شعر بثقل برأسه وجسده، يرغب بفتح عينيه لكنهما لا تطيعانه وظل يجاهد بحكم تدريباته حتى نجح وبمشقة، يحيط به ضبابا يتخلله أطيافا حاول التركيز ليتوضح له مجال رؤيته، فسمع أصوات بعيدة تقترب شيئا فشيئا حتى تعرف على صوت صديقه، مسح على عينيه وفتحهما من جديد فأطل عليه وجهها وابتسم لها تلقائيا فبادلته الإبتسامة لكنه لاحظ شحوبها، ففكر أين هو؟ آخر ما يتذكره خروجه من سيارته ليرى تلك العجوز الملقاة على حافة الطريق، لم يكد يصل إليها حتى التفتت إليه فإذا به رجل عاجله بشيء دسه بقوة في فخده، فأظلمت الدنيا حوله ولم يعد يشعر بشيء، مدت له بكأس ماء تعينه ليرتشف منه ثم تنحنح يتلفت حوله مستفسرا ¤ أين أنا؟ كتم هشام غضبه وحنقه وحاول أن يمازح صديقه بقوله ¤ لا تخف، لم تمت بعد يا صديقي. لم يجد صدى لمزاحه في الوجوه المكفهرة، وورد تمسك بجانب وجهه بيدها تنظر إليه بحنان وخوف مع استجداء، فوجئ ليث و تأملهم يتساءل بريبة : هل أنتم متأكدون بأنني لم أمت؟ ابتسم الجميع واحمرت ورد وهمت بسحب يديها، فأمسك بهما يهمس لها :ماذا حدث؟ إلتفتت إلى هشام الذي تكفل بالرد ¤إنها الحية الرقطاء التي حذرتك من سمها الذي سيطالك مع الذي إن لقبته بكلب تكون إهانة في حق الكلب. تحرك مكانه، فأسندته إلى أن استقام بجلسته وأمسك بيدها يخاطب هشام : التفاصيل يا هشام! قص عليه ما حدث وليث يشتعل غضبا مع كل كلمة ينطقها، حاول النهوض فشعر بدوار وطوقته ليميل على كتفها رغم ترددها من عريه وحين لاحظ ذلك عاد يندس تحت اللحاف ينظر إلى هشام الذي تفهم نظرته وأسرع يساعده ليرتدي قميصه وابتعد عنه ليمنح المجال لورد، عبيرها أيقظه من دواره و تأمل القلق الصادق بمقتليها، يهمس لها بخفوت وتأثر : لم تشكي بي ولم تصدقيها. لم تجبه تكتفي بنظرات حبها التي نفذت إلى قلبه رأسا ولم يشعر بنفسه إلا وهو يضمها بين ذراعيه بقوة، نظر هشام إلى محمود الذي فهم رسالته فانسحبا من الغرفة بهدوء. لم تتفوه بكلمة منذ وعى من غيبوبة تنظر إليه فقط، لم تستوعب بعد أن كل ما حدث فخ وأنه لم يخن ثقتها ولم يفضل عليها تلك الفاتنة، كل ما شعرت به أنه لها ولا تريد أن يكون لأحد غيرها، يقتلها ذلك الإحساس وأول ما فعلته أنها أعادت لمسه تريد الشعور بمثل ما شعرت به وهي تلمسه أول مرة. تحرك ولمحت ضعفه فاهتزت أحشائها، لم تعتده ضعيفا، إنه بطلها وسندها لن تسمح لضعفه أن يظهر أو أن يلاحظه أحد، ستكون هي سنده. أقر لها بعدم شكها به، هي بالفعل لم تشك به كانت مجرد وسوسة شيطان، لكن حين رأته ممددا على السرير لم تستسلم ولم تصدق، إنه ليثها هي "منقذها هي" ولن يخذلها ولم يخذلها، هكذا فكرت حين تلقفها بحضنه لتشعر بدفء وأمن حاوطها من كل جهة، فمرغت وجهها بصدره وأخذت نفسا عميقا من رائحته ليعم السلام جسدها من أعلى رأسها إلى أسفل قدميها، خشيت انقضاء ذلك الإحساس، فرفعت ذراعاها تطوق خصره وشدت عليه تثبت له ولنفسها أنه لها ولن تتخلى عنه، عن أمانها، عن دفئها وعن حبيبها. قلبه ينتفض من مكانه ببهجة أنسته كل الدنيا ومشاكلها، بهجة ثقتها وإيمانها به، هو ذاته لا يملك تلك الثقة ولا ينكر شكه للحظة حين رأى تلك الفتاة التي تشبهها، ألهذه الدرجة تحبه؟ هل القدر سيريح باله أخيرا و يفوز بامرأة تحبه و يحبها ويضع بها ثقته، يسكنها وتسكنه كجده و والده؟ كأن القدر أجابه حين طوقت خصره وشدت عليه، فبلع ريقه من تحفزه وغمر وجهه بجانب رأسها على خصلاتها المشدودة للخلف، يستنشق عبيرها الذي أسكره فتجرأت شفتاه لتحطا بقبلة هناك. ظلت ساكنة حتى شعرت بقبلته فتصلبت تتوتر يتسلل إليها بعض الخوف، فتململت بين ذراعيه ليتنبه إليها ويرخي يديه كي تنسحب برفق تطرق برأسها، وتحرك يديها تتظاهر بتسوية شعرها، قائلة بهمس :لنرحل من هنا. هز رأسه وأشار لها أن تتقدمه وخرجا من ذلك البيت إلى المركز ليفتحوا محضرا جديدا يضاف إلى القضية التي تكدست ملفاتها وثقل حسابها. ******* ¤اللعنة! غبية! غبية! صاح بها تامر ما إن أخبره مساعده بالنتائج الغير سارة أبدا، يخبره قائلا بجدية حازمة قبل أن ينصرف ¤ والدك كان واضحا سيد تامر ...لا ذيول للأمر وأنا ذاهب لقطعها. هتف تامر بريبة :ماذا تقصد؟ لكنه كان قد رحل. ******* متأبطة ذراع شقيقها وحاملة بيدها الأخرى حلوى لذيذة، هدية خطبة أخيها، خطت إلى داخل عيادة الدكتور مفيد حيث قدمت الحلوى للسيدة زينب التي فتحت لهما الباب كالعادة ترمق بتفحص سعادتها قبل أن تسأل بسخريتها المعتادة ¤ما هي المناسبة التي ستتسبب لي بإغمائة سكر؟ أفكر إذا كانت تستحق ليموت الواحد في سبيلها. ضحك سمير بصخب بينما أسماء تتجاهل سخريتها وترد مبتسمة : خطوبة أخي ..ألا تستحق سيدتي؟ مطت شفتاها ونظرت إلى سمير تعقب ¤ وأخيرا أشرقت شمسك! ! لكني لن أبارك لك حتى تنور بيتك، من يعلم؟ قد تقعد على تلها مرة أخرى. رفعت أسماء حاجباها باندهاش وسمير يتقدم أمامها ليقول بدفاع مسرحي ¤ لا لا تبنا ولن أخربها مرة أخرى ...أنت فقط ادعي لي بالبركة. شملت زينب أسماء بنظرة من فوق إلى تحت، فلمعت عيناها وثبتتهما على رأسها، تهتف: اقتربي يا فتاة، هناك شيء عالق برأسك. صدقتها واقتربت منها، فأزالت السيدة زينب مقبض شعرها ورمته أرضا متظاهرة بوقوعه منها سهوا، فقالت مدعية البراءة ¤أنا آسفة كنت سأنزع شيئا علق بشعرك ...لما لا ترتدين المطاطة أو حتى الحجاب فلم تعودي صغيرة! ضمت ملامحها بحنق وانزعاج تتأمل المقبض المكسور، تكتم شتائم لا تليق بسيدة كبيرة فتدخل سمير، قائلا بمهادنة ¤ حبيبتي لا تغضبي! ...هل أحضر لك مقبضا جديدا؟ انتظري وسأشتري لك واحدا بسرعة. صاحت السيدة زينب بضيق مزعوم ¤عيادة أهلك هي كي ينتظرك الدكتور حتى تتشرف وتأتي بالمقبض، هناك مواعيد أخرى إن كنت لا تعلم! اقتربت من أسماء ولعبت بشعرها مدعية التذمر بينما هي تسويه على طول ظهرها ثم رمقتها بنظرة رضا ممزوجة بحنق طفولي، تستدرك مشيرة إليها ¤ها هي ...مثل القمر البدر ما شاء الله، تفضلي وإن كنت لا تريدين من أحد لمس ورؤية شعرك فارتدي الحجاب أكرم لك. لم تجبها وأكملت طريقها إلى المكتب تُسر حيرة ألمت بها من جهة هذه المرأة وتلعن غباءها لأنها لم تضع طرحة على رأسها كما كانت تفعل منذ قدومها إلى العيادة أما زينب فالتفتت إلى سمير تهتف ¤ و أنت كف عن البحلقة والحق بي لتمدني بالتفاصيل....هيا! وتبعها سمير غافلا عما يدور برأسها من مخطط لشقيقته. فتحت أسماء الباب فوجدته ينظر نحوها كأنه كان بانتظارها، نفضت رأسها من تلك الفكرة وابتسمت بسعادة حقيقية بينما تتقدم نحوه تتلبك مع كل خطوة تقربها منه تلتقط نظراته الهادئة نحوها ككل شيء به. أرخى أهدابه بروية عنها يؤنب نفسه عن التحديق بها، لا يستطيع الإنكار أنه كان ينتظرها في أعماق صدره لا يعلم لماذا تحديدا! كأنه أدمن جلساتها هي دونا عن كل مرضاه، طريقتها مختلفة في التعبير، في الكلام وحتى في التصرف، معجب بقوتها رغم كل ما عاشته من أهوال، لا يتخيل واحدة من شقيقاته الخمسة يحدث لها ما عاشته وبعد أن انفتح الباب وأهلت عليه تسمر رغما عنه يرمق إمرأة من الزمن الجميل بشعرها الطويل المسرح على الطريقة التقليدية تماما كما يعشق! لكنها لحظة مجرد لحظة وأعاد إحكام الطوق حول لجام نفسه يبعد عيناه عن بسمتها الكاشفة عن صف الأسنان الصغيرة كاللؤلؤ ليتأمل علبة الحلوى بينما يسألها بلطف ¤ ما هي مناسبة سعادتك التي تسبق حلواك ؟ احمرت ولأول مرة تشعر بالخجل، فتتمتم بجوابها بينما الطبق يرتعد بين يديها : خ....طوبة ..سس..مير. ابتسم بحبور يحرك يده ليلتقط قطعة ويدسها بفمه قبل أن يتلذذ بها قائلا بإعجاب ¤ ممممم، لذيذة جدا، إنها حلوى تقليدية قليل من يصنعها حاليا ..أهي من صنع يديك؟ أطرقت برأسها تومئ بنعم وهي تبتعد عنه نحو الأريكة ووضعت الطبق على المائدة الزجاجية الصغيرة ثم جلست ليلحق بها بعد أن التقط مذكرته من على سطح مكتبه يقول ببعض المرح الرزين ¤ سأتعود على هداياك المميزة وأطمع بالمزيد. لم تنظر إليه والحمرة لا تزال تزين خديها، فقرر أن يرأف بها يبعدها عن منطقة الحرج : إذن كيف حالك؟ رفعت رأسها تقول ببسمة صادقة : جيدة وسعيدة جدا. ابتسم بسمته الجانبية، فأسرعت دقات قلبها تصغي إليه ¤ من أجل سمير ؟ مبارك له. أومأت و أضافت ¤ ليس ذلك فقط، هناك شيء آخر . ضم حاجباه بخفة متسائلا، فسردت عليه جلسة الخطبة وهي تضحك من صميم قلبها، فشرد بعينيه وقلبه يتأمل لوحة أصيلة ظنها قد انقرضت، تجبره على العودة إلى زمن كان قلبه مستعدا ليدق به لكن ظروفه لم تسمح له وعمر والديه لم يمهله، فتعلقت برقبته مسؤولية كان لزاما عليه التضحية بحياته الشخصية من أجلهن. أنهت جلستهما بعد مدة من التعبير من جهتها والتعليق من جهته ثم ودعته فتبعها بحجة تهنئه أخيها. صافح سمير و بارك له ثم تبادلا حديث مجاملة ولم يفت زينب نظرة الدكتور المتغيرة لأول مرة نحو مريضة، كما لم تتحكم ببسمة النصر المزينة لثغرها تدعو الله أن يستجيب دعوتها. انصرفوا جميعهم إلى منازلهم بعد خروجهم من المركز، ليجهزوا للحفل الذي سار على ألف خير في بدايته على الأقل، رافقت السيدة هناء بفخر و سعادة ابنة أختها إلى الحديقة الكبيرة لبيتهم، حيث نظموا الحفل. أهلت عليه بفستانها الأحمر المطرز بالخيط الذهبي وطرحته من نفس اللون ورسم الطرز الذي اختارته بنفسها وعلى ذوقها وقد كان ذلك أول تصرف فرضته لاستعادة قدر كرامتها على حد تفكيرها، فغر فمه من جمالها وانتفض قلبه في صدره فزاغت عيناه عليها، ضحك عليه صديقه الذي لم يكن بأحسن حال منه، فهو لم يستطع رفع عينيه على ورد، مذ نزلت من على درج بيتهم، كأنها أميرة زمانها بفستانها ذي القصة المفضلة لديها، قصة أميرات العهد العثماني وكم يعشق تلك القصة، جفل على يد هشام يسحبه ليشهد على عقد قرانه وراقب وهذا الأخير حمراءه توقع على العقد ثم قام واستغل فرصة وجودها وسط الناس ليمسك بكفها متجاهلا تصلبها وقبل رأسها، فاحمرت أمام تصفيق الحضور، رفعت رأسها تتوعده بنظرة نارية، فرمش ببراءة والتفت إلى الضيوف يتقبل مباركاتهم. الوحيدة التي كانت عابسة محمرة من الغيرة تكبت غيظها بمشقة كانت إسراء فابتعدت قليلا منزوية ترمق العروس بغل تتأفف كل حين لفتت انتباه شاب بنزقها وشعرها القصير المتطاير كفستانها الأزرق الذي أثار امتعاضه ولم يمنعه عن الاقتراب منها يتنحنح قبل أن يخاطبها بفضول ¤ حمم أنا اسمي ياسين . نظرت إليه شذرا و ردت قبل أن تضرب برجليها مبتعدة، فتهتز معها خصلاتها القصيرة مبتعدة : و ما دخلي أنا؟ راقب ابتعادها مبتلعا ريقه، فلم يشعر بعينيه تتبعانها طوال السهرة تتنقل كفراشة بين الناس دون أن يختفي امتعاضه من فستانها المستفز. انتهى الحفل و بدأ الناس بالمغادرة و كان آخر من غادر عائلة الجندي و الخطاب مع العميد الذي همس لليث وكأنه يحمله رسالة لصديقه ¤أعلم بأنه ليس من شأني التطفل لكن ألم يكن من الأنسب فصل النساء عن الرجال المدعوين حتى نكون على راحتنا؟ عائلة الصياد عهدتها محافظة. هرش ليث خلف رأسه بجهل يهز كتفاه فهو لم يركز كثيرا بالأمر وزوجته تستولي على كامل فكره لكنه طبعا لن يهمل رسالة العميد وسيقوم بإيصالها لصديقه. رافقوهم عائلة الصياد إلى باب المنزل ليودعوهم وكان ليث واقفا يمازح صديقه برفقة الضباط ياسين الذي اكتشف أخيرا بأن صاحبة الفستان المستفز تكون شقيقة ليث، فهمس لنفسه بامتعاض ...*مدللة*. هموا بالافتراق أخيراً ليستدير ليث متجها نحو ورد بينما طبيعته كشرطي دفعت به ليلتفت حين سمع صوت سيارة قادمة وكان مصيبا إذ أن عيناه اتسعتا حين لمح فوهة بندقية تطل من نافذة السيارة، تتبع اتجاهها ليكتشف أنها موجهة لحبيبة فأسرع نحوها صارخا باسمها : ورد! ¤طراااااااااااخ! لهف قلب ليث على حبيبته التي لم يسعد معها بعد، من بدأ معها طريق النور ممسكا بيدها معتقدا أنه من يرشدها إلى بر الأمان إلا أن الوضع متبادل، علمته كيف يكون الإنسان أملا يترك زرعا أخضرا أينما وطأت قدمه، علمته كيف تكون الثقة بالناس وعدم جمعهم بخانة واحدة، كيف تمنح دون انتظار الأخذ؟ لهف قلبه على فتاة دخلت صلب قلبه وسكنت به حتى أصبح كل شيء من أجلها مباح، حتى بذل الحياة! وهذا ما فعله دون تفكير، حينما ركض إليها فغرست الرصاصة حديدها بكتفه، يمنع نفاذها في قلبها الذي أثبت الآن أنه ملكه وصاحبه، فلو لم يكن ما كان سبق الرصاصة إلى قلبها واستقبلها هو. أمسكته ورد حين وقعا معا على الأرض وسقط بحجرها، تنظر إلى عينيه الزرقاوين اللتين أظلمتا ألما و لوعة و رعبا، تعلم جيدا أن مجموع الأحاسيس الملمة به في التو كلها من أجلها، لم تصرخ! لم تتحرك! فقط أمسكته بين يديها ترمقه ويرمقها لا تسمع أو ترى أحدا آخر سواهما، لم ترى ياسين وهشام مع العميد بينما يركضون خلف السيارة بمسدساتهم، لم تسمع صراخ النساء حولهما، لم ترى الجد أحمد والسيد يوسف يطلبون الإسعاف وحتى أخيها محمود الذي جثى على ركبتيه يتفحص مكان الرصاصة أعلى ظهره لم تره! كل العالم تلاشى فمن يبقى إن راح حبيبها ليث ،دعمها، أمانها، سندها وقبل كل ذلك زوجها الذي قدر لها من فوق سبع سماوات، فمن يبقى إن راح ليثها! هكذا أخبرته بعينيها و فهمها، لأنه رفع يده السليمة بمشقة ولمس جانب وجهها، يقول بخفوت ¤ لا تخافي حبيبتي، أنا بخير إنها مجرد رصاصة كتف، فقط لا تخافي! لقد أخبرتك من قبل، لن أدعهم يصلوا إليك ولو على جثتي وأنا أفي بوعودي. كانت تلك اللحظة التي كرهت بها صدق وعوده، فأطلقت دموعها تقترب منه هامسة : أرجوك، إلا هذا الوعد، لا تفِ به، لا أريد جثتك أريدك أنت! من وسط ألمه فتح عينيه ذهولا لما تهمس به، يسمعها تكمل بلوعة ¤ ليث ....أنا لا أستطيع العيش من دونك، أنا... اقتربت أكثر وأمسكت جانب وجهه، تهمس بأذنه بكل ما تحمله في قلبها من حب نحوه وحده : أنا أحبك. نزلت عليه الكلمة كمخدر لم يعد يشعر بشدة الألم ولا حتى ما تفعله يدي محمود خلف ظهره، يتأمل صدق كلمتها من بين شفتيها، فيهمس برجاء : أعيديها بالله عليك ..أعيديها. مالت على أذنه تهمس بكل عاطفة دافئة، تعلمتها على يديه ¤أحبك ليث أحبك! ابتسم، لا يصدق أن ورد الخطاب *ممنوع اللمس* التي لم يسبق لها حتى أن سمحت لرجل بمصافحتها أو الاقتراب من مجال وجودها، التي تعرف عليها كومة عقد وكره للرجال، تحبه هو! ... اختارته هو!.... وثقت به وآمنت بوعوده وتخبره الآن بحبها دون تحفظ أو خوف. وصلت سيارة الإسعاف وحملوه داخلها قابضا على كف حبيبته يخاف أن يغفل عنها و تختفي، فقد أصبحت حلما بالنسبة له والدنيا تتفق لتسلبه إياها. أدخلوه غرفة العمليات مباشرة وظل الجميع ينتظرون بالرواق المقابل، من يراهم يعلم جيدا بخروجهم من حفل بفساتين النساء و بدل الرجال. اقترب السيد يوسف من هشام قائلا : هل لحقتم بالسيارة؟ هز رأسه بأسف، يرد ¤للأسف لا لكن ياسين تمكن من لمح أرقامها ولقد عمم العميد بنفسه أوصافها وأرقامها، هي مجرد مسألة وقت. ظهر الضيق على وجه السيد يوسف بينما يعقب ¤ قضية ورد تأخر كثيرا حلها ...الفتاة في خطر محدق. أومأ هشام موافقا، يفصح عما يستطيع الافصاح عنه ¤ أنت محق لكن ما أخرنا قبلا، عدم معرفة هويته...أما الآن فإن شاء الله سيقع و قريبا جدا. هز رأسه متمتما بإذن الله أما السيد أحمد فقد ضاق ذرعا بكنته المولولة تحمل ورد ذنب كل ما حصل والجدة تحاول إسكاتها، فهتف اخيرا وبنبرة حادة ¤ اسكتي يا زهرة الآن! .....نسيت أن ابنك شرطي قبل أن يتعرف على ورد! ..فدعي الفتاة المسكينة بحالها وابحثي عن شماعة أخرى! صمتت رغما عنها عن الحديث لا عن البكاء فهو ابنها بحق الله! فلذة كبدها، كيف لا تبكيه دما لا دموعا؟ لماذا لا يفهمونها؟ غير بعيد عنهم السيدة عائشة تحيط ورد بيديها، شفتاها لا تتوقفان عن ذكر الله بينما مريم بجانبهما مع خالتها برفقة ابنتها والعميد قبالتهم، يتميز من الغيظ يرغب بضم ابنته ليشعر بأنها حية، يراقب تخشبها إلا من جملة تنطقها وتعيدها وكأنها تهلوس بها "أسأل ربي العظيم رب العرش العظيم أن يشفي زوجي" تعيدها وتعيدها و عيناها على نقطة وهمية. خرج محمود من غرفة العمليات يرافق الجراح الرئيسي لذلك المشفى، فهب الجميع إليه متلهفا، شملهم بنظرة مطمئنة بينما يخبرهم بالوضع ¤ اهدأوا يا جماعة إنه بخير الحمد لله، ليث رجل قوي ورصاصة بالكتف لم تكن لتقتله فقط الدم الذي نزفه هو ما أضعفه قليلا وسيسترده بالأكل الصحي و الراحة...أرجوا منكم المغادرة و تركه ليستريح. صاحت السيدة زهرة باكية : أريد أن أراه دكتور . أجابها باسما : أعطيته مهدئ و هو نائم الآن ...صدقوني إن كنتم تريدون صلاحه فاتركوه ينام ليرتاح جسده، وغدا إن شاء الله عودوا لزيارته. همت بالكلام فقاطعها السيد أحمد بحزم ¤لقد سمعت الدكتور....يوسف خذ زوجتك لترتاح إنها ترتعد. ضمها يوسف فاستسلمت له بضعف يغادران، فالتفتت الجدة إلى ورد تلمس جانب وجهها، تخاطبها بحنان ¤قدر الله وما شاء فعل ....والحمد لله قدر و لطف. رمتها بنظرات مستجدية كأنها تطالبها بتأكيد بأن الله لن يدع مكروها يطالها و زوجها، فسحبتها إلى حضنها وأطلقتا العنان لدموعهما، كل واحدة منهما تشكي خوفها عليه للأخرى فقط بالنشيج المكتوم. أبعدتها الجدة برفق تسألها ¤ هل سترافقيننا أم ستبيتين مع حفيدي؟ نظرت الى والدها ثم قالت : سأبيت معه بالتأكيد ...تصبحون على خير. هزت رأسها تقول قبل أن تنصرف ¤ إذن سأقوم بإرسال ثياب لكما مع السائق إن شاء الله. ودعت ورد مريم وتأسفت لها على إفساد فرحتها، فلاقتها باستنكار وطلبت منها أن تهدأ وتهتم بنفسها وفي تلك اللحظة اقترب منهما هشام يضع سترته على كتفي مريم فوترت لا تنكر الدفء الذي حل عليها وشعورا آخر اكتنفها منذ أصيب ليث شعورا حول غضبها منه إلى خوف ورعب عليه ولا تتوقف عن التفكير لو كان حبيبها مكان صديقه! فتختنق وتأمرها أطرافها بأخذه بين أضلعها وإخفائه هناك فلا يطاله شر. تحدث هشام يخبر ورد ¤ سأقلهم إلى البيت وأعود ...العميد و ياسين هنا لن يغادرا اطمئني، لن ندع مكروها يصيبك بعون الله. غادر الجميع وصاحبة الفستان المستفز تلقي آخر نظرة ممتعضة نحو ياسين الذي كان في انتظار نظرتها تلك، فهو لم يحد بعينيه عنها منذ وصولهم إلى المستشفى وهو يراقب دمعاتها الرقيقة كصاحبتها فاستشاط صدره لا يعلم لماذا؟ بعد خلاء الرواق، بعث العميد الضابط ياسين لجلب مشروب ساخن لابنته، ليتلقف أخيرا ارتمائها بين أضلعه تبكي بنشيج وشهقات حادة تقتطعها كلمات هزت كيان والدها ¤ لا ...أري..د أن يمو..ت أبي لا! ليس هو أيضا... أرجوك أبي ...لقد حرمت من أمي قبل أن أراها وحرمت من والدي الذي عرفته منذ وعيت على الدنيا وحرمت منك وأنت حي، لماذا أنا؟ لماذا؟ هل كان علي الموت في بطن أمي؟ هل كنت لأرتاح أبي؟ شد من ضمها يهمس لها بلوعة ¤ شششش! حبيبتي لا تقولي ذلك! استغفري ربك ورد أنت مؤمنة. وعت على ما تفوهت به تستغفر، فضم والدها جانبي رأسها يخبرها برقة وحنو ¤نجاتك كانت رحمة ربي بي يا بنتي، لولا ذلك لكنت عشت في سواد الانتقام و القسوة وكان الألم لينخر بجسدي كسرطان إلى أن يحتله بكامله وأموت ...أنت قطرة الماء الباردة في صحرائي القاحلة والنور الذي ينشر الدفء عبر ظلمة وحدتي، ارتاحي بنيتي! أنت متعبة وتأكدي أن من تسبب بألمك قريبا جدا سيقع ولن أرحمه! نظرت إليه برجاء وتأثر، فرفع يده يمسح دموعها وهي تطلب منه : أريد أن أراه أبي، أرجوك. هز رأسه مجيبا : حسنا بنيتي تعالي! .....إنه نائم حاليا، حاولي أن تكوني هادئة. فتح لها باب غرفته فدخلت وأقفل عليها لتنفرد بمن تأكد أن ما يربطه بابنته حب صادق متبادل. لم تتبينه جيدا في العتمة التي يتخللها نور خفيف، اقتربت أكثر إلى أن وصلت إليه تبصره ممدا على السرير كما رأته صباحا، ضعيفا لا حول له ولا قوة، نزلت دمعة أحست بحرارتها على طول خدها تتساءل لماذا يصر القدر على إظهار ضعفه؟ فهو ليس كذلك أبدا، ما إن يستيقظ ستلمع زرقة السماء الصافية بعينيه من جديد وأول شيء سيفعله هو إمساك يدها ليطبق عليها، تبسمت عند تلك الفكرة، فتناقض منظر بسمتها مع سيول دموعها.نبض قلبها بشدة يطلب منها ما تستغربه، فتقرر الخضوع لرغباته وانحنت على رأس زوجها تلمس جبهته بشفتيها، ظلت هناك للحظة قبل أن تهم بالاستقامة فيفاجئها بهمس خافت جدا ضعيف كأنه حديث نوم ¤تأكدت الآن بأنني ميت ودخلت الجنة. ضمت حاجبيها استغرابا تحول لسعادة حين رأت ابتسامته الشاحبة الواهنة، يكمل : لا تتركي يدي أبدا. أمسكت يده هامسة قرب وجهه بخوف وحب جارف يجرفها نحوه هو وفقط : أبدا حبيبي، أبدا ! اتسعت ابتسامته يستسلم للسبات العميق يحلم بحبيبته وقد أخبرته بحبها وتناديه بحبيبي أما هي فقد نقضت وعدها وتركت يده فقط لتجلب الكرسي إلى جوار سريره، جلست ثم استعادت يده تضمها بحرص وظلت تراقبه إلى أن لحقت به نحو أحلامه التي أضحت تشاركه بها. ***** أقلهن هشام إلى البيت ثم انسحب رأسا إلى غرفته حيث غير ثيابه وهو يفكر بأنه لأول مرة يصبح الخطر فيه قريبا من أهله، ماذا لو أصابت الرصاصة أحدا منهم؟ أو لو كان المجرم استعمل رشاشا و أصاب أكثر من واحد؟ احمر وجهه غضبا من المجرمين الذين تماديا يظنان بأن لا قانون يحكمهما. خرج من غرفته مسرعا لا يرى أمامه، فارتطم بجسد طري أمسكه بين يديه كي لا يقع فكانت هي حمراءه، تأملا بعضهما لبرهة قبل أن تتململ فأطلق سراحها وهم بالمغادرة، فنادته ¤هشام! استدار إليها متسائلا، فاستدركت تتمتم من بين نظراتها القلقة : اعت..ني بنن.فسك. تصلب جسده يرمقها بغموض ثم في لحظة كان أمامها يطوقها بيديه ويشد عليها ليدس وجهه بتجويف عنقها فوق طرحتها، أخذ أنفاسا عدة ليهدئ من وجيب قلبه وارتياعه بينما هي تبادله الحضن مستحية وقد احمر وجهها بالكامل. تركها ما إن شعر بحرارة تحفزه وابتعد قليلا ثم قال بتوتر قبل أن يغادر : تركت لك هدية بغرفتك ....آمل أن تعجبك. تسمرت مكانها تراقب مغادرته إلى أن اختفى ثم لحقت بدقات قلبها التي سبقتها إلى غرفتها، تلفتت تتفحص المكان لتجد علبة متوسطة الحجم حمراء فوق المنضدة، أسرعت مبتسمة وحملتها بين يديها تتفقدها ثم فتحتها فعكست عيناها لمعة حجرة الزبرجد على الخاتم، التقطته بأصابعها بحرص مبهورة بشدة من نقاء لونه الأخضر، ارتدته لترى شكله على إصبعها فلفت نظرها ورقة مستريحة بقلب العلبة أخذتها وفردتها لتقرأها. ورقة ناعمة الملمس مشبعة بعطره مكتوب عليها بلون أحمر، قرأتها لتعود بها الذاكرة إلى ليلة لقائهما بالحديقة حين ألقى على مسامعها بداية قصيدة عن خضراء العينين ووعدها بإكمالها في الوقت المناسب، ابتسمت بحرارة ألمت بها واستلقت على سريرها تقرأها و تعيد قراءتها حتى استسلمت لسلطان النوم بفستان الحفل حبيبتي طاغية الجمال، خضراء العيون، تعلم أنّي بها مفتون، حالي عجيب والنّاس من حولي حائرون، هل نهاية هذا الحبّ الجنون؟ حبيبتي تعلم كيف عذاب الحبّ يكون، تهرب منّي وأطاردها كالمجنون، والنّاس عمّا في خاطري يتساءلون، وأصبحوا عن حبّي وعشقي يتحاكون، وبأخباري يتناقلون، ومن القصص يؤلّفون، وعنّي يقولون مجنون خضراء العيون، لكنّهم لا يعلمون أو يعرفون أنّي أبحث عن قلب حنون، وأريدهم من جراح حبي وعشقي يداوون، لكنّهم بحزني لا يعلمون، ولا يدرون أو يشعرون، جرح أوّل حبٍّ كيف يكون، كيف يكون حبيبتي خضراء العيون. أما مجنون خضراء العيون فلم يتمكن من النوم وهو عالق باجتماع مغلق يترأسه العميد. ***** لو لم يكن المخزن بعيدا عن أسماع البشر لكان صراخه الغاضب الذي يهز الجدران قد هز أذانهم في ذلك الوقت المتأخر من الليل ¤بهائم! لا يعمل عندي سوى البهائم! تمتم الذي أمامه مطرقا برأسه يرتعد جوفه عكس ظاهر جثته المتصلبة ¤إنه ذلك الشرطي ألقى بنفسه أمامها. اقترب منه وقد جحظت عيناه أكثر من اتساعهما الطبيعي، بغضا وشرا يهتف وهو يلوح بيديه سخطا ¤و ليتك أصبته ....أتعلم ماذا فعلت؟ بدل أن تقتل أسدا جرحته! أتعلم ماذا يعني ذلك؟ أنك حفزته ليزيد من قوته وسيفترس غريمه دون رحمة! استدارا الإثنين إلى الذي دخل عليهما كالعاصفة تهدد بجرف كل من قابلها، يصيح بغضب تغلي به الدماء بعروقه ¤لم يكن ما فعلته اتفاقنا، كيف تأمر بقتل ورد؟ أمسك ياقة قميص الحارس يهزه بعصبية ¤ كيف تتجرأ؟ سأدفنك هنا! جزع الرجل فاندفع والده يسحبه من ذراعه، فنفض عنه يد أبيه يهتف ¤ تعلم كم أحبها؟ إنها ورد كيف تقتلها؟ إنها من العائلة! يدفع كتفي ابنه بغل، يصرخ بغضب استبد به من غباء ابنه على حد تفكيره ¤ هل تظننا نلهو؟ أفق من ضياعك، أنت تبيع نفسك وعائلتك من أجل (عاه...) قاطعه تامر بصياح يفوق صياحه كأنه يهذي بغير هدى ¤لا ليست (عا..) إنها عفيفة ونقية لكن كيف ستفهم أنت؟ كيف؟ صفاء قلبها اخترق ظلمة قلبي وكياني ...حبها خلف حلمي ببداية جديدة بعيدا عن كل هذا الوحل! بعيدا عنك! بهت حلمي من انفجار ابنه الغير متوقع، فقال يهدئه لأن الوقت ليس مناسبا لأي خسارة أو تشتت. ¤اهدأ لم يحدث شيء، حبيبة قلبك لم تمت لكن صديقك المصاب حين يقوم ستكون أنت هدفه لا غيرك! رد عليه بضيق بينما ينفض جانبي سترته الجلدية ¤أنت مصر على أنه يعلم من وراء خطف ورد! ....لمَ لا يكون من يبحث خلفنا يقصدك أنت؟... فأحبائك كثر! هتف بانزعاج ¤أنا أنظف ورائي جيدا ...لا أعداء مباشرين لي! التفت تامر يكتم سبة قبل أن يعود حين سأل والده الحارس ¤ماذا عن الأخرى؟ لا تقل بأنك لم تصل إليها؟ رد عليه بفخر ¤ لا سيدي، رحمها الله منذ ساعتين. عقد تامر جبينه يستفسر بريبة وذهول ¤ من هذه التي رحمها الله؟ رد عليه والده بتهكم مغيظ وقد فاض به الكيل ¤التي أرسلتها لتوهم ورد بأنها على علاقة بليث وخدره هذا ال *** خطة سخيفة مثلكم...كنت تظن بأنها ستأتيها لوحدها! أنت لا تعرفها إذن ....الله أعلم بماذا أخبرتهم تلك الغبية؟ ثم تقدم إلى أن وصل أمامه ونظر بعينيه، يكمل باستفزاز ¤دافع عنها وقل بأنها هي الأخرى ليست (عا....) رمش بجفنيه مرة واحدة، يجيبه ببرود قاتل ¤ هذا لا يعني أن تقتلها ....لأنه إن قتلنا كل واحد يحمل على ظهره كبيرة، فسنكون أنا وأنت يا أبي العزيز أول من يجب أن يقتل. صاح من جديد يدفعه من أمامه :أنت جننت وطار عقلك! لحق به الآخر بينما تامر ثابت مكانه يهمس لنفسه : يجب أن أراقبها لن أدعه يقتلها، أقسم بقتل كل من يقترب منها حتى وإن كنت أنت يا حلمي! فكبائرك أكبر بكثير من العهر. فتح عينيه بعد أن رمش بهما مرات عدة وتلفت حوله فلمحها غافية وجانب وجهها على كف يده، ابتسم يحاول التذكر إن كان ما سمعه منها لم يكن حلما، حاول تحريك يده الأخرى فنغزه ألم حارق بكتفه فاسترجع الحادث. أعاد نظره إليها يحمد ربه أنها لم تصب كما أشفق عليها من نومها المتعب، فهمس : ورد حبيبتي! تحركت بمكانها فشعرت برقبتها توجعها، مسدتها بيدها وفتحت عيناها ليقابلها وجهه المبتسم، تذكرت الحادث فانتفضت تهتف وهي تلمس يديه ووجهه ورقبته ¤أنت بخير؟ هل تشعر بألم؟ سأنادي على الطبيب. أمسك كفها يسحبها حتى اقتربت وأصبح وجهها أمام خاصته، تلفحه أنفاسها يهمس ببسمة تعبة ¤ أنا أكثر من بخير ... فقط.. تلكأ يرفع يدها ليضعها فوق قلبه يكمل بشجن ¤ هذا يؤلمني. تلبكت وتوترت فارتعشت يدها تحت يده تشعر بخفقاته بينما هو يكمل برجاء: هل ما سمعته منك بالأمس لم يكن حلما؟ خجلت وحاولت الابتعاد لكنه حال بينها وبين ذلك يصر على سؤاله : ورد أخبريني ولا تهربي، فأنا ضعيف حا.... أسكتت كلماته بيدها الأخرى التي وضعتها على شفتيه ومقلتاها تلمعان من جديد بدموع تهدد بالانهمار، فهزت كيانه ¤أنت لست ضعيفا، أنت الضابط الممتاز ليث الجندي قوي شجاع لا يردعك مجرم أو تهديد مهما كان. ابتسم للثقة الناضحة من عينيها يطالبها بما تخفيه بين جنبات قلبها : إذا زيديني قوة يا وردتي وأخبريني بمشاعرك. احمرت أكثر لكنها نطقت بينما تتهرب بمقلتيها : أحبك. زاغت عيناه على صفحة وجهها وأسرعت دقات قلبيهما معا، رفع يده من على كفها فوق قلبه وضم خلف رأسها يقربها منه ليحط بشفتيه على خدها، لم تكن القبلة خفيفة بل طويلة كأنه يحكي لها عن مشاعره عبرها فتطول القصة وتتعدد الأبيات وهي تتلقى عباراته بثبات تستشعر ماهية شعور جديد عليها يحملها على غيمة تطفو بالهواء. ابتعدت حين سمعت دقة على الباب، سوت هندامها وهو يرمقها بوله لا يزال تحت تأثيرها، تقدمت نحو الباب وفتحت للعميد الذي قبل رأسها ثم خطا تجاه ليث بينما يحاول الأخير الاستقامة بجلسته، فنهره، قائلا ¤ لا تتحرك ليث، ارتاح! ....كيف تشعر يا بطل؟ ألقى نظرة سريعة نحو من تغزو الحمرة صفحة وجهها، يجيبه مبتسما : لم أكن بأفضل حال من قبل. ضحك العميد وقد استشف غايته من قوله يعقب ¤ جيد اذن ستقوم بسرعة لننهي ما بدأناه معا. هز رأسه مؤكدا، يقول : طبعا سيدي. التفت العميد إلى ورد وطلب منها تسلّم الثياب من هشام على باب الغرفة ثم قال يقصد ليث ما إن تأكد من دخول ورد إلى الحمام وهشام يتقدم نحوهما برفقة ياسين ¤ لن تستطيع مرافقتنا ليث، الشحنة ستصل بعد يومين. هتف باستنكار ¤ سيدي سأكون بخير بعد يومين إن شاء الله. رد عليه بجدية وحزم ¤ ليث! لن أسمح لنقطة ضعف أن تلهيني وأنت الآن مصاب، سترتاح ببيت أهلك ولا تجهد نفسك لتشفى بسرعة وكي أضمن أمان تلك العنيدة التي ما إن تعلم بخروجك للقبض على حلمي قد تسبقك هي و أنا لست حمل مفاجأة أخرى. زفر بحنق لا يصدق أنه لن يقبض على تامر ووالده بيديه بينما العميد يكمل : سأغادر الآن، لقد تحدثت مع الطبيب و والدك سينقلك إلى البيت مع كل ما يلزمك و مهمتك أن تحرس زوجتك و تشفى بسرعة بإذن الله. قالها وغادر متلافيا صديقاه يكتمان ضحكة أطلقاها ما إن تأكدا من مغادرته، فصاح ليث بضعف يزجرهما ¤ اسكت أنت وهو! كبتها هشام بمشقة، يقول بمزاح ¤ لكل فارس كبوة يا .... فارس! تدخل ياسين، مضيفا بمرح ¤ اسعد يا رجل! ستحظى بشهر عسل وتضمن زوجتك أمام ناظريك. حرك ليث رأسه يأسا من صديقيه الذين استلماه مزاحا، فاستل هشام هاتفه الذي اهتز بجيب سترته لتتجمد ضحكته ما إن سمع ما قيل له، يهتف بذهول وانزعاج ¤ متى؟ ....أنا قادم! شملهما بنظرة ضيق يخبرهما ¤ رهف قتلت. ¤ماذا؟ استداروا إلى مصدر السؤال التي لم تكن سوى ورد تقف مكانها ثابتة بملامح تنضح فزعا، بسط ليث يده إليها لتقترب، فقال هشام الذي أشار لياسين ¤ يجب أن أذهب للمركز، ياسين سيبقى على باب الغرفة إلى أن أعود أو يعود العميد لا نثق بأحد حاليا. أمسك يدها وأجلسها بالقرب منه ثم رفع يده الصحيحة وأحاط بها رأسها ليريحه على صدره، يربت عليه برقة يقول ¤ هي من ألقت نفسها إلى حتفها. ردت بخفوت بعكس دوي قلبها ¤ مهما كان، لا تستحق القتل، من قتلها؟ هل يكون تا... شعرت بتصلبه، فلم تكمل وسمعته يجيبها ¤ لا أظن .....إنه مجرد جبان أظنه والده....و في كلتا الحالتين سيعدمان كلاهما. ارتعشت، فشد عليها يبثها الأمان والدفء، ساكنة تتنعم بمكانها الأزلي الذي وجدته أخيرا. **** أخذ حقيبته وتفحص المكان حوله تحسبا لنسيان شيء ما، تأكد ثم تقدم خارجا من مكتبه وقامت السيدة زينب حين لمحته خارجا قبل وقته، تسأله بريبة وهي خلف الحاجز الخشبي ¤ خيرا يا مفيد؟ لازال لديك موعدين. نظر إليها، فلاحظت وجوما يطغى على ملامحه بينما يجيبها ¤ من فضلك ..ألغيهما وأعيدي إدراجهما قريبا فأنا متعب. انقلبت ريبتها إلى مكر تقول ¤ما الذي استجد مفيد، لطالما كان عملك ممتع بالنسبة لك لماذا أصبح يتعبك؟ ابتسم بجانب فمه قائلا بهدوء:ألا يحق لي زينب؟ انا مجرد بشر. نظرت إليه بطرف عينها تقول بجدية ¤ تماما مفيد. ...أنت بشر ولكنك تتصرف كرجل آلي ..مهما حاولت الإنكار، جسدك سيصرخ و يستنجد. قطب بتعب وملل، يشعر بنفسه مستنزفا ولا يقوى على مجاراة أحد ¤ زينب ارحميني من ألغازك ووضحي! رق قلبها لرجل محترم من عائلتها ولو كان بعيدا، ساعدها في وقت كانت قد يئست فيه من الحياة والبشر، فنصب نفسه كشقيق صغير لها و تولى مسؤوليتها كأنها تنقصه مع من يتحملهن، شقيقات خمس تربيتهن ودراستهن الى أن زوجهن وبقي وحيدا ويبدو أدمن الوحدة لكنها لاحظت نظراته لتلك الفتاة التي نجحت لا تعلم كيف في لفت انتباهه وهي تسعى لتسقي ذلك الإعجاب إلى أن ينمو ويصبح حبا وزواجا علّها ترى السعادة على وجهه، تكون لنفسه لا لغيره قالت بحنان وبشكل مباشر: لم لا تتزوجها مفيد؟ هز رأسه دلالة على الإدراك فهو يعلم مدى نباهتها وستلاحظ، فقال ببعض الوجوم: إنها مريضة عندي يا زينب. مطت شفتاها بتذمر تهتف وهي تضرب بيدها الهواء ¤دع ذلك الهراء للغرب، يضعون قوانين غريبة واسأل الشرع ماذا يقول؟ لن تجد مانعا، بالعكس سنها مناسب ونعلم أصلها الطيب، فتوكل على الله واطلبها من الأبله أخوها، سيفرح وقد تتزوجا بيوم واحد. مسح على وجهه ثم حك أسفل دقنه، يفكر قبل ان يجيبها ¤ أنت لم تفهميني ..انا أخشى أن توافق وتتعلق بي لكوني أول رجل يأخذ بيدها. ضحكت ملئ شدقيها ثم قالت * اطمئن هي معجبة بك شخصيا. لمعت عيناه وعقد جبينه، متسائلا ¤ وما الذي يجعلك متأكدة لهذه الدرجة؟ قفز حاجباها تشير لرأسه قائلة بمرح ¤ لأنها تظل تحدق برأسك الأصلع، وصدقني لن تنظر امرأة لرجل أصلع ويعجبها ما تراه إلا إن كانت معجبة به أو مغرمة حتى ....كن يقينا واطلبها من شقيقها ولن تندم. هز رأسه مدهوشا من قولها وانسحب يفكر هل آن الأوان ليحصل على ونيسة لوحدته. ****** استقبلت السيدة عائشة ابنها على الباب الداخلي للبيت وهي جاهزة للذهاب إلى المشفى، قبل رأسها قائلا ¤ أمي، أريدك بموضوع قبل أن نغادر. سألت بلهفة أم خائفة : ورد بها خطب بني؟ ضمها من كتفيها يسحبها إلى طاولة الحديقة، يخاطبها برفق ¤ لا أمي، ورد بخير هي وزوجها ....الموضوع يخصني . أجلس والدته على كرسيها وجلس بدوره أمامها ثم شبك يداه فوق المائدة، قائلا باقتضاب يغمره بعض الحرج ¤ أمي... أنا أريد أن أتزوج! ***** ¤ أريد أن أتزوج أمي. ربتت على يديه مبتسمة بسعادة، تجيبه ¤ حقا! بارك الله لك وتمم ما تنويه بخير... هل اخترت الفتاة؟ أومأ موافقا ثم بادر بطرح سؤال يبدأ به ما يريد اخبارها به ¤ أمي سأسألك سؤالها أولا وأريد جوابا صريحا، بعدها أفسر لك. هزت رأسها ترمقه باهتمام، فأكمل ¤ ما هي الصفات التي تتمنين أن تتحلى بها كنتك؟ نظرت إليه بحيرة تفكر ثم ردت عليه ¤ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَلِجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ )[ رواه بخاري و مسلم]....و لا قول لي بعده عليه الصلاة والسلام. تحدث محمود، بحذر يتساءل: قوله عليه الصلاة والسلام، فاظفر بذات الدين تربت يداك ...يعني إن كانت ذات دين تسقط ما سبق ...وجاء الدين في المرتبة الأولى عن الأصل والجمال والغنى؟ أومأت بحيرة تملكتها تضيف على ما قاله ¤ لأن الدين يا بني هو حب الله وعبادته وحب الله وعبادته يعلم حسن الخلق ومن لا يتصف بحسن الخلق لا ينفعه أصله ولا جماله ولا غناه بشيء وسيظل بغيضا ينفر منه الناس لأن الله لا يحبه، أليس أبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بماذا أفاده نسبه وأصله ولا غناه والله عز وجل لا يحبه وهو من أهل النار.