تنفخ بحنق بينما تضم ذراعيها إلى صدرها تراقب الطريق أمامها وهو يضحك بمرح من حنقها الطفولي إزاء عدم إخبارها عن وجهتهما، لحظات ولاحت لها أضواء المطار الدولي للمدينة، ضمت حاجبيها الأسودين واستدارت إليه متسائلة بحيرة: المطار؟ ابتسم يجيبها: أنتِ لستِ صبورة أبدًا وردتي. ركن السيارة وضم يدها يسحبها إلى مدخل المطار، فأوقفته هاتفة: لن أتحرك خطوة واحدة حتى تخبرني عن وجهتنا. رفع رأسه ثم أنزله زافرًا بحنق، يرد عليها: ¤ ألم تطلبي أن نبدأ حياتنا بالأراضي المقدسة؟ فتحت عينيها دهشة بينما هو يكمل: ¤ حاولت جاهدًا لأتدبر أمر زيارة لمدة أسبوع والحمد لله توفقت. هتفت ورد بعدم تصديق: ¤ ليث حبيبي هل جننت؟ افتتاح المعرض وعرس محمود اللذان سيقامان بيوم واحد، هل تذكر؟ أجابها بنفاذ صبر يهز رأسه: ¤أذكر جيدا حبيبتي، بعد عشرة أيام يعني سنعود قبل يومين إن شاء الله. زفرت ورد بيأس، تجيبه: ¤ يا ليث! افهمني! ..أنا من يساعد فاطمة إن كان بالمعرض أو عرسها. ابتسم بثقة يكتف يديه وهو يرد: ¤ لا تخافي، تدبرت الأمر. ضمت ملامح وجهها ريبة فأكمل: ¤ طلبت من سهى مساعدة فاطمة في باقي ترتيبات العرس، طبعًا مع والدتك أما الدار فطلبت من سيدة أثق بها كان لها نشاطات من قبل وتجربة ...أنت تعرفينها جيدًا ...الخالة هناء ...و لمار أيضًا وجدتي تطوعتا حتى أمي أتصدقين؟ جمعت لكِ فريقًا ما كنتِ لتحصلي عليه.. لذا لا حجة لك. زفرت من أنفها بينما تقلب شفتيها ثم سألت: ¤ دفعت التكاليف؟ أومأ ببراءة مزعومة، فقالت مستسلمة: ¤أمري إلى الله. لمحته يجر حقيبة ما سحبها من حقيبة السيارة، سألته فأخبرها بأنها ملابس لهما سيرتديانها بعد الاغتسال في الميقات للإحرام, أنهيا إجراءات السفر وانتظرا موعد إقلاع الطائرة وبعد سبع ساعات في الطائرة وصلا مكان ميقاتهم ليغتسلا ويحرما ثم توجها إلى الحرم، ما إن لمحت البيت الحرام، تسمرت مكانها واقشعر بدنها وليث لم يختلف عنها، كلاهما يصيبه البهوت أمام الكعبة المشرفة، فلأول مرة يريانها على أرض الواقع، الكعبة الحبيبة قبلة كل مسلم ومؤمن بالله، قبلة كل من ضاقت به الدنيا وسدت عليه الأبواب يظل بابها مفتوحًا بأمر من الله، الوجهة التي جعلها الله قبلة لكل ناصية أراد صاحبها الوقوف بين يدي خالقه، دون وسيط مجرد نية وطهارة ثم "الله أكبر" فيقف أمام خالقه يسأله ما شاء، يذكره كما يليق بوجهه الكريم، ويعبر عن حبه له كما شاء، فقط بينه وبين خالقه صلة شخصية لا يتدخل بها أي غريب كائنًا من كان. شل تفكيرها تحاول تذكر الأدعية عبث وكأن ذاكرتها طُمست، فرفعت يديها بقلة حيلة تسأل ربها أكبر همها: ¤ اللهم ارزقني جنتك من غير سابقة عذاب ولا حساب. التفتت إلى ليث بملامح مدهوشة علّه يذكرها، فهالها رؤية دموعه التي ملأت وجهه، يبحلق بالكعبة فاستحت أن تقاطع عليه خشوعه أما هو فلا يعلم ما به كأنه لم يكن حيًا يتنفس، كأنه لم يكن يعيش على الأرض، يتساءل عن عظمة جمال وهيبة البيت الحرام، أحس بوجل ممزوج بخجل من ذنوبه، فبكى دموعًا حارة كطفل صغير يناجي ربه من مكانه ليغفر ويعفو عنه، هو العفو الكريم الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، فيجتاحه رجاء وأمل لا ينقطع ما دام رب السموات والأرض حي والحمد لله هو الحي الذي لا يموت. حاول تمالك نفسه و تلا الأدعية ثم استدار إليها ليجدها على نفس حاله ليمسك يدها، فنظرت إليه وابتسمت له من بين دموعها، ذكرها بالأذكار ثم شرعا بقضاء مناسك أول عمرة لهما. عادا إلى الفندق يلهثان من تعب الأبدان في الرحلة ثم قضاء المناسك لكن بقلوب صافية، طاهرة، مشبعة براحة وطمأنينة الإيمان، تناولا طعاما ثم ألقيا بجسديهما ينشدان بعض النوم وليستعدا ليومهما الثاني الذي مر على نفس المنوال حيث قاما بعمل عمرة عن أحبتهم الذين واراهم التراب، يدعوان ربهما بكل صلاة، أن يغفر للأحياء والأموات، وأن يبارك زواجهما ويرزقهما الذرية الصالحة وبعد أن ودعا الكعبة ببكاء كما استقبلوها يرجوان الله العودة قبل الممات رحلا إلى المدينة المنورة تلك الطيبة التي تستقبل ضيوف الرحمن بريحها وعبقها الطيب وكأبنائها أصحاب القلوب الطيبة، أولئك الذين آووا ونصروا حبيبنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، توجها إلى المسجد النبوي، ليصليا في الروضة الشريفة، التي حرص الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يصلي بها المسلمون لكونها روضة من رياض الجنة ثم اقتربا من قبره عليه أفضل الصلاة والسلام حيث بكيا دموعًا غزيرة كما فعلا أمام الكعبة المشرفة، بكيا رحمته التي تفتقدها الأمة حاليا وحلمه بالعباد عليه الصلاة والسلام ...ألقيا عليه السلام بخفوت ثم سألا الله له الوسيلة والفضيلة وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده وأن يفوزا بشفاعته يوم النشور. في اليومين الأخيرين حاولا زيارة شتى الأماكن الطاهرة، مسجد قباء والبقيع ومقبرة الشهداء التي تضم عددًا كبيرًا من أصحابه رضي الله عنهم و أرضاهم. وقفت على الشرفة تتأمل أضواء المدينة، تغمض عينيها تستنشق أنفاسًا عميقة تشم الرائحة الطيبة، شعرت بدفء يغمرها، فكان زوجها يحضنها من خلف ظهرها، يهمس لها بالقرب من أذنها فوق الطرحة: ماذا تفعلين وردتي؟ أسندت نفسها إليه لا تزال مغمضة العينين تقول بخفوت: ¤ لم يدخل أنفي قط رائحة أطيب من رائحة هذه المدينة. ابتسم يجيبها بهدوء يتنهد: طبعًا، فهي طيبة. صمت قليلا ثم استدرك: ألا تريدين النوم؟ توالت ضربات قلبها تتمتم: ن...عم.. ابتسم حين شعر بأطرافها المشدودة، فهمس برقة ¤ أريد أن أطلب منكِ شيئا ما. التفتت إليه متسائلة فقال: ¤ أطلقي شعرك من عقاله فأنا لم يسبق لي أن رأيته مفرود. رفعت يدها بتوتر، فأمسك تلك اليد باسمًا ينبهها ¤ ليس هنا. رافقته داخل الغرفة حيث راقبها حتى أزالت طرحتها وحررت خصلاتها الكثيفة كالليل البهيم، مد يده وأمسك بخصلة يتتبع طولها إلى أسفل الخصر بقليل ثم دس يده الأخرى داخل جيب سرواله، يخرج سلسلة ذهبية تتدلى منه وردة جورية صغيرة والتف حولها يلبسها إياها، تلمست الوردة مبتسمة تقول: إنها رائعة! بادلها بسمتها الودودة يقول: ¤ لا تزيليها عن عنقكِ أبدًا، فهو ليس فقط حلية بل به جهاز تتبع حبيبتي. هزت رأسها بإعجاب تعلق بتهكمٍ مرح: ¤ عمل مخابرات! أسرعت دقات قلبه، فاقترب منها وهي جامدة مكانها، تنتظر خطوته التالية بذهن متيقظ. مرغ وجهه بشعرها يتحرك بروية حتى لمس أذنها يهمس مهدئًا قشعريرتها: ¤لا تخافي مني ورد ...لن أؤذيكِ أبدًا. شهقت بشدة تشعر بأن الهواء في الغرفة لا يكفيها لكنها ليست خائفة، بالعكس هي تشعر بسلام داخلي لم يسبق لها أن أحست به، ضمها إليه بحب ثم اقترب من أذنها من جديد يهمس لها الغزل كلمات يرافق بها احتواءه لها حتى استسلمت وسلمت له تحقق حلمًا كان يومًا من دربًا من دروب المستحيل. ******* أيقظها المنبه ولم تستطع فتح عينيها من شدة رغبتها بالنوم لكنها فتحتهما على مضض فيجب أن تقوم لصلاة الفجر، شعرت بثقل على خصرها، فأنزلت يدها تتفحصه لتشعر بخشونة، لتنساب الذكريات تغطيها باحمرار الخجل، لا تصدق كيف تجاوبت معه وتجاوزت كل مخاوفها، ابتسمت لرقته وكيف كان يهمس بخفوت كلمات طمأنتها وجعلتها تستشعر سحر الأحاسيس, التفتت بروية تتأمل وجهه الهادئ القسمات بملامحه الساكنة ومدت إصبعها بتردد تتحسس بها جبهته العريضة نسبيًا، ورفعت خصلات تمردت إلى مكانها، تفكر بأن شعره استطال عن أول مرة رأته فيها، لمست حاجبيه الشقراوان ثم أنزلت رأس إصبعها على طول أنفه إلى أن بلغت شفتيه فتوقفت، تبتسم بحياء وحين همت بلمسهما شهقت بخفة مجفلة: لماذا توقفتِ وردتي؟ همت بالابتعاد، فطوقها في غمضة عين وأصبح يشرف عليها هامسًا برقة: صباحك مبارك يا عروس. أطرقت بعينيها خجلًا فهوى على خديها يلثمهما مكملًا: ¤ أعشق حمرة الخجل على وجهك. همست بتوسل: ليث! فرد عليها مرحًا: عيون ليث. احتقن وجهها أكثر فأشفق عليها يطلق سراحها ضاحكًا بسعادة لم يعلم يومًا أنه سيعيشها. ******** جاء يوم افتتاح المعرض وزفاف فاطمة على حد سواء، كان هذا طلبها من محمود أخبرته أنها ترغب بمشاركة الدار فرحتها، وتغادر منه عروسًا فهو بيتها وقاطنيها أهلها، فكر محمود كيف يجعل يومها مميزاً لا يُنسى فخطرت له فكرة عرضها على ورد قبل رحلتها فسعدت بها وخططت لتطبيقها. لم تفارق السيدة عائشة فاطمة ولا الفريق الذي كلفه ليث على حد قوله، تعرفن عليها وأحببنها وساعدنها بالترتيبات كلها، فإذا أحبك الله سخر لك خلقه. حان وقت خروجها وقد امتلأت الحديقة بمدعوين للافتتاح وآخرين للزفاف ورافقتها حماتها مع ورد وما إن وصلت الباب الداخلي حتى لمحت مشهدا لن تنساه بحياتها، الطرقة الرابطة بين الباب والحديقة تملأها فتيات صغيرات من كلا الجانبين، يرتدين فساتين زفاف بيضاء صغيرة، تمسك كل واحدة منهن وردة بيضاء جميلة بيدها، تلألأت عينيها سعادة تقفز من ملامحها قفزا و هي تنظر إلى ذلك المشهد المبهر، لم تتخيل ولا بأحلامها أن يكون زفافها مميزا إلى تلك الدرجة. هدر قلبه بصدره حين لمح سعادتها وانبهارها فعلم بأنه أصاب الهدف، أمسك يدها يقبل ظهرها فاحمرت خجلا ثم رافقها إلى الكرسي المزخرف، يسألها بحب : أعجبتك المفاجئة؟ رمقته بعشق تجيبه : لن أنس ذلك المشهد ما حييت.. شكرًا لك تصنع العبوس يعقب: لا شكر بين الزوجين يا فاطمة. التفتت تتأمل الحديقة حولها هروبًا منه، فابتسم بمكر يطبق على يدها بين يديه لا يتركها أبدًا. انزوى بركن يراقب سعادتها بحسرة من بعيد حتى جفل على صوت سمير يخاطبه بهدوء ¤ عندما نحب شخصًا نتمنى له السعادة حتى إن لم تكن بصالحنا. رد عليه الممرض كريم بحزن: ¤لست حاقدًا عليها، أنا فقط حزين لأنها لن تكون من نصيبي لكن هي تستحق أن تجد سعادتها حتى لو كانت بعيدًا عني. ربت سمير على كتفيه يقول باسمًا بتفهم: ¤ أحسنت ...كن يقينًا بأنك ستجد من هو أفضل منها لك حتى وإن اعتبرت أن لا أحد أفضل منها. هز رأسه بلا معنى وعاد يراقب سعادتها بحسرة، أما سمير فلمح شراسته تلج الدار وتبعها بضحكة ماكرة. تأملت أسماء زوجها جالس يحمل على حجره الصغيرة أمل التي كفلها سمير وشاهي بصفة رسمية، أحبها منذ تعرف عليها بل كل من تعرف عليها أحبها بتلك الشقاوة البريئة حتى هي تعودت على وجودها وتبحث عنها إن اختفت من أمامها، راقبته كيف يدللها يتحول إلى طفل كي يتواصل معها، ليس معها فقط بل و جميع أبناء أخواته بمختلف أعمارهم يحبونه ويحترمونه، فجأة فكرت ماذا لو لم يرزقها الله أولادا هل يصبر؟ وإن صبر هو هل ستصبر شقيقته؟ لمح وجومها فتوقع ما تفكر به، قام إليها يقترب منها هامسا بابتسامته الجانبية الجذابة ¤إن رزقنا الله طفلا أريده منك أنت، لا من أحد آخر وإن لم نرزق به ، فسنكفل واحداً مثلما فعل شقيقك مع أنه لا يعلم أصلا إن كان سيرزق بذرية أم لا، هذا إن تركنا الشعب الذي يهجم علينا دائما ما شاء الله على رأي زينب. ضحكت أسماء بمرح ترميه بنظرات امتنان للأمان الذي يغمرها به. ****** سحبها ليجلسها ثم جلس قبالتها يخاطبها: ¤ يجب أن تأتي غدًا ورد أرجوك. نفخت بضجر تقول: ¤ ليث أخبرتك من قبل، لقد أقفلت تلك الصفحة، أعطيت شهادتي وحضوري غدًا لا معنى له. أمسك يدها بحنان يهادنها: ¤ والدك طلب مني إحضارك ...فلماذا ترفضين؟ نظرت إليه بضيق تمسح على وجهها، فسمعا صوت حمزة يتدخل بنبرة جامدة ¤ لا تريد الذهاب كي لا تشفق عليه. استدارا إليه مبهوتين كل لعلة، فرفع يديه يتأسف رغم ظلال التهكم القاتم الطاغية على ملامحه ¤أنا آسف، سمعت رغمًا عني فصوتكما لم يكن خافتًا. عاد ليث إلى ورد ينتظر منها التأكيد لكنها صمتت، فأكمل حمزة: ¤أفهمها جيدًا وأتفهمها، إن كنت أنا لا أريد الذهاب فلماذا هي؟ نصيحة ليث دعوها وشأنها فقلبها طيب إن سمعت كلمة إعدام من فم القاضي رغمًا عنها ستنفذ الشفقة إلى صدرها .. لا يستحقان! وأكملت ورد ببرود: ¤ لقد نسيته ليث، هو الآن كأي غريب لا أعرفه ولا يهمني عقابه كيف يكون، ما علي فعله فعلته ولا أريد التطرق للموضوع مرة أخرى. قالتها وانسحبت تاركة ليث يفكر بقرارها إن كان بصالحها، ليقول حمزة قبل أن ينصرف هو الآخر: ¤هناك بعض الأمور من الأفضل محوها من حياتك كأنها لم تكن. ****** بعد انتهاء الحفل أوصلهما ليث مع زوجته لبيت محمود القريب من بيتها جهزه هو الآخر سابقًا للسكن. بعد أن جهزا نفسيهما صلى بها محمود كما السنة ثم أقبل عليها وحط بيده على رأسها يتلو الدعاء وحين هم ليزيل يده أمسكتها تثبتها على رأسها تهمس بدموع لم تتحكم بها: ¤أقسم بأنك لن تعايرني يومًا أو أرى نظرة احتقار بعينيك واعلم أن الله شاهد على قسمك. لم يتضايق بل بالعكس تفهم خوفها فقال مبتسمًا بدفء: ¤ أقسم أن أرعاك وأتقي الله فيك مادام بصدري نفس. أنزلت يدها و شهقت بخفوت تبكي، فسحبها إليه يلثم دموعها حتى هدأت، يهمس لها بكلمات حب وحنان إلى أن استسلمت له، ليأخذا بعضهما إلى مكان يصبح فيه الاثنان واحدًا ولا وجود للاختلافات، يعلم جيدا أنه سينتظر مدة ليسمع اعترافها بحبه، فخجلها لن يسمح لها بأي وقت قريب. ******* تقدمها إلى المصعد تلحق به وضغط ناصر على الزر المطلوب لكن وقبل أن يقفل الباب دخلت فتاة تبدو سائحة أجنبية من مظهرها بلباسها المختلف, توترت بيان حين لاحظت نظرات تلك الفتاة التي ترمي بها ناصر، لا يخطئها أحد أما هو فيتصنع الجهل بما يحدث حوله يستشعر ذبذبات الغيرة تشع منها وكم أسعده ذلك إلى أقصى الحدود, أخفى ابتسامة عندما اقتربت منه بيان تتأبط ذراعه بتملك، ترمي الأخرى بنظرات حارقة لكن الأخرى بملكوت آخر تبحلق بالوسامة الضخمة كيف تبدو، فلم تشعر بيان بنفسها إلا و هي تتأهب لتنقض عليها تصيح ¤ يا قليلة الأدب!...ألم يعلموكِ أهلك غض البصر؟ يا... هتف ناصر المدهوش من تصرفها وهو يحاول إبعادهما عن بعضهما: غض بصر ماذا؟ يا بيان إنها أجنبية! صرخت الأجنبية بلغة علم ناصر أنها الإيطالية، لا يعلم أيضحك مما تقوله، أو يضحك سعادة لتلك التي أحبته وتدافع عنه بشراسة، لم يتصور أبدا أن يحبه أحد و يريده بتلك القوة والتملك ومن؟ جميلة مثل نجلائه، فتح باب المصعد فأسرع إليهم الأمن وهمّ واحد منهم ليفرق بينهما، فأصابع بيان أحكمت الإمساك بذراع تلك التي لا نعلم إن كانت مسكينة، فصرخ ناصر بنبرة زعزعت المصعد كما أوقفت الجميع بمكانه حتى بيان ابتعدت عن الفتاة تبحلق به بدورها ¤أمسك يدك وإياك أن تلمسها! تردد رجل الأمن يقول بارتباك ¤ سيدي أنت ترى بنفسك ...إنها ... تعصب ناصر يهتف بتهديد حتى تكمش الآخر على نفسه ¤إن وضعت إصبعًا واحدًا على زوجتي أقسم أن أغلق هذا الفندق الذي تتشدقون بحسن سمعته وتستقبلون به حثالة الناس فقط لأنهم سياح. فهم كبير الأمن مغزى الموضوع، فتأسف لهما ورافقا السائحة التي ترغي وتزبد لا يفهمها أحد إلا ناصر طبعًا فهو يتحدث أربع لغات.. عادا أدراجهما إلى الجناح حيث قالت بيان بارتباكٍ تخجل من نفسها والفضيحة التي تسببت بها ¤ناصر أنا ....أس... سحبها إليه قاطعٍا كلمتها بعناق دافئ يضمها بقوة، يهمس لها: ¤لا تتأسفي أبدًا عن حبك لي .... ابتسمت ثم قالت بحنق: ¤وددت لو فقأت عينيها ...قليلة الحياء، ألم ترَ أنني بجانبك؟ ضحك ناصر بصخب يجيبها: أتعلمين ما كانت تقوله؟ هتفت بيان بذهول: تفهم الإيطالية؟ هز رأسه بإيجاب وقال: ¤ كانت تقول أنها لم ترَ ضخمَا ووسيمَا في نفس الوقت من قبل وأنها لم تقصد سوء نية، فقط تريد التأمل بشكلي. عبست بيان ترد بينما تحاول الفكاك من قبضة ذراعيه دون جدوى ¤ تأملها صرصار إن شاء الله! وأنت يعجبك قولها تضاعف من عجرفتك. قربها أكثر يثبتها قرب وجهه، يخبرها بحب ¤إن تضاعفت عجرفتي لن تكون هي السبب بل حبك لي أنت من بين كل البشر. تلبكت بيان، فأكمل برجاء رقيق: ¤ قوليها نجلائي ...أرجوك. نظرت إليه باستحياء، فأطرقت برأسها تهمس بخفوت: ¤ أحبك. طوقها يغيبها بين أضلعه وطنها الذي وعدها أن يكونه لهما ووفى كما وفت هي الأخرى بوعدها وأهدته قلبها منزلَا لهما تحرص على إقفاله عليهما جيدَا وبالقفل. ****** قال القاضي كلمته ورفعت الجلسة، ففاز من فاز وخسر من خسر، ولن يخسر طبعَا إلا من تجبر على أوامر الرحمن وظن أنه ملك لا يبلى، فيقع من علوٍ شاهق على رأسه لينكسر بخزي، فيندم ويقول يا ليتني لم أفعل! لكن هيهات يكون الأوان قد فات. "حكم عليه بالإعدام شنقا غير قابل للنقض" ....أما تامر فحكم عليه بالمؤبد مع الأشغال الشاقة، يقولون إن المنشاوي تاب وقضى أيامه قبل الشنق يصلي لله ويستغفر، لا حكم لنا عليه، الله أعلم بعباده، فمهما بلغ ظلم العبد أمامك لا تحلفن على الله أن لا يتوب عليه لأنه أعلم بخلقه منك! فلا تأخذ مكان ربك وتكفر هذا وتزكي ذاك لكن قل هذا ما قاله الله في كتابه ثم أتبعه بـ" الله أعلم". نفذ الحكم بعدها بأسبوع وانتهت أكبر قضية رأي عام لتلك السنة، هذا ما اعتقده الكثير، حسنًا! حتى هذه الليلة. تأنقت ورد واستعدت لحضور عقد قران فاتن وطه، تطلعت إلى ليث يتمم على بذلته، فقالت بتذمر مضحك: ¤لقد مللت من الحفلات ...أشعر بأن كل من أعرفهم تزوجوا. نظر إليها من المرآة، قائلا بمكر مازح: ¤ قولي أنك غيورة تريدين حفلا خاصًا بك فأنتِ لم تقيمي حفل زفاف. ألقت نحوه نظرة يأس وملل ترد عليه بينما ترتب أطراف طرحتها على صدرها وكتفيها ¤ إن كنت لا أتحمل المكوث في حفل ساعة كاملة ...فكيف سأجلس كدمية استعراضية يبحلق بها الجميع ويدققون بكل شيء ترتديه ولخمس أو ست ساعات .. إنه متعب في السرد فما بالك بالتطبيق! ضحك ليث ملأ شدقيه يعقب: ¤ بعد التفكير بقضية البحلقة تلك، أنتِ محقة لا حفلات أعراس حتى هذه لم نخرج بعد، إن أردتِ نأوي للسرير حالا، فلا أحب إلي من الراحة فغدًا لدي عمل. سحبته ليخرجا باسمة تقول: ¤ لا! هل تريد أن يقاطعني العم صلاح؟ أقصد العم سعيد؟ لم يتنبه ليث لحديثها ورافقها ضاحكين بمرح. ***** لا يصدق بأنه أخيرًا انتهت السنة الدراسية وسيعقد عليها، يشعر بأنه سيموت شوقًا إليها ليحدثها وجها لوجه بدل الهاتف المسكين الذي ذاب بين يده, انتظرها بفارغ الصبر تحت نظرات والدته المتهكمة وحتى كلماتها الساخرة، بكونه أصبح طفلا فقد رزانته، لم يكترث وظل يراقب الباب إلى أن دخلت فوثب قلبه كأرنب هارب من صياده، جلست قرب حماتها مطرقة برأسها بعد أن سلمت على الضيوف، تشتاق لرؤيته لكن حيائها يمنعها من رفع رأسها، إنه أمامها، نظرة واحدة فقط! همت برفع رأسها فسمعت والدها يُدخل كاتب العدل ومساعده فأعادت رأسها مكانه, شرع الكاتب بتدوين المعلومات، فلاحظ أن اسم حماه ليس بسعيد فمال عليه هامسًا: ¤ أليس اسمك سعيد يا عمي؟ نظر إليه يجيبه بغموض ¤اسمي صلاح لكن اضطررت إلى تبديله شفهيًا فقط والآن، الحمد لله، أستطيع أن أعود صلاح .... يمكنك مناداتي بعم صلاح. استغرب طه لكنه لم يعقب، أما هو فالتفت يرمق ليث بغموض الذي ارتاب من نظراته الغامضة منذ دخل هو وورد. عقد القران وألبسها طه هديته ووالدته، ثم طلب من والدها التحدث معها على انفراد ونظرًا لضيق الشقة تقدمته إلى غرفتها التي تشاركها مع أختيها، سعد جدًا لكونه سيرى غرفتها التي كانت تكلمه منها وظل يتفحصها، صغيرة نوعًا ما لكنها حميمية ودافئة، لمحها جالسة على كرسي إلى مكتب صغير فجلس على طرف أحد الأسرة يقول: ¤ اشتقت إليكِ يا قاسية القلب. رفعت رأسها مدهوشة باستنكار بينما يستدرك بعتاب: ¤ نعم قاسية القلب ....لأنك لا تشتاقين إلي أبدًا ..دائمًا أظل أسأل عليكِ وأنتِ لا تفعلين. ظهر الاستنكار على وجهها، فزاد الجرعة بلؤم: ¤أظن أنكِ لازلت مجبرة على هذه الزيجة. هزت رأسها بلا مرات عدة، فتصنع الجدية مضيفًا: ¤ أثبتي إذن أنك تقبلين بي. عقدت حاجبيها تساؤلًا تهمس بسذاجة ¤ كيف؟ ابتسم و ربت على المكان بجانبه يدعوها: ¤ تعالي هنا بجانبي. ترددت قليلا لكنها نهضت وخطت تجاهه لتجلس على حافة السرير بعيدًا عنه، ضحك واقترب منها فجفلت وأوشكت على الوقوع لولا انه أمسك بها يضمها إليه فحاولت الهرب منه ¤ اهدئي لن أفعل شيئًا مما برأسك! خاطبها بمزاح فشهقت بشدة، فضحك بمرح وهمس يشد عليها: لا تخافي! أنا فقط أريد أن أشعر بك قربي. هدأت أطرافها وأخفت بسمتها بصدره فيتنهد بسعادة يكاد قلبه يتوقف من سعادته. **** أشار ليث لورد ليرحلا فهزت رأسها موافقة ثم اقتربا من العم سعيد الواقف مع زوجته كأنهما يتجادلان بخصوص أمر ما، تنوي تهنئتهما حتى يستأذنا للرحيل، استدارا إليها فقالت ببسمة مسرورة: ¤ مبارك لكم مرة أخرى عمي! نحن يجب أن نغادر فزوجي لديه عمل بالصباح الباكر. صمت يرمقهما هو وزوجته فاستغربت ورد و زادت ريبة ليث الذي اشتغل حدسه الأمني يتساءل بريبة: ¤ سيدي هل تريد أن تخبرني بشيء؟ هم بالرد، فهتفت زوجته سيدة بتأكيد: نعم سيدي. التفت إليها زوجها باعتراض فقالت بلوم: ¤ الرجل أعدم والفتاة يجب أن تعود لأهلها. أجابها بحنق: لكنها لا تريد! فقالت سيدة بضيق: ¤سنعيد نفس الموضوع مرة أخرى ..والضحايا عائلتها أيذهب دمهم هدرًا؟ بهت ليث وورد يدركان بفطنتهما أن الموضوع يخص المنشاوي الذي مات ولا زالت جرائمه تكتشف كما زاد يقينهم حين هتف العم سعيد بوجه زوجته: بماذا يفيد؟ لقد أعدم! تدخل ليث يواجه العم سعيد أو صلاح يطلب منه بحزم: ¤ أنت ستخبرني بكل شيء وأنا سأقرر إن كان يهم أم لا! اضطرا أن يبقيا إلى أن غادر الجميع باستثناء طه ووالدته وجلسوا جميعهم بالصالة حيث بدأ العم سعيد بسرد أعجوبة لم يكن يعلم هو ذاته بأنها أعجوبة. ¤ قبل سنوات كنت عائدًا بأختي جليلة من بيت زوجها الذي توفاه الله حينها ولأنها رزقت بفتاة واحدة وماتت في صغرها ولم تنجب بعدها بقيت لحالها، فطلبت منها أن تقفل بيتها أو تستأجره وتسكن معنا ...ونحن في طريق العودة أخبرت سائق سيارة الأجرة أن لا يسلك طريق الغابات لأنه غالبا ما يكون خاليا من الناس لكنه تشدق بإتقانه السياقة وأنه معتاد عليه وسنربح الوقت لأنه مختصر، ارتحت قليلا حين لمحت معنا سيارتين واحدة أمامنا والأخرى خلفنا، بعد مدة من الوقت ودون مقدمات توقفت السيارة أمامنا فقطعت علينا الطريق وانحرفت بنا سيارة الأجرة إلى خارج الطريق وانقلبت وأذكر بأن الأخرى خلفنا اصطدمت بالأولى، للحظة لم أشعر بشيء ثم فتحت عيني بصعوبة، تحاملت على نفسي وحاولت فتح باب السيارة الذي لم يفتح إلا بمشقة ...تفقدت أختي فلم تجبني وجزعت ظننتها ماتت لكن الحمد لله أدركت بأنها فقدت الوعي، أخرجتها برفق وتفقدتها فلم يكن بها سوى جروحًا سطحية ...أما السائق فكان غارقا بدمه تفقدته وأدركت بأنه مات ....تجولت حول السيارتين الأخريين لكن للأسف كانتا قد دكتا دكًا ولم أستطع حتى إيجاد مدخل لأرى ما بداخلها، وقفت لا أعلم ماذا أفعل؟ كانت الغابة أمامي لا هاتف ولا وسيلة اتصال وكان الليل يسدل ستاره، أوقفت أختي أسندها وأخبرتها أننا يجب أن نبدأ بالمشي علّنا نجد سيارة أو منقذًا وكنا على وشك المغادرة حين سمعنا صوت نشيج مكتوم تتبعنا أثره لأسمعه قادمًا من إحدى السيارتين ....أصبحت كالمجنون أبحث عن طريقة لأخرج من يبكي هناك. ظل الجميع ينصت بتركيز أولهم ليث الذي يتذكر حادثة مثيلة انتشر خبرها بين الشرطة ولا يعجبه مسار الحديث، خصوصًا أن الداهية بجانبه تتذكر هي الأخرى وهذا واضح من عينيها الجاحظتين وشحوب وجهها. أكمل العم سعيد، قائلًا: ¤ توصلت وشقيقتي لطريقة، خلالها تمكنا من كسر الزجاج الخلفي، فألقيت نظرة لأجد فتاة بعمر فتي. أخرجناها برفق فظلت تصرخ تنادي والديها، أشفقت عليها فحاولت بما أوتيت من قوة لأدفع نفسي إلى داخل السيارة فهالني ما رأيته وعدت أدراجي أتأسف لها، كانت تصرخ بهستيريا يكسوها الدم ...حاولت أختي تفحصها فلم تسمح لها ...كانت مصدومة لكن قوية وصرخت بأنها بخير وأن ما بها مجرد خدوش، بعد أن هدأت قليلا طلبت منهما أن تتبعاني لنتوارى خلف الأشجار وانتظرنا مدة تقريبًا حتى انتصف الليل حين لمحنا سيارة، انتفضت أختي من مكانها لكن الله ألهمني الحذر ومنعتها وأمرتهما بالصمت ورحت أنا اقترب منهم بهدوء حتى أصبح صوتهم واضحًا وسمعت كل حوارهم. قام ليث من مكانه، يتدخل بحزم لأنه تأكد مما سيقوله: ¤سيدي يجب أن تأتي معي وتدلي بأقوالك، إنها جريمة قتل ويجب فتح محضر الآن. انتفضت ورد هاتفة باستنكار والدموع على وشك النزول: ¤وكيف علمت بأنها جريمة قتل هو لم يكمل بعد؟ هم بالتحدث لكنها قاطعته تستدرك بوضوح: ¤أعلم جيدًا بما تفكر به وأنا معك بإكمال هذا الموضوع بالمركز لكن قدمي قبل قدمك. زفر بحنق والتفت إلى العم الذي قام هو الآخر وغادرا إلى المركز، اتصل ليث بالعميد ليحضر هو الآخر فالموضوع يهمه واجتمعوا الأربعة فأعاد العم سرده إلى نقطة نهاية الحوار واستطرد ¤ فهمت أنهم أرسِلوا للتأكد من موت صاحب السيارة التي كانت أمامنا ...تفقدوا سيارته فصاح واحد منهم ...*الفتاة! أخبرنا أن برفقته فتاة!* ....ظلوا يبحثون في السيارات وحولهم فقال واحد منهم، *ربما لم تأتيِ* ليجيبه الآخر *لا فائدة حتى إن وجدناها حية لا نستطيع قتلها فهو أكد علينا أن نتيقن فقط من موتهما نزفا من الحادث،* تشدق واحد منهم قائلا بخبث *المنشاوي هذا داهية أتعلم من بهذه السيارة؟* سألوه فأجابه بأنه *نقيب ونائب وزير الداخلية علي الخطاب*. لم يصدموا ثلاثتهم فهم التقطوا مغزى الحديث كله، والعم سعيد يكمل: ¤ صاح واحد منهم و قال ...*يا ويلنا قد تنزلق أقدامنا نحن وينفذ منها هو* ...أجابه الأول ...*لا تخف ألم أقل لك بأنه داهية! ...أغرى مساعده بالمال وظل يزوده بدواء يدسه له واحدة واحدة كل يوم صابرًا إلى أن أعطى مفعوله* .....قال الثاني ..* ألن يكتشفوه بالتشريح؟* ..رد عليه ساخرًا ...*إنه دواء مشروع لكن من يأخذه ينصح بعدم السياقة لأن أخذه يسبب دوارًا.....لقد خطط وصبر إلى أن نفذ و أزاله من طريقه، فذلك الرجل قد جمع عليه أدلة كثيرة بخصوص التجارة وكان سيوقع به لكنه سبقه .....حرب دينصورات* .....ضحكوا بسفه وراقبتهم حتى غادروا ثم عدت إليهما وأخبرتهما بما سمعته، سألت الفتاة من يريد قتلها فلم تجبني وارتعدت مكانها ....بقينا إلى الصباح الباكر فرأيت سيارات إسعاف تحوم بالمكان وأوصيت أختي والفتاة بعدم التحرك من مكانهما إلى أن أعود ....اقتربت منهم ولم أكن بحاجة لادعاء التعب بينما أخبرهم بأنني كنت أستند بشجرة من تعبي ...أخذوا أقوالي وطبعا لم أذكر شيئا مما سمعته خوفا على الفتاة، وطلبت هاتفًا حدثت فيه صديقا لي أثق به وطلبت منه ليأتي إلى الغابات ليعيد أختي والفتاة إلى بيتها إلى أن نقرر ما سنفعله ...وهذا ما كان! الآنسة ورد جاءت إلى المشفى تبحث عني كوني الوحيد الذي نجا وعرضت علي المساعدة، جزاها الله خيرًا هي من دفعت فاتورة المشفى ودبرت لي عملًا بعدها مع أنها كانت صغيرة لكن كبيرة بعقلها أما الفتاة فظلت مختبئة عند أختي إلى أن قرأت بالجرائد أن من اسمه المنشاوي قد أعدم ....فأخبرتها أن لا خطر عليها إن أرادت البحث عن باقي عائلتها لكنها رفضت رفضا قاطعًا. نظروا لبعضهم البعض، فعقبت ورد بإحباط حزين: ¤مع أنك أنقذت الفتاة من الموت لو ظنوا بأنها أنا، لكنك مخطئ بكل الأمر، فهم كانوا يبحثون عني. وضع العميد يده على عينيه حنقًا وضيقًا لصديق مات غدرًا وابنة ظنها بمأمن من الخطر أما ليث فيشعر بأنه سيفتح قبر المنشاوي ويعيد قتله بينما العم سعيد يفغر فاه لا يفقه شيئا حتى فسرت له: ¤ النقيب الذي يتحدثان عنه هو أبي الذي رباني ونحن لم نعلم بأنه قتل إلى أن تحدثت الآن فلقد حبكها الشيطان و نفذ منها حينها. بهت العم يصغي إليها تكمل: ¤ وأنا كان من المفروض أن أذهب معه لأننا كنا مسافرين بعمل خيري لكن، لكن حادثة بالدار حالت دون ذلك فسافر لوحده ....فأنا المقصودة يا عم وليست تلك الفتاة التي تأويها شقيقتك. هتف العم قائلا بصدمة: ¤ يا الله! لو كنت تحدثت حينها! لكن ظننت بأنني أحمي الفتاة لهذا أخبرتك حينها أن لدي مشاكل ومضطر لتغيير اسمي ....وأنت كنت أكبر من الفتاة سنًا وهم لم يذكروا سنًا معينًا ...قالوا الفتاة فقط! قالت ورد و قد تجمعت الدموع بعينيها فأمسك ليث يدها يدعمها ¤أخبرونا أن أبي سبب حادثًا مروعًا قُتل على أثره أناس ولم يبقَ سوى رجل واحد ....أسرعت إليك وساعدتك بمال أبي علك تغفر له وبحثت عن أهل السائق وأعطيناهم الدية ....أما أهل الفتاة فهم أناس ميسورين رفضوا الدية وأي تعويض وتقبلوا اعتذارنا. بكت ورد بحرقة تفكر بأن المجرم يصر على إحراق قلبها حتى وهو ميت فضمها ليث يهدئها بينما العميد يقول وكأنه يفكر بمعضلة: ضرغام! التفت إليه ليث، يعقب: ما به سيدي؟ أجابه قائلا: إنه قريب الفتاة، أنا لازلت أذكر بحثه عنها حتى يئس وسلم بأن جثتها سحبت إلى الغابة ليفترسها الضباع. فكر ليث للحظة ثم أخبره: يجب أن نخبره. هز العميد رأسه مؤكدًا يجيبه: ¤ نعم وأريد تحقيقًا تفصيليًا يا ليث، علي رحمه الله لكن الذي باعه ما يزال حيًا ....كلاب المنشاوي الآن لم تعد وفية سنستغل ذلك لصالحنا. هتف ليث بحاضر سيدي، فقامت ورد تمسح دموعها بينما تقول: هذه الحقيقة يجب أن تطمس هنا بيننا. نظروا إليها بجهل، فأكملت تفسر: ¤أتعلمون ماذا سيحدث إن علمت أمي وسهى ومحمود؟... سيدمر زواج سهى وهذه المرة لن نستطيع إصلاحه مهما فعلنا ....وسيضيع طفل لا ذنب له ...سنعود لنقطة الصفر ونسمح له حتى بعد موته بأن يدمر طفولة إنسان آخر. صاحت بحزم مجنون تلوح بسبابتها: ¤لن أسمح له. ...أبدًا لن أسمح له! ضمها والدها فدست وجهها تنتحب بصدره: ¤اهدئي اهدئي! أحضر لها ليث كوب ماء وشربها إياه، فحاولت تمالك نفسها ورمت والدها بنظرة استجداء استجاب لها بتفهم: ¤ حسنًا ابنتي أنتِ محقة ....سيكون تحقيقًا سريًا ونطالب أيضا بجلسة سرية حين نقبض على الخائن. ضمت نفسها إليه بقوة وطلبت من العم سعيد أن يسر الخبر هو الآخر فوافقها، عادا إلى البيت بعد منتصف الليل بقليل وتحدث ليث يمسد على شعرها بينما هي مستلقية على صدره: ¤هل تعلمين أنني لم أفكر بسهى وحمزة ودمار زواجهما إن خرجت الحقيقة إلى النور؟ همست بخفوت حزين: ¤ لا فائدة من إظهارها الآن، المعنيان ميتان والحي أبقى من الميت. هز رأسه مؤكدًا فاستدركت بوجوم: كفانا أحزانًا وهمومًا ليجد أطفالنا وسطًا جميلًا ينمون به بشكل طبيعي. ابتسم ليث، يؤكد على قولها: ¤ أنا أتحرق شوقًا لأنجب منكِ أنتِ ...أريد فتاة نسخة عنكِ. ابتسمت بحب ورفعت رأسها إليه تناديه: ليث! أجابها بهمهمة، فأكملت ببهجة يشوبها بعض الحزن: ¤ أنا حامل. لوهلة لم يستوعب لكنه ما لبث أن أصابه الإدراك، فانتفض عن مكانه بحركته المعهودة فأصبح يشرف عليها ضاحكًا يطالبها بتأكيد: أنتِ متأكدة؟ أومأت باسمة فعانقها يبثها الاحتواء والأمان بينما تبثه هي العاطفة والحنان يكملان بعضهما كقلبٍ واحد لا ينشطر. جالسا أمامه يخفي توتره الظاهر عليه، فقال ليث بنفاذ صبر: ¤ ياسين تحدث أو غادر لدي عمل! أجفل كأنه تائه بأفكاره وتحدث بتردد: ¤ أنا أريد أن أتأسف لك عن شيء يؤرقني ...خطأ أقسم أنني لم أقصده ومع ذلك فقد اقتصه الله لك مني. ضم ليث حاجبيه ريبة فأكمل و سرد عليه كل شيء وحين رفع عينيه إلى صديقه عندما أنهى حديثه توقع الأسوأ فدهش حين لمحه هادئًا، فأضاف: ¤ آسف صديقي، أقسم لا زيادة على ما أخبرتك به. ابتسم ليث بهدوء يقول: ¤ كنت سأغضب كثيرًا لو علمت من نفسي لكن الآن لا يحق لي الغضب، فكما قلت الله اقتص لي فماذا أريده بعد! هذا لا يعني أنني أشمت بك حاشا، ستر الله علينا جميعًا لكن فقط لتكون لك عبرة حتى لا يغرنك الشيطان فتتمادى. قام ياسين يزفر براحة واستأذن ليغادر فحدثه ليث بصدق رافقه بنظرة ذات معنى: ¤ياسين! أنا أثق بك وأنت أثبت بأن ثقتي بمحلها ...شقيقتي لا زالت صغيرة لكن حين تكبر قليلًا إن شاء الله لن آمن عليها مع أحد كما سآمن عليها معك ....طبعًا إن هي وافقت. ابتسم ياسين بامتنان وغادر يحمد ربه على نعمته. دخل العميد مسرعًا إلى مكتب ليث يقول ما إن لمحه: ¤لمَ استدعيتني وطلبت مني القدوم بسرعة؟ دعاه للجلوس، يجيبه: استجمعت كل المعلومات سيدي. فقال العميد: إذن .....تحدث! فتح الملف أمامه يخبره ¤ الفتاة اسمها *بنفسج أحمد فضل الله* نجلة أغنى أخ من إخوة و أبناء عمومة عائلة فضل الله.... عمرها عندما فقدت سبعة عشر يعني الآن بعمر الثانية والعشرين سنة ...كانت في رحلة مع والديها اللذان توفيا بالحادث ...*الضابط الممتاز ضرغام خيرت فضل الله* أنت تعرفه سيدي يكون ابن خالتها وابن عمها بنفس الوقت. نظر إليه العميد يرفع حاجبًا واحدًا، فقال ليث باسمًا: ¤ هم عائلة منغلقة يتزوجون بينهم يعني إلى آخر جيل الذين أظن بأنهم تمردوا فأنت أعلم بضرغام. ابتسم العميد يعقب: ¤ ذلك الفتى لقد اشتقت إليه، رغم تصرفاته الغريبة التي لا أفهمها بعض الأحيان ... طلبت منه عدة مرات أن يعود إلى بلده لكنه مصر بأن يبقى بالإنتربول لا أعلم لماذا؟ ..ممكن ليهرب من زواج الأهل هذا؟ ارتبك ليث، يجيبه بحذر: في الحقيقة سيدي لهذا استدعيتك. قطب جبينه يطالبه، بنفاذ صبر: تحدث ليث! رد عليه: في خضم تحرياتي ...اكتشفت بأن والدة ضرغام من ضحايا السفاح الأجنبي. انتفض العميد مصطفى من مكانه كأن حية لدغته، يصيح: ¤اسمها؟ أعطني اسمها؟ رد عليه ليث: ¤*ليلى س... قاطعه العميد مكملًا بإدراك: ¤ سليمان فضل الله* ....أنا أذكرها كما أحفظ كل أسامي الأخريات. مال على مكتب ليث يحدثه وبصره على نقطة وهمية كأنه يحدث نفسه: ¤كيف لم ألاحظ تشابه النسب وهو ....لم يخبرني ...لماذا؟ نظر إليه بعينيه الغائمتين بسواد قاتم، يستفسر: ¤أتراه انضم إلى الإنتربول لنفس السبب؟ أمال ليث رأسه إلى الجانب يرد عليه: ¤ غدًا سيكون أمامك إن شاء الله اسأله بنفسك. ضم حاجبيه، قائلًا باستغراب: ¤ سيعود؟ ...كيف أقنعته؟ مط ليث شفتيه إلى الأمام وهز كتفيه بخفة بينما يجيبه: ما إن أخبرته عن الفتاة ...قال أنه قادم ويطلب الاجتماع بك. ألقى العميد ثقله على كرسيه، يقول بقلق: أنت لا تعلم يا ليث كيف يؤرقني هذا الأمر برمته ...منذ أعلنت أبوتي لورد وأنا أرى كوابيس، أخاف عليها جدًا. اسودت ملامح ليث يعقب: ¤ أنا متفق معك لكن من ناحية أخرى....بدلًا من أن نركض خلفه ها نحن ننتظره. أجابه العميد: ¤لا تنسَ ...دائمًا أكد عليها أن لا تفارق العقد بعنقها ...فهي كالنحلة لا تبقى بمكان واحد. هز ليث رأسه ثم ابتسم العميد كأنه لم يكن غاضبًا، يطمئن عليها: كيف هي؟ هل يتعبها الحمل؟ أجابه ساخرًا: بل هي من أتعبت الحمل ....أشعر بأن الجنين سيهرب منها لينام قليلا ويرتاح. ضحكا بمرح لحظي يهون عليهما ظلال الهم المحيطة بهما، فالعجب للدنيا تلقي بالإنسان إلى جحيم القلق في لحظة ثم ترفعه إلى سماء السعادة في لحظة ...إنها دنيا لا أمان لها! [لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين] تمت بحمد الله