أما عنه، فقد أغمض عينه متألمًا، منتظرا رحيلها عن حيز وجوده؛ ليعود أدراجه كما ولج، فطاقته أوشكت على النفاد، آلام ساقه تتزايد طعنات متتابعة لا يستطيع تحملها، وما زاد من الوضع سوءا... وضعية جلسته التي أجبرته لتقويس ساقه لصدره... يخشى أن يفقد سيطرته ويتسلل أنين ألمه ويصلها، حاول أن يثني تفكيره بساقه ويفكر في أمور أخرى أمور يعشقها لعله ينسى ألمه، وعند تلك الخاطرة ابتسم ساخرا من نفسه فالتفكير بالأمور التي يعشقها لا تزيد جرحه إلا تقيحا، ولكن لا بأس ليفكر بها، لعله يتذكر أيام الخوالي التي اغتالته شابا عاشقا لتصنع منه رجلا مجروحا. طاووس يضرب الأرض بخطواته الثابتة المتزنة داخل القسم، يتلقى ممن يمر أمامه وجواره تحية عسكرية تهذيبا وتقديرا لمكانته، حتى انتهى عند باب غرفته ويفتح له باب غرفته من فرد الشرطة بعد أن ألقى تحيته العسكرية المعتادة، كاد أن يغلق الباب خلفه إلا أن جذب سمعه ضجة آتية من الممر ليتفاجأ بشجار لفظي غير متكافئ بين رجل وفتاة محجبة يحيطهما جمع من الناس. ضيق عينه بضيق واضح ليتحرك بخطوات ثابتة يطبق عمله بدقة فصرخ في جميع الموجودين: إيه الدوشة دي أنتوا فاكرين نفسكم في زريبة؟ إيه التجمهر ده ؟ أجابته إحدى السيدات وهي تربت على كتف الفتاة الباكية: يا بيه إحنا جايين نعمل محضر في الحيوان ده. زمجر الضخم بشراسة، واقترب مهددا بضربها: هو مين يا ولية اللي حيوان ؟ أنت، هو أنت فاكر بنات الناس لعبة ربنا يخلصنا من أمثالك. صدح صوت رجلا آخر مدافعا: لا يا بيه ما تصدقهاش هو ما عملش حاجة، أنا شوفت البت دي بتسرقه. صدح صوتها الباكي: والله ما حصل، كدب ده هو اللي ... ااه ياختي، عيطيلك شوية عشان حضرة الظابط تصعبي عليه. قالها الرجل بنزق ليكتفي "آسر" بهذا العرض ويصرخ مهددا: أنا لو مفهمتش اللي بيحصل حالا هرميكم كلكم في الحجز. قالت السيدة المرابطة بجوار الباكية: لا يا بيه أحنا مالناش فيه، إحنا جايين نعمل خير. بعد لحظات فهم من الجميع ما يدور حوله ومن اتهامات ملقاه على كل جانب فهو يتهمها بسرقته وهي تتهمه بالتحرش أثناء وجودها بمحل الأحذية والحقائب النسائية.. جلس فوق مكتبه بعد أن فض ذلك التجمهر مع الإبقاء على أصحاب البلاغات والشهود، أراح ظهره خلفه وهو يرمق تلك المنهارة كأنها على وشك تقديمها للإعدام متعجبا من خوفها، ترى هل خائفة لأنها تعلم أنها مذنبة ؟ أم أنها ضحية بالفعل ؟ سأل بروتينية واضحة كما هو معتاد في مجال عمله: قولتلي بقى كنت فين أما الآنسة سرقت الولاعة الدهب من جيبك ؟ شعر بارتباك واضح ظهر على محياه فيسمعه يقول وهو يحاول التماسك: كنت يا باشا بتفرج على أستندات الشنط. أشار له "آسر" يدفعه لإكمال القصة التي ظهرت له كاتهام ضعيف، ولكنه لن يصدر حكمه حتى يجمع خيوط القصة أولا، فتنحنح الآخر يجلي صوته يقول: وبعدين لقيتها جايه جنبي بتتلزق فيا، بيني وبينك أنا قولت دي واحدة من إياهم خليني أشوف آخرها، بس ما توقعتش أنها هي تصوت وتلم الناس عليا وتتهمني أني بتحرش بيها. علا صوت نحيبها المتقطع تدافع عن حالها بضعف: والله هو اللي كان بيضايقني وأتهمني بالسرقة أما صوتت، والله مظلومة. نظر لها "أسر" يقيم هيئتها الخارجية من رأسها لأخمص قدميها يحاول الوصول إلى حقيقتها فلا يظهر عليها أنها من ذلك النوع الذي ذكره الآخر فأودع اهتمامه للآخر يردف بصوته الأجش: يعني إحنا لو فتشنا شنطتها هنلاقي ولاعتك الدهب ؟ تلاقيها يا باشا رمتها في أي مكان أما فضحتها. كان هذا صوته المتلجلج، فكلما طالت فترة الاستجواب لهما يتأكد أكثر من برائتها، فنحّى بتفكيره مؤقتًا عنه ليودع كل تركيزه لتلك المنهارة التي بدأت في مسح أنفها بأسورة بلوزتها الصيفية وسألها بجمود: إيه رأيك في الكلام اللي بيقوله الراجل ده؟ ظلت تهز رأسها رافضة ذلك الاتهام فيريد حثها ودفعها لتقديم إتهامها التى ثارت و أتت لأجله ، فأكمل بصرامة: إنت بتتهميه بحاجة ؟ عملك حاجة ؟. هزت رأسها بالسلب مما جعله يضيق من تصرفها السلبي، وسمعها تقول بين شهقاتها: -خلاص مش عايزة أقدم بلاغ، أنا عايزة أمشي من هنا. رفع حاجبه مذهولا من موقفها فوصله صوت ذلك المتشدق بنبرة استعلاء: صدقت يا باشا، صدقت أني مجتش جنبها، أنا بقى مصمم أعملها محضر. قاطعه "آسر" بصرامته المعتادة قائلا: لو ليك حق هتاخده. ثم أمر كلاهما بإخراج إثبات هويتهما فأسرع الرجل بإخراج محفظته ولكن ما أدهشه إزدياد نحيبها وبكائها الذي قطع أوتار قلبه، فسألها ببعض اللين: بطاقتك يا آنسه. صدر صوتها المبحوح بكلمات متقطعة: بطاقتي، مش.. مش معايا.. مع أخويا ! رفع حاجبه من إجابتها متعجبا، كيف تتجول بدون إثبات هويتها، فوصله صوت الآخر ساخرا: تلاقيها سوابق يا باشا. تلك الطعنة التي تلقتها من إتهامه الواضح اخترقت قبله بدون أن يعلم سبب ذلك، فصرخ " آسر" مهددا بسبابته -ما أسمعش حسك هنا بدل ما أرميك في الحجز. تؤمر يا باشا. تحرك "آسر" من خلف مكتبه ويستقر أمام ذلك المدعي يسأله بحذر: ولاعتك كانت في أنهي جيب؟ -هاااا؟ كان تلك كلمة الرجل البلهاء، لا يفهم لما يرمي إليه "آسر" فصرخ به یكرر سؤاله بشراسة فأجابه الرجل بسرعة أظهرت لأسر عدم صدقه: في جيبي اللي قدام ده يا باشا. وأشار بيده جهة اليمين فأمره بشراسة مستغلا ارتباكه قائلا: وهي لما اتهمتك كانت واقفة إزاي بوشها ولا بضهرها. أسرع في الرد بدون تفكير: بجنبها يا باشا كانت بتتلزق فيا. زم "آسر" شفتيه متمهل التفكير، يردف بصوت متزن: جميل، يعني هي على كلامك كانت واقفة يمينك. قال مسرعا: أيوه يا باشا، كانت يميني ناحية الجيب اليمين. وجه "آسر" نظره تجاهها يسألها نفس الأسئلة لتجيب عكس ما قاله أنه هو كان على يمينها وتعمد الوقوف خلفها توجه "آسر" لمكتبه يرفع هاتفه بعد أن قام بتحديد الاتصال قائلا بعد لحظات: -"أمير" باشا !.. فينك مش بتسأل ؟ ربنا يعينك يا باشا، بقولك إيه؟ كنت عايز منك خدمة على السريع أنا عارف إنك ساكن في قريب من محل......للأحذية الحريمي، عايزك تشوفلي كاميرات مراقبة المحل وتجيبهالي على السريع ودي كده، أه بتاعت إنهاردة.. ده العشم يا باشا، مع السلامة. أغلق هاتفه وعينه كانت متعلقة بعيونها المنتفخة طيلة المكالمة جاهلا سبب انجذابه لها، لينتبه أخيرا لصوت المدعي الذي فقد دوافعه: كاميرات إيه بس يا باشا، عموما المسامح كريم وأنا مستعوض ربنا في اللي خدته. بالبساطة دي ؟ هو احنا شغالين عند أهلك يالا!. بعد فترة صدح صوت رنين هاتفه ليتناوله من فوق مكتبه وصلت لحاجة ظل يستمع للجانب الآخر وعينيه تتفحص كلاهما فشعر بانهيارها الوشيك مع مقاومتها لفتح أعينها تحارب فقد وعيها فعقد حاجبه مرتابا في أمرها وخاصة بعد ما استمع إلى الجانب الآخر فأغلق الهاتف ينادي بأعلى صوته: شاويش "فتحي". فتح الباب ليظهر أمامه "فتحي" بتحيته العسكرية ليأمره بأعين ينطلق منها الشرار فتشلي البيه ده، وطلع كل اللي في جيوبه. بعد لحظات كان يكيل لذلك السمج اللكمات التي أطاحت بإحدى أسنانه مع ظهور بعض الكدمات المتفرقة بوجهه ينعته بأقذع الألفاظ التي لا تليق إلا بأمثاله المجرمين. بعدما وصله من معلومات حيث أظهرت الكاميرات تحرشه البين لها كما ادعت وذكرت، ولكن ما صدمه أكثر وجود قداحته البلاستيكية في إحدى جواربه ليعترف أنه لم يملك يوما قداحة ذهبية، وأن سبب إدعائه ليس إلا لإخفاء جرمه تجاهها. لم يشعر بحاله إلا وهو ينقض عليه يكيل له ضربات متتابعة، ويأمر بتحرير محضر له وإلقائه بالحجز مع أقرانه. ليلتفت لتلك الجالسة بكرسيها وقد زاد شحوب وجهها فقال لها بصوت حاول إخفاء خلفه توتره اشربي الليمون هيهديكي لغاية ما أخوكي يجي. هزت رأسها رافضة بإرهاق بادي تغمض عينيها للحظات ثم تفتحهما وتهمس بصوت مبحوح: -عايزة أروح لو ينفع. كان يريد معرفة معلومات أكثر عنها، وفتح مجال للتعارف بما أنه منتظر أخيها الذي تواصلت معه هاتفيا ليجلب إثبات شخصيتها، فسألها بفضول بعد أن أخبرها ضرورة انتظار شقيقها: -أنتي بتدرسي إيه ؟ رفعت أناملها تتحسس جبينها المتعرق تكابح آلام رأسها التي شقت رأسها لنصفين تحاول التركيز في إجابتها: -كلية ، كلية ال .... انتفضت رعبا من هيئته التي تنذر بالشر، حتى الآن يجهل ماهية شعوره تجاهها، فلم يشعر بنفسه إلا وهو واقف أمامها يحاول جذب إنتباهها المشتت وعيونها الزائغة، فسألها بصوت حاول إظهاره متزنا: إنتي حاسة بحاجة ؟ إنتي كويسة ؟ حاولت الاستقامة من جلستها لتدور بها الحجرة وتسمع صوته يتباعد تدريجيا مع ظهور غشاوة سوداء تحاول محاربتها بكل ما أوتيت من قوة. ترنحت في وقفتها لتجد كفيه تمسك ذراعيها بقوة قبل سقوطها أما عنه فقد شحب وجهه كما شحبت وهزل جسدها، عندما ثقلت رأسها وألقته فوق صدره لتستقر بلا وعي بين أحضانه، لو كان في موقف مغاير لشكر الظروف التي جمعتهما في تلك اللحظة، ولكن قلقه طغى على امتنانه، فأسرع بالانحناء يمرر ذراعه أسفل ركبتيها حاملا جسدها المرتخي في الهواء يسير بها خطوتين مستقرا بها فوق أريكته الجلدية وضربها ضربات خفيفة فوق وجنتها في محاولة إيقاظها ليناديها بلوعة: یا آنسة ! يا آنسة فوقي. اسمها إيه ياربي دي ؟ دا حتى كنا لسه بنتعرف. قدم تقريع واضح لنفسه قائلا: غبي يا حضرة الظابط.. غبي، حتى مش عارف تسألها عن اسمها كاستجواب عادي، أديك وقعت و ما حدش سمّى عليك.