Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل الحادى عشر

نهض سمير باتجاه شقيقته، يسألها متجاهلا آخر حديث السيدة زينب رغم ما تركه من أثر داخل صدره ¤ هل أنت بخير ؟ لتهتف السيدة زينب بينما ترمق تأنق مبلسها بسخرية ¤ وماذا سيصيبها؟ ..سيبلعها مفيد مثلا؟..هيا خذ شبيهة عينيك هذه وعودا بعد غد إن شاء الله. سحبها سمير وهو يرمي السيدة بنظرات عتاب لم تلقِ لها بالا وما إن بلغا باب العيادة هتفت بتحذير غامض ¤ حذار سمير إن مضيت في ما تنويه قد تغرب شمسك فتصاب بالصقيع. التفت إليها مستغربا لتكمل بحكمة غلفتها بسخرية ¤ لا تنظر إلي هكذا ...فأنا فقط أشفق على مفيد الذي سيضطر إلى التعامل معك من جديد. ضحك سمير بصخب، يجيبها بينما يغادر برفقة شقيقته ¤ لا تقلقي علي أنا أعلم جيدا ماذا أفعل. لتجيبه بنفس النبرة النزقة ¤ ومن قال بأنني قلقة؟ كانا قد غادرا فالتفتت عائدة إلى مكتبها وابتسامة شقاوة تزين ثغرها الذي بدت تجاعيد الزمن مرسومة عليه. **** يجلسون إلى طاولات مسترسلة بطولها، يأكلون بنهم والحراس عليهم قائمون، يراقبون السجناء بحرص وواحد من هؤلاء لم يستطع استطعام حصته من الطعام، يغلي حيرة وخوف من فشل خطته. شعر بخيال يهل عليه قبل صاحبه الذي احتل المكان جواره ليلتفت جانبا، فلم يكن سوى فيصل الذي يحمل حاملة طعام بلاستيكية مستطيلة الشكل، وضعها أمامه ثم نظر إلى زيد بابتسامة سمجة، يقول ¤ كيف حالك يا صاح؟ أعاد زيد رأسه إلى أمامه ونكسه بصحنه دون رد، فضم الآخر قسماته بامتعاض لكنه لم يستسلم بينما زيد يقرر التجاوب معه إن حاول مرة أخرى، أنهى طعامه فهم بالوقوف ليسبقه الآخر قائلا ¤ أعطني فرصة لنتحدث وبعدها قرر ما تريده. تنفست أحشاءه الصعداء وألقى إليه نظرات حارقة من الغضب لم تردعه وظل واقفا بتحدي ليؤكد له عزمه على الأمر، فرد عليه زيد بجفاء ¤ اليوم دوري في تنظيف الحمامات، فتعال وساعد ..يا ... فهتف الآخر بنزق ¤ فيصل! فيصل! ليكمل بسخرية قاتمة ¤ يا فيصل وسأسمعك، فكر في ما ستقوله جيدا، فلن تحظى بفرصة أخرى. ثم انصرف تاركا إياه يتنفس الصعداء بدوره. انقلب البيت على رأسه، فالسيدة عائشة جلبت خادمتان تساعدان نعيمة وأوكلت محمود ومريم مهمات يقضيانها كل واحد منهما لحاله حتى سهى لم يشفع لها حملها وكلفتها بمساعدة العروس التي استغربت حين سمعت ذلك تهتف ببلادة "بماذا ستساعدني" لتجيبها سهى على مدى ست ساعات بشتى أنواع الأقنعة وتصفيف الشعر وتدليك لتنهيها بتقليم أظافرها وظلت تسترق النظرات إلى شقيقتها وهي ممسكة بيدها تصبغ أظافرها بالصبغة الشفافة حتى سألتها ورد متنهدة ¤ سهى تكلمي، ماذا هناك؟ تململت بمكانها تتمتم ¤ أ...ريد فقط أن أسألك شيئا. أشارت لها بأن تستمر، فاستطردت بتردد ¤ لماذا لا تريدين إقامة حفل زفاف؟ تجمدت مقلتاها لدقيقة وسرعان ما اصطنعت المرح ببسمة مزيفة لم تخفى على شقيقتها بينما ترد ¤ لأنني عشت حفل عرسك بكل تفاصيله وأنا لن أكون ضحية مثلك أبدا، لقد سمحت لك بما فعلته اليوم فقط لأنك شقيقتي التي أحبها. استغلت انتهاء أختها مما تفعله وقامت متجاهلة أنظارها المتشككة متظاهرة بالنفخ على أظفارها لتجف الصبغة لكن سهى لم تكتفي تضيف برجاء تحاول ردعها عن قرارها ¤ لكن يا ورد كل الفتيات يحلمن بيوم زفافهن ليتدللن ويرتدين الفستان الأبيض، ألا تريدين فستانا أبيض لك تختارينه بنفسك؟ ضحكة مريرة تلك التي ضحكها قلبها وشاركها صدرها الذي يحويه وترجمها العقل بكلمات كالسم تتردد بأرجاء وعيها ...أبيض... أبيض! ما هو الشيء الأبيض في حياتي السوداء البائسة؟ ...أستغفر الله آآآه لو تعلمين يا شقيقتي! لا تنثري الملح على الجرح أرجوك! ..ألا يكفيني إقدامي على أمر عظيم لا أعلم صوابه من خطأه ..آخر همي زفاف وثوب أبيض. انتفضت على إثر دفئ يد أختها فوق كتفها لتعي بأنها كانت ساهمة، لتجيبها قائلة بصدق على قدر الإمكان ¤ أنت تعلمين جيدا بأن هذه الشكليات لا تهمني ثم إن ليث قد سبق له الزواج و بحفل كبير أيضا ماذا جنى غير الطلاق وانتهاء علاقته الزوجية؟ ضمت سهى ما بين حاجبيها، تقول بحيرة ¤ أتعلمين؟ أنا أشك بأن هناك علاقة بين تامر وطلاق ليث. جعدت ورد دقنها تؤكد على ظنها ¤ لاحظت سابقا العداوة الشديدة بينهما لكن لا أعلم سبب لها. ثم جعدت أنفها بتقزز، تضيف ¤ ثم إن تامر وغد ولا يتحمله أحد. ضمت سهى شفتاها الى الأمام، تجيبها وهي تشير بيدها يمينا وشمالا ¤ في هذا أنت محقة. طرقات على الباب قاطعتهما لتدخل السيدة عائشة وتصدم عندما لاحظت بأن ورد لم ترتدي الفستان بعد، لتهتف بجزع الأمهات ¤ الناس على وصول ولم ترتدي فستانك بعد؟ يا لله! سهى! لماذا كلفتك بها؟ كي تنهريها على تسيبها لا أن تسايريها و ها أنت أيضا لم تجهزي بعد. هتفت ورد بابتسامة ماكرة بينما تخطو لتضم كتفيها ¤ نعم أمي إنها السبب، أخرتني بأسئلتها الفارغة والآن أرجو منكما المغادرة كي أرتدي فستاني على عجل. شهقت سهى بحدة تنظر إليها بصدمة ثم رفعت يدها إشارة إليها تستنكر ¤ أمي لا... قاطعتها السيدة عائشة بينما تجذبها إلى خارج الغرفة، و ورد تطل عليها من على كتف والدتها مبتسمة بمرح تلوح لها بيدها وما إن أغلق الباب حتى أظلمت ملامحها ورفعت يدا مرتعشة تمسح بها وجهها تغمغم لنفسها ¤يجب أن أتحدث مع ليث بخصوص تامر، لن أدع شيئا للصدفة. **** ينتظر بجانب سيارته متأنقا كما لم يفعل من قبل، قلبه يهدر داخل صدره لا يعلم كيف يهدئ من دقاته كما لا يعلم كيف يلغيها قليلا من فكره الذي أصبح شغله الشاغل البلور الأسود، استقام في وقفته حين لمح عائلته يتقدمون باتجاهه وكانت أول من اقتربت منه جدته التي ضمته بحنان و وشوشت له في أذنه ¤ كنت أعلم بأن حفيدي رجل ولن يستسلم في معاركه. لمعت عيناه بفخر وابتسم بدفء لهذه المرأة الحكيمة التي قدر الله أن تكون جدته لتنور حياته بحكمتها، سحبه جده من بين يدي جدته، قائلا بمرح ¤ دعيني أبارك له يا طيبة إنه ليس حفيدك لوحدك. ثم مال عليه يضمه ضمة حزم يشوبها بعض الحنان و هو يهمس له بتهديد مفتعل ¤ ابتعد عن زوجتي وكفى تدللا! أنت لم تعد طفلا وستحصل على واحدة لك، فابتعد عن خاصتي! ضحك بصخب وهو يبتعد عن جده ليتلقفه والده يحضنه هو الآخر، يبارك له ¤ مبارك بني أسأل الله أن يوفقك في حياتك. رد عليه بينما يلتفت لوالدته المتباعدة عنه بتحفظ متردد، فتقدم باتجاهها ¤ بارك الله فيك أبي ....أمي ألن تباركي لي؟ كان قد وصل إليها وضمها بين ذراعيه، لتقول له ¤ أنا عاتبة عليك بني لكن سنتحدث لاحقا. ثم ابتعدت عنه، تضيف ببعض البرود ¤ مازال الوقت مبكرا على المباركة، لنتقدم إليها أولا...ثم أنا لم أوافق عليها كليا، لازالت عندي بعض التحفظات. زمجر الجد معقبا بحنق ¤ نحن أمام منزلهم و تستمرين بقول التفاهات، كوني حذرة زهرة من التفوه بكلام لا يليق، سأغضب حينها لا تلومي إلا نفسك. ثم انصرف في أثر زوجته المتأبطة لذراع حفيدها، فمد يوسف يده لزوجته، قائلا بحنان ¤ أنظري بعيني ولدك...متى رأينا ذلك التألق آخرة مرة؟ لانت ملامحها وأعطته يدها التي قبل ظاهرها برقة قبل أن يخفضها تحت ذراعه، فابتسمت بحياء لم تفقده مع مر السنون ، يخطوان الى منزل ورد تهمس له ببسمة رقيقة ¤ عندما تخرج من المعهد العالي للشرطة ...نعم أذكر جيدا. لتختفي ابتسامتها، تضيف بخيبة ¤ كما أذكر أيضا متى انطفأت. ربت على يدها يطمئنها ويختم الحديث، فلقد لمح عائلة الخطاب على الباب لاستقبالهم ¤ الزمي الدعاء له بالتوفيق وسيكون كل شيئا على أحسن ما يرام بإذن الله. استقبلتهم عائلة الخطاب بترحيب وكان العميد مصطفى في مقدمتهم مع محمود ورافقوهم إلى غرفة الضيوف المرتبة بعناية بأثاث راق غير متكلف، طلبت منهم السيدة عائشة الجلوس، فقعدوا على الأرائك المرتبة بذوقها ككل شيء في بيت ابنتها وأمامهم مائدتان من الزجاج السميك مملوؤتان بما لذ وطاب من الحلوى و المقبلات ...ثم التفتت لابنها تهمس ¤ إذهب واستعجل شقيقتك حتى لا تتأخر. ذهب محمود باتجاه غرفة أخته ليجد شقيقته سهى والمساعدة نعيمة ملتصقتان بباب غرفتها بوجهين لا يفسران، يتهامسان بنبرة مكتومة. لمحته سهى فأسرعت تسحبه إلى الباب تهتف بهمس جزع ¤ لا تريد أن تفتح أخي، لا أدري ما بها ...يا الهي ماذا سنفعل؟ تسمر محمود أمام الباب لوهلة يفكر بأنه حقا استغرب موافقتها على الزواج، وإن لم يكن قد سمعها تقولها بنفسها ما كان صدق، فهو يعلم يقينا بأن أخته بها أمر غير طبيعي، يستحضر لمحات من ماض بعيد، حاول أن يستدرجها مرات كثيرة وكانت النتيجة تباعدها عنه أكثر حتى أصبحت تتجنب حتى لمساته الأخوية ففضل تجاهل الموضوع، محافظا على ما تبقى من علاقته بها. عاد من أفكاره على يدي أخته تهزه بقلق ¤ أخي هذا ليس وقت الصدمة، أرجوك افعل شيئا! نظر إليهما برهة ليجد فكرة قد تساعده على الأقل لتفتح لهم وأمال رأسه على الباب، يقول ¤ ورد حبيبتي سأنادي على عمي مصطفى ليساعدني في فتح الباب من دون إحداث ضجة، فكما تعلمين لدينا ضيوف تجالسهم والدتي، هل تذكرينهم؟ أهل ذلك الشاب الذي وافقت عليه بمليء إرادتك! يلعب على أوتارها الحساسة، أولا والدها الذي يعلم كم تحبه وتحترمه ووالدته التي تعشقها ثم إحساسها بالمسؤولية وقراراتها التي تتحمل نتائجها بشجاعة. انفتح الباب لتخرج إليهم بوجه شاحب كالأموات لم يفلح تأنقها بإخفائه، شملتهم بنظرة ثم تخطتهم دون أن تسمح لأحد منهم بأن ينطق، فتناظروا فيما بينهم بوجوه مصدومة قبل أن يسرعوا لاحقين بها، ذهبت إلى غرفة الضيوف رأسا دون حمل الباقي من الضيافة كالقهوة أو الشاي مما أجفل والدتها التي قامت إليها تطلب السلامة ما إن لمحت وجهها المبيض شحوبا. استقبلتها عند مدخل الغرفة تلتقط نظرات محمود الجامدة وسهى التي لا تختلف عن أختها شحوبا بينما نعيمة تسرع إليهم بصينية القهوة، فتصرفت سريعا وأمسكت بيدها تسحبها برفق وهي تلقي بنظرات توسل للعميد الذي فهمها وقام إليها أيضا يسوقها إلى السيدة طيبة ¤ تعالي ابنتي، سلمي على السيدة طيبة. تعلقت أنظار ورد بوالدها ولقد شعرت بقليل من ثقتها التي فقدتها هناك في غرفتها تعود إليها، غرفتها التي أحستها فجأة باردة موحشة وهي تطالع المرآة تتفقد شعرها مرة أخيرة، لترى وجه رنا يطل عليها هاتفا بلوم وعتاب (ستتزوجين ورد! ستنسين شيئا فشيئا وأصبح مجرد ذكرى بينما تعيشين حياتك!) رفعت سبابتها وحركتها بجزع تجيبها ( لا ...لا... لن أنساك أبدا، إنه ليس زواجا حقيقيا رنا، إنه فقط سيحميني،) ولم يرحمها خيال مخاوفها يصيح بغضب ( وأنا من حماني؟ أين حقي في العيش يا ورد؟ أين حقي في الدراسة؟ في العمل؟ في الزواج؟ في الإنجاب؟ أين؟ ستنسين يا ورد ستنسين وستحررين مني!) صرخ الخيال بالكلمة الأخيرة بعد أن اصبح بشعا وطلت منه ملامح أخرى لذلك الوحش الضاري الذي اغتصب طفولتهما وحياتهما ليذرهما سجينتاه وينطلق هو حر يعيش حياته كما يحلو له، فتكومت بعدها فوق سريرها تلف غطائها حولها ترتعش بشدة ليس بردا وإنما رعبا وللحظة أصبحت الغرفة تضيق وتضيق إلى أن أضحت ركنا صغيرا مظلما مشبعا بالرطوبة، لم يخرجها من ذلك المكان إلا صوت أخيها يذكر اسم والدها لتنتفض و تنزل من على سريريها. رتبت هندامها بتوتر و لم تستطع الالتفات إلى المرآة وفتحت الباب هروبا من غرفة كانت يوما ما أمنها وأمانها لتصبح جُحرا دنسه ببشاعته العفنة ولا تريد العودة إليها أبدا. أمسكت السيدة طيبة بكفها وأجلستها بجانبها، تستشعر وجود خطب ما لأطرافها المتشنجة وابتسمت بوجهها، تقول ¤ مرحبا ابنتي ...لا تعلمين مدى سعادتي لأنك بإذن الله ستصبحين كنتي... أنت الآن حفيدتي كليث تماما، نادني بجدتي، اتفقنا؟ شعرت بالدفء بدأ يسري بعروقها وأطرافها ترتخي و تتخلص من تشنجها، ترد عليها ¤ أنا أتشرف بذلك سي... قطعت كلامها ما إن رأت نظرة عتاب من السيدة طيبة لتتراجع و تقول ¤ جدتي. قبّلتها السيدة طيبة من وجنتها والتفتت إلى السيد أحمد ليتكلم، فاستجاب لها قائلا ¤ اسمحوا لي أن أشكركم على حسن استقبالكم، فلقد سبقتكم حسن سيرتكم و يشرفنا أن نطلب نسبكم ..لن نخفي عليكم ما هو معروف، ابننا سبق له الزواج لكنه لم يوفق ونحن نستبشر بابنتكم و نأمل من الله نسبا يشاركنا طوال الدهر ...آمين. تمتموا جميعا بآمين بينما هو يكمل ¤ سيد مصطفى نعلم أنك بمثابة والد لهذه العائلة الكريمة وهذا يزيدها شرفا ورفعة، أطلب منكم كريمتكم الآنسة ورد لابننا ليث وتأكدوا بأنها ما إن تقبل ستصبح ابنة عائلة الجندي و كرامتها وحقوقها واحترامها محفوظ من طرف كل أفرادها من كبيرهم لصغيرهم. ظل كل من السيدة عائشة و محمود وسهى مع العميد متوترين يتأهبون لأي موقف من ورد، فعينيها زائغتين وهم يعلمون جيدا بأنها أبدا ليست طبيعية ولم يكونوا الوحيدين فالأولى نعيمة واقفة وراء باب الغرفة متأهبة هي الأخرى تتمتم بالدعاء، والثاني ليث الذي انطفأت كل سعادته وبالتالي التألق بعينيه ما إن دخلت ولمح مقلتيها، فلطالما صرعتاه بصرامتهما وبرودتهما يخيفه ذلك الزيغ والتزعزع بهما يظنها ستهرب في أي دقيقة، عند تلك الفكرة لم يستطع تحمل فقدانها، فلم يعِ على نفسه إلا و هو واقف والجميع يلتفت إليه باستغراب، فيوجه طلبه للعميد ¤ سيدي أريد التحدث مع الآنسة قبل الاتفاق على أي شيء. بهت الجميع حتى أن المتوترين سهوا عن توترهم لكن العميد تمالك نفسه وفضل قبول طلبه علها تهدأ إن خرجت من وسط الجمع، فرد وهو ينظر لمحمود ¤ طبعا بني حقك، محمود سيرافقكما. تحرك محمود معه ليث أما ورد، فكأنها في عالم آخر وكل ما تراه أمامها هو وجه رنا ملتحم بوجه الوحش، أجفلت على لمسة والدتها التي لمحت ضياعها تسحبها باتجاه مخرج الغرفة وفي نفس تلك اللحظة اقتربت السيدة زهرة من حماتها تميل عليها هامسة بحيرة ¤ أمي ..ما الذي يحدث مع هذه الفتاة الغريبة؟ دخلت علينا وكأنها منساقة للموت وابني ماذا يريد أن يقول لها في هذه اللحظة بالذات؟ هل سيقبل يدها لتقبل به؟ رمتها السيدة طيبة بنظرة زاجرة أخرستها بينما تفكر بأن ورد لابد ويجب أن تتعالج، لأن آخر مرة رأت فيها نظرة مثل نظرة عينيها كانت لفتاة من عائلتها لم يعلم أحد ما بها ولم يفهمها أحد إلى أن وجدوها يوما قد شقت رسغيها وماتت. خرج ليث إلى الحديقة ابتغاء إدخال أكبر قدر من الهواء إلى رئتيه، التفت إليها تتهادى بفستانها الذي لم يتحقق منه قبلا بسبب تركيزه على عينيها، خلابة هي! فكر ليث بأناقتها وبساطتها منفردة في كل شيء، تسلب لبه وهي لا تحاول حتى لازالت ساهمة واقفة أمامه ونظراتها الزائغة نحو الفراغ، فهمس بصوت به شجن و ألم وبعض من التوسل ¤ ورد! كانت لاتزال أمام مرآتها بغرفتها التي لن تعود إليها أبدا ..لن تعود إليها أبدا! علقت الجملة برأسها كما تعلق أسطوانة خربة في جهاز فونوغراف قديم حين سمعت صوتا أخرجها من تيهها لمس قلبها، ففقد دقة من دقاته المتسارعة رعبا، رفعت وجهها تبحث عن مصدره لتقابلها نظراته المتوسلة فرفعت يدها تدلك فوق عينيها بينما تتقدم إليه ليسحب لها كرسيا جلست عليه منكسة رأسها. اتخذ كرسيا مقابلا لها وبرقة تعمدها، فالأنثى كيفما كانت تلين للرقة والرفق، حدثها ¤ ورد ماذا بك؟ دقة أخرى تبعت سابقتها إلى لا تعرف أين! لتسترجع شيئا من تركيزها وترفع إليه عينان فارغتان، تتوسل إليه ¤ تزوجني اليوم ليث ...أقنعهم و خذني لبيتك، لكن أرجوك. رققت نبرتها وهمست بتوسل يائس بائس صدمه وقطع نياط قلبه ¤ أرجوك أضمن سلامتي وأنا أقوم بعملي. كانت بالنسبة له كمدمن يطلب بتذلل جرعته التي ألفها، يسمع مزيدا من رجائها الذي لم يتحمله ¤ أحتاج أن أعود لعملي، أتوسل اليك ساعدني لأقوم به وأخرجني من هنا، لا أريد المبيت هنا أرجوك. ظل يتأمل نظراتها الفارغة وشحوب وجهها وتشنج أطرافها ولم يستطع إلا أن يقوم ويشير لها لتتقدمه الى الداخل بعد أن رد عليها باقتضاب صارم حازم، فلقد اتخذ قراره ولن يتراجع عنه: لك ذلك. **** ليس بيت آل خطاب فقط من يعج بالضيوف ويطلبون النسب إنما هناك بيت آخر أقل فخامة وأكثر بساطة "بيت العم سعيد" في غرفة الضيوف المتواضع يجلس على الأريكتين، طه فاروق و والدته السيدة حفصة طبعا بعدما غيرت اسمها نظرا لدخولها في الإسلام والعم سعيد وبجانبه ابنته الصغرى وزوجته، كانت الفتاة الصغرى تحدق بانبهار بعويناتها السميكة تتأمل بياض بشرتها الشاحب ولون عينيها الأزرق الغريب الشبيه بالزجاج فتلتفت إلى ابنها الذي لا يشبهها إلا في لون بشرتها، أشارت لها السيدة حفصة لتقترب منها فنظرت إلى والدها الذي حرك رأسه موافقا لتخطو باستحياء إلى أن وصلت إليها، أمسكتها السيدة حفصة من كتفيها تقول بلهجتها ذات اللكنة الظاهرة حتى مع طول مدة إقامتا بالبلد العربي ¤ أهلا صغيرتي ...ما اسمك؟ لتجيبها الصغيرة بهمس أطفال رقيق ¤ مروة. أكملت و هي تسحبها إليها أكثر ¤ بأي صف أنت؟ لمست عويناتها بتوتر وكأنها في امتحان شفهي، ترد ¤في الصف الرابع. ابتسمت السيدة حفصة بدفء وأمالت رأسها قليلا، تهمس وتقلدها ¤ لماذا كنت تنظرين إلي؟ فتحت فمها وكأنها ظبطت بفعل مشين، قبل أن تعلل ببراءة بينما تشير إلى وجهها ¤ أنت بيضاء كثيرا وعينك زرقاء كثيرا. اتسعت ابتسامتها بينما تجيبها بمرح ¤ و ماذا في ذلك؟ ضمت بين حاجبيها تشير الى طه مضيفة بحيرة بالغة ¤ لكنه ابنك وعينه وشعره سوداوين؟ ضحكت و الآخرون في حين نهرتها والدتها، فأشارت لها السيدة حفصة أن لا تفعل وحاولت كتم ضحكها قائلة ¤ ماذا أفعل، خلقه الله يشبه أباه في كل شيء؟ حتى شكله لكنني استحوذت على لون بشرته، فوالده كان أسمر رحمه الله. ضمت الفتاة الصغيرة تقبلها بوجنتها، فدخلت رأسا قلب هذه الصغيرة وأحبتها. التفتوا إلى مدخل الغرفة الذي ولجت منه فاتن حاملة صينية القهوة برفقة أختها، فانتفض طه لمرآى فاتنته بفستانها الأزرق الطويل إلى كاحليها عليه سترة سوداء قصيرة إلى أسفل الصدر بقليل وطرحة زرقاء أبرزت بياض بشرة وجهها، أجفل على لمسة والدته تنظر إليه بعتب خفيف ليغض بصره، فتنحنح بخفوت وتتظاهر بترتيب هندامه أما هي فقلبها يهدر بصدرها ترتعش تكاد توقع الصينية لولا مساندة شقيقتها، قدمت القهوة لحماتها أولا تلك التي تبسمت بمكر بينما تقول بصدق ¤ طه لديه كل الحق في الإعجاب بك ..فأنت اسم على مسمى. تحركت الصينية بين يديها المرتعشتين وقد احمرت بشدة حياء فلم تستطع تقديم القهوة له و التفتت إلى والدها الذي أخذ الفنجان مبتسما أيضا يستشعر مدى خجلها وقدمه لطه رأفة بها. التقطه يخفي ضيقه وقد كان ينتظر قربها ولو لثوان معدودة، فيتوعدها سرا. قدمت أخيرا القهوة لوالدتها وهمت بالجلوس بجانبها لكنها أدارت رأسها على صوت السيدة حفصة التي طلبت منها مجاورتها، فاستجابت لها. بعد رشفتين من قهوتها تحدثت حفصة، تقول ¤ القهوة لذيذة جدا سلمت يداك فاتن، في الحقيقة لقد كنت أطلب من طه وألح عليه بالزواج منذ مدة خصوصا وهو ما شاء الله رجل يستطيع تحمل بيت الزوجية ماديا ومعنويا وكان دائم الرفض بحجة بحثه عن نصفه الآخر كما يقول حتى يئست و لم أعد ألح كما السابق ليأتيني في يوم فرحا بأنه وجد نصفه الآخر، سعدت جدا وتحمست لرؤية الفتاة التي قلبت كيانه ونجحت في ما لم أفلح به. أخذت رشفة أخرى لترطب حلقها ثم وضعت الفنجان على المائدة أمامها، تكمل والجميع ينصت إليها ¤ أنا أثق باختيارات ولدي، فلقد ربيته على الأخلاق الحسنة التي بعث الرسول عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارمها والحمد لله فلقد وفقني ربي وأنبَته نباتا حسنا وأنا راضية عليه دنيا وآخرة . لم يتحمل طه كلام والدته المهيب، فاقترب منها وقبل يدها تتبسم له بحبور و فخر ثم ربتت على رأسه واستطردت بينما تلمع الدموع بعينيها ¤ إنه ولدي الحبيب الوحيد وعائلتي الوحيدة بعد موت والده، فأنا بعد إسلامي، أهلي تبرؤا مني و لم يعودوا يستقبلونني، فانقطعت صلتي بهم خصوصا بعد موت والداي، أرجو من الله أن يبارك ارتباط ابنتكم بابني ويطرح ثمارا كثيرا تربط ما بيننا الى الأبد . التفتت إلى فاتن وقد نزلت دمعة على خدها، تضيف بصوت متهدج ¤ أجل يا بنتي أريد أن تصبحي ليس كنتي وإنما ابنتي، تعتبرينني كوالدتك الثانية فأنا لم يرزقني الله بفتاة. ثم أشارت بسبابتها تسترسل كأنها تحذرها بمرح وبعض الشجن ¤ وأريد أحفادا كثر لتكبر عائلتنا، فأنا لا أحب الوحدة. تضاعف احمرار فاتن لكن تأثرها بحماتها فاق حياءها، فبكت معها كالأخريات في الغرفة حتى الصغيرة أزالت عويناتها لتمسح دموعها. ضمت فاتن حماتها مواساة لها ليتكلم والدها وقد اكتملت فرحته، فقد كان يخشى أن لا تتقبل عائلة طه مستواهم المادي وتأكد له معدن طه الأصلي من أين جاء ¤ و الله يا سيدتي مذ تعرفت على الأستاذ طه أحببته من قلبي واحترمت أخلاقه وصفاته الحسنة، فالله قد رزقه برحمته كل ما يتمناه الأب في زوج ابنته وقد سعدت أيما سعادة عندما اختار ابنتي شريكة حياته و طلب نسبي ..وكنت دائما أترحم على من ربى فلقد وفى لذلك سيدتي اسعدي واحمدي الله، فقد جزاك خيرا وعوضك فراق أهلك بولدك، أدامك الله فوق رأسه ورزقه رضا ربه و رضاك ...ونحن نتشرف بنسبكم يا سيدتي و لقد أخبرت الأستاذ من قبل أنه ابني فليقرر ما شاء و أنا معه. أجابته بفخر و رضا قد ارتسم على قسماتها ¤ أشكرك سيد سعيد و لنا الشرف أيضا..فاتن أميرة البنات ..طه قد حكى لي عن خلقها و حياءها و هذا ما تتمناه كل امرأة عاقلة لولدها، فتاة ذات دين وخلق وحياء، ندعوا الله أن يبارك لنا وعلينا إن شاء الله. أمنوا من أكبرهم إلى أصغرهم ومالت السيدة حفصة على فاتن، تهمس لها ¤ لقد علمت بشروطك ...أحييك يا فتاة ظلي هكذا مدافعة عن حقوقك لا ضير، طالما كانت حقوق شرعها الله لكن حبيبتي لا تطيلي من فترة الخطوبة عيشي حياتك و تزوجي و أنجبي بما أن زوجك موافق و سيدون ذلك في العقد و حتى إن لم يدونه أنا ورائك بعون الله، و من ناحية الأولاد لا تحملي هما أبدا، فأنا متشوقة لأحفاد أهتم بهم فلدي حنان فائض، وطه قد كبر ولم يعد بحاجة إليه. قاطعهما طه هاتفا ¤أمي! غمزت السيدة حفصة لفاتن، تكمل بمكر مازح ¤ تدخل في ما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك ..ألم أنهك عن استراق السمع، سأعيد نظري في بعض سلوكك ام ترى أخبر السيد سعيد ليعيد التفكير في مصير ابنته . ضيق عينيه يقول : ¤ أنا لا أسترق السمع أبدا ثم أنت بقربي أمي، فكفي عن مزاحك الناس لا يعرفونك جيدا . شهقت تزعم الذهول بينما تهتف ¤ الناس؟ أين هم الناس؟ هؤلاء عائلتي و هذه ابنتي انشغل بنفسك أنت ولا تتدخل. ضمت إليها فاتن والأخيرة تتبسم بسمتها الفاتنة، ليفتح طه الذي كان متحرجا قبل قليل فمه مبحلقا فيها. قامت سيدة تدعو حفصة لتأكل من حلواها التي تشرح لها كيف صنعتها بالسمن البلدي وغمستها بالعسل الحر، هذه المرأة البسيطة التي كافحت مع زوجها وعاشت معه حياته بحلوها والمر منها دون أن تشتكي من الهم الذي قد ألفته منذ نشأتها لتصير وتدا صامدا لبيتها وأسرتها، تحمد ربها صباحا ومساء على زوجها الرجل الصالح الذي لم يعايرها يوما بخلفة البنات أو يشتكي لاحتياج ولد ذكر، لا تعلم أن من أبسط حقوقها هو حق الاحترام و أن الخلفة من الرزق مقدرة من رب العالمين. وها هي الآن أكثر سعادة و هي تشعر بأن الله قد عوضهم سنين حرمانهم بالستر على أول بناتهم من رجل طيب، متفهم و صالح ومقتدر سيعتني بها وتفكر ككل أم بعقلها البسيط أنها يجب أن تبخر البيت و هي تقرأ المعوذتين لتحميها من العين، أما فاتن فتنظر لحماتها بإعجاب، تفكر كيف أن من تخبط في ظلمات الكفر ووجد نور الإيمان يتشبث و يلتزم به فيجمع بين مبادئ الغرب التي أغلبها من أوامر الله أيضا كاحترام العلم وقدسيته وحقوق الإنسان بصفة عامة والمرأة بصفة خاصة، فيضمن لها حقوقها كالإرث والتعليم وحتى اختيار شريك حياتها ثم شرائع الدين من توحيد وعقيدة وتهذيب النفس و تزكيتها وكذا حمايتها، على عكس أكثر المسلمين الذين يولدون وينشؤون في كنفه فيصبح عادة أكثر منها عقيدة إلا من رحم ربي، فيطبقون ما يوافق هواهم و يتجاهلون ما لا يتفق مع مصالحهم. اتفقت العائلتين على عقد القران يوما واحدا بعد انتهاء السنة الدراسية بطلب من طه الذي لم يستطع أحدا الاعتراض عليه حتى فاتن، فاللهفة في عينيه تكاد تقفز منهما لتنتهي ليلتهم هانئة سعيدة على كلا الطرفين في حين كان هناك من يخوض معركة ضارية ضد شبح ومجهول يتخبط في ظلمة أهوال الرعب. وقف أمام مدخل غرفة الضيوف والتفت إليها، قائلا للمرة الأخيرة ¤ كل ما سأقوله ستجاريني فيه؟ هل تريدين الخروج من هنا الليلة؟ لا ينكر أنها تفاجئه وللمرة الثانية بينما تومئ بنعم، فيهز رأسه بدوره، ينبهها بحزم ¤ إذن جاريني! دخل الغرفة بخطوات واسعة فاجأت الجميع الذين استدارت أعينهم إليه باهتمام و من ورائه الفتاة الشاحبة، فحدق بهم يبلع ريقه ثم يقول بحزم ¤ أريد أن أخبركم بشيء مهم للغاية ...لذلك أرجوكم ساندوني في قراري وتفهموه. سكن الجميع مستغربين عدا الجدة التي هتفت ¤ ومن سيفهمكما أفضل من عائلتيكما؟ تفضل إبني و قل ما عندك. إشتدت أعصابه توترا لا يعلم إن كانت عائلته ستتقبل الأمر لكن ما يريحه هو دعم جدته المتأهبة لمساعدته شجعه و قال بنفس نبرة الحزم ¤ ورد في خطر، أتتني معلومات عن استعداد لمحاولة خطف ثانية . شهقات كثيرة صدرت من شتى الأفواه بعضها خوفا والآخر استنكارا، ليقف العميد هاتفا بحدة ¤لماذا لم تخبرني يا ليث ماذا كنت تنتظر؟ تلكأ قليلا قبل أن يجيبه كي ينظم أفكاره ويرتبها فيقتنعون ثم قال ¤ كنا نراقب الوضع منذ مدة ولقد أتت إخبارية الليلة وحدثوني منذ قليل لذا فكرت و توصلت إلى حل. تحركت السيدة عائشة وسهى تحيطان بورد المتجمدة مكانها ومحمود بجانب العميد مقطبين حواجبهم ينتظرون إتمام كلامه ¤ سأتزوج ورد الليلة، أريدها أن تكون بحمايتي ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلا بزواجها مني . قامت والدته بحدة تهتف ¤ ماذا تقول؟ هل جننت؟ لماذا تلقي بنفسك إلى الهلاك من أجلها؟ قاطعتها الجدة تصيح باسمها ¤ زهرة! الجد و السيد يوسف صامتان يترقبان بهدوء، فتكلم العميد، قائلا وهو يدعك جبهته ¤ إهدأ بني الأمور لا تعالج هكذا ولن أقبل أن تتزوج ورد هكذا من دون عرس. رفعت ورد رأسها وشدت على يدي والدتها التي لم تفهم مرادها وسط ذهولها، فألقت إليها نظرة أخرى فتنبهت على كلام العميد فتدخلت ¤ سيد مصطفى. إلتفت العميد إليها فأكملت بقلق وخوف على ابنتها ¤ ورد كان لها شرطا لتقبل بالزواج ...هو ..هو عدم إقامة حفل عرس . ألقى نظرة على وجه ورد، فرأى توسلها وضياعها وعلم يقينا بأن حالة ابنته متأخرة ويجب عليه التصرف لكن أولا سيحميها، لذا اسمها يجب عليه أن يقترن بالضابط و بعدها سيبحث عن حل ..لن يتفرج عليها تتسرب من بين يديه مثل زوجته رحمها الله ... لا لن يحدث! وفي تلك اللحظة هتفت والدة ليث بحنق ¤ شروط أخرى! يا سلام. ثم تقدمت إلى ابنها و أمسكته من كتفيه تهزه بدهشة ¤ ما الذي يجبرك على هذا بني؟ الفتيات كثيرات و من دون مشاكل لماذا هي؟ هتف بما جعل الجميع يبهت من بينهم ورد، التي تضاعف شحوبها لتكتشف بأنها قد توقفت عن التنفس ودقات قلبها قد خطف ما تبقى منها لتلحق سابقاتها لكن هذه المرة تعرف الى أين؟ أما الجدة فالابتسامة أضاءت وجهها والجد قد بلغ مبتغاه. ¤ لأنني أحبها أمي! أحبها ولن أسمح لأحد بأن يؤذيها! على جثتي أمي، على جثتي! استقام الجد واقفا وتلاه إبنه ليقول بهدوئه المعتاد ¤ ماذا تنتظر إذن؟ اذهب و أحضر كاتبي العدل، أظنك وعمها بمناصب تخولكم بإحضارهما أينما كانا، من الأفضل أن تسرع فأنا لا أحب السهر، طبعا إذا أردت أن أشهد على العقد، سأهاتف البيت ليجهزا لكما الجناح. تجاهل جمود الجميع كالتماثيل وتقدم نحو زوجته يمد لها يده هامسا ¤ حبيبتي رافقيني إلى الحديقة قليلا . إبتسمت لشريك عمرها الطويل الذي يفهمها فقط من نظرة عينيها وسلمته يدها ترافقه حيث أراد. **** كانت الليلة عصيبة على الجميع، فمن توقع أن تصبح الخطوبة زواج في آن واحد، أخذ الجد يتقدم مع زوجته خارجان من غرفة الضيوف وزهرة لاتزال متشبثة بابنها تنظر بعينيه تتحرى صدق قوله، لتلتفت إلى زوجها الذي سحبها من كتفها يرمقها بعتاب لقلة حكمتها. همت بالتحدث فأسكتها برفع يده وبسط كفه، قائلا ¤ لنا غرفة خاصة نتناقش فيها، أما اللحظة أرجوك فقط دعي الأمور تمر بسلام. العميد ترك محمود جامدا مكانه يتطلع إلى ورد وشحوبها قد جعل عقله يضج بومضات من الماضي تلك الفترة التي بدأ معها كل تغيراتها، فلقد كانت سعيدة بتعرفها على رنا ....رنا... آه تلك الفتاة الجميلة التي استحوذت على إعجابه الطفولي أيضاً، كيف لا و هي فتاة حباها الله بجمال أخاذ، يتذكر مجيئها الأول مع أمها التي كانت صديقة والدته، تفاهمت وورد و أحبا بعضهما لدرجة أن أخته شاركتها كل ألعابها التي كانت تخصص لها مكان لتعتني بها ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها أما هو فكانت تتباعد عنه وتجفل منه كلما اقترب منها يرى الخوف بعينيها وكأنه سينقض عليها ضربا، كان يحب أن يسمع ورد تتحدث عنها بشغف بعد عودتها من زيارتهما هي ووالدته لا يعلم متى بالضبط أصبحت أخته طوال الوقت صامتة، اختفى مرحها حتى ألعابها أهملتها وحين يسألها عن رنا تزيغ عينيها وتفر من أمامه، اعتقد أنهما تشاجرتا وأنه مجرد دلال فتيات هذا ما أسعفه به عقله الطفولي البريء وفي يوم ما سمع والده يطلب من والدته أن تقطع علاقتها بعائلة رنا، أطرق سمعه لسؤال والدته عن السبب لكن والده أجابها بأنه لا يعجبه رب تلك الأسرة وأن الشبهات تحوم حوله، فردت عليه بأنها تذهب لصديقتها وهي إنسانة شريفة ولا شأن لها بزوج صديقتها لكن رغم ذلك وكما تفعل والدته دائما استجابت لطلب زوجها فلم تعد تذهب إليهم، ظلت والدة رنا تأتي لوحدها وفي كل مرة تراها فيها ورد تقبع بغرفتها و تبكي، فأرجعوا ذلك لاشتياقها لرنا وأخذتها والدته إليها لتزورها، كان قد عاد يومها إلى البيت بعد مباراة كرة قدم جمعته بأصدقائه ليجد والده يضم والدته التي تبكي مواسية وورد جالسة أمامهما شاحبة كشحوبها اليوم تماما، سأل عن الذي حدث ليخبره أباه بأن رنا اختفت ولا يعلمون أين هي؟ فوجئ واقترب من ورد التي أجفلت منه والرعب بعينيها يزعزعهما فناداه والده وأشار له بالابتعاد عنها ....أخبره بأنهما كانتا تلعبان معا قبل أن تختفي رنا وأنه يظن بأنها تعلم ما الذي حدث لكنها مصدومة، كان والده من تول القضية بنفسه وحاول معها كثيرا لكنها دائما تنكر معرفتها بشيء والجميع يلاحظ تبدل سلوكها. عاد من ذكرياته فزعا على صرخات أنثوية في نفس اللحظة التي كان فيها العميد أمام ليث يطلب منه ¤ يجب أن نتحدث ليث *قبل لحظات قليلة* مازالت السيدة عائشة تضم ابنتها من جهة وسهى من الجهة الأخر، ينصتن لمريم العاتبة عليهن، فهي كانت بالمطبخ تتمم على سير الأمور لتأتي نعيمة وتخبرها بأن الخطبة تحولت لزواج، فتركت كل شيء وأسرعت لتستفسر من ورد وهذه الأخيرة رأسها في فوضى عارمة من أصوات متداخلة تكرر نفسها كأسطوانة خربة (ستنسين، ستتزوجين ....أين حقي في الحياة؟....ورد أين أنت صغيرتي؟ لا تخافي! أخرجي لنلعب! ...أين حقي في الزواج؟ ....رنا لم تمت إنها فقط نائمة وتنتظرك لنلعب جميعا! ورد هيا! ..أنا أحبها أمي أحبها! .....ستنسين ...صغيرتي أخرجي هيا! ) أجفلت على دخول مريم تتكلم بشيء لم تتبينه، حاولت لكنها لم تفلح بالتقاط ما تقوله ووجهها يبتعد ويبتعد فيضمحل معه النور حتى شعرت بنفسها تهوي إلى قاع مظلم، فصرخن وهن يسندنها، وصل إليهن ليث والعميد مع محمود الذي حملها ووضعها على الأريكة، يصيح ¤ أحضري حقيبتي سهى! أسرعت تحضرها بينما محمود يتحسس نبضها الضعيف وبدأ بفحصها والجميع مجتمعين حولها يتجلى القلق على أوجههم حتى السيدة زهرة دخل الخوف قلبها من شحوب الفتاة الشبيه بالأموات، أحضرت سهى الحقيبة وفتحتها بجانب شقيقها الذي أخذ السماعات الطبية وجهاز قياس الضغط وبدأ بعمله. السيدة عائشة من جهة رأس ورد شفتاها لا تتوقفان عن التمتمة بالدعاء وفي الجهة المقابلة صفحتا وجهين متشابهتين تتسمان بالقلق القاتل والغضب الحارق ممن أوصلها لهذه المرحلة والتوعد بقتله ما إن يعرفانه وهذان لم يكونا سوى العريس و حماه، أما الباقي فيراقبون بصمت منهم من يبكي كسهى و مريم ومنهم المقطب كالسيد يوسف الذي يستشعر خطورة الموضوع قلقه يزداد لتورط ابنه الظاهر عليه يتعرف على الحب للمرة الأولى، فيحدث نفسه (آه بني إن كنت جرحت وصدمت من فتاة أعجبتك و تزوجتها ..فما سيكون شعورك إن جاءتك من فتاة دخلت قلبك) التفت إلى زوجته التي شدت على يده والظاهر على وجهها أنها تقاسمه أفكاره، فأشار لها يبثها ثباتا لا يملكه بالكامل، يسمعان حديث محمود ¤ الضغط مرتفع جدا، سأحقنها بدواء ليوازنه ثم أوقظها. قارن القول بالفعل وبعد لحظات رمشت بجفنيها بضعف و بدا عليها الانزعاج، تتمتم بكلمات تتضح مع كل نفس تأخذه حتى أصبحت واضحة للسامعين حولها ¤ رنا ..رنا أرجوك.... سامحيني ...رنا! دفع القلب بالدم ينشر الخوف بشرايين محمود مع والدته التي فتحت عينيها على وسعهما مبهوتة وقد عادت بها الذاكرة للماضي وأصبحت تتأكد لديها الظنون من جديد. هتف العميد الذي لاحظ ملامح محمود و والدته بريبة ¤ من رنا هذه؟ انتفضت السيدة عائشة واقفة ترتعش مما اضطر محمود ليقف ويضمها من كتفيها تاركا ورد و قد بدأت باسترجاع وعيها، فتقدم ليث جالسا القرفصاء أمامها وصاح العميد بنفاذ صبر ¤ هل ستخبرانني؟ أجابه محمود بتبلد أصاب عقله ¤ إنها صديقة ورد. عقد حاجبيه، يحثه مستفسرا ¤ و؟ بلع ريقه يشعر بارتعاد والدته ثم قال ¤ صديقة طفولتها إبنة عائلة المنشاوي. شهقت السيدة زهرة تهتف بذهول ¤ تلك الفتاة التي اختفت ولم يجدوها؟ ألا تذكرها يا يوسف؟ كانت ناريمان تحضرها وتام.... قطعت السيدة زهرة كلامها وهي تلمح احمرار وجه ابنها الذي هتف ببرود ¤ أنا أيضا أذكرها جيدا، لقد كانت فتاة غريبة ثم أنا أذكر أنهم أحضروها من العدم وقالوا عنها ابنتهم. ردت والدته بما يعلم به كل من زوجها والسيدة عائشة بينما الباقي يتابعون بصمت حذر كأنهم يجمعون خيوط لغز، منهمكين في التفكير ¤ هذا لأنها ليست ابنتهم بني، لقد كفلوها. الشهقة الحادة هذه المرة كانت من فم ورد التي وعت على ما هلوست به، اقترب منها والدها يسندها لتجلس، تتساءل بضعف يخالطه الذهول ¤ رنا ليست ابنة أ....أقصد ليست ابنتهم؟ أجابتها السيدة زهرة بريبة ¤ طبعا لا! نارمان لم تنجب سوى ولدين والفتاة كانت يتيمة وكفلوها ...ألم يخبروكم بذلك؟ ألستم أنسباء؟ وأصدقاء من قبل؟ طرحت السؤال بنزق جعل زوجها ينهرها بعينيه، فتكلم العميد يطمئن على ابنته ¤ هل أنت بخير؟ أومأت بضعف تفكر بأن ذلك الوحش ليس والد رنا، تساءلت مريم بفضول ¤ أنا لا أفهم شيئا ...كيف اختفت هكذا ثم ما دخلها بورد؟ أجابت السيدة عائشة وقد بدأت دموعها تنهمر ¤ رنا صديقة ورد الوحيدة والمفضلة...آخرة مرة رأيتها بها كانت تسحب ورد لتلعبا بالحديقة ....عند موعد عودتي لبيتي بحثنا عليهما فلم نجدهما فاستنفر قصرهم بكل من فيه، يبحثون عن الفتاتين وفي النهاية وجدوا ورد منكمشة بركن في قبو القصر الكبير شاحبة، متجمدة ومصدومة بينما الأخرى اختفت دون أثر ، حمدت ربي أن ابنتي حفظها الله لي و كنت فزعة من مجرد التفكير باحتمال اختفائها مع رنا. ضمت رأسها إلى صدر ابنها تكتم شهقات بكائها ومحمود يشد عليها مواسيا، يكمل عنها ¤ أبي رحمه الله تولى القضية بنفسه لكنه لم يصل لشيء. اقتربت سهى من أختها تسألها برقة وإشفاق ¤لماذا تطلبين منها السماح أختي؟ لقد كنت صغيرة وليس لك ذنب في اختفاءها ..بل كان من الممكن لا قدر الله أن يحصل لك مكروه مثلها. أحس العميد بارتعاشها، يفكر بالذي حدث للفتاة أمام ورد وكأن محمود نطق سؤاله جهرا حين قال ¤ أبي رحمه الله كان متأكدا بأن ورد تعلم بما حدث لرنا لكن الصدمة أنستها أو أرعبتها حد الامتناع عن التحدث. إلتفت الأنظار كلها حول ورد التي انتفضت تستقيم واقفة، ترتب هندامها بينما تقول بصوت متهدج مرتعش ¤أنا لا أذكر شيئا ...لقد مر كثير من الوقت و كنت صغيرة حينها. ¤ ماذا يحدث هنا؟ أين كاتبي العدل؟ الوقت يمر كان هذا الجد وزوجته عائدين من الحديقة وقد أعطته فكرة عن حوارها مع حفيدها وعن شكوكها أيضا ثم جعلته يعدها بأن يساعدا ليث في ما ينويه خصوصا أن حبه للفتاة واضح كالشمس، أكمل الجد كلامه عندما لم يتلق جوابا يجاور العميد ¤ هل تثق بتلميذك يا سيادة العميد؟ نظر إلى ابنته ثم إلى ليث، مجيبا بتأكيد ¤ طبعا ..هو ليس فقط تلميذي بل إبني الذي لم أنجبه. ابتسم الجد بغموض، يقول ¤ إذا قوما بما يلزم لترافقنا كريمة صديقك ككنتنا الليلة، فبيتها بانتظارها. إلتفت العميد إلى ورد يمسك يدها بحنان يهمس برقة كأنه يحدث طفلة صغيرة ¤ هل أنت موافقة عزيزتي؟ أنا أستطيع حمايتك بعون الله، فكري جيدا وسأفعل ما تريدينه. اغتم قلبه من نظرة عيني فلذة كبده، يراها تائهة خائفة وكل ما يريده ويتمناه أن يضمها في التو واللحظة ويخفيها في مكان آمن. سلكت حنجرتها وردت بنفس همسه وإن خرج ضعيفا ¤ حمم.. أنا موافقة، ..ليث سيحميني ..فمن يريد خطفي سيخشى توريط نفسه مع الشرطة. هز رأسه مع كتفيه باستسلام والتفت إلى جد ليث، يقول ¤ أرجو منك المعذرة سأقوم بالاتصال بالكاتب العدلي لعقد القران. أشار له بالموافقة وعاد إلى مجلسه مستغربا من استسلام كنته زهرة للأمر الواقع و جلوسها بجانب زوجها متشبثة بيده كأنها تستمد منه الثقة التي هو بنفسه لا يملكها بالكامل، يخشى فشل زيجة أخرى لحفيده خصوصا لشعوره هذا الذي يجعل الإنسان يتحمس لحبيبه ويحكم الطوق عليه والفتاة لا يظهر عليها في وضع طبيعي لتستوعب كم مشاعر الرجل حين يحب، يخشى أن يزيد الضغط عليها إلى أن تنفجر و الله أعلم كيف؟ سحبت مريم صديقتها تطلب منها غسل وجهها و إعادة زينتها، تريد التحدث معها في ما توشك الإقدام عليه وهذا ما فعلته ما إن أوصلتها إلى الحمام الثانوي للبيت ¤ هل فكرت جيدا ورد؟ ..أعني ستتزوجين الليلة! هل أنت مستعدة لذلك؟ حتى أنك لم تجمعي أغراضك. سحبت منها يدها برفق وضمتها إلى جانبها، مجيبة بتوتر وارتباك ¤ نعم لقد فكرت جيدا ثم أنا لا أريد حفل عرس، فما الفرق؟ أما أغراضي فأعتمد عليك أنت وسهى، ستتكفلان بهذا الأمر وأنا أثق أنكما ستنهيان التوضيب مع انتهاء عقد قراني أليس كذلك؟ ربتت على كتف مريم مع آخر جملتها وفرت من أمامها إلى الحمام تأمل أن تضرب عصفورين بحجر واحد، أن لا تدخل غرفتها حتى من أجل أغراضها وأن ترتاح من تساؤلات و تدخلات سهى ومريم . وصل كاتبي العدل وعقدا القران في الساعة العاشرة مساء، بالفعل المناصب تساعد ببعض الأحيان وليتها تساعد في مثل عقد القران فقط! نزلت الفتاتان بحقيبتين مما استطاعتا جمعه من أغراضها، كان وداعا حزينا ولم يؤثر بورد سوى الدموع الحارقة التي تذرفها والدتها، فارتمت بحضنها تتمرغ به، قلبها يتقطع لأشلاء لا تعلم كيف تحزن أكثر؟ تريد ذرف الدموع لكنها لا تنزل. حاولت، اعتصرت مقلتاها وهي جامدة كأنها تحولت إلى سكاكين من جليد تذرف إلى أحشائها، فاكتفت بهمسها قرب أذنيها ¤ لا تبكي أمي! أحبك ...كفكفي دموعك، سأكون بخير، ألست راضية عني؟ شدت من حضنها تسحبها أقرب و تشهق بحرقة تتمتم ¤ سامحيني ابنتي ...سامحيني، آه رحمتك ربي! رفعت رأسها الى وجه والدتها مقطبة تمسح لها دموعها، هامسة بخفوت ¤ أمي! بل أنت سامحيني، لقد أغدقت علي من حنانك وأحببتني حتى أكثر من ابنتك. حركت رأسها بلا و أعادت احتضانها، معقبة بحرقة ¤بل ابنتي كبدي وقطعة من قلبي، لكني أخاف الله في الأمانة، أن لا أكون قد صنتها كما يجب، فأحاسب عليها والله عادل بنيتي... اسمه العدل! سحبت نفسها من بين أحضان والدتها، تخبرها بحزم ¤ بل صنتها أمي ولا تخافي، سأكون بخير إن شاء الله، أنا مغادرة مع زوجي إلى بيته، ألم تتمني دائما زواجي كسهى؟ ...إذن افرحي حبيبتي قد تحققت امنيتك. اقتربت الجدة التي نزلت دموعها من تأثرها وهتفت بينما تمسك ورد من كتفها ¤ سيدة عائشة، هذه أمانتك عندنا لا تخافي عليها ثم أنت مرحب بك في بيتنا وقت ما تشائين نحن عائلة واحدة و ورد ابنتنا. ودعت والدها مع الباقين، أخبرتها مريم بأنها ستزورها بعد أن تستقر ببيت خالتها لأنهم كلموها واتفقوا على انتقالها بالغد ثم حضنت سهى الباكية كأمها ولم يستطع محمود المقاومة فضمها إليه برفق متجاهلا تشنجها. ودعها والدها على أمل لقائها بالغد ليطمئن عليها ورحلت مع رجل أصبح بشرع الله وقوانين البشر زوجها، هاربة من أشباح الماضي وما يفوتها أن أشباح الشخص تلازمه لأنها من صنع خياله و عقله. ركبت بجانب ليث بسيارته، لم يتفوها بكلمة واحدة و برودة احشائهما تطغى على برودة الجو، عند وصولهم للقصر لمح تكمش ورد تحضن نفسها ترتعد من البرد فلاحظ عدم ارتدائها المعطف، نزع عنه سترته وبسطها رافعا يديه ليلبسها إياها فانكمشت أكثر مجفلة من حركته، فضاقت مقلتاه ثم أشار إلى رأسه بقوله الحازم الهادئ ¤ضعي كلامي في رأسك واعقليه جيدا ...أنا مستحيل..... مستحيل أن أؤذيك ورد ..سأبتر يداي قبل أن أفعلها لأنك زوجتي و لأنني أحبك. رفعت رأسها مبهوتة، فهي ظنت بأن قوله من قبل وإن أحست بوقعه على قلبها مجرد محاولة إقناع للعائلة، فأكمل مؤكدا ¤ نعم أحبك، فأنا رجل بما فيه الكفاية لأعلن عن مشاعري ولا أخجل منها، أنا لن أتزوج من فتاة فقط لأحميها، قد أساعدها بكل ما أوتيت من سلطة كشرطي وقوة كرجل لكن لن أتمادى لحد الزواج، خصوصا أنها قد رفضتني من قبل و لم تقبل زواجي منها سوى لأحميها، لقد تزوجت من قبل ظنا مني بأنني أحببت لكن ما أشعر به الآن ... ربما يوما ما ..ربما سأشرح لك كيف أشعر نحوك! ...نسيتِ ارتداء معطفك، ارتدي هذه فالبيت على البحر مباشرة والجو أكثر برودة مما تعودت عليه. مد لها السترة و أخذتها منه و هي لاتزال مبهوتة و خرج من السيارة و هو يقسم أن شحوبها طغى عليه لون زهري أعلى خديها.. البيت مستنفر، منذ مكالمة السيد أحمد والجميع يتساءل عن سبب تحول الخطبة الى زيجة، فبدأت التكهنات والتحليلات وتحول أرجاء البيت الكبير إلى برامج "التوك شو" التي مهما أسبغوا عليها أسماء وصفات بقي معناها واحدا "برنامج الثرثرة" سمعت أصوات وصول السيارات، فاختبأ كل واحد في ركن قريب من نافذته، ليسرقوا النظرات علهم يفقهوا السر العظيم وراء زواج ليث المفاجئ، كان في استقبالهم الخالة سعاد والمسؤول عن الحديقة والمرآب وكل ما يتعلق بصيانة البيت والمتابع لأي عامل يحتاجونه فيما يخص ذلك، السيد مرسي و طبعا إسراء المتحمسة التي أسرعت إلى أخيها تضمه مبتسمة بحبور، هاتفة ¤ مبارك أخي، لقد سعدت لسماع الخبر، استغربت قليلا لكني سعيدة من أجلك. ابتسم يتصنع المرح وهو يجيبها ¤على رسلك يا فتاة! تداركي أنفاسك ...شكرا حبيبتي، بارك الله بك! أسرعت إلى ورد المترجلة من السيارة تمسك بطرفي سترة زوجها من فوق فستانها وضمتها أيضا تبارك لها. سحبت الجدة ورد مرحبة وعرفتها على السيد مرسي ثم الخالة سعاد التي ما إن رأتها أطلقت زغرودة أجفلت الكل، فنهرتها السيدة زهرة وطبعا لم تهتم لها كما العادة، طلبت منها الجدة الدخول و سألت الخالة إذا كان الجناح جاهزا، فكان الجواب بالإيجاب، فعرضت إيصالهما بنفسها. كانت هناك، تسترق النظر كغيرها إلا أنها تتمتع بموقع مشاهدة جيد، لدرجة أنها لمحت نظرات ليث لزوجته وسترته المستكينة على كتفيها، خاطبت نفسها قائلة ..."يحبها ..يحبها لدرجة أنه تزوجها بسرعة... لم يسبق لي أن رأيته ينظر لامرأة كما ينظر لها" رفعت رأسها تتأمل النجوم و تناجي ربها.. "يا ترى هل سينظر لي رجل كما ينظر لها؟.. "...أطلقت زفرة يأس والتفتت إلى سريرها علّ النوم يلقي عليها بسلطانه، فيرتاح عقلها من أفكاره. اتجها مع الجدة إلى جناحهما، تتبع خطواتهما بسهو لم يلفت انتباهها كبر مرافق البيت و لا الأثاث العريق أو حتى الأطياف التي تمر بأي حجة لاقتناص نظرة عن قرب من مساعدات الخالة سعاد. توقفت عندما توقفا، لترفع رأسها إلى الجدة التي فتحت الباب وأشارت لهما بالدخول، تلفتت حولها تتأمل حجرة الاستقبال الواسعة باللون الأرجواني بدراجاته المختلفة إن كان على الجدران أو الستائر أو الأريكتين، انتبهت إلى الجدة التي تكلمت بلطف ¤ أريدك أن تعلمي شيئا مُهما ابنتي، هذا جناحي الأول جددته وأعددته منذ مدة لحفيدي وزوجته أتمنى أن يعجبكما . فهما الاثنان إلى ما ترمي إليه، فتقدم ليث وأمسك يدها ليقبلها، شاكرا ¤شكرا لك جدتي، بارك الله بصحتك وعمرك. ربتت على رأسه مجيبة بحنو ¤ وبارك الله بك حبيبي ...سأترككما الآن لترتاحا وأريح عظامي أنا أيضا، أنت تعلم بني لا طاقة لي بالسهر. التفتت لتخرج من الجناح فوقفت على إثر صوت ورد الضعيف النبرة ¤ جدتي؟ استجابت لندائها وعادت تلتفت إليها ترقبا، فتقدمت ورد نحوها تمسك يدها كما فعل ليث و قبلتها احتراما، تهمس بتعب ¤ شكرا لك، الجناح جميل وأكثر من المطلوب. ابتسمت الجدة يؤكد لها قلبها صدق إحساسها بحسن أخلاق الفتاة ...ربتت على رأسها أيضا، قائلة ¤بارك الله لكما بنيتي ..تصبحان على خير . ردا التحية بتمتمة وخرجت الجدة، فأقفل ليث الباب بالقفل مما جعل ورد تجفل وتتكوم على نفسها تضم سترته متمسكة بها، استدار إليها ففوجئ بحالتها وأغمض عينيه بيأس و دلكهما بسبابته وإبهامه بينما ترقبه بتأهب، رفع إليها عينين تعبتين، يقول رافعا كفيه باستسلام ¤ يا إلهي! كفي عن النظر الي كأنني وحش سأنقض عليك في أي لحظة! ثم هز أحد كفيه، مكملا ¤ لن أعيد كلامي لأنني أكاد أقع أرضا من التعب، أغلقت الباب لأن العاملات هنا فضوليات سيحاولن الدخول بأي حجة لذا عند وجودنا في الجناح أغلقي الباب بالمفتاح و دعيه في قفله، الغرفة على اليمين هي أكبر واحدة ستجدين بها أغراضك ..أغلقيها أيضا بالمفتاح إن أردت طبعا عندما تأتي أغراضي سيرتبونها في الدولاب بجانب خاصتك لذلك قبل أن تغلقي عليك بابك اتركي ملابس لي. اقترب منها قليلا متجاهلا توترها و سأل باهتمام ¤ هل تحتاجين شيئا آخر ؟ أي شيء؟ ظلت على صمتها تنظر إليه بانبهار ثم بلعت ريقها وأومأت بلا فأشار لها أن تذهب إلى غرفتها، راقبها إلى أن دخلت وأقفلت الباب، خطى هو الآخر إلى الغرفة المقابلة ليسمع صوت إدارة القفل، فدخل غرفته و ملامح السخط تطغى عليه رغما عنه، فزفر هامسا ¤ رحماك ربي. انتصبت وسط الغرفة تفكر بأن مساحتها ضعف غرفتها، 'غرفتها' عند تذكرها لغرفتها القديمة سرت رجفة بجسدها، فالتفتت إلى المرآة بجزع، تلفتت تبحث عن شيء ما وفتحت إحدى حقائبها و استلت منها وشاحا كبيرا وأسرعت تغطي به المرآة، شدت على سترته ثم وضعت كفها تلمسها فأخفضت رأسها تقرب أنفها منها واشتمت رائحته، أسرعت دقات قلبها تهدر وسط صدرها و هي تتذكر كلماته عن حبه لها، تستغرب وتتساءل عن الذي يجعله مميزا، لطالما سمعت غزلا من الرجال وكل ما كانت تشعر به الغثيان والتقزز لكن هو' كلما نطق بنبرته المتميزة تسابقت دقات قلبها هربا منها. تقدمت إلى السرير واستلقت عليه و ماتزال تضم إليها أطراف السترة تملأ رئتيها بعبيره تتعجب من مشاعر لم تكن تعلم حتى بوجودها، تذكرت قوله "لن أوذيك أبدا" فارتخى جفنيها يأخذها عبيره إلى رحلة عبر الأحلام، أما في الغرفة المجاورة فليثٌ حبيس يلجم نفسه بصعوبة حتى لا يذهب إليها ويأخذها في حضنه ليعلمها بمدى إحساسه بها، ألقى بنفسه على سريره البارد يبحث في عقله عن حل لمعضلته وكان آخر ما همس به قبل أن يسحبه السُّبات العميق.. ¤ لقد كانت ليلة طويلة جدا أطول حتى من ليلة محاولة خطفنا. **** اهتز المكتب حتى وقعت التحف الصغيرة والأقلام الذهبية فوقه جراء حدة ضربة كفيه اللتين حط بهما على سطح مكتبه، انتفض الواقف أمامه بفزع يتمتم ¤ ممماذا سس..سيدي هل هناك شيء خاطئ؟ رفع وجهه اليه مجفلا كأنه نسي وجوده، فصاح بغضب ¤ أخرج! ...أخرج من هنا! اذهب إلى قسم الحسابات و خذ أتعابك وانتظر مني مكالمة هيا! فر من أمام غضبه الهادر و هو يهمس لنفسه ¤ على الأقل لم ينسى أتعابي . أما الآخر فيغلي غضبا حتى احمر وجهه وأظلمت عيناه الزرق كابنة عمه حتى تكدرت زرقتهما بينما يتفحص الصور قبالته، زفر بحدة ورفع يده إلى شعره يمسك بشعيراته البنية يشد عليها وكأنه سيزيلها من منابتها، أنزلها إلى وجهه يمسح عليه ثم جلس على مقعده الجلدي الفاخر، أرخى ربطة عنقه وسحب الملف تحت الصور وفتحه و بدأ بقراءة ما فيه، اهتزت عضلة خده كارها ما يقرأه بكل المقاييس، فألقى الملف جانبا وأرخى ثقله على المقعد يعقب بعصبية ¤ اللعنة إنه غني! أكثر مالا حتى من والدها! عمي وأعرفه سيرحب به ويزوجها له في غمضة عين، فهو مادي محض. ضيق عيناه ورفع سبابته يربت بها على شفته مفكرا ¤ ما الذي يؤخرها يا ترى؟ ...لماذا لم تخبر والداها إلى الآن؟ هناك حلقة مفقودة و أنا يجب أن أعرفها. تناول هاتفه من على سطح المكتب ولعب بأزراره قبل أن ينتظر ليهتف بمحدثه ¤ راقبهما و حاول سمع الحوار بينهما، أريد كل كلمة يتفوهان بها أن تصلني أولا بأول! *** متكئ على جانب المخرج الكبير إلى الباحة، يسترجع الحوار بينه وبين ذلك المدعو "فيصل" حين وافاه إلى المراحيض وساعده على التنظيف بينما يثرثر بكلام كثير عن كونه يعمل لشخص مهم يريد ورد بأي ثمن وأنه وصديقيه قبض عليهم وهم يحاولون خطفها له، تركه حتى أكمل كلامه ثم رد عليه بنزق ¤ وما المطلوب مني الآن؟ لاحظ الضيق على وجهه، فهو يعلم بأنه ينتظر منه البوح بما لديه هو الآخر عن ورد، فجابه قائلا بحذر ¤ نتفق ..ونخبر السيد بكل ما تعرفه عنها وإن علمت كيف نسلمها له سيكون الثمن مرتفعا هل فهمت؟ و هكذا تحصل على ثأرك وحبة مسك هدية. تظاهر زيد بالتفكير ثم قال بجدية أجاد ادعاءها ¤ أستطيع أن أسلمها له بكل سهولة. ابتسم فيصل بظفر اختفى عندما استطرد بانزعاج ¤ لكن يجب أن أعلم هوية رئيسكم؟ فأنا لست غبيا لألقي بنفسي في ظلمات أتخبط بها لوحدي. ضم حاجباه رافضا، يرد عليه مشيرا لرقبته ¤ لا أستطيع ..إنها قطع رقبة . اقترب منه زيد متصنعا الغضب، قائلا بحقد قبل أن ينسحب ¤ إذن ابتعد عني وسأثأر لنفسي دون رئيسكم المزعوم أعلم بأن كل غايتك المال، لذا فكر جيدا إن لم تثق بي كليا فلا حاجة لي بك، وداعا . وها هو الآن ينتظر نتائج خطته. بمكان آخر في نفس الباحة يحتد النقاش بين الثلاثة بعد أن قص عليهم ما حدث بينه وزيد فاختلفوا في الرأي ما بين ترك الموضوع برمته و بين اتمامه خصوصا أن زيد يدعي سهولة فعل ما فشلوا به. هتف فيصل يتحجج ليقنعهم بما ينويه ¤ يقول أنه سيسلمها بسهولة وكل ما يريده أن يعلم لمن حتى يتأكد من صدق كلامي. اجابه الآخر بريبة ¤ وهل ستثق به؟ ماذا لو كان خطة وفخ ما؟ اسرع يجيبه بثقة ¤ أنت سمعته مثلنا ..ثم هو لا يهتم أبدا و يهرب مني باستمرار، لولا أنني ألححت عليه ليسمعني ثم ماذا سنخسر؟ ندخله بيننا و بعدما يثبت حسن نيته بتسليم الفتاة نضمه ليعمل معنا.

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514