مر يومان استطاعا فيهما قصي وشمس أن يقلصا الفجوة الكبيرة التي بينهما، كانا يقضيان الكثير من الوقت معا في العمل.. وفِي المساء يجتمع الأربع أصدقاء سويًا على العشاء ويقضون معًا طوال الليل.. استطاعت شمس أن تراه على طبيعته.. رجل جذاب ذو شخصية ساحرة.. أما هو فلم يختلف إحساسه تجاهها بل لقد شعر أنه ازداد تعلقًا بها عن ذي قبل، بدأت بذور الحب تنمو بينهما.. والمشاعر تزداد.. ولكن إلي أين قد يصلا؟ استيقظت شمس في الساعة السابعة صباحًا، ونهضت من فراشها سريعًا.. لم تستغرق وقتًا في الاستعداد للعمل.. وخلال نصف ساعة كانت في طريقها للمطعم من أجل إفطار سريع، ثم بعد ذلك تستقل السيارة حتى تستطيع اللحاق بموعدها مع رئيس العمال في المصنع في تمام الثامنة صباحًا. أما قصي كعادته دائمًا يستيقظ بعد العاشرة صباحًا، ولكنه اليوم لم يستيقظ بمفرده، بل بسبب اتصال هاتفي.. ازعجه من نومه.. وجعله ينهض في ضجر شديد ويجيب: الووو _ الووو قصي باشا . فرك قصي عينيه حتي يزيل أثار النوم.. وحاول أن ينتبه لمن يحادثه ثم قال: ايوه.. مين معايا؟ _ ايوه يا باشا، أنا عم رضا ريس العمال في المصنع . أجابه قصي وهو يتثاءب: اه.. ايوه.. أهلًا يا عم رضا، خير في حاجة؟ _ أنا أسف يا باشا لإزعاجك بس الست شمس أتأخرت اوي.. وهي مكلماني وقالت إنها في الطريق ليا وقدامها ربع ساعة.. فات يجي ساعتين ولسه مجتش . انتفض قصي من الفراش.. وهب واقفًا وهو يقول: يعني ايه؟ _ يا باشا.. الست شمس طلبت مني أكون في المصنع مع العمال ٨ بالدقيقة عشان نخلص الطلبية.. واتفقت معانا إنها حتيجي عشان لازم تقف على ايدينا.. وكلمتني الساعة ٨ إلا ربع الصبح قالت إنها حتركب العربية وجاية حالًا ولازم نكون كلنا موجودين.. بس لسه مجتش وكلنا مستنظرنها من الصبح. تسائل قصي بتوتر: طيب اتصلت عليها تاني يا عم رضا؟ _ يوووه مليون مرة.. بس تليفونها مقفول . دب القلق في قلب قصي وجال في ذهنه العديد من السيناريوهات.. جميعها ليست في صالحه ثم قال: طيب سلام دلوقتي يا عم رضا . أغلق الهاتف سريعًا.. ومن ثم أجرى إتصالًا أخر بموظف الاستقبال: الوو.. ماجد.. تعرف حاجة عن المهندسة شمس؟ _ ايوه يا فندم.. هي طلبت عربية توصلها الرويسات.. وخرجت بره تستناها.. بس السواق جالي بعد شوية وقالي إن مفيش حد واقف بره.. وإنه فضل مستني كتير . صاح به قصي بغضب شديد قائلًا: ولما حصل كده يا أستاذ مبلغتش ليه؟ ارتبك الموظف وقال: يا فندم هي شكلها كانت مستعجلة، وأنا قلت لها العربية حتيجي في خلال ربع ساعة.. أنا توقعت أنها خرجت تركب تاكسي . _ توقعت!.. اتفضل يا أستاذ خلي مدير الأمن يجيلي حالًا على مكتبي.. أوصل ألاقيه هناك هو وأستاذ وليد . لا يعلم كيف استطاع ان يكون في مكتبه بعد عشر دقائق من المكالمة، ولا يدري ما الذي كان يرتديه، ذهنه لم يكن مدرك لأي شيء سوى حقيقة واحدة، أين هي شمس؟ كان وليد في مكتبه عندما وصل إليه الخبر، فذهب مسرعًا إلى مكتب صديقه، يتبعه اللواء المتقاعد/ أحمد القنواتي (مدير الأمن الخاص بسلسلة فنادق الدالي في مصر)، وصلا الإثنان للمكتب وانتظرا قصي الذي كان أمامهما في خلال دقيقتين وبمجرد دخوله قال: لواء أحمد.. شمس تطلع حالًا من تحت الأرض . أجابه الرجل بثبات وحنكة رجال الشرطة: أنا فهمت إنها اختفت من وقت ما خرجت من الريسيبشن، مفيش طريقة نعرف بيها غير كاميرات المراقبة اللي محطوطة بره الفندق وفِي الشارع، أنا رايح غرفة المراقبة أشوف . نهض قصي وقال: كلنا رايحين يلا . استيقظت شاهي من النوم، ولم تجد زوجها بجوارها.. توقعت أنه بالعمل.. لذا ظلت تتململ في كسل بالفراش.. ثم حاولت الاتصال بصديقتها ولكن وجدت الهاتف مغلق.. بقيت في الفراش بعض الوقت.. ثم نهضت وأخذت حمامًا باردًا وأرتدت ملابسها وقررت أن تقضي يومها على الشاطىء اليوم . غادرت الكوخ وقامت بالاتصال بزوجها ولكن رنين بلا مجيب، شعرت بالقلق.. تلك المرة الأولى التي لا يسارع فيها زوجها بمحادثتها بمجرد اتصالها، عاودت الاتصال مرة أخرى، ولكنه لم يجيب أيضًا.. ازداد قلقها.. فوجدت قدمها تأخذها نحو المكتب الخاص به.. فقط ليطمئن قلبها . وصلت إلي هناك فلم تجد أحد.. سألت السكرتيرة فأبلغتها أنه مع مستر قصي في غرفة المراقبة، توقعت أنها ستشعر بالراحة عند معرفة مكانه.. وأنه بالطبع منهمك في عمله لذا لم يستطع أن يجيب اتصالها، لا تعلم لما ظل القلق يسري في جسدها، لذا ذهبت على الفور إلى هناك لتجد ما ينتظرها . وصل الرجال الثلاثة لغرفة المراقبة، وأمر اللواء الموظف المختص بأن يعرض له تسجيل الكاميرات الخارجية بتوقيت الساعة الثامنة إلا ربع، وبالفعل عاد الرجل إلى الزمن المطلوب وبدأ بعرض عدة شاشات لأكثر من كاميرا على الشاشة الكبيرة أمامهم، تابع الجميع الشاشة.. حتى ظهرت شمس أمامهم وهي تخرج من الباب الخاص ببهو الفندق.. ووقفت أمامه قليلًا، ثم تحركت نحو البوابة الرئيسية الخارجية . استمرت الأعين تتابع الكاميرات التي توضح خط سيرها، ولَم يشعر أحد منهم أن هناك عينان إضافيتان تتابع معهم الشاشات وهي مرتبكة لا تعلم ما الذي حدث؟ ظهرت شمس تتحرك حتى خرجت تمامًا من الفندق وأصبحت في الطريق الرئيسي، وأثناء انتظارها هناك، ظهرت سيارة دفع رباعية سوداء أمامها، وفِي أقل من ثواني توقفت وجذبت شمس بالداخل وانطلقت بأقصى سرعة . انطلقت صرخة أنثوية في وسط هذا الحدث المريب: شمس.. شمس راحت فين!، مين دول؟، حد يرد عليا . التفت الجميع ليجدوا شاهي تقف أمامهم وقد رسم على وجهها ملامح الرعب والفزع مما رأت، هرع وليد نحوها يحتضنها وهو يحاول تهدئتها وقال: متقلقيش يا شاهي.. حنلاقيها.. حترجع . انفجرت في البكاء وهي بين ذراعي زوجها وظلت تردد: ازاي.. ازاي حترجع؟، مين اللي عمل كده.. مين؟ وقف قصي يحدق بها وذهنه يطرح نفس التساؤل من فعل هذا، ثم التفت نحو مدير الأمن قائلًا: أحمد باشا، أظن بسهولة تقدر تطلب من حبايبك في الداخلية أنك تشوف خط سير العربية دي من الكاميرات اللي موجودة في الشوارع. أجابه اللواء: أنا كنت حأعمل كده حالًا، والكل حيتحرك، رجالتنا ورجالة الداخلية، شمس هانم إن شاء الله حترجع في أسرع وقت، حضرتك انتظر مني تقرير كل نص ساعة، بعد إذنك . غادر اللواء ليذهب إلى مقر الداخلية، ليقوم بالإبلاغ ومتابعة السيارة، ومحاولة التعرف عليها، والتوصل إلى الخاطفين في أسرع وقت . ظل قصي واقفًا كالتائه الذي يبحث عن ملجأ له، عيناه زائغتان، عقله في بحث مستمر عن سبب ما حدث!، قلبه يكاد يشق صدره شطرين، ليجد له طريق للخروج والبحث عنها، جسده يرتعش من مجرد التفكير في أنه قد لا يراها ثانية، لم يستطع أن يسجن انفعالاته أكثر من ذلك.. ظل صامتًا.. يحاول التماسك أمام الجميع.. يكظم غضبه وجنونه.. وعندما دخل مكتبه وأغلق بابه عليه.. كانت تلك الإشارة لأن يحرر كل ما هو مكبوت.. لم يعي ماذا يفعل؟، ظل يحطم كل شيء حوله، كل ما يصل إلى يديه، كان كالأسد الجريح الذي لم يتجرع الهزيمة من قبل.. ولن يتقبلها.. ظل يثور ويصرخ بقوة وهو يحطم المكتب بأكمله.. كما لو كان يحطم من فعل بها هذا، استمر على هذا الحال عدة دقائق.. كان أشبه بالمجنون الذي فقد عقله تمامًا.. وعندما خارت قواه، ولَم تعد ذراعاه تقوى على شيء، انهار بجسده على الأريكة، وانهارت معه دفاعاته الأخيرة، لا يذكر أنه عرف من قبل مذاق دموعه، لم يشعر بها إلا عندما انحرفت بعض القطرات نحو فمه.. نعم إنها المرة الأولى التي تتغلب عليه، وتهرب من مقلتيه وتجد طريقها على وجهه، إحساس مؤلم بالعجز وقلة الحيلة تملكه، وخوف شديد مما قد يحدث لها . صمت مريب عم المكان بعد أن سمع الجميع صوت الصراع الذي كان يحدث بالداخل، لم يحاول أحد الدخول إليه، حتى وليد وزوجته، كانا في انتظار اللحظة المناسبة للدخول، لم يحاول وليد أن يقتحم المكتب على صديقه وهو هكذا، لم يفكر حتى، فهو يعلمه جيدًا، لا يحب أن يراه أحد على هذه الحالة . أصبحت الساعة الحادية عشر.. أي أن شمس متغيبة منذ ثلاث ساعات.. الانتظار يكاد يقتل الجميع أحياءً.. الجلوس بدون فعل شيء ليس من شيم قصي، ولكن ما باليد حيلة.. يجب ان ينتظر حتى تصل إليه أي معلومة مؤكدة . الدقائق تزحف ببطء شديد.. كسيدة عجوز لا تقوى على السير.. الجميع يكتم أنفاسه في انتظار ما هو قادم.. دقائق أخرى.. ويصدح صوت رنين الهاتف.. ليخترق الصمت المطبق الذي عم المكان.. ويهرع قصي ليجيب.. ويندفع وليد وشاهي لداخل المكتب لعل هناك ما يطمئن الجميع . التقط قصي سماعة الهاتف ويداه ترتعشان مما قد يسمعه، التقط أنفاسه وحاول التماسك ثم قال: الووو . _ مسيو قصي حبيبي.. كيف أحوالك؟ _ مسيو إسحاق.. أعتقد أننا خلصنا كلامنا.. وأعذرني أنا مشغول وفِي انتظار مكالمة مهمة . _ بالعكس حبيبي.. كلامنا حيبتدي من أول وجديد.. وصدقني مفيش أهم من مكالمتي ليك. _ مسيو إسحاق.. أرجوك أنا مش فاضي.. وعندي حاجات كتيرة أهم . _ أهم من شمس هانم؟ _ أنت تقصد أيه؟ وتعرف منين شمس؟ _ عيب حبيبي تقول لإسحاق كده.. احنا نعرف كل حاجة . قصي بتوجس: يعني ايه؟ _ تؤتؤ تؤتؤ كنت فاكرك أذكى من كده مسيو قصي، عامة أنا حأريحك.. نخلص موضوع الأرض.. شمس هانم ترجع بالسلامة، مش موافق يبقى مفيش مشكلة.. بس كمان مش حيبقى في شمس خالص تاني.. قدامك يوم كامل تفكر وترد عليا بكره في نفس الميعاد.. شلوم حبيبي . أغلق قصي الهاتف والصدمة مازالت مسيطرة عليه.. إلى أن صاح به وليد قائلًا: ايه اللي حصل؟ نظر له بحزن قائلًا: مردوخ الكلب خطف شمس .