استمر صياح ذلك المزعج ليجدها تتشبث بطفلها الذي انطلق في صراخ عال، رعبا من الصوت. وجدها تتحرك تنتشل شيئا من داخل إحدى الادراج بمطبخها ليتبين بعدها أنه مفتاح شقتها، تتجه بخطوات مترددة محتضنة طفلها برعب ظاهر تنوي فتح الباب لذلك المجنون فهمس من بين أنفاسه المضطربة بصوت غير مسموع: متفتحيش، متفتحيش يا مجنونة. التقط أنفاسه براحة عندما لاحظ تراجعها المتزامن مع صراخها المهتز: مش هفتح يا "حاتم" ، وبلاش فضايح ، كفاية لحد كدة خلينا زي أي اتنين محترمین خرجوا بالمعروف. ضرب الباب ضربة بقبضته في محاولة منه التماسك ليقول لها بهدوء مخالف ثورته: طيب افتحي و احنا نتفاهم، لو مش عايزاني أعمل فضايح بجد. لاحظ "آسر" ترددها فهمس من بين أسنانه: أوعي تصدقيه ياغبييية. ختم كلمته تزامنا مع فتحها للباب بمفتاحها ليسرع الآخر بدفعها بعنف للداخل مغلقا الباب خلفه حتى تعثرت خطواتها وكادت أن تسقط بطفلها لولا اعتدالها سريعا، ليدخل غريمه بجسده الضخم باستعلاء واضح مستغل اهتزازها ورعبها يهمس من بين أسنانه: بقى أنا تلففيني وراكي زي العيل الصغير أتحايل عليكي ترجعي. رفعت سبابتها تحذره برجاء مع تقدم خطواته وتراجعها: أنت وعدتني هنتكلم بعقل. التوى ثغره بابتسامة متهكمة يردف بما آلمها: -ما تعمليش قيمة بس لنفسك، أنا وأنتي عارفين أنك نص ست و... -"حاتم"!. نظرت له غير مصدقة إهانته الصريحة لأنوثتها، فرأته يرفع كفه أمامها يهدئها، و يكمل ما بدأه: خلينا في المهم واللي أنا عايزه، أنتي عندك حل من الاتنين يا أما تقبلي ترجعي لي ونعيش زي ما كنا، أو تفضلي راكبة دماغك وأخد الولد منك. عند ذكر وليدها ظهر الارتباك على محياها ليتأكد أنه أصاب هدفه بدقة فسألته بحذر: وإيه اللي هيخليني أوافق إنك تاخده، مين هيسمحلك بكده؟ أجابها بثقة واضحة: -إثبات صغير إنك ما تقدريش تنفقي عليه أو مثلا نقول مثلا الأم سيئة السمعة. سبة مكتومة خرجت من فاه المختبئ خلف مقعده يجز على أسنانه التي تكاد أن تتحطم، لماذا تقبل تلك الإهانة الغير مغتفرة ؟ كيف تقبل ؟! ، لو كان في وضع آخر يسمح لكسر أنفه بدون رحمة، فسمعها تجيبه بشجاعة زائفة: -ما استبعدش إنك تسوء سمعتي عشان هدفك، لكن أنا والحمد لله كفيلة أصرف على منطقة بحالها مش ابني بس. ابتسم على ثقتها الزائفة فضربها في مقتل بكلماته: منين؟ أنتي من بكرة هتكوني على الحديدة. إزاي على الحديدة ؟ إنت بتخرف. صاحت بها معترضة على حديثه فأجابها يوضح لها: -أخوكي! ما خلصوش اللي بتعمليه، ومن بكرة هيكون بايع مصانع الخشب اللي أنتي تملكيها بالتوكيل إللي معاه، ويسلملي فلوسها عشان القرية، يعني من الآخر صباعك تحت ضرسي. انتفضت من مجلسها تصرخ غير مصدقة إدعائه، مما أفزع طفلها بين يديه فينطلق بكائه تزامنا مع صراخها: كداب، "عبد الله " ما يعملش فيا كده، أنت بتكدب، بتكدب. أجابها باختصار وهو يهم من مجلسه: أنا قولتلك إللي عندي وأنتي حرة تصدقي أو لا، أنا جيت أوعيكي، إنك فكل الأحوال هترجعي لي غصب عنك، فأرجعي برضاكي أحسن. نظر لأعينها بتمهل يستشف ما يدور بعقلها يجب عليه تضيق الخناق حولها حتى يفوز بذلك المشروع الضخم، فوجدها تردف بصوت مبحوح بائس -حرام عليك إنت بتعمل فيا كده ليه ؟ شغل الحريم ده ما ليش فيه، أنا جيت أديك فرصة تفكري كويس، و هستنى تليفونك تبلغيني بردك. دفع ابنه بحضنها بإهمال، وخطا خطواته بثقة جهة الباب، وكاد أن يفتحه ولكنه توقف يقول جملته الأخيرة لتصدر شهقتها عاليا: في واحد من رجالتي هيفضل واقف قدام الشقة لحد بكرة، طبعا مش محتاجة أقولك هو واقف ليه ؟ مع السلامة يا أم بودي. راقبت إغلاق الباب خلفه بأنفاس متلاحقة ونشيج مكتوم غير مصدقة أنها أصبحت حبيسة شقتها بأمر منه، وأنها الآن عاجزة عن طلب مساعدة أخيها بعد تخليه عنها، ماذا ؟ أخيها ! سيبيع نصيبها بمصنع الأخشاب دون الرجوع إليها، سيستغل غبائها بموجب التوكيل الرسمي ويسلمها لسجانها قسرا، ماذا تفعل الأن؟، حتى سندها في هذه الحياة تخلى عنها من أجل المال. جرت جهة الباب تنظر من العين السحرية حتى تأكدت من نيته ببقاء أحد رجاله ضخام البنية مرابطا أمام شقتها فتراجعت بصدمة، وتشبثت بطفلها حتى هبطت بجسدها المتثاقل فوق نفس الأريكة الذي كان يحتلها منذ لحظات، غافلة عمن يتمزق مما وصلت إليه، يكبح نفسه ألا يكشف أمر وجوده وسماعه لما حدث ، يا الله ما هذه الورطة التي أوقع حاله بها في نوبة جنونه، ألم يجد إلا هي من دون نساء العالم ليسكن بجوارها ؟ شعر بها تتحرك مع سكون جسد طفلها التي أنبأه بغفلته بين ذراعيها، تدخله حجرته الخاصة بالداخل، وتعود بذهن مشغول تتجول بمطبخها تعد شيئا ما بوجه شارد. في مكان آخر بحجرتها الخاصة فوق فراشها مغمضة عينيها تستمع لألحان الموسيقى الغربية الهادئة بوجه هادئ.. طرقات بسيطة من خادمتها الخاصة لتأذن لها بالولوج: شويكار هانم، محتاجة مني حاجة قبل ما أنام. رفعت أناملها تزيل شرائح الخيار من فوق أعينها تسألها باستعلاء: -" بوببوس " أكل ؟. هزت رأسها بطاعة ثم أردفت: -أيوه يا فندم الكلب أكل ونام من بدري. زفرت الأخرى باستعلاء واضح تنهرها قولت ميت مرة اسمه "بوببس" مش كلب. التوى ثغر خادمتها تندب حظها محدثة نفسها: البني آدمين مش لاقيين ياكلوا، والكلاب بتاكل لحمة والله شكلنا أحنا اللي كلاب. -بتقولي حاجة يا "سيدة"؟ سألتها "شويكار" فجأة مما جعل التوتر يظهر عليه فأسرعت تنفي: لا يا فندم مش بقول، بقول ربنا يخليه ويتربى في عزك. أشارت لها بيدها؛ لتنهي ثرثرتها وتتركها وحيدة تبحث بأيديها فوق فراشها عن هاتفها الخاص، ترسل رسالة لا تذكر عددها لابنها المتمرد على حاله. محبوسا بمكانه كما هو محتار في أمر نفسه، شعور متضارب داخله يتصارع، لقد تقهقرت رغبته في الهروب كما كان يسعى ، بل يتمنى الأن أن يطيل المكوث معها؛ يخفف عنها أحزانها، وحتى لو أراد الهروب كيف سيفعلها بوجود ذلك الثور البشري الماكث أمام شقتها بدون أن يلمحه ويتسبب في فضيحة له ولها ، ابتسم ساخرا فتساءل: وهل هي تعلم بوجوده من الأساس؟، شعر بسكون المكان من بكاء طفلها وحركتها بالشقة حتى تأكد من غفلتها، ولم لا وقد قاربت الشمس على البزوغ . تحرك من مجلسه وقد عزم على الخروج كما ولج منذ ساعات ، وكاد أن يتحرك لحجرة بعينها ولكن شيئا مجهولا دفعه حتى يرفع عينه على الحائط ليقف مبهوتا متأملا متأثرا من صورة زفافها المزينة منتصف الحائط ، كم هي جميلة وهادئة الطباع كما عهدها ؟ ، حتى دقق النظر في هيئتها وهيئة زوجها السابق فتفسر ملامحهما ما يخفيه كلاهما، لاحظ وجومها وابتسامتها المغتصبة التي تكافح في إظهارها أمام عين الكاميرا، ونظرة الاستعلاء مع ابتسامة ساخرة على وجه غريمه، في تلك اللحظة تمنى أن يهديه لكمة تزين وجهه الساخر حتى يحرمه من ابتسامته طوال حياته. فاجأته ضربة، صدمة ، ضربة أخرى يتبعه صراخ أنثوي مستغيث بوجود لص بمنزلها: حراااامي، حرامممي، حرااااا.... أربكه الهجوم للحظة مع تأوهه متألما ممسكا برأسه مكان إصابته بيد واليد الأخرى قابضة على يدها الممسكة بسلاحها الوهمي ليلتف لها و تتوقف عقارب الساعة تلك اللحظة، ويتوقف صراخها ..صدمة، صدمة جعلتها تهمس باسمه دون وعي منها أكثر من مرة كأنها تتذوق حلاوته، وقف ينظر لصدمتها بعيون جاحظة كادت أن تخرج من محجرها لم يتوقع أن لقائهما الأول بعد تلك السنوات العجاف يكون بهذا الشكل، راقب أنفاسها المتلاحقة واهتزاز حدقتها الجاحظة تزامنا مع اهتزاز يدها المتحصنة بطاسة القلي الدائرية - سلاحها - التي هاجمته بها، ظل يكتم ألم رأسه الناتج عن أعتدائها الغاشم، و أجلى صوته يبلغها بأول دعابة طرأت بذهنه حتى يذيب تجمد الموقف: بقى ده استقبال تستقبليني بيه بعد السنين دي كلها؟، مفيش حمد لله على السلامة ؟! تشبثت بمقبض طاستها - الزرقاء - بكلتا يديها بعد أن جذبتها بعنف منه تتحصن بها وتسأله بحدة رغم ظهور خوفها: إاااانت، إنت، إنت بتعمل إيه هنا ؟ ودخلت هنا إزاي؟ شهقة مرتعبة عندما ترجم عقلها بغباء تلك الخيالات فتندفع تصرخ بحدة إنت البودي جارد بتاع "حاتم"! كاد أن يتحفها بعبارات غير لائقة بسبب منحنى تفكيرها المتدني، ولكن طرقات متتابعة على باب شقتها باسمها، جعلتها تجفل في وقفتها، و تمرر عينيها بينه وبين الباب حتى لاحظت اضطرابه هو الآخر، فسألته سؤالا أقرب للإقرار: يعني مش إنت البودي جارد بتاع "حاتم"، أومال بتعمل إيه هنا ودخلت إزاي ؟. فأشار إليها بسبابته ألا تخرج صوتا، ثم همس لها يطمئنها: "نيروز" مش وقت صدمة أنا هفهمك بعدين كل حاجة، وحياة (ميتينك) فوقي، و ردي على الثور اللي واقف بره ده، قبل ما يكلم جوزك وتلاقيه طابب عليك، ووقتها هتحصل كارثة. رفعت حاجبها بتحدي سافر لمعرفته ما يدور حولها فعاجلها بقوله عندما زادت الضربات قوة يتبعها صوت الرجل الخشن يطمئن منها عن سبب صراخها، فهمس "آسر" مرة أخرى برجاء: -نيروز، اسمعي الكلام. تحركت معه مرغمة، وتنحنحت تجلي صوتها تقول: بتخبط ليه يا بتاع إنت ؟ هو اللي مشغلك جايبك تقلقني من راحتي ولا تحبسني بس ؟ أسف يا هانم بس سمعتك بتصرخي، وقلقت واضطريت أتصل بحاتم بيه أقوله. لطمت فوق وجنتها لطمتين تولول بصمت تنظر للواقف أمامها يشير لها بيده أن تكمل الحديث عن سبب كاذب لصراخها وتطمئنه: هو، هو كنت بصوت عشان فيه ، فيه... لم تفهم إشارة "آسر" لتسرع في القول : تعبان. -تعبان كانت كلمة الرجل مصدوما مما سمع، لطم "آسر " على وجنته تلك المرة ينهرها بإشارة منه، فأردفت تصحح فار ، فار كان بيجري في الشقة. أشار لها "أسر" بإبهامه كموافقة لما تدعيه، وحثها تكمل كذبتها ففتح ذراعيه جانبه لتترجم هي الإشارة كان كبير كبير كبيييييير. خلاص یا هانم فهمت أنه كبير، ممكن حضرتك تفتحي أموتهولك. مع إشارات "آسر" المربكة قامت بإكمال قصتها وهي تمثل المشهد مع تحريك الطاسة الدائرية بالهواء: لا لا لا، أنا نزلت على نفوخه بالطاسة، فضلت أضرب فيه، أضرب فيه أضرب... رفع "آسر" حاجبه مع ضم ذراعيه لصدره بتحدي، لقد فهم أنها تقصده بالفأر. في تلك اللحظة كان الحارس رافعا أعينه لأعلى يلتمس الصبر قبل أن تفلت أعصابه، ويدخل يقتلها خنقا لينتهي من ثرثرتها الغير نافعة ويتخلص منها ومن حياته التي أوقعته لخدمتها، حتى ختمت حديثها بكلماتها: أصله فار معندوش دم إزاي يدخل عليا زي الحرامية، وإزاي دخل أساسا، وعرف مكاني منين؟ فقولت لازم أربيه. جز "آسر" على أسنانه ملازما صمته حتى لا يفتضح أمره، فجذبها من ذراعيها مبتعدا عن باب الشقة عندما أنهت حديثها، ينهرها بهمسه بقى أنا فار؟ تبقى فار، ولا أقوله في حرامي في الشقة، ويدخل يروقك ؟