صباح جميل ينذر بنهار مشمش معتدل، هذا ما فكرت به ورد إبان خروجها من بيتها إلى أشغالها المختلفة وحتى بعد أن وصلت إلى وجهتها الأولى وجدت الأمور مقلوبة وهذا ما لم تعد تحتمله ورد مؤخرًا, وها هي الآن واقفة أمام نافدة مطلة على حديقة غناء بها أشجار الزيتون و البرتقال تزينها هنا وهناك والأطفال يغمرونها لعبًا و صراخًا ببراءة، فتفكر ورد في نفسها، لماذا الإنسان يكبر فينسى هذه البراءة؟ لمَ لا تبقى القلوب نقية على فطرتها؟ ¤السلام عليك آنسة ورد. صوت امرأة جاد أخرجها من أفكارها، فالتفتت ورد إليها. امرأة بأواخر الثلاثين، متوسطة الطول نحيفة بملابس محتشمة، شعر بني مجموع بحزم على شكل كعكة ووجه تقاسيمه قاسية مهما حاولت إخفاءه يظل يفضح حقيقته....آه لو فقط يكون داخلك كخارجك! لكن للأسف... ¤هذا تسيب يا أسماء، كلما غبت قليلًا تلعبون وراء ظهري و تنسون أن من تلعبون بهم بشر ..يا الله! كيف أتعامل معكم؟ لم أعد أعلم، لقد حرصت منذ سنين على أن يكون أغلب أفراد الطاقم من أبناء الدار لشيء واحد فقط.. أنه لن يشعر بهم و بمعاناتهم سوى من عاش حياتهم و ها أنا الآن من تسمونها ابنة مرفهة أقضي الليالي أفكر بهم ويشهد الله أني أخرج عن عاداتي و طوري فقط من أجلهم وأنتم؟..... آه لقد تعبت، تعبت فعلًا . أجابتها أسماء وداخلها يرجه الرعب، تخشى علم ورد بكل شيء ، لا... لا كيف ستعلم؟ يتساءل لسان حالها نفسها قبل أن تجيب بمهادنة: ¤اهدئي آنسة ورد، لمَ كل هذا؟ كل الأمور بخير! ¤ بخير؟ هل تعتقدين فعلًا بأن هناك شيئًا يحدث في هذه الدار لا أعلم عنه؟ حرى بكِ يا أسماء، أنت من بين كل الناس أن تعلمي بأن هذا مستحيل وإلا ما وقع اختيار أعضاء الجمعية علي لأترأسها بعد أن أثبت جدارتي بالتسيير. ارتعدت أسماء ولقد أدركت يقينًا بأن كل شيء انكشف، ترى هذه الفتاة التي اقتحمت أعمال الخير سواء بالجمعية الرئيسية أو جمعيات أخرى منذ أن كانت في الخامسة عشرة فقط.. كبرت وسط الأيتام والفقراء، عاشرتهم وساعدت بكل ما أوتيت به من علاقات، تستغل من وضعها الاجتماعي لكي تجمع لهم أموالًا كثيرة وكانت تحرص دائمًا على وصول هذه الأموال إلى حيت تنتمي وهم بالمقابل يمدونها بالقوة، فمن أين لها بكل هذه الشجاعة والعزيمة التي لا تنضب؟ وبعد مرور السنوات أصبحت رئيسة أكبر جمعية خيرية بالمدينة وأشك بأن يكون هذا الشيء الوحيد الذي وصلت إليه لأنه و ببساطة لا تحب أن تُعرف أعمالها و تحرص دائمًا على العمل في الخفاء. من يرى هذه الفتاة الأنيقة الكاملة الأنوثة لا يفكر أبدًا بأنها تساعد بنظافة الدار والطبخ أحيانًا وحتى في تنظيف الرضع الأيتام ولا تشتكي أو تشمئز بل بالعكس تكون سعيدة وضحكتها للنواجذ، إنها حقًا تستمد القوة منهم. ¤أنا آسفة أسماء ولكنني أفكر جديًا بتبديل الطاقم وخصوصًا من أشك بهم. كان هذا الخبر الصاعق الذي أخرج أسماء من أفكارها ¤لا آنسة ورد أرجوكِ! لماذا؟ ماذا حصل لكل هذا؟ ¤هل لازلتِ تنكرين أسماء؟ أم أنكِ فعلا لا تعلمين؟ لأنه إذا كان هذا الأخير فيجب فعلا أن تُستبدلي. تبدل وجهها من الصدمة إلى الخوف والرعب مما ستلقيه عليها ورد و لم يتأخر الأمر حيث قالت الأخيرة: ¤منذ متى والمؤن تُسرق؟ و ليس فقط من المواد الغذائية وأيضًا الملابس، الأدوات المدرسية! يا الله! حتى ورق المرحاض لم يسلم! هل هذه الأمانة التي ائتمنتكم عليها؟ ما الذي يحدث أسماء؟ إن لم تخبريني سأعين لجنة تحقيق، لكن حينها المذنب سيسلم للشرطة ولن أتوانى أبدًا بتسليمه، صدقيني. ¤آنسة ورد، أؤكد لكِ بأنني لا أعلم عن ماذا تتكلمين، لقد فجاءتني ولا أعلم ماذا أقول لكِ. تجلت تعابير الأسف على ملامح ورد بينما تخبرها بعبوس واجم: ¤كنت أتمنى فعلًا إصلاح الأمر بيننا، لكن للأسف لقد فاض بي الكيل وهذه أمانة سأحاسب عليها، لذا ستواجهون فريق تحقيق وليكن ما يكن! وغادرت ورد المكتب على عكس ما يدور داخلها من عواصف بكل برود كما اعتادت أن تتصف به أمام الناس، أما أسماء فبمجرد خلو المكتب، امتدت يدها إلى الهاتف تطلب رقمًا انتظرت هنيهة ثم قالت: ¤سمير تعالَ إلى المكتب حالًا، لقد كُشف المستور. *** المكان قسم الشرطة الرئيسي للمدينة الذي يجمع أفضل العناصر الأمنية من مختلف الرتب، يعملون كخلية واحدة. ¤صباح الخير سيدي ...صباح الخير سيدي! تحيات الصباح مع تحيات عسكرية انطلقت من مختلف الأفواه احترامًا للضابط بمرتبة ممتاز ليث الجندي الذي دخل القسم منذ لحظات، يُعد مع صديقه وزميله هشام من أفضل وأكفأ العناصر، يعتمد عليهما في الشرطة القضائية وضبط الجرائم والتحقق منها. ¤صباح الخير ضابط ليث، قهوة الصباح المعتادة؟ هتف حارس الأمن صلاح ما إن لمح ليث يتجاوزه نحو مكتبه مع الضابط برتبة ممتاز هشام. ¤أجل صلاح و بسرعة فرأسي يؤلمني واجلب لي مسكنًا أيضًا. ¤حالًا سيدي! دخل ليث مكتبه وكل هموم الدنيا تتكالب على رأسه فوجد صديقه قد سبقه. ¤من بحظك يا رجل! فقد تملصت من المهمة ودللت نفسك مستغلًا كل دقيقة بالنوم، أليس كذلك هشام باشا؟ ¤كل دقيقة. أجابه صديقه ضاحكًا ولم يلقَ صدى لضحكته منه وهو يعلم السبب، فعبر عنه بسؤاله الضائق بينما يترك طاولة مكتبه لينحني بكفيه على سطح خاصة زميله: ¤لم تصلوا لشيء مجددًا ومجهودك بالمراقبة لليلة كاملة ذهب سدى، يا لله إلى متى؟ ¤لن أستسلم هشام وسوف يقع كائنًا من كان وراء دخول المخدرات إلى البلد مؤخرًا، سوف يقع تمامًا كما وقع سابقيه. أكد له ليث مصممًا، فهز هشام رأسه بتفهم يجيبه: ¤أعلم ليث، ما يزعجني حقًا أن المدة طالت ولم نتوصل لمتهم واحد أكيد. أجابه ليث وقد فتك الألم برأسه متحاملًا على نفسه كالعادة، فيلوح بكفه ساخطًا: ¤و إن يكن، لا يهمني! هدفي نصب عيني وسأصل إليه ومعنى أننا لم ندرك هويته لحد الآن فهاذا يعني انتماءه للشخصيات الرفيعة المستوى .... ومع ذلك كم من الوقت ستستره عباءة البراءة؟ لابد سيخلعها أو تسقط عنه يومًا ما. هز هشام رأسه ثم طلب منه بمودة: ¤ليث أنت مرهق، اذهب لشقتك ونم قليلًا واستعد للمساء من أجل الحفل. رفع ليث أنظاره إليه يتصنع الصدمة بوجهه: ¤حفل؟ أي حفل؟ أنا لا أذهب إلى حفلات. ضحك هشام بينما يعود إلى مكتبه، مشيرًا بسبابته يمازحه: ¤ لا.. لا... ضابط ليث الجندي أنت لن تتملص من هذه الحفلة ولا حتى في أحلامك، العميد بنفسه أكد على حضورك و سينتظرك ثم هو حفل خيري يعني أنك ستتبرع للأيتام وهكذا يحفظك الله في العمليات الانتحارية التي تغامر دائمًا بنفسك بها تحت عنوان شرف المهنة. تنهد ليث مرخيًا ظهره على مسند مقعده قائلًا بامتعاض: ¤أرجوك هشام، لا أحتاج لحفل مليء بمتبجحين ومحبي المظاهر لكي أتبرع أمامهم و كأنني أستعرض كرمي وأخلاقي الكريمة. ¤إن لم يكن من أجل ذلك يا صديقي فمن أجل الجميلات اللاتي سيحضرن. استرسل هشام بمزاح يتلاعب بحاجبيه، فرد ليث وقد بدأت ملامح الاشمئزاز تخالط الألم بين قسمات وجهه. ¤تعني النوعية الفارغة، كل همها المال والمظاهر لا مكان للأخلاق في حياتهن، أليس كذلك؟ ثم تعال هنا أيها المنافق، تحثني على الخير ثم ملاحقة الفتيات، ألا تخجل من نفسك؟ ندم هشام على ما تفوه به حالما قرأ الألم يعبر صفحة وجه صديقه، مدركًا للجرح المتأصل عميقًا بأحشائه يجاهد ليخفي وجعه بالمزاح، فهم بالرد عليه لكن دقات على الباب أنقذته من الموقف بدخول حارس الأمن يحمل صينية عليها فنجان قهوة مع مسكن وكأس ماء وضعه على المكتب. شكره ليث ثم ولى خارجًا وقبل أن يتحدث هشام سبقه صديقه بقوله الجاد: ¤هشام رأسي يؤلمني سأقبل عرضك شاكرًا وأذهب للنوم إذا استجد شيء، أي شيء في القضية أبلغني حالًا لن أغلق الهاتف. كان قد ارتشف القهوة بعجالة وأعقبه بالمسكن بينما زميله يبادره بالسؤال عن الحفل: ¤والح.. فقاطعه ليث بالجواب قبل أن يكمل. ¤مرّ علي لنذهب سويًا و ليس من أجل الفتيات، لكن من أجل العميد فأنا أكن له احترامًا كبيرًا ...سلام. ¤سلام يا صديقي، أراك الليلة إن شاء الله.