شاهد لهفتها للحاق بهاتفها حتى أردفت بصوت مهتز بوضح: أيوه يا "عبد الله"، أخيرا أفتكرت تسأل عليا بعد اللي حصل منك. صمتت للحظات تدافع عن نفسها: يا "عبدالله" أنت عارف أني مليش غيرك في الدنيا دي ومش بحب أكسر كلامك، بس موضوع "حاتم" انتهى واستحالة أرجع له تاني، كفاية سمعت كلامك زمان، نفسي أخد مرة قراري بنفسي. صمتت تستمع لتوبيخه الدائم لها فدافعت عن حالها: عموما ما بقاش ينفع العدة خلصت خلاص، وأنا مش هنوله يوصلي، مش كفاية ضربني قدامك وأنت سكت، وما دافعتش عني. انتفضت تنظر برعب لطفلها الذي يحبو كأنه يبحث عن شيء ما فتصرخ بأخيها: لو آخر يوم في عمري مش هديله " عبد الرحمن"، مش من حقه. كان في تلك اللحظة ينصت بدقة يحاول جمع الخيوط، صوتها لديه، أحيانا يحثه للارتماء بين أحضانها، كأنها أمه، أخته أو أي مصدر آخر للاحتواء. يشعر أنه يعرفها من قبل وبالأخص نبرة صوتها الهادئة وهي تتحدث مع أخيها كنفس "نبرة نيروز" لينتبه أنها تنادي أخيها ب "عبد الله" ولكنه لم يهتم كثيرا بذلك الموضوع فألقى نظرة خفية لكتفها العاري ليلاحظ بقعة حمراء كبيرة خلف كتفها الأيمن ليتبين له أنه أثار حرق حتما.. فهمس لنفسه بحسرة: بقى الجمال ده كله يكون محروق بالشكل البشع ده ؟! للحظة شعر بالشفقة لحالها، وهي تقص لأخيها عن معاناتها مع زوجها السابق، وكيف كان يعيرها بتشوه جسدها، ولكن ما صدمه بالفعل ردود أخيها التي استنتجها بدون سماعها بسبب حديثها: إنت دايما كده عايز تمشيني بمزاجك، كفاية سمعت كلامك زمان مش هكرر الغلطة تاني حتى لو ده هيخسرك مشروع القرية اللي بتحلم بيه، لأن للأسف أنا ما عنديش استعداد أني أشاركه بورثي. بعد فترة حاول "آسر" اكتشاف ملامحها حيث ضربه شعور مخيف ومقبض لقلبه، لمَ لا تلتفت وتريحه من شكوكه، نهر نفسه وأرجع حالته بسبب إرهاقه الشديد الممتزج بذكرياته الأليمة، ليكتشف إنهائها للمكالمة ووقوفها بالمطبخ تعد شيئا ما بعد أن أبدلت منشفتها بقميص قطني مريح آخر، فكر بحيرة قاتلة لمَ تعانده بوقوفها دائما بظهرها ؟ يتمنى لو تلتفت لرؤية وجهها نهر نفسه على انحراف فكره، يحدث عقله دلوقتي هتموت تشوف وشها، ما أنت مكنتش طايقها من شويه بس، مش يمكن مش حلوة. نهر نفسه مرة موبخا حاله: إيه يا "آسر"؟، فين بقى نظام توبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، مش ناوي تتهد بقى. إنت مالك بحلاوتها ولا وحاشتها ؟! اشتم رائحة طعام فحركت شهوة جوعه، وداعبت عصافير معدته المستغيثة، أغمض عينه وهو يصله دندنتها لطفلها الجالس بالقرب منها فوق كرسيه المخصص تحدثه بطفولة مناسبة لسنه: بودي بودي، حبيب قلب مامي، حالا يكون الأكل جاهز، أنا عارفة أنك بتحب البطاطس المحمرة زي ماما. التوى ثغرة، وهو يستمع لتلك الأسطوانة المستهلكة الوهمية من جميع الأمهات يحاولن إقناع الجميع بأن أطفالهن يعشقن نفس نوع الطعام اللاتي يعشقهن، فحدث نفسه ساخرا: مش بعيد تقولك دلوقتي إنت بتحب البينا بتر)، زي الحاجة "ششكا" ما كانت بتأكلهالي زمان بالعافية، لحد ما بقيت شبه السوداني المحمص. نظر من بين المقاعد بحذر يواسي ذلك الطفل المرغم على أمره بشكل ساخر: قلبي عندك يا ضنايا، ممكن تأكل دلوقتي حاجات هي بتحبها مش مهم أنت تحبه. حركة مضطربة منها لاحظها، تبحث عن شيء مفقود، فتأكد سريعا من ظنه عندما وصله سؤالها محدثة نفسها: هي فين الببرونة بتاعتك ؟، أنا حطتها فين؟. سمع صوت أدراجها تفتح وتغلق بعصبية، يليها اختفائها عن المكان للحظات، شجع نفسه على التحرك من مكانه، فعليه العودة مرة أخرى من مكان ولوجه، حتى لو تطلب الأمر كسره للمقبض، استقام يتحرك مرورا بذلك الطفل المشاكس المستقر فوق كرسيه المخصص لمن في عمره منسجم مع أصابع البطاطس المقلية. شيطان معدته دفعه للولوج داخل مطبخها يحثه بأن يحصل على بعض اللقيمات يسد بها جوعه، لقد زاد به الجوع والعطش مراحل متأخرة فبحركة مندفعة سحب صحن البطاطس من طفلها يأكل منه على عجالة مع انتشاله لرغيف من خبز بسرعة يقضمه حتى امتلأ فمه بالطعام، توقف عن المضغ عندما لاحظ ثبات نظر الطفل عليه يراقب تصرفاته بفم منفرج يسيل منه اللعاب الشفاف، فأخبره على عجالة هامسا له: معلش يا صاحبي أكلت أكلك، أصل أخوك جعان وأمك حبساني مش عارف أخرج. رفع ذراعيه الصغيرتين يحركهما في الهواء بإشارة ل "آسر" لحمله تزامنا مع مناغاته الساحرة، سمع "آسر" مرة أخرى حركتها تحدث ابنها: -جايه يا" بودي "أهو. رفع كأس عصير البرتقال يتجرعه على جرعة واحدة يسد به عطشه، ثم أمر ساقيه بالانطلاق خارجا بعد أن أراح الكأس الفارغ مكانه. أثناء خروجه متعجلا التوى كاحله ليتعثر بطرف سجادها وقوعا على وجهه مصدرا ضوضاء بسيطة و أنين مكتوم، ولكن ما لم يحسبه استناده على تلك الفازة متوسطة الحجم لتسقط متهشمة لقطع صغيرة مصدرة دوي كقنبلة منفجرة، نظر لقطع الفاز بذهول مع سماع صوت حركتها المسرعة للخارج، أطلق لساقه المتألمة العنان حتى نجح في الاختباء خلف الأريكة كما كان يراقبها من ظهرها تنظر للفاز بذهول وخوف، تحدث نفسها بصوت مرتفع: بسم الله الرحمن الرحيم، إيه اللي وقع الفاز كده؟. شاهدها تلتفت برأسها حولها باستغراب: الشبابيك كلها مقفولة، إيه اللي وقعها؟ همس لنفسه مجيبا عليها ساخرا: أنا ياختي اللي وقعتها، وريني هتعملي إيه؟، عشان تبقى تقفلي الشبابيك كويس. شعر بحركتها تلملم شظايا الفاز الكرستالي المتحطمة بيدها، وبعد أن تخلصت منها وصله شهقاتها المرتعبة تختمها بجملتها: -فين العصير، والبطاطس، مصيبة لتكون الشقة مسكونة. يصدح صوت القارئ من تلفازها الداخلي بآياته القرآنية المختارة بجانب تعبئة الجو بسحابة دخان أعمته حرفيا عن الرؤية ظل يحرك يده بالهواء في محاولة منه إبعاد الدخان المخنق عنه الصادر عن احتراق البخور بكثافة مبالغ فيها، فما يمر به منذ دخوله من نافذتها فوق طاقته، وقد بدأت تلك الطاقة في نفادها، حاول باستماتة كتم أنفاسه عن استنشاق الدخان، مانعا نفسه عن السعال بأعجوبة يتمنى أن تحترق هي بتلك النار بدلا من ذلك البخور العجيب، محدثا نفسه: هتولعي في البيت يا بعيدة، أقول فيكي إيه ؟ ، حسبنا الله ونعم الوكيل. صمت يراقب تحركها ممسكة بمبخرة فضية يتصاعد منها الدخان الأبيض بكثافة تردد آياتها القرآنية ظنا منها أنها تطرد ما يؤذيها ، فهمس من بين أسنانه: بس لو شوفت وشك هطحنك، وأطلع على جتتك العفاريت الزرق، كان يوم مهبب أما فكرت أدخل عندك. غفلة أم غيبوبة لا يعلم سوى أنه شعر بثقل جفنيه المفاجئ مع محاولته المستميتة لإبقائهما مفتوحين بقوة عكسية فكلما زادت مقاومته زاد ثقلهما لينتصر نومه في النهاية وتحجب سحابة سوداء عقله، يغوص بعدها في أحلامه لفترة لم يعلمها. انتفض من غفلته على طرقات متسارعة مع صرخات ذكورية باسمها ثبتته مكانه بوجه شاحب يشابه الأموات، مسح وجهه بكفه ينظر من خلف الكرسي تزامنا مع التفاتها تواجهه ليسقط الصحن الخزفي متهشما مع شهقاتها المكتومة ويصلهما معًا الصوت الثائر مهددا: نيروووووز افتحي الباااااب افتحي الباب لا أكسره، وديني لا أكسره، أنتي فاكرة أنك هتهربي مني بالسهولة دي مبقاش "حاتم زيدان" إما عملت لك فضيحة في العمارة اللي بتحتمي بيها دي. جحظت عينيه الثابتة على وجهها... وجهها؟ ما هذا ؟ لا يعقل ! ، مستحيل أن تكتب عليه الظروف ليسكن جوارها دون باقي البشر همس بصدمة: نیروز؟!