تنظر إليه بغيظ تصك أسنانها من تحت شفتيها المصبوغتين بإتقان، تزفر بانزعاج فيطالبها ¤ هل فهمت رهف؟ أم ستتصرفين كالبهائم التي أشغلها؟ هتفت بحنق اهتز له جسدها الرشيق ¤ أنا لست بهائم! أنا فقط خائفة، إنه رجل قانون ومدعوم وأعلم جيدا بأنه اكتفى مني، يعني سيقتلني! رد عليها بضجر بين إصبعيه سيجارة مخدرة ¤لن يجدك.. ما إن تقومي بدورك ... صفر و حلق بيده في الهواء بينما يكمل قوله ¤ تكونين على متن طيارة إلى الخارج ثم أنت متشوقة للانتقام أكثر مني. أظلمت عيناها حقدا و حسدا، تقول بينما تجاوره على الأريكة ¤ إنه يحبها، ينظر إليها كغر لم يرى نساء بحياته. أخد نفسا طويلا محرقا يكبت به غيرة عمياء تُحل له كل ما يقرر فعله وتأمل وجهها المتقن الزينة من بين الدخان الذي أطلقه من خلايا رئتيه، يعقب ببسمة صفراء ¤هل تريدين الصدق؟ أنا لا ألومه. مددت أسفل فمها إلى ذقنها احتقارا وسخرية، تجيبه ¤ أنت تتحدث هكذا؟ يبدو أن السيجارة تقوم بدورها حقا. اتسعت ابتسامته الصفراء، مجيبا ¤ لقد أخبرتك من قبل، مثلك لن يفهم أبدا. ثم رفع يده بإهمال، يستطرد ¤ المهم، لقد جهزت كل شيء، مهمتك تكمن في اصطياده. حقدها في ازدياد كحماسها وكلها تصميم لتقدم على فعل تعلم جيدا بأنه قد يتسبب بموتها، لكنه الحقد يجعل الإنسان أعمى وغبي تنطلي عليه وسوسة الشياطين من بين دخان المخدر ، يمده بطاقة وتحفيز زائفين فيوقظه على هول لا ينفع معه الندم. **** خرجت الممرضة أخيرا ، فمال نحوها على بعد مناسب من سريرها، يسأل بمكر:ما الذي يجعل دقات قلبك غير منتظمة؟ ضيقت عيناها وضمت شفتاها بضيق فظهرتا أخيرا لتُخلا بانتظام دقاته هو، فاستقام في جلسته يتأملها وقد اختفى المكر من ملامحه واحتلته الجدية بينما يسألها ¤ كيف أنت؟ هل زال الألم؟ كلما أرادت طرده من عقلها وأفكارها قتل تلك الإرادة من منابتها بتلك النظرة المهتمة بحق وصدق كأنه يعرفها منذ الأزل، كأنها تخصه، له وحده، تنتمي إليه ...انتفضت من تلك الفكرة التي صنعها عقلها داخل دماغها لتقذف بسرعة الضوء إلى قلبها، لمح اضطرابها يضم حاجباه بشك لاحظته فهزت رأسها تطرد الأفكار المتعبة منه بينما تستفسر منه ¤ لماذا أتيت؟ ارتخى على مقعده مجيبا بمرح قلة هم من يعاملهم به ¤ أنتظر جوابا أم أنك نسيت؟ أطرقت برأسها و لم تجبه، فاختفى مرحه، يهمس بجدية ¤ تحبينه؟ رفعت رأسها مجددا تتسع عيناها لترمقه بدهشة تدفع بقلبه للعدو كما تحبس أنفاسه ينتظر إجابتها، فأنزلت كتفاها باستسلام تقول بصدق : ليث أخي ولا أشعر ناحيته إلا بحب أخوي. لماذا يزعجه لفظ اسم رجل آخر من بين شفتيها؟ لماذا لا يريدها أن تربط كلمة الحب مهما كان نوعها بأي رجل آخر؟ اشتدت عروق وجهه ثم ارتخت يزفر بخفوت حين أجابته لتسأله بحيرة واجمة ¤ لماذا تهتم على أي حال؟ كان دوره ليتوتر لكن رزانته التي تدرب عليها جيدا مكنته من إخفاء ارتباكه جيدا وهو يجيبها ¤ حين تعرضين حياتك للخطر يجب أن أهتم. فجادلته تود أن تفهم ¤لماذا؟ فيما تهمك حياتي؟ أموت أو أحيا؟ هم بالحديث فأجفلا الاثنان على دخول السيد يوسف الذي ما إن رأى ناصر لم يسيطر على مفاجئته الظاهرة على وجهه و ما لبث أن استرجع شخصيته الوقورة يصافحه بابتسامته الهادئة، عكس قلبي الجيئل و نجلائه. أسرعت ورد داخل بيت "عائلتها" حسب قول ليث، بعد أن رمت سلاما عابرا لكرم و زيد واستقبلتها والدتها مع نعيمة، سلمت عليهما واتجهت إلى غرفة مريم ولم تستطع منع توتر خطوتها عند باب غرفتها هي لكنها لم تلتفت إليها وأكملت إلى أن بلغت باب غرفة مريم، رفعت يدها وطرقت بطريقتها المألوفة بينما تهم بالنداء عليها إلا أن مريم فتحت الباب وسحبتها إلى داخل الغرفة ترتمي في حضنها تبكي بعد أن أقفلت الباب خلفها. أحاطتها بيديها تبادلها الحضن ورفعت مريم رأسها لتقص عليها ما حدث لكن المفاجأة أنستها حزنها للحظة حين لمحت دموع ورد تتدفق ¤ ورد أنت بخير؟ ردت عليها من بين دموعها ¤آسفة حبيبتي، علمت أن هشام علم بشأن القضية. عاد حزنها، تترقرق دموعها من جديد وخطت إلى السرير تلتقط وسادتها بين يديها تعتصرها بينما تشكو مصابها ¤لو رأيت نظرة الاحتقار التي رماني بها؟ جعلني أشعر بالرخص وكأنني فعلا ساقطة ....فأحسست... صمتت تشهق فاقتربت منها ورد وجلست إلى جوارها تضم كتفيها تحثها على الإكمال، فاستطردت ¤ شعرت بأنني فقدت عائلتي من جديد، نفس الإحساس البائس. سألتها ورد : هل شرحت له الأمر؟ أومأت بلا، فاستطردت ورد معاتبة ¤ لماذا مريم؟ كان يجب أن تدافعي عن نفسك؟ نظرت إليها تجيبها بألم ¤بماذا أخبره يا ورد؟ فما قالته الفتاة صحيح ولو ظاهريا ...ثم نظرته ألجمت لساني ولم أشعر بنفسي إلا و أنا في طريقي إلى المكان الذي لطالما أشعرني بالأمان ، المكان الذي كنت متأكدة بأنه سيستقبلني بكل ماضي مهما حدث فيه. سمعتا طرقة على الباب تبعها صياح نعيمة تخبرهما بأن السيدة هناء و ابنتها في انتظارهما بالأسفل. ***** ركن ليث سيارته على جانب الطريق السريع على أعتاب المدينة وابتسم حين لمح سيارة صديقه، فخطى باتجاه السور الإسمنتي القصير الذي يحد الطريق من الجانبين وقفز من فوقه لينزل عبر المنحدر باتجاه مكان خاص بهما قرب البحر. أما هشام فكان ساهما بزرقة البحر وعقله يخوض معركة ضارية مع قلبه كل يشده الى طرفه، يتساءل عن سر شعوره البشع كأن والده توفي من جديد، ما ذلك الشعور الفظيع بالفقد؟ ...مريم ، مريم آه كيف فعلت به هذا ؟ متى تسللت إلى أحشاءه حتى أصبح استئصالها يرافقه قلبه وأعصابه؟ التفت بحدة حين أحس بدفء على كتفه يقابل بسمة صديقه بملامح عابسة وعينين لامعتين بحزن عميق، فعلم ليث بأن هشام عاشق حتى النخاع. جلس بجانبه ودفعه بكتفه مشاكسا بمرح، يستفسر منه ¤ هل تحبها لهذه الدرجة؟ لم يجبه مثبتا وجهه ونظراته على البحر، فأكمل ليث بنبرة عاتبة ¤كان يجب أن تسألها يا صاح و تعطيها فرصة لتدافع عن نفسها. لم يحد بعينيه عن البحر، يهمس بألم ¤لقد سألتها وعينيها أجابتاني... ضحك ليث بسخرية يعقب ¤ أبشرك يا صديقي بأنك أسوء قارئ عيون عرفته بحياتي ...أم أن الحب قد أعمى بصيرتك وألغى نباهتك؟ التفت إليه بريبة يخبره بثقة : لم أخطئ بقراءتها فهي صاد... بتر كلامه حين وعى على تناقضه، فضحك ليث مجيبا ¤ لقد فقدت عقلك ومنطقك أيضا ،،آه،، لا أعلم ماذا تفعلان بنا يا صديقي؟ ....أنت محق هي صادقة، فقد قبض عليها بالفعل بقضية تخص العرض. اشتعل الزبرجد بمقلتيه واشتدت خضرته، فأكمل ليث قبل أن ينفجر به صديقه ¤لكنها بريئة والقضية ألغيت وملفها نظيف لا سوابق به. فتح فمه وقد طار تركيزه، فهو يثق بليث و يعلم جيدا بأنه لن يقول كلمة إلا إن كان متأكدا منها بينما شعور يحل على كيانه، لا لم يحل! لقد كان محتلا منذ أن رمته بنظرة خيبة لكن غضبه حاصره ودمسه ليطفو حين انطفأ الغضب حتى وصل إلى فمه بطعمه المر ،نعم، هو الندم! ¤أخبرني بكل ما تعلمه. أخبره ليث بكل شيء حكته ورد، حتى ما فعله بذلك الرجل وهشام يبهت مع كل كلمة يقولها صديقه بينما غضبه يتأجج لكن هذه المرة ليس من حبيبته بل من الحقيرين الذين استحلا حرمته نعم، فهي حرمته حتى لو أخطأ في حقها تبقى حرمته و دمه و ما إن انتهى ليث من كلامه همس بجمود يغلفه البرود و ......ندم ¤يا إلهي! ماذا فعلت؟ ****** كان المشهد مضحكا نوعا ما لبيان وهي تراقب ذلك الضخم الذي كان منذ قليل يتشدق بثقته بنفسه ويلعب بأعصابها يقف الآن بأدب يتبادل الحديث مع زوج خالتها باحترام، تعلم جيدا أنه متوتر من قطرات العرق المتشبثة بأعلى جبهته. انتبهت على سؤال السيد يوسف له، فانتظر قلبها الإجابة بلهفة تجهل سببها ¤هل أنت متزوج بني؟ لا يعلم لمَ نظر إليها قبل أن يجيب ولماذا قلبه المستفز سعيد لرؤية اهتمامها ¤لا سيد يوسف أنا لم أتزوج بعد. سعادة قلبه انتقلت إلى قلبها مباشرة، فابتسمت بتلقائية ولم يفت المشهد السيد يوسف الذي ابتسم بدوره، يطرح سؤالا آخر ¤لماذا لم تتزوج بعد؟ لا أظن أنك لازلت تبني نفسك عمليا، فأنا أعرفك لكن الصدمة يوم الحادث شغلت عقلي عنك وبعد ذلك تذكرت من تكون ......أنت ابن شقيق السيد مجران صاحب شركة مجران للإلكترونيات... سمعت أنك انفصلت عنه وأسست عملا لنفسك. ركزت كل ذرة من عقلها عليه تلاحظ وجومه عند ذِكْرِ عمه، ونظرة الجدية التي شدت عضلات وجهه قبل أن يجيب ¤ نعم أسست عملي حين تعلمت واشتد عودي فأنا لن أظل دائما مع عمي، ففي النهاية هو عمي ليس والدي. رمته بنظرة قد تظهر على أنها شفقة لكنها لم تكن أبدا كذلك، بل أخرى إسمها تفهم، فهمت أنه يتيم مثلها ولم تحتج إلى سؤاله فهي تعلم جيدا نظرة الانكسار تلك، تفهم جيدا معاناة اليتيم في الاندماج والانصهار مع أبوين تكفلا به لكن مهما حاول، كلمة عابرة أو حتى تصرف غير مقصود يعيد عَزْلَهُ في لحظة ليَعِي على يتمه، ذاك التفاهم الصامت بينهما جعل السيد يوسف يتجه بتفكيره إلى حل يبحث عنه خصوصا في الآونة الأخيرة لكنه حَرَصَ على نفسه بالتريث فهي بعد كل شيء أمانته التي لن يفرط في حقوقها ....نهض من على كرسيه فقام الآخر والتفت إلى بيان يخاطبها بحنو كعادته ¤ سأرافق السيد ناصر و أعود إليك، حتى لا نؤخره أكثر من هذا. تبسمت بمكر من الحرج الذي يحاول إخفائه بتمتمته ¤آه نعم لقد تأخرت. التفت إليها يتوعدها بعينيه، يقصدها باسترساله ¤بالشفاء آنسة بيان. أومأت بتفهم وراقبتهما إلى أن أقفلا الباب، فخرجت من صدرها عبر فمها زَفْرةُ راحة ممزوجة بتنهيدة حارة تعلم جيدا صاحبها. انتابه القلق أكثر من الإحراج حين عرض عليه مرافقته، فانتظر بتأهب ما سيقوله. نظر إليه السيد يوسف وهو ما يزال محتفظا بابتسامته الهادئة، يقول ¤ بني أنا طبعا مُمْتَنُُّ لك بحياتي لإنقاذ بيان، فهي ابنتي التي أحبها وإن لم تكن من صلبي لكن لست موافقا أبدا على زيارتك لها وحدكما وأنا متأكد من أنها ليست المرة الأولى. هم ناصر بالتحدث لكن السيد يوسف رفع يده يسكته بإشارة بينما يرمقه برجاء ¤ لا تعلل بني، لست أتهمك بشيء لا سامح الله، فَنِعْمَ الرجل أنت، يكفي أنك غامرت بنفسك لتنقذها من الاحتراق داخل السيارة، لا يظهر معدن الإنسان إلا في الشدائد ومعدنك أصيل لكن لا أريد لسمعة ابنتي أن تمس و لو بكلمة واحدة، رؤيتك داخل وخارج من غرفتها ستفتح أفواها متوحشة دائمة البحت عن لحم تنهشه وأنت طبعا لا يرضيك ذلك. أطرق برأسه احتراما لرجل علم كيف يؤدبه بأخلاق عالية ولم يجد بكلامه ولا نبرته ذرة احتقار أو حتى لوم، فخجل منه ومن نفسه ¤ أنا آسف سيد يوسف، أنت محق. وضع يده على كتفه، قائلا بمرح ¤دعك من سيد هذه و نادني بعمي. لا أبدا، أنت لست كعمي ذاك" هتفت نفسه وهو يومئ بالعكس مغتصبا ابتسامة رسمية، فاستطرد و هو يصافحه مودعا ¤إن أردت زيارتها، أخبرني وسأكون هنا في استقبالك ..إن شاء الله. تمتم الآخر ب إن شاء الله وغادر أما السيد يوسف فابتسامته تحولت لمكر و هو يهمس لنفسه. ¤مممم يحتاج لمحفز. ***** اتخذ كرسيا في حديقة الدار ينتظرها، يفكر بأنها ربما تأتي، فبعد كل شيء هي لن تترك الصغيرة أمل، التفت ينظر إليها تلك الشبيهة بعيني حبيبته تنتظر هي الأخرى تستشعر حدوث شيء ما وهي ترقب الباب بعينين واسعتين أشفق قلبه عليها فبسط ذراعيه يسحبها فوق حجره، قائلا بحنو ¤ لا تقلقي ستأتي، فأنت أكثر شخص تحبه. رمته بنظرة شك مثيرة للشجن بعينيها البريئتين، تتساءل ¤ حقا؟ لكنها لم تتأخر يوما ؟ صمت يفكر بأنه قد خرب الدنيا على قول زينب، زينب؟ هل تفلح خطتها يا ترى؟ لا يعرف، لو فقط تفتح ذلك الهاتف اللعين! تنبه للمسة أمل على خده فنظر إلى مقلتيها اللامعتين بالدموع، فيتذكر حين رمته حبيبته بنظرة الألم والخذلان ¤هل رحلت سنبلة؟ ألن تأتي مرة أخرى؟ شد على ضمها بحنان وقرب شفتاه من أذنها يهمس وعده بثقة أراحت قلب الصغيرة ¤اسمعيني جيدا صغيرتي! ...أنا وسنبلة وأنت سيجمعنا بيتا إن شاء الله ولقد بدأت بتحضير غرفتين لكما جميلتين جدا وسيكون لك بابا وماما وعمة أيضا لك وحدك، هل فهمتي يا صغيرة؟ زادت عيناها اتساعا وقد أشرق وجهها البيضوي الأبيض بنور السعادة وأومأت مرات عدة ثم قبلته قبلة كبيرة على خده تهتف بسرور وحب صادق بريء ¤ أنت أحلى بابا خَاصَّتِي في الدنيا. ضحك سمير بمرح لسعادتها ولكلمتها التي لا تفترق مع ماما أو بابا كأنها بنطقها "لخاصتي" تشِمها باسمها وتصبح ملكا لها ولمس أنفها بسبابته بمشاكسة ¤ بما أنك نقطة ضعف السنبلة سأستغلك على رأي زينب. ظلت الصغيرة تنظر إليه بحيرة، فضحك مستدركا ¤ هل ستساعدين بابا خاصتك لاسترجاع ماما خاصتك؟ فكلما عادت أبكر كلما أسرعنا ليجمعنا ذلك البيت الجميل. هزت رأسها بحماس تهتف : ماذا سأفعل؟ ابتسم و المكر يلوح في ملامحه، يخبرها ¤أنا سأخبرك ماذا ستفعلين بالضبط....تعالي معي لنرى إن كانت فاطمة ستساعدنا ...إنه لهدف نبيل أليس كذلك؟ لحقت به الطفلة ممسكة بيده مبتهجة، لا تفهم أي شيء بتاتا سوى أنه سيصبح لديها غرفة لها وحدها و بيت وعائلة. ***** استسلمت مريم أخيرا لكف ورد تسحبها لينزلا إلى خالتها بعد أن أقنعتها بأن لا شيء هناك لتخجل منه، ما إن لمحتها خالتها حتى قامت إليها بلهفة أُمْ تتلقفها بين ذراعيها، لم تَحْسب مريم حسابا لذلك، فهي اعتقدت بأن خالتها ستقف بصف ابنها وتخجل من كونها من دمها وقد تتبرأ منها لكن فعلتها هذه جعلتها تشعر بالفعل أنها شقيقة والدتها وفجأة اختفت أحاسيس الغربة والوحدة واليتم في آن واحد ومرغت أنفها بصدر خالتها تشتم عبير أمها وللحظة تجلت ملامحها في ملامح خالتها، فشدت عليها بيديها بقوة تهمس بشجن ولوعة ¤أمي! انطلقت شهقات البكاء من كل الأفواه بلا استثناء هذه المرة لهيبة المشهد، مشهد يقر بإمكانية إحياء الوالد أو الوالدة بِتَصَرُّفِ ليس بأمر جلل لكن قلة من يرزقهم الله حكمة التصرف به و هو الاحتواء. أبعدتها السيدة هناء برفق تنظر بعينيها لا تصدق ما سمعته للتو والدموع اللعينة تشوش عليها رؤية وجهها، فهمست بتوسل : هل تعنينها يا ابنتي؟ لم تجبها وظلت تنظر إليها تحاول الفصل بين ملامحها وملامح والدتها لكنها نفس الدموع اللعينة لا تمكنها من ذلك وما زالت ترى نفس الوجه النحيف الأبيض المحمر ونفس شكل العيون الخضراء، فسمعت توسلها من جديد ¤إن كنت تعنينها بالفعل أعيديها ابنتي، أرجوك! مسحت مقلتاها ووضحت الصورة أمامها ولم تجد فرقا أبدا سوى شامة سوداء كانت تتميز بها والدتها تحت شفتها السفلى لكن ذلك لم يلغِ شيئا مما شعرت به والأمان الذي أحست أنه أحاط بها، فنطقت بثقة نبعت من أعماق قلبها المجروح ¤أمي. عادت لاحتضانها و قد بدأ ضميرها يستعيد بعض راحته بعد سنين من العذاب، فمهما كان خطأ مريم، خطئها هي أكبر، فمن شتتت العائلة سواها؟ وقد تكون السبب لما حصل لها أيضا! ألم ترها من قبل في منامها تستنجد بها وشقيقتها ترميها بنظرات الغضب؟ ..آآآآه ... تنهدت داخلها وهي تسأل ربها إن سامحتها أختها فلتزرها ضاحكة بمنامها. سحبت مريم وأجلستها قربها بينما لا تزال تضمها تخاطبها بلين ورفق ¤ اهدئي و خذي نفسا عميقا واحكي لي ما حدث لك وأقسم من كان السبب سيدفع الثمن غاليا. همست مريم ترمقها باستغراب ¤ أنت متأكدة من عفتي ...لِمَ؟ ابتسمت خالتها تلمس خدها بحنان بينما ترد ¤ لأن هذا الوجه البريء لا يعرف الكذب ولأنك ابنة شقيقتي وأنا أعلم أخلاقها التي لابد ربتك عليها، لقد كانت أفضل مني خلقا حبيبتي. تبسمت مريم من بين دموعها بحزن وشوق، تعقب ¤ لقد كانت صارمة رحمها الله. تمتموا بالرحمة، فبدأت مريم بسرد ما حصل لها وكلهن يسمعن بتركيز، غافلات عن شابين كانا قد وصلا ودخلا، فأوقف أحدهما الآخر طالبا منه بإشارة أن يتسمر مكانه ويصمت ليسمع شكوى حبيبته التي تخلى عنها في أشد لحظة احتاجته فيه. عاد السيد يوسف كما وعدها وجلس على كرسيه، يرمقها بنظرات غامضة فتوترت تتلفت حولها متلاهية عنه بينما شفتاه تنبسطان عن ابتسامة وهو يفتح مجالا للحديث ¤ إنه شاب جيد. التفتت إليه ترمقه باستغراب، فأكمل ¤ أقصد ناصر مجران ....شاب خلوق قد يبدو في الوهلة الأولى كأنه متعجرف لكنه عكس ذلك تماما. بلعت ريقها وأومأت بصمت، فاستطرد بمكر ¤ لكن لا يجوز له زيارتك وأنت لوحدك. هتفت بدفاع : هو من أتى، لم أطلب منه ذلك. ضحك السيد يوسف بمرح يعقب ¤على رسلك، أنا لا أعاتبك! فقط أخبرك بما يجوز وما لا يجوز ثم أنا أثق بك جيدا، فأنت ابنتي أنا و تربيتي أنا. لانت نظراتها ورق قلبها، فتدمع عيناها وتطرق برأسها والسيد يوسف يضيف ¤ لمَ بنيتي عرضت نفسك للخطر؟ ...لا أتوقف عن التفكير باحتمال احتراقك بالسيارة، فيحترق قلبي ويطير النوم من عيني وأظل أسأل نفسي، هل فشلت في زرع مشاعري الأبوية بقلبك؟ فأنا لم أقل بأنني والدك الذي أنجبك! وفعلت ما كنت سأرغب من صديق أن يفعله لابنتي إن مت وتركتها أمانة بعنقه، أن لا يطمس ذكراي بعقلها ويعزز مكانتي بقلبها ويعلمها حبي واحترامي لتدعو لي بالرحمة ...لذلك ظللت أحكي لك عنهما لكي لا تنسي والديك الذين أنجباك ولم يُحْرِمْهُمَا منكِ سوى أجلهما الذي أزف فتَدْعِي لهما بالرحمة طوال حياتك كابنة صالحة لكن والله يشهد على ما في قلبي، كثيرا ما كنت أنسى بأنك لست من صلبي، فأحضنك كما كنت أفعل في صغرك مع انه لا يحل لي. دموعها تنزل على وجنتيها من تأثرها، فكل كلمة يقولها محق بها بينما هو يتجاهل بكائها، ليكمل ¤ لطالما نهرت خالتك على كلامها الذي تملأ به رأسك، لم أحدثك في البداية خشية أن تكون لديك مشاعر تجاه ليث، فراقبتك وراقبت تصرفاتك فأنت شئت أم أبيت تربيتي أنا وكتاب مفتوح أمامي، لأستنتج أن مسايرتك لها في ما تقوله نابع من حبك الشديد لنا ورغبتك بالانتماء إلينا بعلاقة مقدسة لا تنفصل. رفعت رأسها تنظر إليه مندهشة، فهز رأسه مؤكدا يستطرد ¤ ما تغفلين عنه يا بيان أن اِنْتِمَائَكِ لنا لا يحتاج إلى توثيق، فأنت ابنتنا وتربيتنا بكيانك أنت وبأصلك وبوالديك المتوفيان ...هذا غير الدم الذي تتشاركينه مع أولادي أم نسيت أنك ابنة خالتهم؟ رويدا يتحول بكائها الصامت إلى شهقات مكتومة، فقام من مكانه وضمها من كتفيها مراعيا ضميره المؤنب فلم يطل ضمها، وقد كانت له أمنية خفية بأن تكون حقا كنته حتى يتسنى له القرب منها مثل إسراء، فهي حقا لديه كإسراء وأكثر، بيان ابنته البكرية الأنثى لكن القدر كان له سبيلا آخر مختلفا غير ما تمناه قلبه وبخلاف زوجته فهو يملك من الحكمة ما يخوله التسليم بأقدار الله. ¤ اهدئي، أنت مريضة يجب أن ترتاحي. تراجع لينظر إليها يضيف : كل ما حَدَّثْتُكِ به كان لهدف واحد إن كنت فعلا تحبيننا بقدر ما أظنه، اعتني بنفسك عزيزتي فنحن لن نستطيع تحمل فقدانك. مدد سبابته ولمس جانب رأسها يؤكد قوله ¤ ضعي كلامي في رأسك الصوان هذا واعقليه جيدا. ابتسمت وأومأت بتأكيد ثم أمسكت يده تقبل ظهرها وهمست بحزن ¤ أنا أحبكم جدا أبي بلا استثناء. ربت على رأسها وأمرها بالنوم والراحة ثم انصرف تاركا إياها تفكر بحظوتها لولا عقدتها اللعينة تلك ألهتها عن نعمها الكثيرة التي أغدق الله بها عليها. ***** أنهت شكواها و قد بُحَّ صوتها وأُنْهَك، فسحبت خالتها رأسها ووضعته على كتفها، تقول بغضب مشوب بحزن وحسرة ¤ المجرمين! يجب أن يُسْجَنَا طوال حياتهما لا أن يضربا فقط، انسي حبيبتي وعيشي حياتك، فأنت طاهرة ونقية ولا يمس طهرك وعفتك أي شيء مما حدث. التفتت ورد حين وصلها عبيره المحبب إلى قلبها قبل أنفها، فلمحته وقامت بلهفة مبتسمة تنده باسمه مما أجفل الجميع واستداروا لوجهتها. ابتسم هو الآخر يكتم سعادته لمرآي لهفتها لرؤيته فهمس ¤ مرحبا حبيبتي. احمرت خجلا و نظرت إلى هشام التائه في حمرائه التي أصبحت اسما على مسمى من كثرة البكاء، دوى قلبها الخائن ما إن لمحته فرأت نظرات الندم والاعتذار تنضحان بهما مقلتاه، رق قلبها لكنها سرعان ما نهرته ودست وجهها بصدر خالتها التي فهمت الأمر فاشتغل عقلها بسرعة داخل رأسها تبحث عن حل يرضي الطرفين الظاهر عليهما الحب الصادق. طلبت منهم السيدة عائشة الجلوس وبعثت نعيمة لتأتي بالقهوة والضيافة وكان ليث قد أطبق على يد ورد لِيُجْلِسَهَا بجانبه وكم سر هذا المشهد قلب والدتها التي اتخذت مجلسها أمامهما. تحدث هشام بوجوم وندم بعد أن اقترب من أمه ومريم وقعد جوارهما : مريم ..أنا آسف. لم تجبه لكن والدته هتفت بتقريع ¤ الآن تتأسف، ألا تستحي من طولك وعمرك! أم أن ما تفعله مع المجرمين تطبقه على عائلتك؟ هم بالإجابة مستنكرا، فأكملت بنفس نبرة التأنيب ¤ هذه حرمتك من دمك يعني سُمْعَتُها من سمعتك، كان يجب أن تحاورها بهدوء و تستفسر لا أن تفعل مثل الغُرْب و تحكم عليها جورا. رماها بنظرات ضائقة لا يصدق أنه يُقرَّع على يد والدته أمام جمهور وسكت يرمق مريم بترقب ينتظر لمحة منها نحوه علها ترى كَمَّ الألم و الندم الطافح بهما محياه. تدخلت السيدة عائشة قائلة بلطف ¤ صلوا على النبي محمد يا جماعة. تمتم الكل ب صلى الله عليه و سلم، فاستدركت بحكمة ¤ سوء الفهم كثيرا ما يحدث بين الأحباء، تلك طريقة الشيطان ليفرق بينهم لذلك وجب على المؤمن استباقه و ردم تلك الطريق عليه. فكرت ورد بأن صديقتها عاشقة ويظهر أن الشاب يبادلها نفس العشق، لذا علاقتهما يجب أن تستمر، تعلم جيدا أن صديقتها مجروحة وقد لا يسمح لها حزنها وألمها بأن تسمع لصوت المنطق وقلبها. مالت جهة ليث إلى ان اقتربت من أذنه تهمس له ¤ يجب أن نساعدهما... المفترض عقد قرانهما غدا. عقل ليث طار منه هشام ومريم معه كل شيء آخر ولم يسمع سوى دقات قلبه التي أسرعت مع أنفاسها الدافئة التي لفحت جانب وجهه فثبَّتَ أطرافه يسمع همسها غير مستوعب معنى أي كلمة قالتها، فقط النبرة ودفء الأنفاس حتى أجفل على ضربة فوق كتفه فزادت دهشته. ورد تبتسم و تضربه بخفة على كتفه لسهوه منها ويدها الأخرى في يده يكاد يقسم أنه في حلم، فَحَلَّ عليه فَهم آخر يتساءل لو كان تطورها البسيط هذا فعل به الأفاعيل، فماذا حين يخطو معها إلى آخر الطريق فتكون له زوجة بحق؟ كيف سيكون شعوره و كيف سيستوعب لذته؟ ¤أنا أتحدث معك، ما بك؟ أجابها ببلاهة: ها؟ زفرت بحنق، تقول ¤ ليث أنت تحرجني، ألم تسمع ما قُلْتُهُ لك؟ أومأ بلا تَائِه في شعوره يتأملها، فاستطردت بتوتر ¤ لا تنظر إلي هكذا ...الناس من حولنا... عيب. ابتسم بدفء وهمس بمرح : كيف أنظر إليك؟ ردت عليه باستنكار : ليث ركز معي مر..... قطع جملتها قائلا وقد زاغت عيناه على ملامحها بذلك القرب لتركز على شفتيها يزيد من توترها الذي أسعده ¤أنا مركز معك جدا جدا. زفرت بيأس من تصرفاته التي استجدت عليه أو كانت موجودة لكنه لأول مرة يُظْهِرُها، ففكرت بأنه كان يكبت طبيعته كرجل من أجل أن لا يخيفها ويبعدها عنه. التفتت ناحية هشام ومريم بغية طرد تأثرها به، تخاطبهما بحكمة ¤ يجب عليكما نسيان شجاركما على الأقل غدا، فلقد جهزتم كل شيء ولا يجب عليكما التراجع. سكن هشام يَرْقُبُ ردة فعلها التي لم تتأخر تقول بوهن غاضب : لن أتزوج منه، لقد اتهمني بأنني ممثلة محترفة. تنهد بيأس حزين ضرب قلبها من جديد لكنها لن تستسلم، فكرامتها فوق كل شيء لتجيبها ورد تلمس وترها الحساس بينما تعلم جيدا أن صديقتها تترفع وستتعذب إن لم تكن لابن خالتها ¤مريم أسمعيني جيدا حبيبتي..إن ألغيتم الحفل فجأة سيبدأ الناس بالتكهن وخلق الإشاعات وأنت حساسة جدا ..لو كنت أنا... أشارت إلى نفسها تهز كتفاها بإهمال، تكمل ¤ لما اهتممت بالأمر، تعرفينني لا يهمني أقوال البشر، لكن أنت كل نظرة من أحد أو كلمة ستعودين إلى البيت باكية وقد تحبسين نفسك بغرفتك إلى الأبد. راقبها ليث بإعجاب لحكمتها في بلورة الأمور إلى صالح مبتغاها، وهي تسترسل كلامها بينما قلبها يضرب داخل صدرها من نظراته العاشقة ¤و هناك شيء آخر أظن عليك فعله لتغلقي باب تلك القضية للأبد. نظروا إليها جميعا ممتنون لأفكارها وخصوصا السيدة هناء التي تستشعر بداية اقتناع مريم بكلام صديقتها ¤أن تقيموا حفل زفاف كبيرا وسط الحي الذي كنت تقطنينه وهكذا سَيُلْجَمُ كل لسان عن مس سمعتك بأي كلمة من جديد. هتف هشام و كأنه وجد طوق نجاته ¤أنا مستعد لذلك وسأدعو جميع أهل المدينة وليس الحي فقط. ضحك الجميع حتى هي وإن حاولت كتم ضحكتها، تتصنع الغضب الذي فر منها ولم تلحق به، انتظر الجميع جوابها وخالتها تمسك بيدها تشد عليها تنشدها الصفح، فاستحت منها تومئ بنعم ليسعد الكل حتى أن الذي قربها انتفض من بهجته، فخصته بنظرة ضيقت فيها عينيها توعدا، فعلم أن صفحها لأمه لا لأجله و ستريه الويل قبل أن تسامحه. ***** رفع السيد مجران رأسه حين سمع وقع أقدام الخالة تنزل من على الدرج، أشار لها برأسه يستفسر، فأجابته والخيبة على وجهها قبل شفتيها بينما ترفع صينية الأكل المليئة بالطعام ¤لازالت تبكي ولا ترضى الأكل ولا الشرب. زفر بضيق يعيد وجهه إلى شاشة حاسوبه فوق أريكة غرفة الجلوس العصرية بقماش المخمل الأحمر وقواعد خشبية مغلفة بالجلد الأحمر الغامق، فقالت زوجته الجالسة بأناقة على الأريكة المقابلة، بقلق وانزعاج ¤أنا خائفة عليها، لم تغضب هكذا من قبل. رد عليها بضجر ونظره على الحاسوب ¤دلال فتيات، سريعا ما ستتجاوز الأمر. تأففت وقامت لينساب صوت كعبها الرفيع إلى أذنيه فيضم قسمات وجهه بانزعاج، يصغي إلى حديثها النزق ¤إنها ابنتك يا رجل! ألا تشفق عليها؟ رفع رأسه إليها يجيبها بحدة ¤ لو لم أكن أخاف عليها لما وافقت على ذلك الشاب الذي لا يناسب مستوانا ...أنت لا تعلمين كم تبلغ ثروته، إنها تقرب ضعف ثروتنا ثم سيهديها نصيبا لا بأس به، ألا يدل ذلك على أنني أحبها؟ أجابته بارتباك ترفع ذراعها بكفه الناعمة تلمس بأطراف أصابعها المقلمة الأظافر والمطلية بإتقان جانب ذقنها الرفيع. ¤هناك الكثير من شباب وسطنا يطلبونها لزواج، لم لا نتركها تختار؟ أجابها بسخرية ¤ أبناء صديقاتك التافهين المدللين، الذين يتجولون هنا وهناك بالملاهي والشواطئ يصرفون أموال ذويهم لكي تعود بعد أقل من سنة مطلقة معها أولاد طبعا بلا نفقة ولا تعويض لأنهم يا حبيبتي لم يتربوا على حس المسؤولية.