دكتور محمود غرفة العمليات جاهزة. تحدثت الممرضة بعملية وانصرفت مغادرة غرفة استراحة الأطباء بعد أن سمعته، يجيبها ¤ شكراً آنسة. إلتفت إليه صديقه بقوله المازح ¤ألا ترتاح أبدا؟ على رسلك يا صديقي ....العمليات والفحوصات لا تنتهي. لم يجبه محمود يريح رأسه على مسند الأريكة مغمض العينين، مبتسما لمرآى من تشغل باله بخياله، فتدخل صوت نسائي بنبرة دلال واضحة هوت بقلب الأول بينما الثاني المقصود بدلالها تائه في رموش منسدلة على وجنتين محمرتين يطغيان على صحوه ومنامه ¤ أين اختفيت بالأمس؟ لمَ لم تحضر حلقة المراجعة؟ حتى أنني اتصلت بك طوال اليوم ولم تجب.. لم يكلف نفسه برفع رأسه وظل على حاله بينما يجيبها ¤ كنت أقوم بعمل تطوعي ولم أجد الوقت لأجيب على الهاتف. تكلم بسام بسخرية يقصد بها نسرين من محاولاتها التي لا تلقى لها صدى من طرف صديقه الذي بدأ يتغير بالأيام الأخيرة ويراهن نفسه بأن اختفائه في يوم المراجعة له دخل ببسمته البلهاء المتعلقة بثغره ¤لماذا لم تخبرنا به لنساعدك و نكسب أجرا نحن الآخرين؟ هتفت نسرين بلهفة تخص بها كل ما يتعلق بمحمود ¤ أجل محمود، أين هذا العمل التطوعي و سنساعدك؟ تغضنت ملامح بسام التي لم ينتبه لها محمود لأنه وببساطة لم يفتح عينيه بعد، يتمتم بشجن معها تنهيدة حارة استغربها صديقه بينما الأخرى ارتابت منها ¤ دااااار الأمل. هم بسام بالتحدث، فتوقف على إثر صوت هاتف محمود الذي و أخيرا فتح عينيه و رفع رأسه، استل الهاتف من جيب وزرة الأطباء البيضاء خاصته وحط بعويناته على عينيه يطالع الشاشة الصغيرة ثم فتح الخط، يجيب ¤ السلام عليك عمي. رد عليه ¤وعليكم السلام بني ..كيف حالك؟ انتصب في جلسته، مجيبا ¤بخير عمي ....بأفضل حال و الحمد لله . ¤الحمد لله بني، هناك أمر يجب أن تعلمه، عائلة الجندي طلبوا مني موعدا للتقدم لخطبة ورد لابنهم الضابط الممتاز ليث، استشرتها وبعد تفكير وافقت والحقيقة أنا موافق عليه أيضا، فهو رجل جيد لكن طبعا رأيك أيضا مهم فما قولك؟ ملأت تقاسيم وجهه الاحترام و التقدير لرجل تحمل مسؤوليتهم منذ وفاة والدهم و اعتبرهم أولاده تماما كورد التي لا يعلم أنه يعرف بأنها ابنته، فما لا يعلمونه، أنه كان حاضرا في البيت يوم أخبروها وسمع كل شيء، تأثر كثيرا لظروفه القاسية، حرمته من عائلته وكم احترم رباطة جأشه وقوة تحمله. ¤ أنا أثق بك عمي، إن كنت تراه مناسبا، فأنا أوافقك الرأي، تصرف كما تراه مناسبا وأنا معك إن شاء الله. عقب بنبرة حنان أبوي ¤على بركة الله، سأخبرهم ليحضروا بعد غد بإذن الله، هل هو مناسب لك؟ أجابه بسرور أثارت فضول الفتاة أمام نظرات الشاب الساخرة ¤طبعا عمي إن شاء الله. ودع العميد وأعاد الهاتف إلى جيب الوزرة والبسمة تملأ محياه، فلم تصبر الفتاة تسأله بفضول حارق ¤ يجب أن تخبرنا عن سبب هذه الإبتسامة الخلابة. وعى لنفسه، فاستقام يغادر الغرفة متشدقا بسماجة متعمدة ¤ إنها مسألة عائلية، عن إذنكما لدي عملية جراحية ....أراكما لاحقا. تركها تتميز غيظا بينما الآخر يبتسم بسرور يشوبه بعض الحنق و ....الغيرة. **** دخلت غرفتها وما إن أغلقت الباب هرولت لسريرها ترتمي فوقه، سحبت وسادتها تكتم بها شهقات بكاء تنبع من حرقة خزي قلب مهان وكبرياء مفقود في بيت تربت فيه و لم تشعر يوما بالانتماء إليه، فألقت السمع و الإصغاء لكلمات خالتها اليومية حتى صدقتها و تمنتها عسى بتحقيقها تشعر أخيرا بانتمائها المفقود لكن وا حسرتاه على حلم بخلت به الحياة عليها كما أحلام أخرى! أجفلت على طرقات خفيفة تعلم صاحبتها جيدا، فمسحت دموعها وأخذت نفسا عميقا لعله يخفف من شحوب وجهها واتجهت نحو الباب تفتحه حيث أطلت عليها إبتسامة إسراء البريئة يشوبها بعض الحزن، فتكدر صفاء زرقة عينيها الشبيهتين بعيني شقيقها، تحدثت إسراء وهي تدخل إلى غرفة بيان والأخرى مستسلمة، مغلقة الباب وراءها ¤كيف أنت بيان؟ ...لقد علمت بالأمر للتو ...أنا آسفة. جلست على سرير بيان مع أخر جملة وتقدمت إليها الأخيرة على وجهها نظرة حزن ممزوجة بسخرية بينما تجيبها ¤ على ماذا تأسفين إسراء؟ أنا وليث لم نكن يوماً لبعضنا والجميع يعلم إلا خالتي التي فهمت ذلك أخيرا. التفتت نحو النافذة تولي ابنة خالتها ظهرها تخفي دمعتان خانتاها وتسللتا من أسر عينها، تستطرد بصوت تهدجت نبرته رغما عنها ¤ لطالما كان ليث أخي، لم يوحي لي ولا للحظة بشيء أخر لكن كنت مرغمة على مجاراة خالتي وتحقيق أمنيتها، فهي والدتي التي لم أعرف لي أما غيرها. أومأت إسراء بتفهم مشفقة، تكمل عنها ¤ أنت محقة، أمي أخطأت بحقك ولقد أخبرها سائر أفراد العائلة بذلك ولا حياة لمن تنادي، أتمنى فقط أن تكون الفتاة هذه المرة جيدة، فتلك السابقة شوهت سمعتنا وجرحت أخي جرحا بالغا. التفتت إليها بيان وقد تمكنت من تمالك نفسها، ترد عليها ¤ المرء يخطئ مرة واحدة، فيتعلم وليث تعلم درسه جيدا وسيكون اختياره هذه المرة حكيما. قامت إسراء ووقفت قبالة بيان بينما تخاطبها بما لاحظته ¤ أظنك محقة، فالفتاة حازت على رضا جدي وجدتي وأبي على حد سواء ...المهم حبيبتي أنك لا تشعرين بالحب ناحية أخي، أرحت بالي. ضمت شفتاها بعبوس حزين، تستطرد ¤ فالحب من طرف واحد مؤلم جدا. رمقتها بيان بريبة تستوضح ¤ماذا تقصدين؟ رفرفت بجفنيها تقول بمرح تصنعته بينما تبتعد نحو باب الغرفة، تفتحه لتخرج ¤هكذا يقولون في الروايات والمسلسلات. ظلت بيان تنظر إلى أثرها، تهمس لنفسها بوجوم ¤ الحب ليس مشكلتي أبدا لكن كيف تفهمينني وأنت لديك كل شيء؟...كل شيء! *** فتح عيناه وابتسامة تزين ثغره لوعد قطعه لقلبه وسيفي به اليوم، ترك سمير سريره بنشاط وانتعش ثم ارتدى ملابسه بحيوية كان يفتقدها في حياته، تلك الشرسة فعلا شمس متوهجة أشرقت بحياته، همس لسان حاله و هو يتجه إلى غرفة الطعام حيث سبقته شقيقته أسماء، قبّل رأسها وجلس بجانبها وبدأ بالتقاط طعام فطوره، شعر بتشنج أسماء، فالتفت إليها بفضول يسألها بحير ¤ أنت بخير أختي؟ كأنها أجفلت من سؤاله، فتوترت وتلعثمت الكلمات بلسانها ¤ مم... ااه... الدكتور... مم. قطب سمير يفكر قليلا قبل أن يقوم هاتفا بينما يبتعد خارجا ¤لقد تحدثنا مرارا أسماء، سوف تكملين علاجك، لقد وعدتني. نكست رأسها باستسلام، تتمتم بخفوت ¤ كنت سأذكرك بالموعد فقط. انطلق إلى الدار و قد تعكر مزاجه، لا يريد أن يقسو على شقيقته لكن لمصلحتها يجب أن يكون حازما معها، ركن السيارة أمام الدار ولم تفته تلك الأخرى المركونة أمامه، الحمراء مثل صاحبتها. ابتسم بشغف غريب عليه ودخل عبر الحديقة ليهوي قلبه بين رجليه وهو يلمح تلك الشعلة النارية، شمس حياته المتوهجة تبكي بحضن غير حضنه ...ما الذي أصابه؟ إنه يريدها بشراستها، بكبريائها والآن بانهيارها، يريدها أن تنهار بين يديه داخل أضلعه ...وهو يغار.. يغار من تلك الصغيرة التي تطوقها بيديها الصغيرتين ..لم يتحمل، فصاح بأول شيء تعلق بطرف لسانه ¤ أتركي الصغيرة يا فتاة! لقد هشمت أضلعها. تركت الصغيرة مرة واحدة والتفتت بحدة اهتزت لها خصلات شعرها الذهبية و بوجهها المحمر من البكاء ألهبت قلبه ولم يستطع تمالك نفسه، فخطت إليها قدميه وأخذتها يديه بين ضلوعه كما تمنى وحلم منذ برهة وكأنما جسمه وأطرافه خرجت عن طوعه وذهبت لمالكها الحقيقي، مغمض العينين يشم عبيرها يتعرف عليه ليسجنه في كل خلية من خلايا دماغه، يتحسس بوجنتيه خصلاتها الذهبية ولم يوقظه من وهم التخيل ذاك سوى برودة النسمات تهب عليه لتصفع إدراكه بشعور الوحشة و إحساس آخر يبغضه ...الوحدة... تفاجأ من خياله الخصب فقد ظن لوهلة بأنه يضمها حقا لولا وعيه الآن يحدق بها على بعد مسافة قليلة حيث تخشبت هي الأخرى تخشى أن يكون حضوره حلما سيختفي فيذرها وحيدة وسط الحديقة كأيامها الأخيرة، نست تحفظاتها و كل ما كانت تعد من عقبات هكذا تجردت من كبريائها وتكبرها، تخطو نحوه وكأنها ستحقق له حلمه الذي وللحظة ظنه حقا حقيقة والصغيرة واقفة مكانها مفغرة فمها وعينيها الزرقاوين مفتوحتين على وسعهما تترقب، تنبهت أخيرا على نفسها قبل آخر خطوة تفصلها عنه، فمهما حدث هي شاهيناز مجران التي لا تفقد السيطرة أبدا وكانت تلك سابقة أن ركضت نحوه تبدي لهفتها على أحد، كلاهما يتناظران بشرود يلملمان نفسيهما بتمهل، فهما الإثنان يجربان ذلك الإحساس الجارف لأول مرة، والذي بعثر أحاسيسهما كليا. على بعد أمتار منهما وتحديدا جانب الباب الخارجي، ثعلب متربص يبتسم إبتسامة متخم ظفر بفريسته، بين يديه آلة تصوير سلطها عليهما يلتقط الصور ببراعة ووضوح ثم غادر بسرور. أطرقت برأسها إلى أن استجمعت قوتها ورفعت إليه عينين تشتعلان بينما هو ثابت مكانه لا يحرك ساكنا، ينتظر ردة فعلها التي يتوقعها جيدا ¤ أين كنت مختفيا كل هذه المدة؟ ابتسم بتهكم يضيق عينيه بكسل ثم دس يديه بجيبي سرواله يتشدق بقوله ¤ إشتقت إليك أيضا ...يا شرسة! ارتبكت تقطعهما ضحكة مرحة بريئة، فالتفتا إلى الفتاة الصغيرة تضع يدها على فمها تضحك بمرح حقيقي مما جعلهما يبتسمان من قلبيهما، فتهتف الطفلة بأمل تألق بعينيها الجميلتين بلون سماء صافية بينما تشير بسبابتها إلى شاهي ثم الى سمير ¤أنت ماما و أنت بابا كما في صورة الكتاب المدرسي. ثم أشارت إلى عينيها تكمل ببراءة وصدق ¤ ألا ترين؟ عيناي زرقاوان مثل عينيك. تناظرا بتوتر خوفا من تحطيم الأمل بعيني تلك الصغيرة التي ترمقهما كأنها وجدت كنزا ثمينا. رفعت أمل يدها تشير لهما ليتقاربا بهدف في بالها ¤ هيا قفا بجانب بعضكما سأغني لكما النشيد، فأنا أحفظه جيدا وسأخبر المعلمة أنني حصلت على بابا و ماما خاصتي هيا! ابتلعا ريقهما بصعوبة وتجمدت ملامحهما، فما تريده هذه الفتاة يسبب لهما جزعا ورعبا وكأن مشاكلهما لا تكفي ليتسببا بخيبة أمل كبيرة ينجم عنها إنسانا معقدا آخر تماما مثلهما. تسمرا يتفرجان عليها بملامح أقرب للجزع منه للجمود والصغيرة تغني بنشوة سعادة لم تشعر بها من قبل وهي ترى حلما بريئا لطالما راودها بمنامها يتحقق أمامها ¤أرسم بابا...أرسم ماما بالألوان ...بالألوان ...أرسم علمي فوق القمم ...أنا فنان ..أنا فنان ...هييييه تصفق بيديها بحرارة والجامدان أمامها يرفعان أيديهما بآلية ليصفقا وكل واحد منهما بواد عميق من فوضى الأفكار . **** خرج زيد من عنبره متوجها إلى الباحة، ليست بكبيرة لكن الأسوار المحيطة مرتفعة وعلى كل زاوية حارسين مسلحين. هناك من يتمشى يحرك قدميه ومن يقوم بتمارين رياضية أو يلعب كرة قدم ومن هو جالس يتسامر مع زملائه بالأوراق أو مختلف الألعاب، كل يقتل الوقت بطريقته آملا أن تمر فترة عقوبته بسرعة ليتخلص من قضبان الحديد المكممة لأنفاسه قبل حريته. يسير بخطوات عصبية مقطبا بغضب لم يكن في حاجة لمجهود كبير كي يتصنعه، فمحياه يوحي بشر سينفجر بوجه من يقترب منه، وقف وسط الساحة يدس يده داخل جيب سترة زيه الموحد، استل علبة سجائر ونقرها بظهر يده نقرات ثلاث خفيفة حتى ظهرت واحدة بما يكفي ليسحبها بشفتيه، أعاد العلبة مكانها ليرفع يده بولاعة من نفس المكان إلى السيجارة رهينة شفتيه، أشعلها ومج نفسا حارقا ملأ به رئتيه ثم أمسكها برأس سبابته وإبهامه في حركة مألوفة تعلمها بسنوات مراهقته من الصحبة السيئة ليقلع عنها مذ وجده سمير يدخن يوما خلف السور المحيط بالدار، عنفه يومها ولقنه محاضرة طويلة عريضة عن مساوئه والأمراض الناتجة عنه ليكتمل الأمر بإخباره لورد التي كعادتها شرحت له بلين أنه يقتل نفسه بيده وهذا حرام كالانتحار تماما وأخذت منه وعدا أن لا يعود إلى التدخين فوعدها و وفى بوعده لكن الآن هو مضطر لأن يتقمص شخصية مجرم ليندمج بينهم. لمح ضالته بمكان منزوي، ثلاث رجال ضخام كما رآهم في الصور، إثنين منهم جالسين على الأرض يرخيان أرجلهما المصابة والثالث مقرفص أمامهما يتناقشون شيئا يبدو مهما، نظرا لملامحهم الجادة و أيديهم التي يلوحون بها كل حين. فكر كيف يلفت انتباههم فلمح شابا يمر من أمامه عرفه رأسا، ذلك المروج لسائر البضائع التي قد يحتاجها السجناء، لا أحد يعلم كيف يدخل تلك البضائع إلى السجن؟ اقترب منه ليقابله، ينظر إليه بتمعن إرتاب له الآخر وأمال رأسه ثم أخذ نفسا من سيجارته الموشكة على الانتهاء قبل أن يقول بتمهل متعمدا استفزازه ¤ يقولون بأنك تؤمن كل ما يحتاجه المرء هنا ....هل هذا صحيح؟ رد عليه الشاب النحيف متشدقا بفخر ¤ بالتأكيد، ادفع واطلب وسترى بنفسك! رمى الشاب بنظرة استخفاف من أعلى رأسه إلى أسفل قدميه ليستفز غروره أكثر ثم قال ¤ كم ثمن مكالمة هاتفية مجهولة الهوية؟ مط الشاب شفتاه دلالة على الاستهانة بطلبه، يعقب ¤ هذا فحسب؟أيسر ما عندي، أعطيني (..... )ويكون لديك الهاتف في التو واللحظة. ضيق زيد عيناه بتشكك مزعوم ومج آخر نفس من السيجارة قبل أن يرميها أسفل رجليه، يدعسها بإحداها بغل واضح ثم رفع تلك الرجل، فتململ الآخر بمكانه خشية منه يراقبه بينما يستل مالا من جوربه فابتسم بمكر اختفى حين اقترب منه زيد وملامح وجهه لا تنذر بخير ليمد له يده بالمال. تلفت الشاب يُمنة ويُسره ثم خطف المال من يده المبسوطة وأخرج هاتفا صغيرا يخفيه واقترب من زيد أكثر ليرميه داخل جيب سترته هامسا له بحذر ¤لا تدع أحدا يراك به، فالعقاب حبس انفرادي ليومين ....وأنا لا أعرفك ولا أنت تعرفني وعندما تنتهي تعيده بنفس الطريقة، سأكون في غرفة الغسيل. ثم انصرف بخفة إلى وجهته، أما زيد فاقترب من هدفه متصنعا التسحب خفية وهم يراقبونه بحذر. وقف بمكان قريب منهم حيث يستطيعون سمعه، تكوم على نفسه ورفع الهاتف خُفية ليظهر كأنه يطبع رقما بينما هو يضعه على الصامت ثم رفعه إلى أذنه ليبدأ الحوار الوهمي ¤ ورد الخطاب! هل تعتقدين بأنك تخلصت مني! أنت مخطئة لقد رميتني ونسيت أمري، لأتعفن في السجن! صمت قليلا كأنه يسمع ثم هتف بغضب ¤ سأنتقم منك ومن عائلتك وحتى ذاك الشرطي الذي تحتمين بظهره وسوف ترين! ثم أقفل الهاتف يدسه بجيب سترته وانسحب كأنه لم يرهم و هو يهمس لنفسه ¤رميت الصنارة و سأنتظر سمكتي وأرجو أن لا تتأخر. *** مال أحد الجالسين على الأرض باتجاههما، يهمس بحذر ¤ هل سمعتما الإسم؟ أومآ بتأكيد مقطبان، يهتف أحدهما ¤ و ما شأننا؟ نحن ننفذ ما يطلبونه منا والآن المطلوب منا هو إغلاق أفواهنا و هذا ما سنفعله مادامت رواتبنا تصل ذوينا و مضاعفة أيضا . ضيق الأول عيناه بمكر، يفسر ¤ ألم تر ابن الرئيس كيف أكد علينا عدم إيذائها أو لمسها، إنه مهووس بها يا رجل ليتصرف بذلك التهور من وراء ظهر والده استحوذ على انتباههما يضاعف من نبرة مكره ليوافقوه على ما يريده، فالطمع دائما ما يلغي ذكاء الإنسان وفطنته فيلقيه جشعه إلى الهاوية ¤ تصور كم سيعطينا إن حصلنا على معلومات على حبيبة القلب ..ثم إنها فرصة لننتقم منها أم نسيتما كيف جعلت منا أضحوكة وسط زملائنا و ها نحن نتجرع نتائج فعلتها. قال جملته الأخيرة مشيرا إلى رجله و رجل صاحبه، يتيقن من تحقيق هدفه حين رد أحدهما. ¤كيف سنصل إلى مبتغانا؟ ذلك الشاب لا يبدو هينا، إنه غاضب طوال الوقت. ابتسم بظفر، يقول متشدقا ¤ أتركا علي الأمر سأتقرب منه لأستدرجه في الكلام و بعدها نتصرف. أجمعوا على مكرهم وكل يكيد للآخر والله فوقهم خير المكيدين، ولن يوفق إلا من يبتغي طريق الخير والصلاح، إنها سنته جل جلاله بين عباده. لا يزالان جامدين مكانيهما والصغيرة أمل تضحك بحبور ونصر غافلة عن الزوبعة التي أثارتها بأحشائهما، أول من سيطر على نفسه كان سمير الذي اقترب من أمل وربت على رأسها، يطلب منها بهدوء مناقض للصخب برأسه ¤ صغيرتي! ! هل تسمحين لنا بالخروج قليلا إلى خارج الدار لنقضي حاجات ضرورية؟ .... أعدك أن أحضر لك دمية جديدة بعينين زرقاوين مثلك تماما. صفقت الصغير بسعادة ما بعدها سعادة، فالبابا خاصتها سيجلب لها لعبة، تهتف بينما تبتعد ¤ هييييي! ...دمية جديدة. .. سأذهب لأخبر الفتيات بأنني وجدت بابا وماما وغنيت لهما النشيد وسيحضران لي دمية جديدة ...عودا بسرعة سأنتظركما. إلتفت إلى شاهي يتمعن بملامحها المتجمدة حتى أصبحت كتمثال إغريق ملون ورفع يده أمام وجهها يطرطق بإصبعيه لتنتبه إليه، فرمشت ونظرت إليه تهمس بهلع ¤ يا إلهي! سمير ماذا سنفعل؟ وأكملت كمن يهلوس بعينين زائغتين ¤ لن أتحمل ذنب تدمير حياتها..ستكرهنا وتكره نفسها يا إلهي! إنها فقط طفلة صغيرة رقيقة وجميلة..ألا يكفيها يتمها لتفقد حلمها من جديد؟ أنت لن تفهم. كان رافعا حاجبه الأيمن بينما يراقب هلوستها ليلحق به الأيسر مع آخر جملتها، يشير لها أمام عينيها متهكما ¤ هيييييه! صباح الخير، أنا تربيت في هذه الدار إن كنتِ نسيت، وأكثر من يعلم عن اليتم والفقد ..لن تتخيلي ما عشته مهما حاولتِ ...لذلك تمالكي نفسك ورافقيني إلى مكان ما لنجلس و نتحدث، فهناك ما أنتظره منك على فكرة. جعدت سائر قسمات وجهها تفكر بمقصده ليلمع الإدراك بعقلها، فرفعت رأسها بأنفة و كتفت ذراعيها تهتف بصلف ¤ أعلم ..سأعتذر لكن بشرط. ضحكة استهزاء صدرت منه وهو يشير لها نحو خارج الدار، يجيبها ¤ بشرط؟ اعتذار بشرط؟...ماذا تفعلين هنا لا أعلم؟ ..نهايتي على يديك يا....سنبلة! *** واقفة أمام نافذة مكتبها المطلة على الحديقة، تنظر بحسرة إلى المشهد العاطفي بين شاهي و سمير، الآن تفهمت نظرات شاهي المريبة وبحثها الغامض المستمر، إنه هو، الحب ...آآآه! تنهدت بخفوت تهمس لنفسها ¤ شاهي المتصنعة للعجرفة وسمير الغامض يا لها من خلطة غريبة! يبدو أن الحب يقرب بين النقيضين و يلغي العقبات، لماذا لا يفعل معي المثل إذن؟..الجواب سهل، لأنه لا يعرف حقيقتك بعد، لذا لا تقرري أنه يحبك ...كيف بالله عليك، الدكتور محمود خطاب صاحب النسب والحسب أن يحب لقيي!....آآآه! إن كنت لا أستطيع لفظها وتقبلها فكيف سيتقبلها هو؟ يا ربي ارحمني لا يد لي في ذلك ولو خيرتني الأقدار لكنت طلبت نسبا ولو من رجل فقير ..أستغفر الله.. ماذا بك فاطمة؟ هل ستكفرين بقضاء الله؟ كل ما يفعله لحكمة فلا تفقدي إيمانك به اللهم لا اعتراض! ...اللهم لا اعتراض! ¤ السلام عليكم آنسة فاطمة. أجفلت من دخول كريم عليها، فانتفضت فزعة وطفق يعتذر إليها ¤ آسف آنسة ...لكني طرقت مرتين ولم تجيبي فتوقعتك شاردة. تمالكت نفسها وابتسمت بتوتر، تجيبه بنبرتها الهادئة بينما تخطو باتجاه مكتبها ¤ لا بأس ...هل أساعدك بشيء؟ رمقها بهيام لم يخفيه منذ أن تجاوزا حقبة الطفولة ليقتحما مرحلة المراهقة حتى تطور ذلك الشعور إلى رغبة بالزواج منها عندما أصبح رجلا مسؤولا ويستطيع إعالة بيت على حد قوله لكنها دائما ترده بحجة عدم استعدادها للزواج بعد مع أنها متيقنة من كونه المناسب لها، فهو أيضا مجهول النسب ولن يأتي يوما ويعايرها بمصابهما لكن ماذا تفعل بقلبها؟ فهي لا تطيق حتى فكرة لمسه لها، لا سلطان لها على قلبها. ¤ قدمت لأخبرك بعلب دواء أرسلها الدكتور محمود، إنه حقا رجل يقدر الإنسانية. احمر وجهها ينطق بما لم تستطع الاعتراف به، فنكست رأسها لكي لا تنكشف أمامه، فيعاود الضغط عليها من أجل رغبته، تتمتم بخفوت بينما تترك المكتب ¤بلى...نعم الرجل هو ...هيا سندخلها و أدون حمولتها! تقدمها يتساءل متى ستحن عليه بموافقة ليجمعهما سقف بيت واحد. **** دخل غرفة الغسيل واقترب من الشاب ليلقي بالهاتف داخل جيبه بخفة، فيهمس له الأخير ¤ سعدت بالتعامل معك ..إن أردت شيئا آخر، ادفع واطلب! إلتفت إليه زيد بوجه أحمر مرعب ليرفع الشاب يديه استسلاما يبتعد عنه بصمت. انتصب أمام طاولة عليها أكوام شراشف بيضاء ومد يده يلتقط واحدا يقوم بطييه، واستمر على ذات الحال لمدة لم يحسبها، فلم يهتم حتى سمع نبرة رجولية خافتة قريبة منه ¤ مرحبا يا صاح أنا فيصل! لوى عنقه باتجاهه لبرهة يرميه بنظرة من فوق إلى أسفل ثم عاد إلى عمله كأنه لم يسمع شيئا، لا يعلم لماذا فعل ذلك؟ فهو متحمس و ينتظر أحدهم ليقترب منه لكنه أكيد من أن فعلته في مكانها وسيستفز فضوله أكثر وهذا ما حصل ...فالرجل زاد من اقترابه واكتسى صوته بنبرة احترام، بينما يستطرد بحذر ¤ أتمنى التعرف عليك، فهدفنا وانتقامنا واحد ...فكما يقولون عدو عدوي صديقي. إحساس بالرضا والسرور غمر صدره بانشراح افتقده منذ سبب مشاكل لورد وشبح ابتسامة نصر تلوح على زاوية فمه بينما يقترب من تحقيق هدفه وأحلامه. تمهل يحسب كل خطوة ينوي تقدمها نحوهم، طوى الشرشف الأخير بعناية ووضعه فوق سابقيه ثم التفت إليه يسند جسده بالطاولة، يرفع يده يحك بها ذقنه النامية والأخرى يسند بها مرفق الأولى، يرميه بنظرة تقييم كأنه يفكر هل يحدثه أم ينسحب؟ كل هذا والآخر يرمقه بنظرات وجلة متصنعا الاحترام، ينتظر جوابه بقلة صبر متمثلة في تململه في وقفته حتى قرر زيد أخيرا النطق برده ¤ ومن هو هذا العدو ؟؟يا..... هتف الآخر مقتربا منه، رافعا إليه يده بسيجارة أمسكها زيد بإحباط أجاد إخفاءه ¤ فيصل ..أنا فيصل ...و العدو..... ورد الخطاب. أشعل له السيجارة و الآخر يكتم حقده بصعوبة شديدة لذكره إسمها، فارتعدت عضلة أسفل خده فهمها الآخر على أنها من حقده على ورد و كرهه لها فسعد بضربته أما زيد فمن حنقه قرر المغامرة بفعلٍ آخر يعلم جيدا نتيجته إما الثقة الكاملة أو الابتعاد. رمى السيجارة بإهمال يتصلب في وقفته متشدقا بجفاء وهو يتجاوزه ¤ لا أعرفها... ظل فيصل مكانه يشعر بغيظ من هذا البارد لينصرف هو الآخر متمتما ¤ سأكسب ثقتك ..ولنرى ما بجعبتك، فأنت كنز ثمين. *** أقنعها بأن تركب سيارته ففعلت على مضض بعد مناقشة مضنية وأخذها الى مقهى على البحر أعجبها وقلب مزاجها العكر لا تعلم منذ متى؟.. بلى تعلم! مذ قرر هذا الجلف أمامها الاختفاء، تأمل حسنها ولمعة عينيها حتى أصبحتا شبيهتين بهذه المعجزة الجبارة التي أبدع الله في خلقها وأسماها البحر ..انسحب لسانه من عقاله كما تفعل سائر أطرافه في حضرتها، يقول بصوت خرج أجشا رغما عنه ¤أنت جميلة كهذا البحر يا شاهي. ضمت شفتاها داخل فمها والتفتت إلى البحر محمرة على غير عادتها، فضحك سمير بمرح، لا يعلم كيف نطق تلك الكلمات؟ ¤ شاهي الشرسة تحمر حياء، إنها نهاية العالم أكيد. تغيرت ملامحها إلى حنق، تهتف بجفاء ¤ أين اختفيت فجأة؟ أراح رأسه على يده التي أسند مرفقها على سطح المائدة، يقول بمكر ¤ أخبريني بشرطك لأسمع اعتذارك المبجل. أضحت ملامحها جدية بينما ترد ¤ أخبرني عن أختك. ثم أشارت إليه بسبابتها تحذره ¤ لقد سمعت حديثك مع ورد، فلا تخفي عني شيئا. اعتدل بجلسته وتطلع إلى البحر، قائلا ¤لو كنتِ سمعتنا بالفعل لما تهجمت علي يومها ولا اتهمت أختي بالسرقة. هتفت بدفاع وهي تستشعر مدى جرحها له ¤ لكن اللجنة القانونية! إلتفت إليها بحدة يقاطعها باسطا راحتيه على سطح المائدة ¤ نعم أعلم ماذا قالت اللجنة! وهم محقون، أختي سرقت وأنا ساعدتها. قفز حاجبا شاهي مذهولة من عصبيته مع اعترافه بينما هو يكمل هجومه الغاضب ¤ لكنك لو صبرتِ قليلا لكنت سمعت ورد و هي تقول بأنني أعدت المسروقات، فليس كل قشرة لامعة دلالة على ثمرة ناضجة شاهي ....لكن أنت اتهمتني دون أن تفهمي، طبعا فأبناء الدار لا يمكن أن يكونوا شرفاء. رفعت شاهي يدها وبسطتها أمامه، تهتف ¤ لا لا صدقني أنا لا أفكر هكذا لكن عند مجيئي إلى الدار أخبروني بأن اللجنة تحققت وأثبتت حدوث سرقة ويجب طرد مرتكبتها التي هي أسماء ونفذت الأمر، ولم أكن أعرف من تكون من الأساس ..و عندما اكتشفت أنها شقيقتك فقدت عقلي.... لأن... قطعت كلامها تنظر إليه غير قادرة على المتابعة، فسألها مستفسرا بينما يعلم مقصدها وقلبه يدوي داخل صدره، فإذا صدق حدسه سيبتلى بسيف ذو حدين ¤ ماذا شاهي، لأن ماذا؟ ..أكملي! غيرت مجرى حديثها، تقول باستسلام ¤ المهم أنني اكتشفت خطئي، كان يجب علي الاستفسار منك لا أن أهجم عليك بتلك الطريقة ...أعتذر منك. ابتسم بإحباط، يرد ¤ لم أنفذ شرطك بعد و اعتذرت، ترى ما هو السبب؟ اصطنعت المرح تقول بينما تلوح بكفها ¤ هذا من كرم أخلاقي، فكن كريما أنت أيضا و أخبرني. ظل ينظر إليها لوهلة ثم أخذ نفسا عميقا، يجيبها بوجوم استغربته ¤ أتعلمين يا شاهي، لو كنت التقيت بك قبل سنتين تقريبا ما كنا جلسنا هذه الجلسة وما سمحت لك بالتدخل بحياتي حتى لو كنت أموت عشقا بك. ضمت يديها وأراحتهما على المائدة مقطبة من مقدمته الغير متوقعة، فأشار برأسه مؤكدا، يستطرد ¤ أنا الآن والحمد لله متصالح مع نفسي و سأحكي لك كل شيء وأبدأ بأنني أتعالج عند طبيب نفسي منذ سنتين. تفاجأت شاهي لكنها لم تقاطعه تريد معرفة كل شيء يخصه، فأكمل ¤.كنت أذهب إليه في البداية تقريبا كل يوم.. أجلس فقط وأبحلق به يتحدث، لم يلمني يوما على سكوتي فقط يتحدث وأنصت إليه حتى تنتهي الساعة وأخرج لأعود في اليوم الثاني ..كنت أعلم بأنني محتاج إليه.. لا أعلم ماذا أقول وكيف؟ لكن لم أتغيب يوما إلى أن سألني الطبيب إن كانت لي عائلة ....عندها انفكت عقدة لساني و أخبرته بنعم .....طلب مني إخباره عنهم، فأجبته بأنها شقيقة واحدة عمرها آنذاك سبع وثلاثون سنة، عازبة تعمل مسؤولة عن دار أيتام، سألني لم لم تتزوج؟ نظرت إليه ببلاهة لا أعلم بماذا أجيبه ..فابتسم و سألني ...هل أحرجتك؟ ..فأجبته بلا لكن لفتت انتباهي لشيء لم أفكر به من قبل، فلقد انشغلت بمشاكلي و نسيت أختي التي تركها لي والدي أمانة ..عاد ليسألني ما هو هذا الشيء؟ فأخبرته ببساطة عمر أختي يضيع هذا إن لم يضع وانتهى الأمر ...قال الطبيب إذن يجب عليك تدارك الأمر و ليس هناك فوات أوان مادام الإنسان حي يتنفس ولن تستطيع مساعدتها إن لم تساعد نفسك أولا ...وهكذا ابتدأت علاقة مختلفة بيني وبين طبيبي الذي أصبح صديقي وقررت المعالجة مهما كلفني الأمر، لأجل أختي التي كل مدى حالتها النفسية تتدهور ...والآن شفيتُ نسبيا فهناك أمور لاتزال تفرض نفسها علي لكن على الأقل ارتحت من هموم كالجبال كانت جاثمة على صدري. أخذ رشفة من العصير قبالته قبل أن يريح ثقل جسده على الكرسي بينما شاهي ثابتة على وضعها تنتظر منه التكملة ¤ أنا وشقيقتي عانينا من مصائب في حياتنا ...كنت أظن بأنني على علم بها كلها لكن قبل فترة بسيطة صرت متأكدا بأن أسماء رأت ما هو أبشع وتخفي ذلك إلى أن بدأ يصرخ ليخرج من خلال تصرفاتها الغير معهودة منها مثل سرقة الدار. غطت شاهي فمها المفتوح براحة كفها متفاجئة ومستغربة أما سمير فيسبح بملكوت آخر يحكي ماضيه الذي ليس ماضيا بالنسبة له، فلو كان كذلك ما تذكره بكل تفاصيله ¤توفي والدي وأنا في سن التاسعة وأختي في الرابعة عشر ...أتذكره جيدا رحمة الله عليه، كان دائما يوصيني بأختي كأنه يعلم بدنو أجله، كان يقول لي... وددت لو أنك الأكبر من شقيقتك لترعاها لكن لا ضير، الحمد لله على كل حال ..أنت رجل يا بني وستحميها، نقشت تلك الكلمات بذاكرتي وحاولت، أقسم بأنني حاولت حمايتها من كل العذاب الذي قابلناه بعد موت أبي لكني كنت صغيرا وكرهت ذلك لأقصى حد، فأمي تزوجت بعد ذلك بضغط من جدي رحمهما الله جميعا لكن الوغد لم يكن رجلا بل حيوانا تمسكن حتى تمكن وأصبحت أمي بعصمته، فبدأ يظهر على حقيقته ...كان دائم السكر والشجار مع أمي وعندما نتدخل يجهز علينا أيضا ومع توالي الأيام أصبحت أختي صامتة منطفئة تتلفت حولها بريبة دائمة وفكرت بأنها تخاف منه كما حالنا جميعا... وفي يوم عدت من المدرسة لأجد الشرطة و سيارة إسعاف أمام بنايتنا، رحت أعدو ودخلت لبيتنا تحت أنظار الجيران المشفقة ....فرأيتهم يحملون أمي على نقالة شاحبة لا حياة فيها ...لمحت أختي جالسة منكمشة على نفسها أمام شرطي يسألها، اقتربت منها وما إن رأتني حتى انقضت علي تضمني وتنتحب، سألتها ما الذي جرى؟ فالتفتت إلى الشرطي تسرد ما حصل ...قالت بأن والدتي انزلقت واصطدم رأسها بالطاولة الزجاجية... لا أعلم لمَ لم أصدقها لحظتها لكن وفاة أمي كانت الضربة القاضية لنا نحن الإثنين ...تبعها جدي بعدها بيومين من صدمته ..أما هو فأصبح ينظر إلينا بنظرات ارتبت لها ..لم نكمل ثلاث أيام، فاستيقظت من نومي على صراخ أسماء، انتفضت من مكاني أجري باتجاه صوتها، فوجدت الحقير يضربها ويأمرها بالسكوت وعندما رآني لا أعلم لم أجفل ثم سحبني و شقيقتي يلقى بنا إلى الشارع ...هممت بالرجوع إلى الباب لأطرقه فذلك البيت، بيت أبي وهو من يجب عليه الرحيل لكن أسماء أمسكت بي ترجوني و توسلت تقبل يدي لكي لا نعود ...نظرت إليها أسألها بقلة حيلة أين سنذهب؟ إلتفتت تنظر إلى الجيران المتجمعين حولنا ..فتقدمت جارة لنا و طلبت منا المبيت عندها لكن أسماء نظرت باتجاه زوجها نظرة لن أنسها ولم أفهمها يومها ثم رفضت وأمسكت يدها أطلب منها أن توافق ليلة واحدة فقط حتى وافقت على مضض ...لازلت أذكر تلك الليلة كانت أسماء تقبض علي بحضنها كأنني سأهرب منها ...في صباح اليوم التالي أحدث الوغد فضيحة لجارتنا التي آوتنا فطردنا زوجها ...لم نعلم أين نذهب؟ لا مال لا ثياب فقط نمشي في الشارع دون وجهة حتى حل الليل نتضور جوعا وتعبا وللعجب أختي أسماء لم تبكي ...بكيت أنا الصبي وهي كأن لا دموع لها لتبكيها بعد. تقسم شاهي بأنها لمحت دموعا متحجرة بمقلتيه اللتين أضحيتا قاتمتين، عضلات وجهه تهتز كأنها ستنفجر، فمدت يدها تربت على خاصته فوق المائدة فأجفل و كأنه نسيها، نظر الى يدها التي سحبتها بسرعة، فلانت قسماته قليلا يستدرك ¤ قضينا ليلتنا بحديقة عامة ولم نستطع النوم حتى مع تعبنا ...وقف علينا شرطي ينظر إلينا بريبة وسألنا ماذا نفعل ليلا بحديقة عامة؟ ....أسماء كانت صامتة رمقه بتحفز قابضة على يدي بقوة وتشجعت أخبره بأن لا عائلة لنا، ماتت والدتنا وطردنا زوجها من محل سكننا ..أشفق الشرطي علينا فدلنا على دار قريبة من هناك.... رافقناه بالرغم من اعتراض أختي، فلا حيلة لنا ولا حول ولا قوة. سكت قليلا كأنه يهدئ من أعصابه التي تهدد بالانفلات، فتدخلت شاهي تسأله، بصوت متأثر وقد سالت دموعها رغما عنها ¤ ماذا حدث بعدها؟ نظر إليها ونفسه تائقة لضمها، فقط ضمها ليشعر بالأنس والسكون كما يشعر حين تمنحه نظرات خاصة به وحده فقط، يقول بضيق ¤ فعلا استقبلونا في الدار وكان وضعها في تلك الأيام مزرية ..تسيب وفساد كنت حينها بالحادي عشر وأسماء في السادس عشر ..لا أفارقها أبدا وكنت أعاقب على ذلك لكوني أترك عنبر الأولاد الذكور لأذهب إليها وأطمئن وحتى بعض الأحيان أنام بجوارها لكن لم يهمني أبدا عقابهم... اعتدنا على الظلم والجوع والحرمان أما شقيقتي فأصبحت أخرى قاسية مع نظرة انكسار دائمة وشمت بها مقلتاها ...وبسبب ذلك الحرمان اشتد عودي باكرا فأصبحت بالسن الخامس عشر يخشاني قاطني الدار حتى بعض المشرفين الذين لا أظن بأن الله سيسامحهم على ما كانوا يفعلونه بالأيتام. تنهد سمير بتعب، فسرْد الهموم يثقل الكاهل وكأنه يعيشها من جديد، يهمس بوجوم ¤يوم القيامة طويل والحساب سيكون فيه عسير لأولئك الذين استحلوا الحرام و أكلوا مال اليتيم دون أن نتحدث عن ضربهم من غير وجه حق في كثير من الأحيان وسجنهم كعقاب على أتفه الأسباب ...لم أستطع مساعدتهم، كل ما ركزت عليه هما شقيقتي ودراستي، لأنني علمت يقينا بأنها طريقي للخروج من هناك، مرت الأيام بمرها وحلوها إلى أن بلغت سن الواحد والعشرون كنت حينها على وشك التخرج من الجامعة أما شقيقتي فنفسيتها كانت قد تدمرت ولم تستطع الإكمال بعد الثانوية، بدأت أساعد على قدر ما أستطيعه وكان هناك مسؤولين لم أقدر على محاربتهم لعلاقاتهم وأنا كنت بحاجة لبعض الوقت حتى أتمم جامعتي وأجد عملا مناسبا. و أخيرا ابتسم بسخرية يضيف ¤ و جاءت القديسة. قطبت شاهي جبينها ولمعت مقلتاها ببريق الشراسة بينما تكتف ذراعيها مجددا فتنبسط شفتيه ببسمة ممتعة بينما يسترسل ¤ اقتحمت الدار كشعلة صغيرة فلتت من كومة نار متأججة، بدأت يومها الأول بمشاجرة كبيرة مع أحد المشرفين عاقب فتاة ما وضربها ..فاجتمع أهل الدار كلهم و هددته بأن تنتقم منه ليس فقط بالطرد و إنما بالسجن، استغربت حينها فمظهرها محافظ لا تشبه المنمقات بشيء. انتفضت شاهي بغضب وكأنه أهانها، فضم شفتيه تذمرا يستطرد ¤ أقصد لا يظهر عليها بأنها من ذوي النفوذ والمال لأسمع من صديق لي يهمس لأذني بأنها ورد الخطاب، إبنة النقيب علي الخطاب، نائب وزير الداخلية، تفاجأت وأخذتني خطواتي إلى قربها ووقفت أنظر بعينيها لأرى ما المميز بها، فهي مجرد مراهقة في عامها الخامس عشر، دققت قليلا فلمحت مالم يلمحه أحد من المجتمعين حولها، نفس نظرة الانكسار بعيني شقيقتي، في تلك اللحظة تحديدا شعرت لا أدري لماذا! بأن شقيقتي و ورد وجهان لعملة واحدة مع أن تصرفاتهما على النقيض تماما... المهم بالموضوع أن أحوال الدار تحسنت بشكل ملفت وفي مدة قياسية ...فتلك الفتاة جاءت بعزيمة الأسود لا تقبل الهزيمة ولا تكتفي أو تتراجع ولا تعرف الاستسلام حتى عيّنوها رئيسة مجلس الجمعية، الراعية للدار بعدها بسنوات قليلة، فأصبحت سلطتها أوسع وغيرت كل طاقم الإدارة والموظفين. جعد ملامحه باستغراب يحدق بشاهي، مستدركا ¤كان هناك نوع من التفاهم بينها وبين أسماء، كحديث بالأعين لا يفهمه إلا الاثنتين واختارتها ورد لتكون مسؤولة عن الدار لا أعلم تحديدا لماذا لكنها اختارتها و وثقت بها ولم أكن سعيدا أبدا باختيارها، فأنا خير من يعلم باضطراب شقيقتي الذي سرعان ما طفت أعراضه للعلن، تحسن أحوالها وأحوال الدار سبب لها اختلالا بنفسيتها وكأنها تعودت على الظلم والخوف، فبدأت تتخبط في البحث عن هدف جديد غير التأهب طوال الوقت لحماية نفسها، لهذا سومت لها نفسها الانتقام ممن كان جزء في عذابها....الدار...هذا ما أخبرني به الطبيب حين أخبرته عنها، حاولت إثناءها على ما تنويه لكنها كانت كالمهووسة وتيقنت حينها أنها مريضة و يجب أن تعالج ساعدتها في ما تفعله لأحميها وفي نفس الوقت أعيد كل ما تأخذه بينما ورد لم تستطع تحملها لأن هوسها الأخرى هي الدار .....الأيتام و الضعفاء بالنسبة لها منطقة محرمة لذلك اتخذت الإجراءات اللازمة واستغلت نفوذها لكي لا تسجن أختي و يكتفوا بطردها ...فهي مثلي تعلم بأنها مريضة ولأنهما وببساطة كما قلت سابقا وجهان لعملة واحدة ...هناك دائما نفس الشيء الغامض بهما. أخذ كأس العصير أمامه و ارتشف كل ما تبقى منه مرة واحدة ثم رفع عينيه لتلك التي أمامه تبكي بحرقة تقطع نياط قلبه، شرسة في كل حالتها حتى البكاء تبكي بحرقة، فاستل المنديل من جيبه يقدمه لها قائلا بوجوم ساخر ¤ لم تتحملي الإنصات، فكيف بك لو واجهت ما واجهناه. أمسكت بالمنديل ممتنة، تجيب بصوت مرتعش ¤ كانت لي معاناتي أنا الأخرى لكنها لم تكن ببشاعة معاناتكم ..أنا آسفة، آسفة حقا ..وشقيقتك يجب أن تساعدها لتتعالج. انتظر حتى أخذ منها منديله، يقول بتفهم ¤ هذا ما فعلته فعلا، أخذتها إلى الطبيب وبدأت جلساتها، أرجو الله التوفيق. هزت رأسها وطالعت ساعتها، تهتف بذهول ¤ يا إلهي! سمير لقد مضى الوقت، تأخرت كثيرا ويجب أن نمر على محل ألعاب لنحضر الدمية. لم يسمع سوى اسمه من بين شفتيها وتوقف الإدراك لديه، فهتفت به ¤أنا أحدثك! ما بك؟ أجابها ببلاهة ¤ ها! ضمت ما بين حاجبيها الأشقرين تشير إلى الشمس المعانقة للبحر . ¤ قلت تأخرت ويجب أن نغادر، بالكاد سيكفي الوقت لشراء الدمية و العودة للدار لنعطيها لأمل. قامت من مكانها تشير له فنهض يلحق بها باستسلام عاشق. *** استيقظ متأخرا كعادته، كيف لا يفعل وهو الراعي للجانب المظلم لوالده، وهذه الأيام مشغول أكثر، فالانتخابات على الأبواب ووالده قد اختار المرشح الأنسب وسيموله إلى أن يحصل على المنصب المهم ثم يحركه كدمية الماريونت بينما يظل بعيدا عن الصورة تماما. سمع صوت والدته وسهى فاتجه إليهما يسخر من موقف أمه التي ليس لديها شاغل إلا التبضع لحفيدها المنتظر، جنين لم يكمل الشهرين في بطن أمه، التقطت أذنيه اسما جعله يطرق السمع، فاشتدت أطرافه و دخل عليهما، نظرتا إليه و الأجواء تتوتر كما يحصل دائما عند حضوره، فقال بنبرة عادية ¤ مرحبا. ردت عليه والدته التحية وهو يقبلها على وجنتها أما سهى فتمتمت بتحية خافتة و ضمت حماتها بعدما تركها، تقول باقتضاب ¤ إلى اللقاء خالتي، سأقضي اليوم عند أهلي وسيقلني حمزة ليلا إن شاء الله. ردت مبتسمة بينما تسترخي على إحدى آرائك غرفة الجلوس ¤ رافقتك السلامة عزيزتي، بلغي سلامي لوالدتك وورد وباركي لهما بالنيابة عني. هزت سهى رأسها بتوتر تلقي نظرة على تامر المتحفز وفرت من أمامه قبل أن يسألها، شعر تامر بأمعائه تتلوى في بطنه، يستشعر ما سيعرفه من أمه التي حاولت التملص وقد نهضت من على الأريكة لكن لم يمهلها ووقف حائلا بينها وبين الباب، يستفسر ¤ ما بها ورد؟ ضمت شفتاها بتوتر، فهي تعلم بتعلق ابنها المرضي بورد فقط لأنها لم ترضخ لرغباته ولم يستطع ترويضها، فأصبحت هوسا بالنسبة له. رمقها بنظرة تحفز ، فقالت باقتضاب مرتبك ¤ ورد ستتزوج. ضم يديه في قبضة حتى ابيضت مفاصله وارتعد عصب جبهته حتى احمر وجهه، فهتفت والدته بينما تمسك بكتفيه ¤بني أرجوك، دعها وشأنها هي لا تشعر بعاطفة اتجاهك، القلوب لا سلطان لنا عليها. أزال يديها بحدة، يصيح ¤ و من يشعر بعاطفة نحوي؟ من؟ إن كنت أنت أمي أو أخي تتوتران لمجرد حضوري و كأنني عدو ولست ابنك أو شقيقه، أخبريني بمن ستتزوج؟ نظرت إليه بريبة، فهي على علم بتاريخه الأسود مع ليث وتشك بأن ليث يريد ورد فقط لينتقم شر انتقام منه، نفضت عنها تلك الأفكار، تجيبه بخفوت التقطه كالصقر ¤ليث الجندي. لم يثر كما اعتقدت والدته بأنه سيفعل لم تكن تدري بأنه توقع ذلك فقط أراد التأكد. غادر القصر كله كالعاصفة والسيدة نارمان تتمتم بدعاء الحفظ لكن ليس لابنها، فهي تعلم أنه من سيكون الجاني لذلك دعت لورد و ليث بالستر.