في ظلام الليل الساكن بالعاصمة على أحد الطرق المرورية تسير سيارته على سرعتها المتوسطة رغم هدوء الأجواء، وخفة حركة المركبات لانتصاف الليل، مركزا رؤيته على خط سيره، يبدو على ملامحه الهدوء والسكينة رغم تخبطه الداخلي فانتبه لزفرة ضيق صادرة ممن يقبع جواره ليلتفت إليه متوقعا ما يحدث، و يسأله باستخفاف: الحكومة ، ولا إيه يا وحش ؟! ألقى صديقه "هيثم" نظرة ممتعضة بها الكثير و يجيبه بنزق: الحكومة عاملة تتبع للتليفون، الهانم بتراقبني يا جدع. صدحت ضحكة خشنة تبعها سعال جاف نتيجة استنشاقه لدخان سجائر صديقه، فأردف ببساطة: -أدي آخرة الجواز وسنينه، هو أنا خلعت من شوية. قال "هيثم" بحقد واضح : -يا حظك يا "آسر"، خلعت من الجوازة في آخر لحظة كان نفسي أفرح فيك، وأشوفك مسحول زينا. بسط "آسر" كفه بوجهه بشكل ضاحك يردف بخوف مزيف: يا ستير على عينك يا أخي، بقولك إيه خلي اليوم يعدي حلو مش ناقص يجرالي حاجة، أنا واحد لسة مفركش جوازة صالون معتبرة، زمان الحاجة "ششكا" فتحاها مناحة و مندبة. صمت للحظات ليباغت صديقه بجذبه لسيجارته الملفوفة بشكل ملفت، يحتمل أنها سجائر غير سليمة ليسقط حينها رمادها الساخن فوق ساقه فيرتعب "هيثم" المتذمر، وتخرج من بين شفتيه سبة قبيحة وهو يشاهد "آسر" يتلاعب بحاجبيه مغيظا له أثناء سحبه لدخانها باستمتاع غريب فأردف "هيثم "بغيظ: طيب قول إن عينك فيها من غير ما تحرقني، عيل طفس. لم يجبه "آسر"، وظل يسحب ما تبقى من سجائر صديقه الغير شرعية باستمتاع يحاول تناسي كل ما حوله، وما يكدر صفوه، فأضاف "هيثم" بتحذير واضح: لو شافتك الحاجة " ششكا " هتعملك قضية أخلاقية. صدح رنين هاتفه فجأة لتترنح السيارة بيده يمينا ويسارًا عندما شاهد اسمها يزين شاشته، فما كان منه إلا أن ألقى بسجارته رعبا من نافذته، كأنها ستقبض عليه متلبسا فأردف برعب: هي كانت سمعاك و لا إيه ؟، دي بتحضر على السيرة. التفت هيثم يمينا ويسارا بشكل مثير للضحك كأنه سيجدها ، وأمره بسرعة: رد عليها بسرعة أنت عارف أمك، ربنا يجعل كلامنا خفيف عليها.. أشار له "آسر" بسبابته يقربها لفمه ليصمت، ثم تناول هاتفه؛ يفتح صوت المكالمة يردف بترحيب حار: ست الكل كلها بتتصل بيا مخصوص، إيه الهنا ده ؟ صدح صوتها الارستقراطي الغاضب: - إيه الأسلوب السوقي ده يا ولد؟ ست الكل إيه، وزفت إيه ؟. تنحنح لحرجه من صديقه فلمح شماتته به فأجابها بصوت متزن: ششكا "هانم تؤمر. فصدح صوتها موبخا: أنت هتفضل متهور لحد إمتى ؟، اللي في سنك ولادهم بقوا طولهم، أنت بتعاندني يا ولد، إزاي تفسخ خطوبتك من "ديدا" من غير ما ترجع لي. شحن نفسه بطاقة صبر كبيرة حتى لا تنفلت أعصابه فيردف بتعقل: - مافيش نصیب یا "ششكا " يا حبيبتي، وكمان أنا مش بنت عشان تقلقي عليا لأعنس لا سمح الله. - لا !، أنا عايزة أشيل حفيدي بين إيدي قبل ما أموت، وأنت هتموتني بحسرتي عليك. أخذ نفسًا واحتفظ به لدقائق ثم أردف بهدوء منافي لثورته الداخلية: ربنا يديكي طولة العمر، هضطر أقفل دلوقت لأني سايق، ومش عارف أركز على الطريق . سألته بفضول رغم تأكدها من الإجابة: - أنت هتبات في شقتك؟ هز رأسه بالإيجاب رغم عدم رؤيتها له قائلا: أيوه، هبات في الشقة يومين، في شغل وقضايا متأخرة لازم أخلصها. براحتك يا ابن البغدادي" أما أشوف آخرتها معاك، مع السلامة. ألقى بهاتفه بإهمال واضح أمامه، فأضاف "هيثم" باستسلام: ما كنت اتجوزت وريحتها وريحت نفسك من العزوبية دي ؟ ابتسم على جملته فقارعه، وهو مثبت نظره على الطريق وأبقى نسخة ثانية منك ؟. -"آسر" ! أنا بتكلم بجد ليه ما تجربش حظك تاني؟. نظر له "آسر " للحظة يفكر ويتمعن في جملته، ولكنه نفض ذلك الشعور الذي بدأ يتوغل داخله، ويتسرب ليقنعه بالاستسلام حتى شعر بغبطة مفاجأة للحظات ثم انحنى بتفكيره ينهر نفسه، وأخبره باتزان : أنا جربت حظي مرة، وما عنديش استعداد أكرر نفس الغلطة. تبدلت ملامح " هيثم " متأثرًا بحديث صديق طفولته فأراد إضافة بعض المرح كعادته: على رأيك دول الحريم كتلة نكد متحركة، وخصوصا المتحولة اللي في البيت دي. صمت للحظات فأراد الاستفهام عن شئ: هي عربيتك لسه في الصيانة، مش كده؟! هز" آسر" رأسه بالايجاب بصمت، فسمعه يكمل بحرج: طيب أنت عارف مش هقدر أبيت معاك الليلة، "سلوى" أنت عارف زعلها وحش. لا أنا محتاج أفضل يومين لوحدي، وكمان مراتك على وش ولادة، ما ينفعش تسيبها لوحدها.. معلش زنقتك في توصيلي. ضحك "هيثم" على حديثه بقوة ليشتد سعاله المفاجئ كأن مفعول سجائره بدأت في التأثير وتشعره بالانتشاء العالي فأجابه بعد أن هدأت نوبته: اللي يسمعك يقول أنا اللي سايق مش إنت. أوقف سيارة صديقه أمام بوابة بيته المكونة من طابقين بالإضافة إلى الطابع الأرضي، يترجل منها ببطء ويرتكز على ساقه اليسرى يليها ساقه اليمنى ببطء، وحرص لحالتها المؤلمة، فصدر منه تأوه مكتوم أثر شعوره بضربات طاعنة تطعن ركبته المصابة الذي زاد ألمها نتيجة مكوثه مدة ليست بقليلة خلف مقعد القيادة دون بسطها لإراحتها. اقترب صديقه يطمئن عليه بعد أن ترجل مسرعًا يضربه القلق على صديق عمره، فقال بقلق: حصل لرجلك حاجة ؟، منا قولتلك خليني أنا أسوق وأنت صممت تسوق بدالي. رفع رأسه ليظهر تغضن ملامحه بالألم الظاهر، وهو مستمر في تدليك ركبته ليخفف ألمها يجيبه بأنفاس خشنة: أنا كويس بس مكان الشريحة تعبني، هطلع آخد مسكن، وهبقى كويس. أراد "هيثم" إزالة وجوم صديقه فضربه بكتفه يضيف مع غمزة عينه: إن جيت للحق يا "أسور" أنت مش محتاج مسكن، أنت محتاج مساج على الهادي من البت "سوكا"، فاكرها؟. نظر له بقرف يقارعه باستخفاف: - مساج ! وسوكا ؟! الله يقرفك ياجدع الكلمة طالعة من بؤك تقرف. ألقى "هيثم بثقل رأسه فوق صدر الأخير بطريقة مبتذلة يتنهد وهو يحرك كف يده على ظهر صديقه بهيام مزيف فدفعه "آسر" عنه قائلا باعتراض : -ما تلمسنيش يا جدع، إيه القرف ده، الله يخربيت خيالك المريض. ثم أكمل آمرا: -يلا من هنا بدل ما البوليس ياخدنا آداب. ابتعد " هيثم عنه يفرد كفيه أمام صدره يهدئ من انفعاله: -أسفين يا "آسر" باشا . ابتسم "آسر" على جملته فلامه، وهو يبحث بعينه داخل السيارة عن هاتفه: مش عايز تنسى أبدا يا "هيثم" ؟ وضع يديه بجيوبه يناطحه بمرح: -هتفضل طول عمرك سيد البشوات كلهم. ربت "آسر" فوق ظهره بأخوة يجيبه: ده العشم يا صاحبي. صدح رنين هاتف "هيثم " وكانا كلاهما على توقع لهوية المتصل فحدثه "آسر" بسخرية: -رد على الحكومة يا سيد الرجااالة. أحيانًا تجد الخذلان من الأقربين أصعب أنواع الخذلان، فمن منحناهم أفئدتنا بطيب خاطر قابلوا عطائنا لهم بالغدر والخيانة...ظلت تبكي بإنهيار، وقلب مجروح من أقرب ما لها في تلك الحياة، لا تعلم هل كانت ساذجة أم كانت غافلة عن حقيقتهم ؟، مَن كانوا مِن المفترض عونا لها، أضحوا شوكة بخصرها. مسحت دموعها المنهمرة بظهر كفها تواسي نفسها، وتحدث رضيعها الذي لم يتجاوز التسعة أشهر المستريح بأحضانها فوق أريكتها تخبره بأسي: شوفت يا "بودي" خالو عمل في ماما إيه ؟ ما عرفش يدافع عن ماما إزاي، وساب أبوك يضربني قدامه. ابتسم لها وليدها غير مدركا ما يحدث مع أمه المحبة له، فأكملت بعد أن نفخت في محارمها الورقية بصوت عالي؛ لينتج بعدها وجها يختلط ببعض الحمرة التي تميزها : بس تعرف ؟ أنا سكت ليه ؟، مش عشان ضعيفة.. لا؛ عشان خايفة عليك وأكيد أما تكبر هتقدر ده، وإنت اللي هتجيب حقي أما تكبر. قوس شفتيه للأسفل تأثرًا بدموعها، كأن حزنها الذي تحاول كبحه تسلل إليه كذبذبات عبر الهواء، لتلمع عينيه ببريق نادر من الشجن وما كان منها إلا أن شددت من ضمه لصدرها بقوة تبثه أمانًا فقدته مع أبيه وأخيها. ظل يبحث بأرضية السيارة تارة، وبجيوب سرواله بعصبية بالغة كيف أضاعه من ضمن مفاتيح بيته ؟ ماذا سيفعل الآن ؟، عليه العثور على مفتاح بوابة العمارة حتى يستطع الولوج للداخل، يجهل كيف فقد ذلك المفتاح بالأخص عن باقي مفاتيحه القابعة بسلسال مفاتيحه الخاصة ؟، أردف بضيق واضح: إيه الجنان ده ؟ مش معقول أبدا. وصله صوت "هيثم " من خلفه بعد أن أنهى مكالمته مع زوجته الثائرة لتأخيره: أنت متأكد إن المفتاح كان معاك. أجابه بحنق من سؤاله الغير مبرر: أيوة، أيوة متأكد أنه كان معايا في سلسلة المفاتيح ، مش عارف راح فين بس. رفع "هيثم" يده يحك خلف عنقه بإحراج، كيف سيخبره بضرورة إنصرافه بسبب زوجته الثائرة، فأخبره بارتباك: -خلاص يا "آسر " ارجع معايا، وخليني ألحق أوصلك للحاجة (ششكا). التوى ثغره بسخرية من تلفظه باسم والدته بتلك الطريقة فقارعة بضيق: ده وقت تريقة بالله عليك؟ ما سمعتش هي كلمة "حاجة" منك، كنت أخدت موشح "كيفية التعامل مع المرأة الارستقراطية" في العصر الحديث، وكمان أنا دماغي مش فايقة لعتابها. حك رأسه مرة أخرى يبعثر خصلاته بتفكير دقيق يوافقه الرأي: أه فعلا. ثم أكمل بجدية واضحة: طيب الحل ؟، وياريت تنجز؛ الدنيا والعة عندي في البيت. استقام "آسر" وراح يفكر بتمعن فهو يجب عليه الولوج لبيته فلن يتحمل فكرة العودة مع صديقه كل هذا الطريق مرة أخرى، فلن يتحمل طريق العودة، وقد تملك منه بالفعل التعب وألم ساقه اليمني يزداد كطعنات غائرة تنهكه رويدا رويدا، فعليه التفكير للوصول لبيته أو صومعته كما يصح القول، لقد وجد مؤخرًا السكينة والهدوء في وحدته، وعزلته عن معارفه، وأقاربه... رغم أنه على يقين بأن حالته ما هي إلا خطوة للانفلات في هوة اكتئاب سوداوية يصعب النجاة منها، لولا تعقله، وسيطرته مع محاولاته البسيطة للخروج منها بالاندماج مع أصدقائه، وأهله كما يفعل لكان يُعالج الآن من آثار نوبات الاكتئاب القاتلة. و لكنه الآن في حاجة ملحة للعزلة كما يفعل دائمًا... أفاق من دوامة تفكيره على هزة كتفه من صديقه ليسأل بعدها بريبة من أمره: -" آسر " هتعمل إيه ؟! أنا لازم أتحرك، أخوك هيبات على السلم كده. نظر" آسر" خلف كتف صديقه، مضيقًا عينيه بتركيز عالي يقيم الوضع في عمارته، ثم تبعها برفع عينيه ينظر لنافذة شقته المحتلة الدور الأول بعد الأرضي وقال بشرود واضح: في فكرة لو عرفت أنفذها، يبقى تمام أوي.