به قائلة: كفاية ولا نكمل؟ لم يجيب بل تقدم نحوها وجذبها من ذراعها وهو يقول: معاكي للأخر، بس استحملي أنتِ . ثم اتجه نحو غرفة نومه وهي يجرها خلفه، وأغلق الباب عليهما، وقال: براحتك بقا هنا.. أصل دي الأوضة الوحيدة اللي مفيهاش حاجة خالص، فنعرف نتعامل براحتنا من غير إصابات . وقفت شمس مفزوعة من جرأته، كيف يفعل هذا؟، كيف يحجزها معه في غرفة النوم؟، وقفت صامتة.. انتابها الخوف قليلًا، فهي لم تعتد على هذا، لا يمكنها أن تتقبل فكرة تواجدها مع رجل غريب عنها في شقة بمفردهما وداخل غرفة نومه.. وقفت تضم ذراعاها حول جسدها وتتراجع للخلف.. كأنها تحمي نفسها منه . شعر قصي بخوفها.. وبأنها ترتعد من الداخل.. فما كان منه سوى أن تقدم نحوها ببطء شديد بطريقة درامية.. توحي لها بأنه يستعد للإنقضاض عليها، وهي تتراجع للخلف حتى أصبحت ملاصقة للجدار، تحتمي به، وهو ما زال يقترب منها حتى أصبح في مواجهتها.. لا يفصله عنها سوى القليل، ثم رفع يده وأسندها على الجدار ليحيطها تمامًا حتى لا تستطيع الفرار، واقترب بوجهه منها ببطء شديد.. جعل الدماء تجف في عروقها، وأمال رأسه نحو وجنتها ومد شفتيه يقبلها، وهي تكاد تنهار لا تقوى على الفرار أو الاعتراض. لا تعلم هل استطاع السيطرة على مشاعرها؟، أم فقط هي ضعيفة نحوه الأن، ظل يقترب بشفتيه ثم فجأة همس بأذنها قائلًا: انا لو عايزك مفيش حاجة تمنعني، بس أنتِ لا، أنا بحبك ولا يمكن أعمل معاكي كده.. بس متهيألي واضح اوي إنك أنتِ كمان بتحبيني وعايزاني يعني بلاش مكابرة.. وأسمعي الكلام وبلاش الكلام الفاضي بتاعك ده . اشتعلت وجنتاها خجلًا.. وحرارة أنفاسه على وجهها تصيبها بالدوار.. لقد فضح أمرها، استطاع أن يستشعر ضعفها نحوه، لمس ما تخفيه بداخلها وتحاول أن تقيده بقيود من حديد، ولكن لا سبيل للرضوخ.. علاقتهما محكوم عليها بالفشل، لم تعد تقوى على تحمل خيبات أخرى.. يكفيها ما حدث.. قلبها صبح مهلهلًا من كثرة الندوب.. كالخرقة التي بها ثقوب ولَم يعد لها فائدة.. يجب أن ترحل بعيدًا عنه، يجب أن تنساه تمامًا، لعلها تستطيع العيش بعد ذلك . أزاحت يديه من حولها، وابتعدت عنه وهي تهرب بنظراتها بعيدًا. وقالت: لا مش حينفع.. أنا وأنت مش حننفع لبعض، ومهما قلت وعملت ده مش حيغير رأيي . استشاط غيظًا من عنادها وصلابتها، رفع يده نحو شعره في حركة عصبية وقال: ليه مصممة توجعيني؟، ليه؟ صمتت وهي تردد بداخلها: وجعك مش حاجة جنب وجعي، بس خلاص مش قادرة استحمل تاني . اقترب منها وقال: أنا مش حاستسلم يا شمس، مش حأسلم وأوافق على كلامك، أنا متأكد إنك ليا، لكن مش حأضغط عليكي اكتر من كده، اتفضلي معايا أوصلك . رمقته بنظرات متألمة.. كانت تود لو تهرع صوبه وترتمي بين ذراعيه وتبوح بما لا تستطيع، ولكن لم تفعل.. فقط غادرت بدون كلمة واحدة . وصلت شمس منزلها بعد معاناة شديدة من ألم الفراق، واستعدت لألم أكبر، كيف ستخبر الجميع بما حدث، كيف ستروي لهم ما حدث دون أن تلطخ سمعة شريف؟، ماذا تفعل؟ دخلت المنزل وبحثت بعينيها عن أمها، لتجدها في المطبخ، هرعت نحوها وارتمت في صدرها وأجهشت في البكاء، لم تدري والدتها ماذا تفعل سوى أنها احتضنتها بقوة وانتظرت أن تهدأ.. دقائق وجلستا الاثنتان في غرفة النوم بعيدًا عن أعين وأذان الجميع، وبعد أن أقسمت السيدة رقية على الحفاظ على السر.. روت لها شمس كل ما حدث في الأيام الماضية.. ظهور شريف ثم اختفاءه المفاجىء.. اختطافها وبعد ذلك ظهوره مرة أخرى واكتشاف ما قام بفعله.. وفِي الأخير التضحية بنفسه لكي ينقذ حياتها . جلست السيدة رقية تتجرع الألم من رواية ابنتها.. تبكي على ما ألم بهما، قلبها يكاد يموت رعبًا من مجرد تخيل ما كان قد يحدث لابنتها لولا شريف وقصي.. ولكنه انفطر بالفعل على موت ولدها، فهو لم يكن فقط ابن صديقتها وحبيب ابنتها، بل كان ابنها، نشأ على يدها وتربى في بيتها.. ظلت تبكي وهي لا تعلم كيف ستخبر صديقة عمرها بمقتل ابنها. شاركت شمس أمها البكاء، ثم قررت أن تذهب بمفردها إلى والدة شريف تروي لها عن بسالة ابنها وشجاعته ثم تطوي تلك الصفحة تمامًا، وبالفعل غادرت البيت وذهبت إلى بيتهم القديم، تحديدًا شقة الخالة خديجة، ولكن بمجرد وصولها اكتشفت أنها ليست بحاجة لإخبارها، لقد وصل لهم النبأ من الأخبار وقامت السلطات بالاتصال بهم ليقوموا باستلام الجثة، جلست شمس تروي لخالتها قصة مغايرة عن شجاعة شريف وبسالته، وعن أخلاقه ووطنيته حتى تحاول رأب الصدع الذي في قلبها، لعل هذا يهون عليها موت ابنها عندما تعلم أنه مات بطلًا وسيلحق بركب الشهداء، أنهت المهمة وقامت بمواساتها، ثم توجهت على الفور إلى الجاليري، و قامت بالاتصال بأكرم وبمجرد وصوله بدأت في جمع كل المعروضات حتى ترحل عن المكان بلا رجعة، فلم يعد يناسب أن تظل في المحل الذي تملكه شاهي.. قضت شمس يومًا كاملًا مع الصبي في جمع كل شيء في الجاليري ثم طلبت شركة شحن لنقل الصناديق إلى المخزن الخاص بها.. وعندما انتهى كل شيء، طلبت من أكرم أن يبحث معها عن مكان أخر للانتقال، ثم عادت للبيت . جلست شاهي في المشفي بجوار زوجها الذي ما زال غائبًا عن الوعي من تأثير المخدر، كانت دموعها لا تتوقف من شدة الحزن، لا تتخيل مجرد فكرة أن تفقده مرة أخرى.. قلبها لن يتحمل كل هذا ثانيةً.. لحظات وسمعت طرقات على الباب ثم وجدت قصي أمامها، لم تعد تتقبل أن تري أيًا منهما، هي تحملهما الذنب ولن تغفر لهما أبدًا. وقف قصي يواجه نظراتها الغاضبة المليئة بالكره، اقترب بهدوء وقال لها بوضوح: أنتِ حرة تحبيني أو تكرهيني، تقنعي نفسك إن أنا وشمس السبب وتنسي إن في حاجة اسمها نصيب وقدر، براحتك، بس فكرة إنك تقرري مين يبعد ومين يبقي جنب وليد دي تنسيها، وليد ده أخويا، ومش ممكن اسيبه، وحأفضل جنبه لحد ما يوقف على رجله، بمزاجك أو غصب عنك . رمقته بشزر وهبت لتهاجمه، ولكن صوت وليد الذي وصل لمسامعها وهو يحاول أن يتحدث طالبًا كوب من الماء، جعلها تعود إلى رشدها، وتهرع تجلب له ما يريد وهي تبكي وتحدثه: وليد حبيبي.. أنت كويس؟ أنت بخير يا قلبي؟ تجرع وليد المياه بنهم ثم بدأ يحاول أن يسترجع ما حدث وقال: أنا فين؟ ايه اللي حصل؟ اقترب قصي من صديقه وابتسم له قائلًا: أنت في المستشفى، والحمد لله ربنا نجاك من الموت وده أهم حاجة.. واللي بعد كده إن شاء الله خير . التفت وليد لزوجته وشاهد دموعها التي تحولت عيناها إلى كتلة حمراء وقال: حبيبتي متقلقيش، عمر الشقي بقي، أنا وراكي ومش حأسيبك، تفتكري بعد العذاب اللي اتعذبناه ممكن أموت وأسيبك لحد غيري، ليه هو أنا مجنون؟ ابتسمت شاهي ثم ارتمت على صدر زوجها وهي تبكي وتقول: ولا أنا ممكن اسيبك تاني أبدًا . ابتسم قصي وقال: طيب أنا حأسيبكم تعيشوا لحظات الغرام وأروح أجهز للسفر عشان تعملوا شهر عسل جديد وكمان تكمل علاج بره . في الصباح الباكر كانت شمس تجلس في الأتوبيس الذي يتجه إلى مدينة شرم الشيخ، يجب أن تنهي عملها سريعًا قبل أن يعود قصي إلى هناك، فهي لم تعتد أن تترك المهام الموكلة إليها قبل أن تنهيها، والمتبقي لن يستغرق سوى يومًا واحدًا أو إثنان على أكثر تقدير، وبالفعل وصلت إلى هناك وبدأت على الفور في العمل وظلت تنتقل ما بين المصنع والفندق طوال اليومين حتى انتهت تمامًا من مهمتها، فحزمت حقائبها جميعًا، وقامت بالمرور على الإدارة المالية لإنهاء كافة مستحقاتها.. فهي لا تريد أن يجد قصي أي ثغرة يستطيع النفاذ منها إليها.. بل ستقطع كل الطرق التي قد يحاول استغلالها.. وها هي تركت الجاليري أيضًا.. وستبحث عن مكان أخر حتى لو خارج البلاد . وفِي المشفى كان قصي يبذل كل جهده للبحث عن أكفأ الأطباء حتى يستطيع نقل وليد وبدء العلاج.. مر أسبوع وهم جميعًا في المشفى، كان قصي يلازمه هو وشاهي وخاصة بعد أن علم بحالته الصحية.. الذي قابلها بهدوء شديد وتقبل للأمر، بل إنه كان يشجع زوجته على التفاؤل والأمل لأنه على يقين أنه لن يستمر هكذا . استطاع قصي أن يجد الدولة والمشفى المناسبة لحالة وليد وبدأ في إجراءات النقل.. ثم قام بالاستئذان منهما للسفر إلى شرم حتى يباشر بعض الإجراءات.. ويقوم بتوكيل مهمة الإدارة إلى المدير المالي ويعود سريعًا للاستعداد للسفر.. وبالفعل توجه قصي بالطائرة إلى هناك.. وبعد بعض الاجتماعات والمقابلات، اكتشف من المدير ما حدث وأن شمس أنهت عملها تمامًا وغادرت الفندق منذ ما يقرب من خمسة أيام، وأنه أنهى معها كل المستحقات.. شعر قصي بالخيبة وبأنها تحاول أن تغلق في وجهه كل الأبواب جميعًا، وعزم على أن يمر عليها في العمل قبل أن يسافر مع صديقه.. وبالفعل بعد أن اطمئن على كافة الأعمال.. عاد مرة أخرى إلى القاهرة.. وتوجه مباشرة إلى الجاليري لملاقاتها.. ولكنه أصيب بخيبة جديدة عندما علم من المقهي المجاور أنها أغلقت المكان للأبد وانتقلت منه . هل انتهت قصة شمس وقصي من قبل أن تبدأ؟، وكيف سيجد الطريق لها ثانية؟.