دخلوا إلى مكتب مدير السجن رأسا حيث وجدا زيد ينتظر بالفعل مع المدير الذي قام ما إن رأى ليث وصافحه بضمة خفيفة تظهر مدى صداقتهما وفعل المثل مع هشام. اقترب ليث من زيد و جلس أمامه يهتف بلهفة أمام البقية المطرقين السمع ¤ هات ما عندك زيد، فأنا متأكد من ملامح وجهك المستبشرة بأنك حققت الهدف. أجابه بينما يهز رأسه بإيجاب ¤ طبعا، ألم أخبرك بأنني سأثبت لك جدارتي؟ رد عليه بنفاذ صبر ¤ أعلم أنك على قدر المسؤولية ...ها! الإسم؟ هتف من دون تردد ¤ المنشاوي! فغروا أفواههم مبهوتين يكادون لا يصدقون، تغيرت ملامح ليث رويدا رويدا إلى غضب أسود و ضرب قبضة يده بالطاولة قائما بينما يصيح ¤ تتااااممررر!! نهض زيد يمسكه من مرفقه، يوقفه قائلا ¤ ليس هو فحسب، يجب أن تسمع كل شيء عندي . التفت إليه ليث وقد بلغ فضوله أعلى درجاته ولم يكن الوحيد بل الثلاثة الأخرين، يلتفون حولهما ينتظرونه ليتكلم، فشرع في سرد ما بجعبته. انتهى من حديثه والجميع مدهوشين لم يتوقعوا أبدا ما سمعوه، فاسم المنشاوي لطالما ارتبط بعالم الأعمال والمال و الاقتصاد، يفكرون كيف استطاع إخفاء نفسه كل هذه المدة، اشتغل عقل ليث بسرعة ومع كل تفكير واحتمال تزيد دقات قلبه، فكل احتمالاته منصبة على ورد. ربت عل كتف زيد مهنئا ثم طلب من المدير تطبيق خطة اخراجه من السجن التي تقضي بافتعال مشاجرة قوية بين زيد وأحد النزلاء بالسجن ثم يشاع بعد ذلك إقالته من طرف الإدارة إلى سجن آخر وهكذا لا يشك رجال حلمي بشيء ليتمكنوا من مراقبة حلمي وابنه دون ضغوط، سعد زيد بينما يرى أبواب الخير تفتح له فحمد ربه ودعاه بتيسير باقي الأمور أما ليث فخرج من السجن محمر الوجه من الغضب والضيق، صديقه يحاول تهدئته قليلا مع أنه غاضب مثله ، يفكر بأن حساب تامر ثقل و يجب تصفيته. سحب ليث هاتفه من جيب سترته يطلب العميد وما إن أجابه حتى هتف ¤ أنا خارج من سجن العاصمة، سأصل إلى المكتب بعد ساعة إن شاء الله أريد أن أجدك هناك في انتظاري . رد عليه بنفس هتافه ¤ هل علمت من يكون؟ أخبرني ليث. أجابه بثقة ونظرات قاتمة ¤ أجل علمت لكن سأخبرك وجها لوجه لأن الأمر خطير و هناك أبعاد أخرى. رد عليه قبل أن ينهي المكالمة ¤ أسرع إذن! ستجدني بانتظارك ان شاء الله ..سلام. أعاد الهاتف مكانه واستقل السيارة برفقة هشام وياسين، ينطلقون وكلهم عزم على وضع المجرم بمكانه المناسب وراء القضبان . مازالتا في الشرفة، تحكي لها الجدة طيبة عن قصة لقائها بأحمد الجندي وزواجهما، قصة لا تخلوا من مواقف مضحكة جعلت ورد تبتسم من قلبها وتنسى قليلا من خوفها. سألتها الجدة على غفلة لكن برفق ¤ لماذا الخوف بعينيك بنيتي؟....تعلمين؟ أول مرة قابلتك في ذلك الحفل الخيري أعجبت بقوة شخصيتك وبإصرارك على جمع أكبر مبلغ لليتامى، كانت عيناك تحملان صرامة وقوة تجمدان الذي أمامك بمكانه ....فما الذي تغير؟ لم تتوقع سؤالها، فظلت تنظر إليها برهة ثم همست متنهدة ¤ صدقيني جدتي، أنا نفسي لا أعلم ما بي؟ ...أعتقد بأن النضوج والكبر يجلبان معهما مسؤوليات لا طاقة لي بها. ابتسمت الجدة تحاورها برفق ومزاح ¤ إذن تريدين البقاء طفلة صغيرة، كلنا نتمنى ذلك. أظلمت عيناها حتى أصبحتا تشتعلان سوادا واشتد العرق بجبهتها، ترد ¤ لا ...لا أريد الصغر أيضا. تمالكت نفسها بمشقة لكن الجدة كانت قد لاحظت حالتها والأولى تحاول تصنع المزاح دون فلاح تتخلل بعض الحدة الغير مقصودة نبرة صوتها ¤ أريد عمرك جدتي ..السبعين فما فوق. ضمت الجدة كفها بحنان، تعقب برقة وحكمة ¤ لا بنيتي! الحياة جميلة لكن إذا حاولنا أن نحياها بشكل صحيح ....هي لا تخلو من المشاكل و العقبات والنكبات ...نقع ثم نقوم و نواجه مشاكلنا ونعيش، هذه سنة الله في كونه.... تتزوجين تحبين وتنجبين أطفال. نكست ورد رأسها وارتعش جسدها، فرفعت الجدة رأسها من ذقنها مضيفة بتأكيد ¤ صدقيني بنيتي الحب بين الزوج و زوجته عظيم ومقدس، مبارك من عند الله لا يؤلم إن كان هناك التفاهم ويولد بعدها مودة ورحمة تتوج بثمار حلوة و هم الأبناء وحتى إن لم يرزقوا بأولاد تبقى قدسية العلاقة تربطهما برباط وثيق إلى الممات وفي الآخرة يجمعهما الله من جديد . ظلت تنصت لها بتركيز تتخيل نفسها زوجة بحق لليث وتنجب له أولادا، همت بالتكلم لكنها أقفلت فمها على دخول بيان تلقي السلام برفقة إسراء التي انقضت عليهما بالأحضان والقبل أما بيان فظلت بعيدة بجانب السور. نظرت إليها ورد وهي لاتزال على شعورها المتناقض ونهضت تخطو إليها بعفويتها المعتادة ¤ مرحبا. ظهرت على ملامحها المفاجأة بينما تجيبها بحذر ¤ مرحبا بك. انضمت إليها تضع يديها على السور بينما تكمل ¤ لم نتعرف البارحة، حصل كل شيء بسرعة، فلم أكن بوعيي جيدا. أجابتها بتوتر وحرج، فهي لم تكن باستقبالها أمس ¤ في الحقيقة أنا لم أكن باستقبالكم البارحة، لا أطيق السهر، فعملي يبدأ باكرا. هزت ورد رأسها تعقب قبل أن تعرفها بنفسها ¤ لا مشكلة ..أنا ... قاطعتها تكمل عنها بحدة لم تقصدها ¤أعلم... ورد الخطاب. لم تتفاجأ ورد من عدائيتها يزداد شعورها بالذنب فصمتت بينما تحس الأخرى بحدتها المفرطة تفكر بأن هذه المرأة لا ذنب لها في مصابها، نادت عليهن الخالة لتناول الغداء، فاستجبن لها لكن بيان أوقفت ورد تهمس لها بارتباك ¤ آسفة لم أقصد. أشفقت على تلبكها، فربتت على ذراعها مجيبة ¤ لا مشكلة حبيبتي فنحن عائلة ولا مكان للشكليات بينا. زفرت بيان براحة وتبعت ورد التي خطت تنضم إلى العائلة هامسة لنفسها بما أذهلها وزاد من تخبطها ( يا إلهي! إنها فائقة الجمال ) كان الجد أحمد و السيد يوسف قد حضرا للغداء أيضا، فأخبرتها الجدة بأن موعد الغداء والعشاء مقدس لديهم، يجتمعون فيهما مهما كانت أشغالهم باستثناء ليث الذي لا يتحكم أحيانا بمواعيد عمله وكذا غيابه المستمر في الآونة الأخيرة طبعا يقصدون بعد طلاقه لكن بمواراة. أخبرتهم السيد زهرة بزيارة عائلة العروس المرتقبة، فأوصاها السيد أحمد بتجهيز الضيافة بكل كرم. ضرب العميد راحة كفه بكل قوته على مكتب ليث بعد أن بلغه الأخير بالأخبار، يصيح بغضب ¤ المجرم القذر هو وابنه! التفت ليث إلى هشام و ياسين يطلب منهما تركهما لوحدهما، فانسحبا بهدوء وأقفلا الباب ورائهما. دعا ليث العميد للجلوس، فتوجس مما يريد قوله، فلقد رأى القلق على صفحة وجهه مما يدل على المزيد من المصائب، فاستفسر ¤ ماذا هناك ليث؟ رد عليه و كل الأفكار السوداوية تتكالب على رأسه ¤ سأخبرك بما أفكر به لعلّ رأسي الذي سينفجر يرتاح قليلا .....ألا ترى بأن الأمور مترابطة بشكل ما؟ صمت العميد واضعا يده أسفل ذقنه متكئ بمرفقها على سطح المكتب، يسمعه بينما يكمل كلامه ¤ وجود ورد مع الفتاة قبل اختفائها وتغير حالة الأولى منذ ذلك الوقت ورعبها، عند ذكر هذا الأمر بالذات ناهيك عن الهلوسة بطلب السماح من الفتاة ..كره ورد الدائم لتامر حتى جن وأراد خطفها ...هناك شيء مفقود ...لا أعلم ماذا؟ وسيفقدني عقلي إن لم أعرفه. عقب العميد كأنه يفكر معه بصوت مرتفع ¤ ورد لم تطأ بيت المنشاوي منذ اختفاء تلك الفتاة ولا حتى لزيارة سهى، هذا ما أخبرتني به السيدة عائشة، إذا أردت رأي، الأمر أكبر من مجرد كره لتامر السمج ذاك. نظر إليه ليث، مجيبا بجدية ¤ مربط الفرس عند ورد ويجب أن نضغط عليها لتتكلم. هز رأسه موافقا، يقول ¤ أجل يجب أن تتحدث، فمصابها مرتبط بما حدث في قصر المنشاوي ...سنحاول الليلة لكنني أخاف أن نؤذيها. عاجله ليث بالجواب ليقنعه ¤سنكون حولها سيدي، إن حدث شيء نأخذها للطبيب، الدواء دائما مر لكن نتيجته شفاء بعون الله. قام العميد مغادرا بينما يقول بوجوم وقلق ¤ إذن أراك اللية بإذن الله ..كثفوا المراقبة عليه هو وابنه وإياك أن يكشفا المراقبة. وتلكأ عند الباب يحذره بحزم ¤ اختر رجالا حذرين وواثقين يا ليث، فالحقير إن شعر بشيء سيهرب إلى الخارج ولن تجد له أثر، فكن يقظا. غادر و الآخر يومئ مؤكدا على قوله. **** متكئ على كرسيه المريح يضحك ملئ شدقيه، يسمع حوارهما، يسمعه ثم يعيده من جديد قبل أن يحدث نفسه ¤ آه يا سمير أوقعت نفسك بنفسك، كان من الممكن أن تحصل عليها بكل سهولة لكنك صعبتها على نفسك، فأنت لا تعلم عن كبريائها الشهير وكيف تجرحه الآن بكل مخالبك. ثم استطرد بضحكة لئيمة لمعت لها زرقتيه ¤ لنرى ردة فعل ابنة عمي المبجلة حين تعلم بأنها تحت اختبار كالفئران! **** كان الاستقبال مرحبا من قبل عائلة الجندي لعائلة ورد التي تلقت أحضانا كثيرة من والدتها بينما تطلق سراح دمعاتها من جديد وسهى وحتى محمود الذي لم يعد يخشى لمسها، فقد قرر إقناعها بالمعالجة النفسية حتى أنه بحث عن طبيبة ماهرة في مجالها وحصل على اسمها و عنوانها، غافلا عن الذي أشعل فتيل الغيرة بصدره بسبب ذلك الحضن يراقبها بلهفة يلاحق دقة تفاصيلها أما العميد نفسه فتمالك رغبته بضمها والاطمئنان عليها يكتفي بمصافحتها والتربيت على رأسها. تكلموا و تسامروا قليلا ثم رمى العميد ليث بنظرة ذات معنى فهم معناها، فقام يقول ¤ ورد ..العميد و أنا نريدك بموضوع هام يخص القضية، هلا رافقتنا إلى المكتب؟ قامت تشعر بجسدها يرتجف، فقد أنهكت قواها من استمرار وتوالي رعبها وتخبطها في أهوالها، تقدمهما ليث يفتح باب غرفة المكتب وأشار لهما بالدخول ثم أحكم إغلاق الباب ورائهم. جلسوا على الأرائك الجانبية وضم العميد يد ابنته بحنو يخبرها ¤ هناك مستجدات فيما يخص قضية المخدرات وخطفك ...زيد أفلح في خطته وعلم عن هوية المجرمين. ابتسمت بفرح من أجل زيد تهتف وقد خفف ذلك من مصابها قليلا ¤ حقا؟ زيد سيخرج من السجن وستساعدونه؟ أليس كذلك؟ قلب ليث شفتاه بامتعاض، يعقب بضيق وغيرة واضحة ¤ دعك من زيد، فهو قام بجانبه من الاتفاق وسنقوم أيضا بجانبنا فلا تخافي على طفلك الصغير سيصبح شرطيا ان شاء الله. نطق آخر جملته بنبرة سخرية حيرت ورد بينما العميد يبتسم بمرح اختفى ما إن طرحت ابنته سؤالها ¤ من يكون؟ و ما علاقتي به؟ طوق العميد يد ابنته بقوة وحنان، يجيبها قائلا ¤ تامر و ... لم يمهله ليث، يهتف بغضب وترقب ¤ ووالده أيضا. سحبت يدها من كف والدها تضمها إلى حجرها وقد بات ارتعاشها واضحا للعلن، ازرقت شفتاها وجحظت عيناها وقد ابيض وجهها شحوبا، اقترب منها والدها، فانتفضت بقوة لكنه سحبها من كتفيها وضغط عليها يصيح بحزم ¤ لا تهربي ورد! كفي عن الهرب والارتجاف من الخوف هكذا! نحن معك وحولك، فقط أخبريني بالحقيقة! لن أدع مكروها يمسك بنيتي أخبريني بما تعرفينه! ظلت تحدق بهما بنظرات زائغة وأبشع الصور تتجمع في رأسها لتستعرضها أمام عينيها مرة واحدة، أجفلت على ليث الذي اقترب هو الآخر يجلس أمامها القرفصاء يخاطبها برقة ورجاء ¤ ورد التي أعرفها لا تهرب ...ورد التي حددت لي منطقة المعاملة لديها بكل صرامة وشجاعة منذ أول لقاء بيننا لا تعرف الخوف ...أنت قوية جدا ورد .... ما يثير الخوف بنفسك خيالك يصوره لك وحشا ما إن تواجهيه سيضعف إلى أن تهزميه ويختفي حينها ستسترجعين قوتك وعزيمتك ..أرجوك ورد تكلمي! تحجرت مكانها و كأنها لا تسمعهما وبوادر الإغماء تلوح عليها، هم ليث بالتحدث فرفع العميد يده ليمنعه، زفر بيأس وقام يستدير مغادرا و ما إن وصل إلى الباب سمع همسها الضعيف يتوسله عدم الرحيل ¤ لا ترحل أرجوك ... التفت يتأكد مما سمعه فهاله منظرها وقد تركت والدها على الأريكة واستقامت ترتعد و......دموع؟ فتح ليث فمه على وسعه لا يصدق بأنها تسأله عدم الرحيل والأكثر من ذلك دموع تنزل على وجنتيها كشلال وجد مخرجه أخيرا. ¤ لا تتركني أرجوك..إنه يؤلم هذا الشعور بفقدانك، إنه أكثر ألما حتى من" طار قلبه ارتعاشا يخفق بقوة لا يستوعب كم المشاعر التي هجمت عليه من اعترافها ذاك وفي موقفها المضطرب. تنبه لوجود والدها الذي يراقب الوضع عن كثب وإن بدى راضيا على سير الأمور، يسألها ¤ من ماذا ورد؟ أكثر من ماذا؟ تحدثي ابنتي! اقترب منها ليث حتى أصبح أمامها لا يفرق بينهما سوى سنتميترات قليلة، يهمس بحب ¤ لم أكن راحلا ورد، أردت فقط الابتعاد لكي لا أضغط عليك أكثر ...لن أتركك أبدا فروحينا مرتبطتان برباط مقدس حتى بعد مماتنا وهو الزواج حبيبتي ...سأقف بجانبك من ورائك أينما شئت لأحميك وأحارب معك، فمعركتنا واحدة، لن أتوقف إلى أن نصل إلى بر الأمان معا حيث تختفي نظرة الذعر من مقلتيك الجميلتين ...فقط أطلقي سراح هواجسك ومخاوفك ودعيني أحمل عنك. انتحبت كما لم تفعل يوما من قبل، تضع يدها على فمها ثم أزالتها لتطلق شهقة بكاء حادة، تهتف بحرقة بينما تنظر إلى ليث ¤ قتلها أمامي! بهت ليث والعميد الذي هب واقفا يتأكد من توقعه، فهمس ليث بحذر ¤من قتل من ورد؟ تكلمي حبيبتي، من هو؟ شهقات متتالية مختلطة ببكاء مرير وكأن البحر قد هجر مكانه إلى مقلتيها حتى انحنت وأسندت يديها بركبتيها فنزلت قطرات دموعها تضرب الأرض كالمطر. همست بكلمات تتقطع بشهقاتها الموجعة ¤ ق...قامت ...باخفائي في الرك..كن بب....القبو و...ص.... ررخ ع...ليه ..لتد..دله علي ..ل...لكننها ر...فضت .... أخذت نفسا مرتعش ووضعت يدا على بطنها تشعر بألم فظيع، هم والدها بإمساكها لكن ليث أوقفه يشير له بأن لا يقطع كلامها، فاستسلم على مضض وقلبه يتقطع ألما على ابنته وغضبه يزداد على المجرم. سمع همسها الضعيف الذي بدأت نبرته تشتد من الحقد ¤ هم بالبحث ع...ني ل..كننها ححاصرتته بي..دييها الصغيرتين ..ففدد..فعها للتتراج..ع فارتطم ر...أسها بتمثال قدييم ي..حمل شيئا حححا..دا د...دخل بب..رأسها. استقامت واقفة وكأنها لفظت الفظاعة والبشاعة المتكومة بداخلها لتكمل بينما ترفع يدها في الهواء و كأنها تتلمس شيئا ما، تميل برأسها إلى الجانب ¤ ظلت عيناها جاحظتين جامدتين لا ترمشان كعادتهما، خلتا مما يميزهما من بريق ووهج، فعلمت حينها مع أنني صغيرة لكن شيء ما داخلي أعلمني بأن تلك العينين قد خلتا من الحياة وغادرتها من غير رجعة ...أم...مامي لم يعلم بأنني في الركن المغطى أمامهما...بقيت جامدة مكاني إلى أن وجدوني. اقترب ليث أكثر يطلب منها وقد أخافته حالتها ¤ ورد أنظري إلي! لم تطعه فهتف بنبرة أعلى ¤ أنظري إلي! انتفضت تنظر بعينيه مباشرة، فقال من بين أسنانه المطبقة ¤ قولي اسمه ورد! من أجلها ومن أجل من حمتك منه قولي اسمه بالكامل! بالنسبة لهما قد توضح كل شيء لكن ليث أرادها أن تتحدى خوفها وتنطق باسمه. تلاحقت أنفاسها واحتد السواد بعينيها وبكل الغل والحقد والكره بداخلها تجاه المجرم، نطقت باسمه قبل أن تستسلم للهوة المريحة لوعيها فقد انهكت كامل قواها وكان هو بانتظارها ليلتقطها بكل حب واحتواء. ¤ حلمي المنشاوي . **** دخل بيته بلهفة أنسته هموم عمله ما إن تذكر وجودها به، التقط أصواتهن قادمة من غرفة الجلوس ليسبقه قلبه إلى مكانها، تسمرت قدماه يتأمل ضحكاتها مع أخته ووالدته يتفرجن على صور مكومة على الطاولة أمامهن، منها القديمة باللون الأسود والأبيض و أخرى ملونة، أخذت لمار صورة ما تصيح بمرح ¤ هذه صورة أخي تحممه أمي. تفاجأ وهرول إليها ليخطفها من يدها قبل أن تريها لمريم، فأجفلهن يرفعن رؤوسهن، هتفت لمار ¤ لماذا أخي؟ دعها تراها إنها جميلة. أجابها بحنق مضحك ¤ وما الجميل في صبي صغير عار و مبتل؟ ضحكن بمرح قبل أن تنهض السيدة هناء تقبله على وجنته، قائلة ¤ العشاء جاهز، كنا بانتظارك، هيا تعالوا معي! ابتسمت بسعادة وأكملت و هي تمسك مريم تجلسها بجانبها على المائدة ¤ أنا سعيدة جدا ...أحمد الله و أشكره حبيبتي مريم لقد ملأت البيت علينا سعادة وهبك الله سعادة الدنيا كلها. ربتت مريم على يد خالتها ترمقها بتأثر ، يكملون عشاءهم الذي لم يخلوا من النظرات المسروقة والابتسامات منها المستحية والماكرة وابتسامة رضا على ثغر السيدة هناء بينما تستشعر قرب فرح كبير بمنزلهم، لا تصدق تصاريف القدر الرحيمة بحياتهم. انصرف كل إلى غرفته إلا هي خرجت إلى الحديقة التي رأتها في وقت سابق من نافذتها، تريد ملأ رئتيها بهواء نقي علّها تهدأ قليلا، بعيدا عن حضوره الطاغي و رائحة عطره المسكرة، تمشت إلى أن وصلت قرب أشجار الزيتون الخلفية واستندت على واحدة منهن غافلة عن عينان تبرقان بخضرة صافية كالزبرجد في الظلام، أجفلها حين همس قريبا منها ¤ ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟ التفتت إليه وابتعدت عنه خطوة تمسك بقلبها، فاستدرك بنفس همسه المرح ¤ هل أفزعتك؟ يا لي من وحش!...ماذا أفعل لتسامحيني؟ ضحكت ترد عليه بمزاح تخفي تأثرها به ¤ أعطني الصورة التي أخفيتها. ابتسم بإعجاب لم يستطع اخفاءه بينما يقول ¤ لماذا الصورة و صاحبها أمامك؟ أنظري إليه كما تريدين. لولا الظلام لظهرت الحمرة القانية على خديها، تلبكت و أطرقت برأسها، فتقدم يلغي تلك الخطوة يكمل همسه بصوت أجش زاد من ضربات قلبها وتنفس صدرها الذي يعلو وينخفض بسرعة ¤ حبيبتي طاغية الجمال، خضراء العيون، تعلم أنّي بها مفتون، حالي عجيب والنّاس من حولي حائرون، هل نهاية هذا الحبّ الجنون؟ لم تتحمل تستدير لتفر من أمامه، فوقفت حين نادى باسمها يقول ¤ مريم! سأكمل بقيتها في الوقت المناسب...غدا بإذن الله سأطلبك من أمي فأنا لا أستطيع الانتظار أكثر ...في العاشرة مساء ستجدين الصورة أمام باب غرفتك إن أخذتها تيقنت من موافقتك وإن لم تفعلي تكونين قد ألقيت بقلبي في الجحيم . انصرفت تجري لغرفتها وهي تشد على قلبها بيدها كأنه سيفلت منها ويهرب الى صاحبه، ابتسامة بلهاء يعرفها كل من تدله في هوى آخر تزين شفتاها الزهريتين، تردد لنفسها " قال حبيبتي، يا إلهي! يريد الزواج بي!" ***** حمّلها يجري بها إلى جناحهما والعميد يلحق بهما وحين تجاوزوا مدخل غرفة الضيوف هتف ينادي محمود ¤ محمود الحق بنا! جدتي حقيبة الإسعافات فورا . تحرك الجميع من مكانه يتبعون ليث أولهم محمود الذي طلب منهم الانتظار خارج غرفتها، فانتظروا في غرفة الاستقبال ولم يسمح إلا لليث الذي أصر على البقاء بصفته زوجها، تساءلت السيدة زهرة بحنق بينما تقف جوار زوجها ¤ هل هذه الفتاة مريضة؟ لماذا تفقد الوعي كثيرا؟ رمتها حماتها بنظرة نارية أسكتتها والسيدة عائشة قد عادت إلى البكاء والدعاء فتمسك بها سهى لتواسيها ...اقترب السيد يوسف من العميد المنزوي بعيدا عنهم شارد يفكر وسأله بقلق ¤ ما الذي حصل بالمكتب حتى أغمي عليها؟ أطرق الجميع سمعه بفضول حتى بيان التي بدأت الريبة تتسلل إلى عقلها من الموضوع برمته، فرد العميد يعلل إغمائها ¤ أعلمناها بهوية من يريد خطفها، فلم تتحمل. هتفت السيدة عائشة ¤ من هو سيد مصطفى؟ من؟ قطع عليهم سبيل التساؤلات برده الحازم ¤ لا يمكننا البوح باسمه حتى نقبض عليه. تدخل السيد أحمد، مستفسرا بحيرة ¤ يلزمكم أدلة بعد؟ هل هذا ما يؤخركم؟ أومأ بجمود، فسكتت التساؤلات منتظرين انقضاء القضية. داخل الغرفة، التفت محمود إلى ليث، يخبره ¤ إنه الضغط مجددا لقد ارتفع وهذا غير جيد بالمرة، سأحقنها بالدواء ثم أوقظها ...ليث!.... ورد يجب أن تتعالج لدى طبيبة نفسية، حالتها تتأخر، أنا لم أرها هكذا بحياتي. أجابه بعبوس قلق وعينيه عليها لا تحيدان ¤ أعلم لكن كيف سأقنعها؟ رد عليه بغموض بعد أن حقنها وتركها ليستقيم بظهره ¤ كل ما أعلمه بأنك مذ دخلت حياتها حركت كل شيء راكد بها، لا أعلم إن كان سيفضي إلى الأفضل أو الأسوء! بدأ بإيقاظها، فتمتمت بكلمات جعلت محمود يقطب غضبا وينظر نحو ليث، متسائلا بعينيه الجاحظتين ¤ قتلها ...قتت...ل رر..نا أمامي.. عينا..ها . ...قت.لها. قلب ليث عينيه بنزق يهمس له برجاء ¤ من فضلك، ليس الآن . رفرفت بجفنيها تمسك برأسها، تحركت بمكانها لتجلس، فساعدها محمود بينما تهمس بضعف ¤ رأسي يؤلمني، ماذا حدث؟ مد إليها محمود بكأس ماء شربته دفعة واحدة وطلب منه ليث تركه معها على انفراد ثم رافقه إلى الباب يستفسر منه بخفوت ¤ هل تعرف طبيبة متمرسة؟ أخرج محمود بطاقة من جيب سترته يسلمها إياه، مُشيدا بالطبيبة وهو يرمي أخته بنظرة متفقدة ¤ هي دكتورة موثوقة ومعروفة ببراعتها. ثم أمسك بيد ليث قبل أن ينصرف، مضيفا ¤ يجب أن أعرف كل شيء . هز رأسه بتفهم ثم أقفل الباب خلفه والتفت إلى ورد يخطو نحوها حتى جلس بجانبها على السرير، توترت تنكمش على نفسها إلى أن التصقت بحافة السرير، فقال بكل رقة قد تعلمها في حياته ¤ مكاني هنا، فاعتادي قربي منك، دائما سأكون بجانبك ما دمت حيا بإذن الله. ظلت جامدة مكانها تضم جسدها، فاستطرد ¤ ورد من أجلك ومن أجل والدك والسيدة عائشة التي لا تجف دموعها، يجب أن تتعالجي. رفعت رأسها بحيرة تنظر إليه، فأشار برأسه مؤكدا ¤ ألا تريدين التخلص من الرعب الذي يصيبك كلما اقترب منك رجل؟ حتى أخوك محمود ..ألا تريدين عيش حياتك دون ضغوطات أو مخاوف؟ تلكأ قليلا ثم استطرد ¤ الا تريدين إعطاء فرصة لعلاقتنا؟ نزلت دموعها تهمس بضعف ويأس ¤ أخبرتني أنك لن تتركني. اقترب وقلبه يعتصر ألما لمصابها، فانكمشت أكثر ليزفر ويمشط على شعره بأصابعه بقلة حيلة، فقرر محاورتها علّه يجد إليها سبيلا ممهدا خاليا من أشواكها المميتة ¤ مما حمتك رنا؟ أطرقت برأسها ترتجف فاستطرد بحزم ¤ ورد! الموضوع أكبر من مشاهدة جريمة قتل ..شيء آخر توغل بداخلك حتى تفشى وتحكم بكل خلاياك و منعك عن عيش حياتك بطبيعية وهذا يسمى مرض نفسي. رقق نبرته أكثر كنظراته بينما يحاول باستمرار دق جميع أبوابها ¤ العلة النفسية ليس عيبا حبيبتي، فهو كالأمراض الأخرى نبحث عن أسبابه لنتفاداها ونأخذ علاجها إلى أن نشفى بإذن الله كما فعل معك محمود الآن، فكري جيدا وإن قررت الذهاب، سأكون معك خطوة بخطوة حتى إن رفضت، ضعي قولي في رأسك، أنا لن أتركك أبدا لكن سأظل قلقا على صحتك. وضع البطاقة في حجرها يضيف ¤ حين تقررين، فقط ابلغيني. ثم نهض تاركا إياها تنظر إلى البطاقة في حجرها، تفكر في جمل علقت برأسها "ألا تريدين إعطاء فرصة لعلاقتنا" وجملة أخرى سمعتها صباحا من فم الجدة "الحب بين الزوجة و زوجته عظيم ومقدس" زادت دقات قلبها لكن ليس ذعرا بل إحساسا آخر لذيذ أرخى أوصالها. دخل عليها العميد والسيدة عائشة التي اندفعت إلى السرير تحضنها بينما تقول بنبرة متهدجة ¤ كيف حالك ابنتي؟ أرعبتني عليك. همست ورد و عيناها على والدها الذي احمر وجهه غضبا، تعلم جيدا كيف سيكون سعيه للانتقام من ذلك المجرم وظل يبادلها نظراتها القلقة بأخرى غاضبة مختلطة بخزي وكأنه يتأسف لها عن غيابه عنها في أشد وقت احتاجته فيها. غادر الجميع بعد أن اطمأنوا عليها وظلت ممسكة بالبطاقة بين يدها بشدة تفكر بأنه حان الوقت لتقف على رجليها، لن تترك والدها يضيع منها كما ضاعت منها هويتها. يكفي ما عاشه في حياته، لن تسمح بأن يعيش الباقي في هموم لا حصر لها وأيضا هو' نعم فارسها الذي وعدها بأنه لن يتركها أبدا دون غاية ولا مطامع، فقط لأنه يحبها ....يحبها هي' ذلك الرجل، الضابط الممتاز بكل هيبته ورجولته وأخلاقه الحميدة يحبها هي' ¤ لمَ تبتسمين؟ رفعت عيناها إلى ليث الذي لم تشعر به متى دخل كما لم تشعر ببسمتها حتى أرسلت كفها إلى فمها لتتأكد بأنها حقا تبتسم، تفكيرها بمشاعره نحوها يجعلها تبتسم، لملمت نفسها و همست بتوتر لقربه منها، يجلس على السرير: رحل أبي؟ تنهد بأسف يتذكر مدى غضبه وقلقه على ابنته ولم يرد الرحيل وتركها إلا حين وعده بأنه سيساعدها بكل ما أوتي من حيلة وسيدفع بها دفعا نحو المعالجة، رد عليها قائلا ¤ أجل، لقد رحل الجميع ...بماذا تشعرين الآن؟ همست قبل أن يسمعا طرقات على الباب قام على إثرها ليفتح الباب : بخير، الحمد لله. ¤إنها جدتي، أرسلت الطعام. وضعه أمامها على السرير وجلس بالقرب منها متعمدا لكي تعتاد قربه، رمق البطاقة بيدها تشد عليها بقوة، تجاهل ذلك وأخذ قطعة من الخبز يملأها بقليل من الجبن و مد يده بها إلى فمها، فتسمرت تنظر إليه تارة وإلى اللقمة بيده تارة أخرى حتى همس لها باسما يرمقها بحب ورجاء : أقسم بأنها لن تأكلك ولن تنقص منك يدا أو رجل، هيا! حاولي تقبُّلي قربك فالقدر اختارني زوجا لك و ....... و أحبك. ساهية تتابع همسه فتحت شفتاها دون وعي مع أخر كلمة لتجفل على وضعه اللقمة داخل فمها، أطرقت بعينيها تشعر بقلبها يدوي مكانه والحرارة تلهب بشرة وجهها وهو يتأمل حمرة خديها، سعيد بلحظاته معها، يشعر بها ابنته التي تحتاجه قبل أن تكون حبيبته وزوجته، وعدا عليه سيحميها وسيخلصها من مخاوفها وذلك الحقير وابنه سيضعهما وراء القضبان ولو كان آخر شيء يفعله في حياته، لم يعلم بأنه قد قطب غضبا بسبب أفكاره حول المجرمين إلا حين همست تسأله بحيرة : ما بك؟ أعاد أنظاره إلى عينيها السوادين اللامعين بدموع تتهدد بالانهمار، فهتف بضيق مشفق : لمَ الدموع الآن؟ قطبت مجددا بريبة ورفعت كفها إلى عينيها لتكتشف بهما الدموع كما اكتشفت الإبتسامة قبل قليل، ففكرت "ماذا الآن؟ هل صار جسدي يتحكم بنفسه؟ هل يا ترى هذه بوادر فقداني لعقلي؟" ¤ هييييه! ورد بماذا تشردين؟ اهتزت عيناها إجفالا ثم نظرت إلى البطاقة لبرهة قبل أن ترفع رأسها إليه تقول ¤ ليث، أنا أريد الذهاب للطبيبة. تحمست أوصاله يبتسم برضا يجيبها ¤ جيد ،جيد جدا ...هذه صغيرتي! اهتزت بشدة وتغيرت تعابير قسمات وجهها حتى اسود واستقامت تغادر السرير بعنف فاجأ ليث الذي وقف متأهبا هو الآخر لا يدري ما بها؟ يراها تمسك جانبي رأسها بكلتا يديها فيستفسر منها بحذر ¤ ورد! ماذا هناك ؟ التفتت إليه فبهت من ملامح التقزز والاحتقار المطلة من نظراتها قبل ملامحها المجعدة قرفا، تقول بإصرار وتوكيد على كل كلمة ¤ لا تناديني أبدا، أبدا بصغيرتي. وجهت إليه سبابتها تنبهه بحزم وجدية، كأنه شتمها ¤ أبدا لا أريد سماعها منك. رفع يديه يبسطهما عموديا، مستسلما حيران لا يفهم منها شيئا واعتذر بهدوء ¤ أنا آسف حقا، لم أكن أعلم بأن تلك الكلمة تزعجك لن أعيدها أبدا، آسف! سأتركك لترتاحي وسنذهب غدا إن شاء الله إلى الطبيبة ارتاحي ولا تفكري بشيء سيئ، تصبحين على خير . توجه نحو الباب يرجو ربه أن لا يفقد ما وصل إليه معها بينما هي تراقبه حتى أغلق الباب، فزفرت بشدة حانقة مما فعلته لكن ما بيدها من حيلة لا تريد أن يربط بين فارسها وذلك المجرم أي شيء حتى كلمة كان الحقير يناديها بها، أنزلت كتفاها بتعب وتقدمت إلى دولابها لتغير ثيابها وتنهي يوما آخر طويل كأيامها الأخيرة، تعلم بأن القادم أطول. **** **اليوم التالي** قامت باكرا متحمسة للحصة الثالثة مع الدكتور مفيد *الأصلع*! وظلت تبحث بين ملابسها لساعة كاملة حتى وقع اختيارها أخيرا على فستان رمادي كعينيها، طويل إلى الكعبين معه سترة سوداء، و ارتدت حذاء أسود بكعب متوسط أنيق، شعرها البني مصفف مجموع خلف رأسها عليه وشاح رمادي، التقطت هديتها ووضعتها في حقيبة يدها بعناية وخرجت من غرفتها. وجدت شقيقها على المائدة يده تحت ذقنه والكآبة عنوان ملامحه، تمتمت بصباح الخير فاستقام يقبلها على رأسها دون أن ينتبه إليها، ثم تقدمها إلى الخارج حيث السيارة. حاولت جذب أطراف الحديث معه لتعلم ما به لكنه لم يكن يرد إلا بهمهمات لم تفهم منها شيئا، فتحت لهما السيدة زينب كالعادة فقطبت حين لم يشاكسها سمير كعادته، فقط ألقى سلاما باردا ردته بأبرد منه ثم وقف و أشار لأخته بالدخول، اقتربت السيدة زينب من سمير و تخبره بخفوت سمعه جيدا وهي تراقب تقدم أسماء نحو المكتب ¤ هذه الفتاة تزداد جمالا كل مرة تحضرها إلى هنا. التفت إليها يستغرب من قولها ¤ ماذا قلت؟ مططت شفتاها وقلبت عينيها بضجر و تذمر، تعقب ¤ صباح الخير، أ الآن استيقظت؟ لقد ظننت بأنك لازلت نائما ..لا عجب إن كانت شمسك لم تشرق بعد، هل خربتها وتربعت على تلتها؟ ضم حاجباه يلوي جانب شفته العليا بهزؤ، يرد ¤ من أين لك بتلك الحكم ال... فذة! أجابت وهي تبتعد عنه نحو مكتبها ¤ لي صديقة مصرية علمتني أمثلة رائعة تصيب صميم المعاني. عاد إليه مرحه واقترب منها، مجيبا ¤ حكمة جميلة، لكنني لم أخربها بل أخشى أن تخربها هي ولن يجمعنا حينها مكان أنا وهي حتى تلتها. أجابته بنزق ¤ لن يخربها سواك وسترى! تذكر قولي هذا ثم أنت حتى لم تفهم الحكمة ..أف! جيل جاهل! تقدمت على استحياء توارب الباب بهدوء، لمحته على جلسته المعتادة خلف مكتبه ذي الرائحة العطرة، رائحة العرعار. رفع رأسه إليها فابتسم ابتسامته الجانبية التي تجعلها تحدق به بقلة حيلة وقام من مكتبه، يقول بينما يخطو نحوها ¤ مرحبا بك آنسة أسماء، كيف حالك؟ تمتمت ب بخير وظلت مكانها إلى أن وصل إليها، يضيف مستفسرا ¤ أين نجلس؟ كالمرة الماضية؟ أومأت وخطت إلى الأريكة وجلسا متقابلين تفصل بينهما مسافة لا بأس بها تشغل الطاولة الزجاجية المنخفضة مساحة منها، لفت انتباهه ما تفعله وراقبها بابتسامته المعتادة بينما تزيل المزهرية المتوسطة للطاولة ثم فتحت حقيبتها اليدوية وسحبت المنديل المطوي بعناية وقامت بفرشه فوق المائدة. أعجبه للغاية بالباقة المطرزة عليه كالباقة في المزهرية التي أعادتها إلى المائدة لكن على الجانب فأصبحت الرسمة المطرزة كانعكاس لها، قال بتقدير ¤ مبهر! أنت فعلا ماهرة. ابتسمت بسعادة وسحبت منديلا أصغر بنفس باقة الورد تبسط يدها به نحوه، فنهض ليلتقطه قبل أن يعود إلى الأريكة المقابلة، بسطه ليتأمله قليلا ثم أعاد طييه ودسه داخل جيب سرواله تحت أنظارها الثاقبة، نظر إليها شاكرا ¤ أشكرك، هديتك رائعة وأنا أنصحك بفتح معرض خاص بك و إن احتجت لزبائن وأنا أشك بذلك يمكنني مساعدتك. ابتسمت ترد ب 'شكرا' خافتة، فنظر إلى دفتره كأنه يكتب شيئا وهو يقول ¤ آنسة أسماء، أتمنى أن تعطيني شيئا؟ رمقته بحيرة، فأكمل يفسر برسمية وهدوء :إنها الحصة الثالثة وكل مرة نتجول بأروقة جانبية لعقلك وكلما اقتربنا من باب مهم تنعطفين إلى رواق آخر جانبي ...واليوم أتمنى فعلا فتح باب من الأبواب المهمة، ما رأيك؟ لم تجبه بل نهضت وحركت قدماها إلى أن بلغت الحائط الزجاجي، أسندت يديها وجبهتها على بلوره ثم قالت بينما ترمق الشارع وحركة الناس ¤ لقد حاولت إنهاء حياتي بيدي ثلاث مرات، أتصدق ذلك؟ كل ما ظهر من تأثره هو تحرك طفيف لعضلة وجهه محافظا على صمته حتى التفتت إليه تهمس بتوسل ¤ أرجوك لا تخبر أخي، سيحبط ويعتقد بأنه لم يحمني بما فيه الكفاية. ابتسم بينما يطمئنها ¤ كل ما يقال هنا يبقى هنا آنسة أسماء، فاطمئني. تلفتت حولها ثم عادت إليه تقول ¤ لم أستطع فعلها، في كل مرة يصدح صوت والدتي في عقلي بآية قرآنية كانت تتلوها باستمرار، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر] فأتراجع وأفضل جحيم حياتي على جحيم الآخرة. سألها : لماذا حياتك جحيم يا آنسة أسماء؟ نظرت إليه بألم، فغير سؤاله ¤ متى أصبحت حياتك جحيما؟ أمالت رأسها، تجيبه ¤ منذ وفاة والدي. فتحدث ¤ هل زواج أمك مرة تانية لم يكن بصالحك؟ قست نظاراتها تجيب بحدة ¤ أمي لم ترد الزواج لكن جدي أجبرها ....رحمهما الله جميعا. تمتم بالرحمة، فألقى بسؤاله التالي ¤ ما سبب وفاة والدتك؟ رمته بنظرة نارية حارقة، فاستدرك ¤ سمير حكى عن موت والدتك لكنه يعتقد بأنك كذبتِ على الشرطي. بهتت أسماء يطغى عليها الجزع، فأسرع يكمل موضحا ¤ هو ليس متأكدا، لقد كان طفلا والمصائب بعدها توالت عليكما فجعلته ينسى لكن تظل تلك النظرة من عينيك حين أخبرت الشرطي بانزلاق والدتك تحيره ...فما الذي حدث؟ و أعيد كلامي مؤكدا، كل ما تقولينه هنا لن يتعدى جدران هذه الغرفة.