داخلا مكتبه في المركز منبسط الأسارير، يوم واحد يفصله عن خطبة وردته وهو يفكر، بما أنها لا تريد عرسا ونظرا للظروف فسيستعجل بالزواج وهكذا تكون في بيته أمام عينيه ليبدأ معركته لإخراجها من دوامتها، يجهل الطريقة لحد الآن؟ لكن سيحاول بكل طريقة ممكنة. لمح صديقه الابتسامة التي زينت وجهه فأضحى أصغر من عمره، فشكر ربه على تجاوز ليث لمحنته وكسر ذلك الحاجز الذي يمنعه عن الحياة الطبيعية ثم طلب من الله أن يكمل عليه سعادته و يبعد عنه تامر ذاك و لا يعتبرها تحدي. تجاهل الأفكار الدائرة برأسه، يقول بمرح ¤ يا سلام، لم أكن أعلم بأن الزواج يضفي البشرى على النفوس هكذا. ابتسم ليث، يرميه بمكعب خشبي يزين سطح مكتبه، قائلا بمرح ¤ بلى، تشجع أنت فقط واخطب صدفة عمرك الخجول قبل أن يخطفها منك أحد. شعر بنغزة لقول صديقه، ليس أنها ستكون لأحد غيره، فهو لن يسمح بذلك لكن وكأنه لم يعجبه أن يذكرها أحد حتى صديقه، ألهذه الدرجة وصل شعوره بالتملك نحوها؟ حاول إخفاء إحساسه بالغيرة، فصديقه لا يقصد ما يشين ثم قال بحزم رغم بسمته المترفعة ¤ لن أسمح بذلك، فهي ابنة خالتي وأنا أولى بها. ضحك ليث بينما هو جالس على كرسيه يتفقد الملفات ثم قال بمكر ¤إن لم تحبك وترضى عنك، لن تستطيع فعل أي شيء وستراقبها بائسا بينما تزف لشخص آخر.... فتحرك! هذه المرة اشتعلت النار محرقة خوفا من تحقق كلام صديقه، ففكر بوجوب بدء خطته، فهي حبيبته لحمه ودمه ولن تكون لأحد غيره. **** رفعت رأسها تنظر للأعلى بسخط، غارقة وسط أكوام من المجلات المختلفة لأنواع من الأقمشة، الملابس، أكسسوارات، عطور ، أحذية ، أدوات زينة و ،،،، وهن يشكلن دائرة حولها بأمر من أمها طبعا التي أنزلت دمعتين كعادتها لتستسلم ورد لحملة الإعلانات عن مختلف المنتوجات وليتهن يدعنها تختار! كل واحدة تريها ما يعجبها فتدونه" كاتبة العدل " نعيمة ..اختنقت ولم تعد تستطيع التنفس من كومة الكتيبات في حجرها. علا رنين هاتفها، فاغتنمت الفرصة وألقت بكل شيء تقفز من مكانها إلى خارج الدائرة، تفر قائلة بسرعة ¤أنا أثق بأذواقكن، فافعلن ما ترونه مناسبا. قمن بمط شفاههن جميعهن مرة واحدة مما جعل ورد تطلق ضحكة صاخبة قلما تضحكها تجيب في نفس اللحظة على هاتفها دون رؤية محدثها، فتجمدت الضحكة على صفحة وجهها منصتة لمخاطبها يصيح بغضب ¤ سعيدة أنت بزواجك منه، أليس كذلك؟ ..ماذا وجدت به لا أملكه؟ فأنا أفضل منه، يمكنك حتى سؤال طليقته. قطبت بريبة رغم الجمود المكتسح لأطرافها ولم تنبس بحرف، تسمعه يكمل بتهديد ¤ أقسم يا ورد إن حدث و تزوجته لأجعلن حياتك جحيما أنت وهو! قطع الاتصال وهي متصلبة مكانها تعود إليها رائحة ماض كريه، رمشت بعينها وكأنها تمسح الصور من عليهما لتشد على الهاتف حتى أحدث صوت، تهمس ببرود مخيف ¤ وأنا أقسم إن اقتربت مني لأقتلنك وأهد البناء على الجميع ولتذهب كل مخاوفي إلى الجحيم. ***** استيقظ من نومه بنشاط وسعادة لم يشعر بها من قبل في حياته حتى أصبح يرى كل شيء بلون أشعة شمسه الذهبية، أزال ما تبقى من ثقل على صدره حين سرد عليها أحداث حياته، فتفهمت معاناته وشقيقته، تذكر كيف كان يثير استفزازها وهو يبحث عن دمية تشبهها، فيغيظها لتزم شفتيها حتى مسحت عنهما الصبغة فأصبحتا على طبيعتهما تستفزانه هو! دوما ما يدفع ثمن ما يضيقه بها غاليا! أمس رأى منها جانبا آخر أكثر إنسانية لم يعلم أنها تملكه، تعاطفت معه دون شفقة وبكت بحرقة من الظلم الذي لحق بهما ثم الطريقة التي عاملت بها أمل لكي تسترضيها ولا تشعرها بأنها رفضتها، فارقها بصعوبة وهو يمني نفسه برؤيتها اليوم بعد انتهاء جلسة أسماء. سار باتجاه شقيقته ليفطر معها، يحدث نفسه ¤ امتحان صغير، إن نجحت به أصبحت زوجتي حبيبتي وأقسم أن نكفل أمل أيضا. انتعش صدره بالبشرى والأمل، يحيي شقيقته بينما يجلس وشرع بالأكل مستمتعا ولم يخفى عنه توتر شقيقته كما تأنقها والكحل الخفيف في عينيها الرماديتين، استغرب قليلا فهو لم يرها تتأنق هكذا منذ مدة طويلة، أكمل طعامه، فسبقته إلى الوقوف مما اضطره للنظر إليها فتنطق بارتباك ¤ سأحضر حقيبة يدي. فتحت لهما السيدة زينب بوجهها المعتاد ذو الملامح المتذمرة، فألقت عليهما نظرة تمط شفتيها بقولها الممتعض ¤ عدنا يا سمير لرؤية طلتك البهية بشكل شبه يومي. رد عليها سمير بمرح مازح ¤ لماذا يا جميلة ألا تشتاقين إلي؟ جعدت أنفها وفمها مجموع لأعلى، تجيبه مؤنبة ¤ جيل آخر زمن لا يعرف الحياء. ثم أشارت إلى المكتب، تكمل بنزق ¤ أدخل الآنسة إلى الطبيب، فهو ينتظرها وابحث لك عن مكان تلهو به إلى أن تنهي الجلسة. ارتفع حاجبا أسماء إلى أعلى تستغرب المرأة وتجاوب سمير معها بتلك الطريقة. سحبها الأخير باتجاه المكتب كي تدخل وترك باب المكتب كالعادة مواربا قبل أن يعود ليهتف قاصدا السيد زينب ¤ ولماذا أبحث عن مكان آخر؟ إشتقت إليك وأريد التحدث معك قليلا. ركزت بأنظارها رافعة حاجبها الأيمن وفمها مضموم هذه المرة إلى الجانب ثم فتحته، تقول بنزق ¤ إن كنت ستخبرني عن سر اللمعة بعينيك وابتسامتك البلهاء التي تشبه إبتسامة طفل حصل على حلوى العيد ...ممم فسأتحملك غير ذلك، الباب تعرف مكانه. ضم تقاسيم وجهه استنكارا ¤ ابتسامتي ليست بلهاء. ثم ابتسم بمكر، يضيف ¤ أما اللمعة فسببها شمس أشرقت بحياتي على غير توقع، فسرت أشعتها الذهبية بدفئها عبر سائر خلاياي العصبية. أدارت رأسها بسخرية، تعقب ¤ مممم شمس ذهبية، دفئ وخلايا، لماذا لا تقول شقراء ذهبت بعقلك وننتهي بدل حديث الشعر هذا! أتركه لها وأعطيني كلمات مباشرة ..اجلس اجلس! سأحضر لك قهوة. قلب عينيه بنزق مصطنع بينما يقول وهي تحضّر القهوة على الحاجز الخشبي خلفها ¤ أقسم بأنك قاتلة بهجة ولا أعلم كيف أتحملك؟ لوت عنقها المكسو كباقي رأسها وصدرها بطرحة بيضاء، تهتف هي الأخرى باستخفاف ¤ لا أحد يجبرك، اذهب إلى شمسك لتدفئك بأشعتها الذهبية، سأكون شاكرة لك ولها. ضحك بمرح من صميم قلبه، قائلا ¤لن تتخلصي مني اليوم أبدا، مهما حاولت. *** دخلت بوجل تتساءل عن سبب الأرق وعدم نومها طوال الليل، تفكر بالجلسة والأصلع وكانت النتيجة عينين يظهر عليهما التعب فاضطرت أن تكحلهما قليلا، هذا ما تخبر به نفسها فيسألها باطنها وماذا عن التأنق؟ لمحته جالسا على مكتبه كأول أمس بيد أنه اليوم يرتدي نظارة شفافة زادته ذكاء و..و بهاء! مستغرقا بقراءة كتاب ما فلم يلاحظ دخولها، تنحنحت بخفوت فرفع رأسه و ألقى عليها نظرة من أعلى إلى أسفل ثم ابتسم بغموض بينما يقوم من مكانه وهو يقول ¤ مرحبا آنسة أسماء، كيف حالك؟ على بعد قليل منها وقف قبالتها ينتظر ردها وهي تلعن أفكارها التي جعلتها تتأنق وترتدي بذلة سوداء بتنورة إلى نصف قصبتي ساقيها وسترة مع حذاء رمادي كلون عينيها برقبة طويلة، ظلت تنظر إليه حتى تحدث باسما بهدوء ¤ لن يفترسك أحد هنا على فكرة ...أعدك، أين تريدين الجلوس؟ التفتت إلى مكان الشزلونك تشير إليه بسبابتها، تقول بعبوس ¤ أنا لن أجلس هناك أبدا! ضحك الدكتور مفيد، يرد عليها ¤ لذلك سألتك لتختاري أين تريدين الجلوس؟ لم تتكلم تخطو نحو الأريكتين اللتين تفصلهما الطاولة الزجاجية أما هو فتوجه إلى المكتب، يلتقط دفترا شبيها بمذكرة بنية اللون ثم لحق بها ليجلس بالأريكة المقابلة، فتح مذكرته ونظر إليها من فوق عويناته الشفافة، يسألها ¤ لماذا عدت؟ بدأت بقضم شفتيها من الجوانب بأنيابها وصمتت إلى أن ظن أنها ستحذو حذو شقيقها حتى يستفزها لتتحدث لكنها خيبت ظنه، تجيبه بخفوت ¤ ححمم لأنني تعبت. ثم سكتت، فابتسم بهدوء يقول ¤ بما أنك اعترفت بتعبك، فسأسألك السؤال التقليدي الذي يسأله الطبيب للمريض ..بماذا تشعرين؟ انفرجت شفتاها وثبتت مقلتاها عليه ..لا تعلم ماذا تقول و كيف؟ كأنها أصبحت أمية بالكلمات. ¤ لا تعلمين ما يتعبك؟ أم لا تعرفين كيف تعبرين عنه؟ أم أنك لا تريدين التحدث؟ أجابته بخفوت، قدميها مضمومتين جانبا وكفيها تقبضان على الحقيبة بحجرها ¤ أنا تعبة ولا أستطيع حتى التحدث، أشعر به شيء ثقيل لأفعله وأنا منهكة. يحاورها بحرص لا يريد فقدان صلة التواصل بينهما، فيعود إلى نقطة الصفر ¤ ما رأيك لو أسأل وأنت تجاوبين بكلمة واحدة، فشقيقك حكى عن حياتكما و مشقتها لذا أعلم أغلب الأفراد العابرة بحياتك تقريبا ..سنجرب و إن أحسست بعدم الراحة فقط قولي كلمة واحدة "توقف" و سأتوقف اتفقنا؟ لاحظ توترها بجلستها رغم كونها أومأت بموافقة، فنطق بأول اسم ¤ سمير؟ ردت دون تردد ¤ الأمان. ابتسم، ينطق بالاسم الثاني ¤ والدك. لانت ملامحها، تهمس بارتعاش ¤ الحنان ..رحمه الله. تمتم أيضا بالرحمة عليه واستمر ¤والدتك؟ ارتعدت يديها فقبضت بهما ركبتيها بعدما تركت الحقيبة حتى هربت الدماء منهما. لاحظ ذلك فارتأى تغيير الإسم كي لا يحاصرها فهي ليست جاهزة بعد ¤ ورد خطاب؟ رفعت رأسها بحدة تعقد حاجبيها بشدة، تهتف ¤ تعرفها ؟ أجابها بنبرة عادية. ¤أغلب أهل المدينة يعرفها، فاسمها مرتبط أولا بوالدها النقيب علي الخطاب نائب وزير الداخلية قبل أن يموت ثم بجمعية الحنين وهي أكبر و أشهر جمعية في المدينة وكونها عُينت رئيستها في سن صغيرة هي سابقة لم تحدث من قبل، فهذا مثير للإعجاب غير أن سمير حكى عنها وعن دورها في تغيير دار الأمل للأفضل. نكست رأسها وكأنها شعرت بخزي أرضاه، فهو بداية طريق الشفاء بعون الله. ¤ نعم، سمير يحترمها كثيرا والعديد من الناس أيضا. فأعاد سؤاله مجددا ¤ وأنتِ؟ لاحظي أنك لم تصفيها بكلمة. رطبت شفتاها وقالت بسخرية متقهقرة ¤ لو كان أخي سيقول دون تفكير "قديسة" لمعت عيناه بعزم غامض، يستفسر منها ¤ هل ترينها قديسة يا آنسة أسماء؟ لم تجبه، فكان يهم بسؤال أخر لكنها سبقته وحركت رأسها يمنة ويسرة، فطرح سؤالا آخر ¤ صفيها لي ...أريد أن أعرفها من وجهة نظرك، فأنا علمت عنها من خلال الناس ثم من خلال الجرائد وأخيرا من خلال سمير و الآن أريد رأيك أنت من خلال علاقتك بها. عضت شفتها السفلى ونظرها مثبت على نقطة وهمية، فقرر دفعها لتحدث ¤ ما رأيك بأن ما ستقولينه أنت سآخذ به وأرمي الباقي ...سألغي كل شيء سمعته عنها وأصدقك وحدك، فماذا ستقولين عنها ولو بإيجاز؟ نظرت إليه وقد أفرجت على شفتها المسكينة التي تركت أسنانها أثرا عليها لتهمس بحذر ¤ طفلة صغيرة ترتعش خوفا. تفاجأ بجوابها، فسألها يريد إتمام الصورة بخيال عقله ¤ما الذي يخيفها برأيك؟ حدقت به ببلاهة، فابتسم يغير السؤال ¤ كيف تعارفتما؟ عادت للنقطة الوهمية تشرد بها، تقول بنفس النبرة الخافتة ¤ كانت مجرد مراهقة حين دخلت الدار أول مرة ...سمعت الفتيات يتكلمن عن انتمائها لطبقة الأغنياء، فكرهتها كما كرهت المتنمقات قبلها اللواتي ينظرن إلينا كنوعية حقيرة أدنى منهن، فلم أهتم لرؤيتها إلا أن عشية ذلك اليوم، لازلت أذكرها جيدا، كنت جالسة في ركن منزوي في الحديقة، فرأيت أحد المشرفين يجر فتاة صغيرة بعمر الثانية عشر تقريبا، من شعرها ليسجنها بعد أن ضربها لفعلة لا أعلم ما هي! لكنني متأكدة من أنها لا تستحق ما فعله بها وحتى لا أظن أنها السبب فيما يجرها إليه. تأمل جلستها المستقيمة ورجليها مضمومتان لبعضهما بشدة، كفيها في قبضتين شاحبتين على ركبتيها وملامح وجهها قد قست مع جملتها الأخيرة التي فهم مغزاها جيدا لكنه تجاهلها حاليا، يصغي لبقية حديثها ¤ لا أعلم من أين خرجت تلك النحيفة ضئيلة الحجم تملك شجاعة بحجم الجبال، كانت تعلم مركزها و استغلته بكل مزاياه، سحبت الفتاة من بين يديه وصاحت بعلو صوتها تحت أنظاره المصدومة .... "أيها الوحش كيف تتجرأ؟ ..إنها طفلة ..ما الذي فعلته لكل هذا؟ ثم إلى أين تريد أخذها ؟؟"...بدأ يتمتم بكلمات غير مفهومة والجميع قد تجمع على صراخها في حين أكملت هي ..".أقسم لك بأنك لست فقط ستطرد وإنما ستحول للتحقيق وتتعفن في السجن أيها النذل عديم المروءة" دوّن ملاحظته بينما يصغي إليها كيف تعيد الكلمات كما قيلت بلسان ورد وكأنها إلى الآن لا تصدق ما حدث! وكأنها لا تزال محصورة هناك تعيش اللحظة مرارا ¤ أذكر بأنني لمحت بسمات شماتة على أفواه الفتيات المتفرجات، بعد أن انفض الجمع تبعتها لأرى أين تأخذ الفتاة؟ دخلت بها غرفة الإسعافات وأخذت تطبب جروحها تواسيها بكلمات رقيقة وأنا واقفة أتأملها وأدقق بها إن كانت حقا بشر، حتى أجفلتني كلماتها الموجهة إلي "يمكنك التحرك إذا شئتِ أو تظلين على وضع المراقبة" كانت قد اقتربت مني تنظر بعيني، تكمل بجفاء ."كما فعلت في الحديقة ". تسمرتُ مكاني، فمقلتيها السوداوين لم تكونا أبدا لمراهقة أقصر مني ببضع سنتمترات قليلة، بل لعجوز شابَ شعرها وهرمت ملامح وجهها، فلم أستطع التحدث حينها وحتى هي صمتت تنظر إلي لوهلة ثم فرت من أمامي. تدخل الدكتور مفيد يسألها ¤لماذا تظنين بأنها فرت؟ ضمت شفتاها إلى الأمام تفكر ثم أجابت بينما تميل برأسها يلفه حجاب رمادي كلون الحذاء ¤ لكي لا أسبر مزيدا من أغوارها وأكتشف ما وراء جمود مقلتيها. ابتسم بمكر، يناورها ¤ ألم تفكري بأنها ربما رأت انعكاسها بك لذلك خافت و فرت؟ عقدت جبينها باستفسار، فأكمل يفسر ¤ ربما رأت بعينيك أنت الأخرى ما لم يره غيرها؟ اهتزت حدقتيها يلمع بهما الإدراك يمتزج بالذهول والحيرة لكنها سرعان ما تمالكت نفسها، تجيبه بعبوس جاف ¤ ليس هناك شيء لتعرفه عني. لمح تهرب عينيها منه دلالة عما تخفيه، فقرر اتخاذ طريق آخر على مهل حتى يصل لهدفه ¤ حدثيني عن هواياتك. أرجعت أنظارها إليه تتأكد من سؤاله، فأومأ مؤكدا لتقلب عينيها الرماديتين تفكر قبل أن تقول ¤ التطريز. محافظا على بسمته الهادئة، يسألها ¤ هل تجيدينه؟ ردت بفرح طفولي بينما تومئ برأسها ¤ أجل...كانت كل أعمالي في ورشة الدار تباع. ¤ جيد ...إذن لماذا لم تتركي الدار ما دمت قادرة على إعالة نفسك؟ عبست، ترد عليه ¤ كنت مسؤولة عن الدار كيف أتركها؟ جرب حصارها قليلا فسألها ¤ منذ متى تعلمت التطريز وصرت محترفة به؟ عادت إليها تبتسم بخفة ظنا منها أنه غير الموضوع ¤ منذ دخلت الدار في سن السادسة عشر. ثم قطبت مجددا تكمل ¤ الشيء الوحيد الذي قد أصفه بجيد في تلك الدار آنذاك هي ورشة الحرف ..تعلمت مبادئ التطريز في شهرين و بعدها أصبحت محترفة وأحطت بكل أنواعه في خلال سنتين، أصبحت من أمهر الفتيات في الدار حتى أنني بدأت حينها أطرز تصميماتي الخاصة تنال إعجاب المشرفات وتشتريها مني وفي المعارض التي تنظمها الدار دائما أكون في الصدارة. ابتسم لابتسامتها، معقبا ¤ رائع، أحييك على ذلك. شعرت بسعادة تملكتها بفخر وهي تسمع منه تلك الكلمات، وهو يضيف مشجعا ¤ أريد أن تحضري معك قطعة لأراها في الحصة المقبلة، اتفقنا؟ أشارت بنعم و ابتسامتها لاتزال على ثغرها قبل أن يبدأ بالحديث فتفتر رويدا رويدا ¤ إذن أنت تعلمت في السادسة عشر وأظنك أصبحت مسؤولة عن الدار بعد تولي ورد لرئاسة الجمعية في سن العشرين وبينكما اثنا عشر سنة يعني أنك أمسكت الدار في سن الثاني والثلاثون وهذا يعطينا فرق مممم لنقل ستة عشر سنة، إذا أزلنا منها خمس سنوات للنضوج، فأعود وأسألك لماذا بقيت في الدار احدى عشر سنة، هذا قبل تولي مسؤوليتها وأنت قادرة على إعالة نفسك؟ كان توترها يزيد مع كل حساب يحسبه وتلك السنوات التي ينطقها بسلاسة كانت جحيما لا ينتهي بالنسبة لها، بلعت ريقها بصعوبة مع آخر كلمات السؤال، وظلت تبحلق به دون رد يذكر، فقرر إعادتها إلى مربعها الآمن ¤ آنسة أسماء بماذا تشعرين وأنت تطرزين؟ تعودت أسلوب مناقشته، فأصبحت تجيب على ما تجد لسانها ينطلق به وما يقربها من منطقة الخطر يسقط لسانها ويلتصق بفكها السفلي ¤ إنه لشيء رائع أن تأخذ قطعة قماش بيضاء نقية وتنقش عليها أجمل رسم، فتصبح تحفة خلابة وكلما انهمكت على قطعة لأنقش على بياضها وصفاءها أحلى الرسوم انعزلت عن محيطي، يمكنني خلق عالم خاص بي وحدي أشعر به بالسكون والاندماج التام. ابتسامته فريدة من نوعها فكرت أسماء، يبتسم بجانب واحد من فمه 'ركزي أسماء! ركزي!' أنّبت نفسها بينما تحدق به كلما سمع منها تعبيرا يعبر عنها. ¤ سنكتفي بهذا القدر وأراك بعد غد إن شاء الله. لم تستطع إخفاء إحباطها الذي كان جليا على وجهها، فاستدرك مستفسرا ¤ هل تريدين قول شيء ما؟ أومأت بلا فقال ¤ آنسة أسماء، أريد منك أن تثقي بأنني هنا لمساعدتك وسماع كل ما يدور بخلدك، لن أصدر أحكاما بحقك، كل ما سأفعله أنني سأوجهك لتفهمي الأمور كما يجب، فتتصالحي مع ذاتك التي حالت بينك و بينها سنين من المشاكل والمصائب، لذا فكري جيدا بالأمر، أتمنى أن نتعمق قليلا على ما تحدثنا به اليوم وصدقيني كلما بقيت همومك داخلك تعاظمت وكبرت حتى تتحول إلى وحش ضاري يقتات على خوفك منه لكن حالما تخرجينه من ذاتك عبر شفتيك يصبح كلمات حينها يصغر و يصغر كلما عبرت عنه أكثر ونقشناه سويا حتى لا يعود له وجود وبعدها تستطيعين متابعة حياتك وقد خف الثقل من على صدرك وفهمت الحياة أكثر . ثابتة تنظر إليه، مأخوذة بكلامه المسترسل بهدوء، تريد الثقة به كما ترغب بفتح كتاب عقلها وصدرها تنشر صفحاته أمامه فيقرأها كما يشاء، ودت لو أدخلته داخل رأسها فينطلق بين أروقته ليعلم بكل ما عاشته و أكثر من ذلك كل ما صاحبه من أحاسيس بشعة ألمت بها وتركت جوفها كصحراء قاحلة لا ماء و لا حياة فيها لكنها مرعوبة ترتعد من داخلها ولسانها يثقل فيصبح كجبل صامد مكانه لا يمكنه التحرك بأمر من عقلها الذي تسمع همسه، بماذا سيفكر الطبيب بها إذا علم بكل شيء؟ ...لتجيبه هي... ولماذا تكثرت؟ هو طبيب و هذا عمله، ليعود عقلها اللعين ويطرح أسئلته الكثيرة والتي للأسف لا جواب لها عند أسماء حاليا على الأقل. ¤ آنسة أسماء، بماذا تشردين؟ عادت من رحلة أفكارها على ابتسامته الجانبية التي لا تعلم لما يعجبها التحديق بها وقامت من مكانها مع وقوفه هو الآخر، فأشارت له كناية على الاستئذان فقال ¤ سأنتظرك بعد غد إن شاء الله في نفس الموعد. لم تنبس ببنت شفة تخطو نحو الباب لينادي عليها بصوته الهادئ والواثق ¤آنسة أسماء! إلتفتت إليه بفضول ليخبرها ¤ لا تنسي احضار إحدى تحفك الخلابة ..وليكن بعلمك إن أعجبتني سأشتريها. ابتسمت بتحدي تجيبه قبل أن تكمل طريقها نحو الخارج ¤ستعجبك لكنني لن أبيعك إياها، ستكون هدية مني. خرجت من المكتب لتجد شقيقها منغمس بحديث مع السيدة زينب التي ما إن رأتها دققت بمظهرها كأنها لم ترها عند دخولها تمطط شفتاها بامتعاض بينما تقف، موجهة قولها لسمير ¤ ما تفعله ليس جيدا، لكل إنسان كرامته لكنكم جيل هذا الزمن جيل الوقاحة ولا يهمكم أمر غيركم.