ضرب ظهر يده براحة الأخرى بخفة، يضيف ¤ أنا من رأيت نظرة الخوف بعينيها حين أخذت الصغيرة بين يديها ....اعتنت بها إلى أقصى الحدود إلى درجة أنها قررت ضمان زوج جيد لها، فما كانت ترى إلا ليث حلًا مناسبًا لتبقى بحضنها ولا تسمح بأذيتها، فزادت حدة تصرفها عند طلاق ليث وصدمته من زوجته الأولى التي عانى بسببها وبشدة .. زهرة أم تخاف على صغارها لكن اسمعي مني وثقي بكلامي لو لم تقبل بك، صدقيني، ما كانت أعطتك ذلك الخاتم، لأن لا واحدة حصلت عليه قبلك، زهرة قلبها طيب يا ابنتي والعشرة ستثبت لكِ ذلك. أطرقت ورد برأسها تجيبه بحياء: ¤ أنا كنت أعذرها من البداية وفكرت بنفس منطقك....أنها أم تخاف على ابنها من فتاة محملة بالمشاكل ....ل.. قاطعها السيد يوسف بهدوء ¤ لكن ما يهمها أكثر هو سعادة ابنها، وهي يقينه أنه أصاب باختياره هذه المرة....فلا تدعي أي شيء يعيق سعادتكما بنيتي. ابتسمت تمسك بيده لتقبل ظاهرها ثم ودعته، دخلت البيت فابتسمت بمرح حين رأت فاطمة مطرقة برأسها جالسة بحياء قرب والدتها وسهى التي تنظر إلى محمود بمكر تراقب نظراته إليها، أسرعت إلى فاطمة التي قامت ما إن لمحتها تضمان بعضهما. ¤مرحبًا برائحة الأحباب....لقد اشتقت إليكِ وإلى الدار وأهل الدار. ردت عليها بخفوت: وأهل الدار أيضًا اشتاقوا إليكِ. قبلت رأس أمها في نفس اللحظة التي علا فيها رنين هاتف سهى، ظلت تتأمل رقم زوجها قبل أن ترفع عينيها لتنظر إلى أختها التي هزت لها رأسها تحثها على الإجابة، ففتحت الخط لينساب صوت زوجها المثير للشفقة من البكاء يهز بدنها وقلبها حتى ارتعشت: سهى حبيبتي .... ردت بجزع، فهي منذ تعرفت على حمزة لم تره يبكي أو حتى يحزن ولا مرة واحدة: حمزة ما بك؟ فأجابها بلوعة : أمي ماتت يا سهى .....ماتت من حسرتها ...لن ترى ابني ...لن تكون أول من تحمل حفيدها ولن تلبسه أول ثيابه كما وعدت ....رحلت أمي يا سهى. شهقت ووضعت يدها على قلبها والأخرى جامدة على الهاتف والجميع يراقبون صدمتها وبكائها تسأل زوجها: ¤ بأي مستشفى أنت يا حمزة؟ رد عليها بألم وتيه: أنا بالمستشفى الدولي ......ضاقت الدنيا بي ولا أعلم ماذا أفعل؟ يا الله أغثني! وكأنها طعنت في صميم قلبها، حبيبها، زوجها وحيد وسط مصائب لا أول لها ولا آخر وهي ليست بجانبه، استجمعت نفسها تقول بحزم رغم انهمار الدموع من عينيها: ¤أنا قادمة حبيبي لا تتحرك من مكانك ...حمزة! رد عليها بهمهمة متهدجة ...فقالت: ¤أنا معك حبيبي ....أنا معك. أقفلت الهاتف والتفتت إلى محمود تطلب منه: ¤ هيا أخي لتوصلني إلى المشفى الدولي فالخالة ناريمان توفيت. شهقات مختلفة صدرت عن أفواه النساء، ومحمود يهمس بجمود إنا لله وإنا إليه راجعون تمتمن خلفه، فاستطرد: ¤ سأنتظرك بالسيارة. ثم استدار إلى ورد يكمل وهو يشير إلى فاطمة: ¤عقلي صديقتك ورد ...لقد أفقدتني عقلي قبل أعصابي ...وإياكِ أن تغادر قبل أن أعود لأقلها بنفسي. هزت ورد رأسها بينما فاطمة تحمر حياء، أما السيدة عائشة فبملكوت آخر تتدحرج الدموع على خديها، تتذكر أيام قضتها مع واحدة من أفضل الصديقات التي عرفتها بحياتها، تلك الصديقة التي لم توفق باختيار الزوج، طبعًا! فكيف ستكون الزيجة المبنية على المصالح؟ تعلم جيدًا أن عائلة المنشاوي زوجت ابنهم من بيت العسري لأجل اتحاد المال مع السلطة وها هي النتيجة، هتفت تقول لابنها: ¤انتظراني بني سآتي معكما. ثم التفتت إلى فاطمة تخاطبها برقة مصاحبة بضعف وحزن: ¤اعذريني بنيتي يجب أن أذهب، لقد كانت نعم الصديقة لي رحمها الله. رمت ورد بنظرة استعطاف بينما تنطق بآخر جملتها كأنها تستأذنها، فابتسمت لها ورد متفهمة لتعود السيدة عائشة لفاطمة مستطردة: ¤ اعتبريني كوالدتك ابنتي حتى وإن لم توافقي على محمود ... أعلم أن الإنسان لا يؤخذ لا بأصله ولا ماله، إلا بقلبه وما به من إيمان بالله...كنت مؤمنة بذلك لأن الله عز وجل أخبرنا به، أما بعد هذين اليومين رأيته وجربته بنفسي ..لا أصل ونسب نفع ولا حتى مال. ظلتا صامتتين تسمعانها تكمل وقد شملتهما بنظرة حزينة وواهنة ¤لا تضيعوا أيامكم يا أولادي، فإنها مهما طالت تبقى معدودة، اسعدوا وأنجبوا أولادكم وربوهم على الدين والخلق...و إن لم ترزقوا بتلك النعمة، فاعلموا أن الله اختاركم لتربوا أيتامًا ليسوا من أصلابكم، لأنه خلقكم متميزين ولا يرضى لكم إلا بصحبة أفضل خلقه عليه الصلاة والسلام في جنانه... فاحرصوا على تعليمهم عمارة الأرض بالصلاح ......عن إذنكم. انسحبت لتستعد للذهاب بصحبة أولادها ونظر محمود إلى فاطمة نظرة ذات معنى، فأطرقت برأسها خجلة لينصرف إلى سيارته. أجلستها ورد وجلست بجانبها، تسألها ببعض المرح تدفع به فجيعتها بوفاة السيدة ناريمان فهي بالنسبة لها إنسانة جميلة ومظلومة: ¤ لماذا رفضت نجل وفخر الخطاب ألا تعلمين بأنه مدللهم؟ رمقتها فاطمة بعينين واسعتين استنكارًا، فضمت ورد شفتيها بشكل مضحك تفصح عن الحقيقة: ¤ لا أنا مدللة الخطاب حتى وإن لم أكن ابنتهم. شهقت فاطمة واضعة يدها على صدرها، فابتسمت ورد قائلة تهز رأسها بتأكيد: ¤أجل آنسة فاطمة لست وحدك من يعاني من العقد لكن.... رفعت يدها إلى السماء واستطردت: ¤ الحمد لله تخلصت من خاصتي. ثم أنزلت يدها ومالت عليها هامسة: ¤ العقبى لك لأنه إن لم تفعلي ستخسرين رجلًا يحبك بصدق. أطلقت فاطمة سراح دموعها تعترف: ¤ نعم إنه يحبني بصدق ...أنا فقط ... ردت ورد بحزم: ¤ دون لكن ...أنا متأكدة بأنك استخرت الله مرات عدة منذ طلبك للزواج أول مرة .. تفاجأت فاطمة، فهزت ورد رأسها مؤكدة تستطرد: ¤ نعم أعرف! فقد جاءني كالطفل التائه، أخي أنا، محمود الخطاب المعروف برزانته وهدوءه يشكو لي رفضك له. عقبت فاطمة بإدراك: إذن أنتِ أخبرته أنني .. قلبت ورد عينيها بضجر ترد: ¤ يا إلهي! فاطمة انسِ ذلك الأمر ...ألم تقرأِ جرائد اليوم؟ ضمت تقاسيم وجهها تساؤلًا، فأكملت ورد ساخرة بينما تقوم لتجلب لها الجرائد: ¤دعيني أحضرهم لكِ لتري تصرفات أولاد الحسب والنسب والأغنياء. أطلعتها على الجرائد تخبرها بكل شيء، صعقت فاطمة لم تتخيل أبدًا أن تكون صديقتها من ضحايا جرائم كتلك ولم تفارقها ورد إلا حين أقنعتها بالزواج من شقيقها. عاد محمود برفقة أخته وزوجها بعد أن قام بالواجب مع الأخير الذي أثار شفقته، إن كان بهيئته الرثة أو بحزنه وصدمته، أو المصائب التي ابتلي بها وكم كان شاكرًا لشقيقته التي تعدت صدمتها لتساند زوجها فقد لاحظ لمعة عينيه وابتسامته الشاحبة حين لمحها. ساعده بإجراءات الدفن والجنازة ثم عاد بهم إلى بيت ورد، مع أن حمزة اعترض لكن سهى طلبت منه أن يقضيا ليلتهما هناك حتى يقررا ما سيفعلانه ورغم كل الحزن الذي ألم بهم لكن شقيقته سعدت بزوجها الذي أثبت قوة إيمانه بربه، فهو أقسم بأن لا يمس سنتيمًا واحدًا من أموالهم المشبوهة حتى أنه صرف جميع الموظفين من القصر وأغلقه بملابسهم ومجوهراتهم إلى أن يبيعه هو ومجموعة الشركات المنشاوي وأخبرهم بأنه سيعطي تلك الأموال لورد لتصرفها على الأيتام، كل ما سيبقيه هي أراضي والدته التي ورثتهم عن جدها، فهو إنسان معروف بصلاحه وسيبدأ بهم من الصفر متوكلًا على ربه، وداعيًا إياه أن يغفر له كل حرام أكله جاهلًا ويرزقه الحلال له و لذريته. أشفقت ورد على حالته وهو يتهرب من النظر إليها خجلًا من فعلة أهله لكنها تقدمت إليه ودعته أخي عمدًا تعزيه بوفاة والدته ثم أخبرته كم كانت سيدة فاضلة ودعت لها بالرحمة، فابتسم بحزن ألم بوجه الذي كان دائمًا ينضح بسعادة وحماس. لم يأكل شيئًا من حزنه فسحبته سهى إلى غرفتها حيث أعطته ملابس لأخيها يتركها احتياطًا، ارتداها ورمى الأخرى التي كانت عليه على الأرض بينما يقول بقرف: ¤ حتى هذه الملابس لا أريدها لكن مضطر إلى أن أبيع أرضًا من أراضي والدتي. ابتسمت سهى تجره من يده إلى السرير ليستلقي واستلقت بجانبه تضمه بحنوٍ كما تخاطبه: ¤ أنا لدي فكرة أفضل و اسمعني للنهاية. ضمها إليه يريح رأسه بحضنها يصغي إليها ¤ أنت تعلم بأن لدي بيت كهذا. هم بالاعتراض فدنت منه تضع كفها على شفتيه تمنعه ¤أرجوك حبيبي اسمعني! ...بدل تبذير المال في شراء منزل آخر فلنستغل بيتي، فهو مهجور وكما تخبرني والدتي وورد دوما سأحاسب عليه إن لم أستغله بأي طريقة. اقتربت منه أكثر تكمل برقة مشوبة بحنان: ¤ مالك ومالي واحد، فنحن واحد حبيبي اهتم أنت بمشروعك وركز عليه ودع لي أنا أمر البيت ...سأستعمل مالي الذي ورثته عن أبي رحمه الله في فرشه، وأول ربح تربحه من مشروعك تعيد لي قيمة المفروشات ....ما رأيك؟ أمسك وجهها يهمس بحب وتأثر بنسيم دفئها يقتات عليه وسط صقيع جحيمه: ¤رأيي أنكِ أجمل ما بحياتي لكن ليكن بعلمك! ليس فقط قيمة المفروشات ما سأدفعه لكِ بل وقيمة البيت أيضًا. ضمت حاجبيها تسأله بحيرة: ¤ تريد شراءه مني؟ تنهد يضم نفسه إليها ينشد بعض الراحة ولو القليل منها ليواجه القادم، يرد عليها ¤ أنا ومالي وبيتي لكِ حبيبتي، لن أنسَ لكِ موقفكِ هذا ما حييت. ****** رافقت ورد شقيقها ليقلا فاطمة إلى الدار وترجل ليرافقها إلى الباب يخبرها: ¤ استعدي يا فاطمة سنجهز الأوراق هذا الأسبوع لنعقد القران ونؤجل الزفاف قليلًا من أجل الخالة ناريمان رحمها الله ...اتفقنا! أطرقت برأسها يعلم جيدًا أنها محمرة تخفي خجلها، فابتسم بتعب يكمل: كلمة واحدة فاطمة رأفة بي. بلعت ريقها وتنحنحت هامسة: ¤ فليقدم الله ما فيه من خير. ثم فرت من أمامه تاركة إياه يزفر بحرارة وتعب. *********** مرت الأيام كلٌ ينغمس بأشغاله الدنيوية، فورد تمر أيامها بين اهتمامها بليث الذي خرج من المشفى تزوره ببيت الجندي وبين الدار في انتظار الأوراق الرسمية ليتمكنا من إعادة عقد القران، العائلة بأكملها تستقبلها بحب حتى حماتها تغيرت تصرفاتها معها بالرغم من بعض زلات لسانها أحيانًا لكن ورد لا تكترث وعقدت صداقة مميزة مع بيان ويوم حضرت حفل خطبتها تأكد حدسها السابق حين رأت النظرات المتبادلة بينها وبين مجران في المشفى، فاجأها هذا الأخير بحبه الكبير لبيان لدرجة أنه أقنعهم بعقد القران والزفاف معًا بعد أسبوع من الخطوبة والأخرى لم تكن معترضة أبدًا أما في الدار فالعمل على قدم وساق يجهزون للمعرض، بالإضافة إلى مشاريع توسعة وتطوير بفضل الله ثم حمزة الذي تبرع بمال المنشاوي. لن تنسى ورد يوم لقائها بأسماء ودهشتها بالسعادة الناطقة بها ملامحها ودون أن تشعر ضمتها فبادلتها الأخرى ضمتها تحت أنظار شاهي وفاطمة المستغربتين وبعد حضنهما الغريب ذاك أخبرتها أنها هي الأخرى عقد قرانها وستتزوج عن قريب مع شقيقها وأعطتها الدعوة وكانت الصدمة الأخرى لورد علمها بهوية العروس، فاستدارت إلى شاهي التي رفعت حاجبيها تتلفت بعينيها حولها تدعي الانشغال عنها. اقتربت منها بابتسامة ماكرة تخاطبها: ¤ شاهيناز مجران وسمير رشدان! .....لقد غبتُ كثيرا! ضمت شاهي شفتيها بتذمر، تجيب: و ما به سمير؟ من خيرة الشباب. جفلتا على صوت سمير داخلا عليهن، يعقب بهيام: ¤خيرة الشباب لأنه فاز بأميرة البنات. احمرت شاهي تتوتر فضحكت ورد ملئ شدقيها تقول: ¤ شاهيناز مجران تحمر خجلا .... سمير أنت مبارك. نفخت شاهي بحنق بينما فاطمة وورد وأسماء يضحكن بمرح، فاقترب سمير من ورد يخبرها بتحذير مزعوم: ¤ابتعدي عن شرستي يا قديسة! تمالكت ضحكتها تجيبه بتفهم: ¤ فعلا يليق بها اللقب إنها شرسة، كان يجب أن تراها بأيام الدراسة. هتفت شاهي محذرة تجاورها بطلتها الأنيقة دومًا والتي تستفز سمير يود لو يخفيها عن العالم أجمع ¤ ورد! فاستفسر سمير بريبة: ماذا تخفيان عني؟ اقتربت شاهي من ورد هامسة بنزق: ¤ أقسم إن تكلمتِ سأذهب إلى الضابط وأخبره بمقلب الأستاذ ضياء ..هل تذكرينه؟ ضيقت ورد عينيها ثم قالت تتصنع الود: ¤أبدًا سمير كانت ملاكًا يمشي على الأرض. هزت شاهي رأسها مبتسمة بمكر واستدارت أسماء تحمد الله على أن ورد وجدت ذاتها هي الأخرى، فقد علمت كقاطني المدينة بكامل مأساتها مع المنشاوي، أشفقت عليها جدًا، فمن سيشعر بها أكثر منها، أفلتت منها ضحكة حين تذكرت دكتورها الذي تحول إلى رجل محب، يشبعها كلمات عشق و دلال وتذكرت يوم أحضر أخواته والسيدة زينب كم كانت خائفة و متوترة، خصوصًا أنها استشعرت بعض الرفض من شقيقته الكبرى عكس باقي شقيقاته أشعرنها بالألفة حتى أن واحدة منهن تسمى شادية، تهتم بالحِرف خصوصًا الخياطة، فدعتها لتساعدهم بالمعرض ووافقت بحبور ومرت الزيارة على خير لا تخلو من مناوشات السيد زينب وشمة. شعرت بالفخر لكون هذا الرجل المحب الذي ربى ورعى أخواته بأمانة اختارها هي وكان أول شيء طلبه منها قبل عقد قرانهما هو أن تتحجب، فوافقت على الفور وأخبرته أنها كانت تنويه من قبل أن يطلب منها. قرر سمير أن يتزوجا معًا في نفس الليلة، فاعترضت السيدة مجران لكنه ابتسم بمكر يخبرها: ¤ لقد حجزت لكِ يا حماتي أنتِ وحماي العزيز في (.. )لتقضيا أنتما أيضًا شهر عسلٍ جديد. وكانت الكلمة الأخيرة لديهما للطمع ووافقا بكل بساطة. غامت عينا أسماء تتأمل تهامس شاهي مع أخيها، تفكر كيف تكون تلك الفتاة ابنة لمثل أولئك الناس! ***** أول من دخل القفص الذهبي كانا هشام ومريم، اللذان أقاما زفافهما وسط الحي الذي أخرجت منه مريم محملة بعار هي منه بريئة وهناك ذهل أهل الحي بالرجل الثري الذي دعاهم إلى عرسه، ليصدموا حين دخلت عليهم مريم بثوبها الأبيض ترفع رأسها بفخر بينما تتأبط ذراع زوجها لم يترك هشام طريقة يثبت بها فخره بها إلا وفعلها أمامهم حتى اشتعلت الأعين بالحسد وأخرست الألسن عن الثرثرة. خطفها قبل ختام العرس ليقضيا أيامًا بما سمح له عمله بأحد فنادق مدينة سياحية، فرت منه بحجة تغيير ملابسها فانتظرها على مضضٍ حتى أوشك على الاستسلام للنوم وحين فتحت باب الحمام قفز حاجباه يعقب باستغراب: ¤حممم حبيبتي ...هل أنتِ خارجة إلى مكان ما؟ ألقت نظرة على حجابها وجلبابها ثم ردت مرتبكة تستفسر: ¤ألن نصلي؟ أمال رأسه إلى الوراء ثم هزه مجيبًا: ¤ آه الصلاة نعم ...طبعًا الصلاة. توضأ بدوره يبتسم سخرية من نفسه فهو قد نسي أمر الصلاة كليًا، وصلى بها ركعتين ينشدان بداية مباركة لحياتهما الزوجية، التفت إليها وراقبها تخطو إلى السرير بجلبابها، فابتسم بمرحٍ وخطا في أثرها يندس جوارها تحت الغطاء. استلقت على ظهرها متوترة وقلبها يضرب بأعلى سرعة أما هو فاستلقى على شقه قبالتها يتأمل خوفها وخجلها يهمس لها بمرح: حبيبتي. لم تتحرك فقط أصدرت همهمة خافتة يكاد لا يسمعها، فاستدرك ¤ صحيح أن الله أمر النساء بالحجاب لكن... أعني حسب العلم القليل الذي تعلمته، لا أظن بأنه أمر به بغرفة النوم وعلى سرير الزوجية وبأول ليلة زواج...أليس كذلك؟ أومأت بخفة، فاستطرد مبتسمًا بمكر: إذن؟ التفتت إليه متسائلة، فأشار إلى الطرحة، هزت رأسها ثم اعتدلت بجلوسها لتزيل الطرحة، فانسابت الخصلات الحمراء ليسحبها إليه يضمها ويمرر كفه على خصلاتها الحمراء يقول: ¤لون حاجبيك وخصلاتك هذه يثير جنوني. وكان ذلك آخر ما تتذكره قبل أن يرحل بها عبر سماء يحلقان بها معًا للمرة الأولى يستكشفان معالمها الساحرة. ****** بعد أسبوع تحديدًا جاء الدور على سمير وشقيقته، أقيم الحفل بفندق فخم "بالطبع" فسمير كان سخيًا بالإضافة إلى المبلغ الذي أصر الدكتور مفيد على المساهمة به، الوحيدة التي كانت تفسد عليهم فرحتهم كانت والدة شاهي، حتى احتقن وجه هذه الأخيرة وأوشكت على إلغاء كل شيء . أشفقت عليها أسماء ففكرت وطبقت حين استعانت بالسيدة زينب وما أدراك ما السيدة زينب! تعلم جيدًا كيف تلجمها وكان لهم ما أرادوه. تألقت شاهي في فستانها الأبيض المطرز بعقيق رقيق متلألئ، أفقد سمير عقله، ولأول مرة يطلب منها أن تتحجب ولم يدعها تخرج إلى القاعة حتى أحضروا لها سترة من نفس خامة الثوب وطبعًا لم يسلم من سخط السيدة مجران لكن السيدة زينب كانت بالمرصاد تهتف بنفاذ صبر: ¤كفي يا مرأة عن اعوجاج لسانك هذا! واحمدي لله رزق ابنتك رجلًا غيورًا عليها. لم تجبها واكتفت بنظراتها الساخطة تخفي خوفها تتمتم بخفوت مستحقر: ¤sauvage.. متوحشة. رافقت شمة وباقي شقيقاتها أسماء إلى القاعة، فلمحته يهديها ابتسامته الجانبية التي تعشقها، هلت عليه بفستانها المحتشم بقصة من زمن السبعينات خاطته لها شادية بطلب منه شخصيًا وزينت وجهها بزينة هادئة لتظهر كبطلات أفلام الأبيض والأسود، تسلب لب الدكتور مفيد. انتهت الليلة على خير وخرج الجميع من القاعة لتوديع العرسان. همت السيدة مجران بركوب السيارة الخاصة بسمير وشاهي، فتصدت لها زينب رافعة حاجبًا واحدًا بشر تسألها باستنكار: ¤ إلى أين؟ جعدت أنفها باشمئزاز تهتف مرة أخرى: ¤sauvage! ضحكت بسخرية تجيبها: ¤ لن أجيبك لأن السب والشتم لا يلحق سوى بأهله. شهقت الأخرى، فاستدركت زينب بتشفي: ¤أتعلمين كيف يبعث المتكبرون؟ رفعت السيدة زينب أنفها بشكل مسرحي تكمل: ¤ الذين ينظرون للناس بقرف واستحقار يظنون أن الله لم يخلق على الأرض سواهم .....هل تعلمين؟...لا تعلمين طبعًا. كان العرسان قد غادروا والجمع ينفض من حولهن والسيدة مجران متسمرة مكانها ترمق زينب بدهشة كأنها من كوكب آخر تتأملها متتبعة حديثها ¤ قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طين الخبال)) ثم رفعت يدها وبدأت تعد على أصابعها والسيدة مجران تضع يدها على صدرها تحاول فهم ما تقوله ¤رواه الترمذي ...والألباني شمله في الجامع الصحيح ....هل تعرفينهما؟ ...لا طبعًا ...كيف ستعرفينهما؟ سحبتها شمة، تهمس لها وهما تبتعدان: ¤دعي المرأة لشأنها لقد أرعبتِها ....إنها ترتجف! ردت عليها بسخط: ¤دعيها لتعلم أن الله حق يا إلهي!.... تشتمني بالفرنسية وتظن أنني لن أفهم....جاهلة أنا؟ ****** زفر سمير براحة ما إن دخلا الجناح واختفت شاهي بسرعة لتغير ثيابها وطلب منها الوضوء ليصلي بها، أنهيا صلاتهما فالتفت إليها ووضع يده على رأسها وتلا الدعاء، لاحظ توترها فابتسم بمرح يقول ليخففه عنها: ¤هل رأيتِ أمك والسيدة زينب؟ ثنائي رائع. أطلقت ضحكة رنانة ألهبت حواسه فاقترب منها مسحورًا بينما تقول: كانت فكرة أسماء ...أقسم كنت سأفقد عقلي. صمتت و تلبكت حين اقترب منها أكثر يقبض على ذراعيها، يتفحص ملامحها بهيامٍ هامسًا: أما أنا ففقدته وانتهى الأمر. علا تنفسها لينحصر بصدرها وهي تتلقى قبلته التي بدأت رقيقة وتعمقت حتى أصبحت جارفة إلى عالم الأحاسيس. ********* أما عصافير الزمن الجميل فبعد أن أقاما صلاتهما، خرجت إلى الشرفة ليلحق بها وظلا ينظران إلى الأفق والنجوم الساطعات، فاقترب منها وحط بيده على كتفها يهمس: ¤ كنت فاتنة بفستان العرس. احمرت تطرق برأسها فأعاد همسه الأجش بمكر يستطرد: ¤ ألن تفعلي ذلك؟ رفعت عينيها إليه مستفسرة، فأمسك يدها ورفعها إلى أعلى رأسه وجعلها تلمس صلعته فضحكت أسماء ملئ شدقيها وضحك معها، قائلا: ¤ أكاد أجزم أن أول ما رأيته بي هو رأسي الأصلع. رفعت يدها الأخرى وحضنت رأسه تومئ بقولها الخجول: ¤في البداية كنت خائفة لأنني سمعت بأن أغلب الرجال الأشرار يكونون صلعًا. تأمل ضحكتها بإعجاب يسألها: والآن؟ سحبت يديها بحياء فأمسكهما، يقبل ظهريهما يخبرها بلطف: ¤لم أظن يومًا بأنني سأقول هذه الكلمة لامرأة لكنني من مدة وأنا ألجم لساني عن نطقها ......أحبك أسماء. شهقت بخفوت تملأ رئتيها بالهواء، فسحبها داخل غرفتهما وكله عزم على انتزاع اعتراف مماثل منها. ****** أسرع ليث إلى العميد حين لمح ولوجه إلى قاعة الأفراح، نعم فموسم الأعراس ختم بزفاف بيان وجيئلها وليث كان يحضر مفاجأة لحبيبته التي أضناه الشوق ليجتمع بها تحت سقفٍ واحد، صافح العميد يخاطبه ¤ هل أتممت آخر معاملة سيدي؟ رد عليه ضاحكًا بمكر مرح: ¤كنت أريد مشاكستك وتأخيرها قليلا لكنني أشفقت عليك...يكفي ما تعانيه مع ابنتي. ضحك هو الآخر يستلم منه المعاملة الأخيرة لتكملة الأوراق ليعقد عليها بهويتها الجديدة، بارك العميد للعروسين بيان وناصر وكذا أنسبائه فارتمت ورد في حضنه لأول مرة أمام الناس دون أن تخشى شيئا، تأسف لها عن غيابه المستمر بسبب متابعة قضية المنشاوي التي لم يبقى على إصدار حكم نهائي بها الكثير وتفاجأت حين سحبها تجاه الكاتب العدلي ليعقد قرانها ليث، راقبتهم إلى أنهوا العقد دامعة وتقدمت لتوقع باسمها الحقيقي، لمعت عيني ليث بسعادة واضحة لكل الحضور، فأطبق على يدها ورافقها ليباركا للعروسين آخر مرة كي يغادرا، مال ناصر على بيان الجالسة بجانبه على الكرسي المزخرف يهمس لها ببسمة محبة: ¤ألن نغادر نحن أيضًا؟ فابن خالتك الذي سبقنا منذ مدة خطف فتاته وانصرف. شهقت بخفوت تتصنع العبوس ترد عليه ¤ناصر أرجوك لا فضائح! ضحك بمرح وقام عن مكانه يلتقط كفها الصغيرة وخطا بها إلى أن وصل إلى السيد أحمد وصافحه قائلا بأدب: ¤سيد أحمد هل يمكننا الانصراف ...كي نستعد.. لا نريد أن تفوتنا الرحلة. علت ضحكة الجد والسيد يوسف يرمقهما بملامح مستبشرة، أما السيدة زهرة فمبهوتة من هذا الضخم الذي تكاد تصل بيان إلى مستوى كتفيه ويتصرف كالصغار، سمح له الجد فرافقها يغادران أمام أنظار السيدة زهرة الساخطة التي تغيرت إلى استنكار حين اقترب منها زوجها وهمس لها بشيء لم يسمعه أحد. مال الجد على الجدة طيبة هامسًا بمرح: ¤ ذلك المحتال الضخم يظن بأنني صدقت كذبته المكشوفة!... كالمحتال الآخر الذي ما إن عقد عليها خطفها. ضحكت الجدة تجيبه بنفس همسه: * اترك الشباب يعيشون يا أحمد! و ضحكا الاثنان بسعادة بالغة وفي بيت ناصر هتفت بيان بنزق: ¤يا إلهي! لقد فضحتني يا ناصر. ابتسم ناصر يتأمل عينيها النجلاوتين حددتهما بقلم أسود ضاعف من وسعهما، فاستنفرت دقات قلبه يقول ¤ لماذا؟ ألا تنتظرنا طائرة؟ تخصرت تنفخ بحنق بينما ترد ¤الطائرة بعد عشر ساعات! اقترب منها يجذبها من خصرها الذي سلب عقله ككل شيء فيها إلى غرفة النوم، يجيبها بصدق: ¤ صدقيني الوقت لن يكفينا. ضاقت مقلتاها تسألها بسذاجة: ماذا؟ إنها عشر ساعات؟ ابتسم ناصر بلؤم وقال: ¤ سأخبرك لكن أولا لنتوضأ ونصلي ركعتين ثم نقول ذلك الدعاء لكي لا تكوني عتبة سوداء. شهقت بحدة تهتف: أنا؟ عتبة سوداء! ضحك ناصر على منظرها ورد عليها بنظرات هائمة، جعلتها تهرب إلى الحمام ¤في الحقيقة أنا لا أرى كيف ستكونين أي شيء أسود! تأخرت بالحمام، فطرق بابه بنفاذ صبر يقول: ¤ حبيبتي سنتأخر على الطائرة وستفوتك رحلة مبهرة. ابتسم حين فتحت الباب وخرجت واضحة الارتباك ترتدي إسدال الصلاة، صل بها وتلا الدعاء ثم سبقها إلى السرير فقالت بحيرة: ¤ أنت لم تخبرني بعد لماذا لن تكفينا العشر ساعات؟ ظل على ابتسامته الماكرة بربت على مكانها في السرير الضخم كصاحبه، يدعوها ¤ تعالي سأشرح لكِ هنا فأنا متعب. أطاعته بتلقائية تنزع إسدال الصلاة لتكشف عن رداء نوم أبيض يضاهيها جمالا، واستلقت جانبه تنتظر تفسيره واقترب منها يسحبها إليه هامسًا بمرح ماكر: ¤ سأشرح لكِ بالتفاصيل..