انتفض من ذكرياته عندما لامس وجهه شيء ما، فرفع نظره ليجد أن ما لمسه ليس إلا خصلات شعرها السوداء عندما أمالت برأسها للخلف ظل يرمق خصلاتها المتطايرة أمامه بتحدي سافر يكبح رغبة ملحة في رفع أنامله لتحسس نعومته، ولكنه نفض تلك الرغبة سريعا عن عقله المتهور تضربه خاطرة قديمة نفسي أشوف شعرك أوي، إمتى بقى هيحقلي أشوفه). طيب هو لونه إيه ؟ لتصدح ضحكتها مغيظة له تجيبه بتلاعب: بتحلم يا "آسر"؟ مش هتشوفه إلا بعد كتب الكتاب). نعم كان يحلم لقد صدقت في قولها، لقد تخلت عنه في أحلك أيامه سوادًا، ليتأكد أنها لم تصدقه حبها، فاق من شروده على تحركها من فوق الأريكة خروجا من الحجرة، فتنفس الصعداء، أخيرا سيهرب من ذلك المأزق، ترى هل صديقه لازال مرابطا أمام البيت أم تخلى عنه لينقذ نفسه من غضب زوجته ؟ لم ينتهِ من ذكره لينتفض عند صدوح نغمة رنين هاتفه فجأة على ذكر اسم صاحبه ليسرع في كتم صوته وإغلاقه، تسارعت ضربات قلبه توترا وزاد تعرقا عندما أنصت السمع ليكتشف ثبات حركتها، فمن المؤكد أنها استمعت للرنين.. ماذا سيحدث الآن ؟، ستكتشف أمره ؟ ستصرخ ؟. نعم، فهي متمكنة في ذلك. يجب عليها الحصول على درع الجائزة التقديرية للصراخ العالمي. ابتلع ريقه الجاف بصعوبة بالغة عندما شعر باقترابها مرة أخرى رويدا رويدا منتظرا انقضاضها عليه والإمساك به حتى وصلت لأريكتها، فأغمض عينيه بقوة كالنعامة التي تدفن رأسها ظنا منها أن أعدائها لن يروها، فيصله صوت سحب النافذة المعدنية من فوق رأسها تغلقها بإحكام يليها سحب الستارة تغلقها هي الأخرى وتقول باندهاش واضح: إيه اللي فتح الستارة كده ؟ غريبة ! سمع بعدها خطواتها المسرعة تتحرك خارج الحجرة بعد صدوح صوت طفلها الباكي من الحجرة الأخرى، فتلك الفرصة لن يضيعها ولكنه كاد أن يحرك ساقه وقوفا، صدم من تيبس ساقيه لتخرج من حنجرته صرخة مكتومة، فتحرك متحاملا على نفسه حتى يستطيع الهروب، حاول مرة اثنان فتح النافذة إلا أنه عجز عن فتحها، وكاد أن يكسر مقبضها بتوتره فيجب عليه الإسراع قبل عودتها. تحرك بتهور يجول في أركان الحجرة يبحث بعينيه عما يساعده للتحرر من معتقله من سجنه. سمع اقتراب خطواتها متزامنا مع هدهدتها لطفلها الصغير، فصدرت منه قفزة يبحث عن مكان للاختباء، فلم يجد إلا الباب أفضل مخبأ له، سيكون ذلك أفضل لساقه المصابة من الإختباء خلف الأريكة. وقف خلف الباب متشبثا بمقبضه متحصنا به، ولكن فضوله الذكوري أخذه ليستكشف هيئتها ليقارنها بالصورة التي رسمها بعقله لها، وليته لم يدفعه فضوله.. لقد تسمر مكانه عندما لمحها بقميصها القطني المنحسر بسبب انحنائها ليكشف عن ساقيها. نفض همزات شيطانه عن عقله حتى لا يتأثر بهيئتها المغايرة لخياله. ظل مغمض العينين كالتلميذ المذنب منتظرا عقابه هامسا بصوت غير مسموع: يا ربي هو أنا ناقص أكون مع كتلة الاغراء المتحركة دي في مكان واحد ؟ ظل يحث نفسه على التماسك: إجمد يا وحش مش كده دي حتى ست عادية زيها زي غيرها ، وصوتها مزعج كمان وبتجيب صداع، وصاروخ متحرك و... نفض مرة أخرى شيطانه من عقله مستغفرا في سره، يراقبها بفضول وهي جالسة فوق أرضية الحجرة، ظهرها له أمامها طفلها تلاعبه بألعابه الصغيرة، استغل هدوء الموقف ليرفع هاتفه ببطء الذي فعله على وضع الصامت يرسل رسالة كتابية مختصرة لصديقه "هيثم". بسطرمة ! بسطرمة اتنين باليل يا جاحدة .. هتف بها "هيثم" متأففا من رائحة اللحم المقدد النفاذة ، فأجابته بضيق واضح: جرى إيه يا هيثم ؟ إنت هتقعد الأكل عليا، هو أنا باكل لوحدي منا باكل عشان ابنك. أجابها ساخرا: تصدقي صعبتي علي ابني ؟ ابني يا ظالمة اللي نفسه هفته على بسطرمة، ولا وحمك اللي مش هنخلص منه ده ؟ مش عايزني أتوحم كمان زي الستات ؟ استغفر "هيثم" ربه سرا، ثم تابع يوضح رأيه بهدوء: یا "سولي" يا حبيبة قلبي، كلي اللي إنت عاوزاه بس مش ثوم قبل النوم. ده افترى بيّن والله. لاحظ تركها للقمة الخبز مع انقلاب وجهها في حزن واضح من كلماته، تقول بصوت مختنق: قول إنك بقيت تقرف مني، وما بقتش طايقني زي زمان. أغمض عينيه يهدئ من ضيقه من تصرفاتها الرعناء الغير مدروسة، فهي دائما متهورة في إصدار الأحكام، متهورة في قراراتها الحياتية حتى في أكلها، تذكر عندما منعت أول الحمل من جميع الأملاح بالطعام لتندفع وراء وحمها وتلتهم برطمانا من الخيار المخلل، وكادت أن تفقد جنينها بسبب ارتفاع ضغطها. تحرك يحيط وجهها بكفيه فيلاحظ لمعان عينيها المهددة بالبكاء، فأراد تهدئتها قائلا: إيه بس الكلام الوحش ده؟ أنا أقرف من روحي ؟، بقى دي آخرة الحب اللي بينا يا "سلوى" ؟ رفعت كتفيها بلا مبالاة، فأكمل يداعبها: طيب تصدقي ريحة البسطرمة جوعتني، إنت عملاها بإيه ؟ زال الوجوم والحزن من وجهها ليحل مكانه حماسها الطفولي تشير له بابتسامتها المعتادة نحو الطعام: عملته بالبيض والسمنة البلدي، وحطيت عليه زعتر. قطع جزء من الخبز يتذوق منه باستمتاع فصدر عنه تأوهات مستمتعة لمذاقه، يتبعها هتافه الحماسي: سمنة بلدي، بركاتك يا أم سلوى، بركاااتك. صدح رنين رسالة خاصة على الموقع الأخضر فضيقت عينيها بتحفز وحاجب مرفوع تسأله بتحفز: مين بيبعتلك في الوقت المتأخر ده؟ انتفض من مجلسه عندما قرأ محتواها يهمس مصدوما: يا ليلة مش فايته. سألته بتعجب من حالته، ليقص عليها باختصار كل ما حدث فأجابته بشماتة: أحسن، بصراحة بقى صاحبك ده عايش الدور وعايش في دور الضحية من سنين، وبيستغل تعاطفك معاه وواخدك مني. سلوى. قالها "هيثم" بتقريع واضح لما قالت ليسرع في قوله: بغض النظر عن الكلام اللي قولتيه ده، "آسر" في كارثة حقيقية ، "آسر" لازم يخرج من الشقة قبل ما حد يكشفه، فكري معايا في حل بسرعة. بعد أن أرسل رسالته السريعة لصديقه يخبره فيها أنه مازال داخل شقتها وأخفق في الهروب من النافذة، لم يلحظ أثناء انشغاله بانصرافها، تاركة ولدها أمام شاشة التلفاز وهو يتلاعب بقطع الألعاب، فحث نفسه على التحرك من خلف الباب على أطراف أصابعه و عينيه على وجه طفلها المشغول بمشاهدة فيلما من الرسوم المتحركة تجذبه ألوانها، مرر نظره يستكشف مكان باب شقتها من داخل الحجرة فتقع عينيه عليه بجوار مطبخا على النظام المفتوح، فهذه فرصته الذهبية ليسرع في الخروج قبل ظهورها مرة أخرى، تداعى إلى سمعه صوت انهمار المياه بحمامها، فالتقط أنفاسه عازما على الهروب في تلك اللحظة الحاسمة إلا أن أوقفه صوت مناغاة طفلها ليتفاجأ بوجوده أسفل قدمه، نظر له "آسر"، هامسا بدهشة: إنت إيه اللي حركك من مكانك ؟ أمسكه من ملابسه كالقطط، يضعه بين ألعابه ويقول بسرعة: -فرصة سعيدة لحضرتك يا أستاذ ، متقولش لحد إنك شوفتني ها، وخصوصا ماما المزة!. ابتسم طفلها على دعابته التي لم يدركها بعمره الصغير ليردف بقلق: شكلك هتوديني في داهية. ثم انحنى يقبل رأسه بحنان بالغ، وعزم أمره للتحرك خارجا من الحجرة مرورا بالمطبخ المفتوح، حتى وصل لباب الشقة يسحب المزلاج العلوي ببطء بفرحة بالغة ثم وضع كفه فوق مقبض الباب يحاول فتحه ليكتشف إغلاقها للباب بمفتاحها الخاص، شد خصلات شعره وكاد أن يصرخ لقد، فاض به الكيل ليقول بين أسنانه: يا بنت المجانين، فاكرة نفسك في "جوانتانامو" مقفلاها في وشي، إلهى يجيلك تبول لا إرادي يا بعيدة. التفت ليشاهد من مكانه حبو طفلها أرضا خروجا من حجرته قاصدا إياه، ظل يشير له بكف يده يردف بتوتر: امشي امشي، هو أنا هلاقيها منك ولا من أمك المجنونة ؟. كانت تلك الحركات من يده تترجم بطريقة عكسية لذهن ذلك الطفل لتصدح ضحكته عاليا ممتزجة بمناغاته الرائعة، فتقدم "آسر" خطوة ينحني أمامه يربت على وجنته بحنان ويحدثه كأنه يفهمه: تفتكر "المزة "شايلة المفتاح فين ؟. نظر بعينيه البنيتين فيجده يبتسم بفم منفرج مع محاولته للتمسك بذراعه فأكمل هامسا: لا لا متقولش مش هقدر أدخل أوضة النوم، ده أنا ماسك نفسي بالعافية وعيب كمان. انتبه لصوت انغلاق المياه فأنبأه ذلك بخروجها، فقرر أن يختبيء مرة أخرى بالحجرة كما كان حتى يقرر ما يفعله بعد ذلك، ولكن ما جعله يفقد ترکیزه صوت رنين هاتفها من داخل الحجرة الذي تبعه فتح باب حمامها بسرعة عندما وصلها رنينه، فاضطر تغيير وجهته ليختبيء تلك المرة خلف إحدى الأرائك - عالية الظهر - بحجرة الصالون القريبة من باب شقتها، نظر بطرف عينيه وهو يشعر أنه سيصاب بأزمة قلبية إن استمر الوضع على ذلك المنوال، خروجها مسرعة بهذا الشكل المهلك للأنفاس، والآسر للقلوب. لقد خرجت بجسد مبتل، ملتفة بمنشفة وردية اللون، وشعرها يغطي وجهها يتساقط منه المياه، ولمَ لا ؟ وهي تظن وحدتها بشقتها.