استهلك أكثر من علبة سجائر، شارد الذهن متعكر المزاج، لم يتحل ببعض الثبات منذ أن فاجأه طليق شقيقته الصغرى يطلعه عما فعله بها، ترددت كلماته بذهنه "أنا قتيل المشروع ده ولو أبويا وقف قدام المشروع ده هنسفه". انتشله من شروده لمسات زوجته الهادئة فوق كتفه، ويتبعها سؤالها المعتاد أنت إيه اللي مصحيك لحد دلوقت؟ رفع نظره يواجهها بلوم يتآكله، وينهشه بشراسة: -يعني مش عارفة ليه ؟ تحركت تجلس ملاصقة به بدلال مفتعل لتردف ببطء: اللي حصل حصل يا "عبد الله" وجوزها عايز يرجعها عشان مصلحة الكل، زعلان من إيه بقى ؟ امتدت أنامله تلتقط آخر سيجارة بعلبته في محاولة فاشلة للتنفيث عن ضيقه، يجيبها باختناق: مش عايزاني أضايق وأنا قاعد هنا وعارف إن أختى اللي مربيها محبوسة في شقتها، وأنا مش عارف أعملها حاجة ، مضايقش وأنا بكرة هبيع نصيبها من ورا ضهرها، وبدون رضاها؟ اعتدلت في جلستها واضعة ساقا فوق الأخرى، فلم يبدو عليها التأثر من تخبط زوجها، ولكنها لم تستطع أن تتوقف عن بث سمها بأذنيه كما اعتادت فأشاحت بيدها بإهمال تبصق كلماتها المسمومة: -مشكلتك يا "عبد الله " إنك قلبك حنين بزيادة ومكبر الموضوع، هو أنت يعني هتاكل حقها ؟، ده أنت بتكبر فلوسها في مشروع عمرها ما تحلم بيه، روق بس دمك عشان مشوار بكرة تكون فايق وإنت بتمضي وبتعد الفلوس. نفث دخان سيجارته المحترقة يهمس لنفسه قبل أن يهمس لها : تفتكري هتسامحني في كده؟، هتسامح في أني بعت مصانع الخشب بدون علمها وهي محبوسة في شقتها ؟ -وهي هتعرف منين؟! ذلك السؤال الذي خرج منها بتوتر واضح حتى ازداد توترها وتفاقم عندما سمعته يردف بأسي: عرفت یا "جیهان "، "حاتم" للأسف قالها. نظرت له بفاه مفغر مصدومة مما سمعت فنطقت بتلعثم مرتبك: يعني إيه ؟، يعني البيعة وقفت ؟، دي ممكن تلغى التوكيل وساعتها مش هنقدر نكمل البيعة ولا نكمل المشروع. -ده اللي همك ؟ متخافيش أوي كده ، "حاتم " قام بالواجب وحبسها لحد ما نخلص البيعة وأسلمه الفلوس. زفرت براحة لتتحول سريعا للهدوء الذي يميزها : الحمد لله طمنتني، وأهو هنخلص من الديون اللي ليه عندك، وضاغط عليك بيها. صمتت للحظات تفكر بحيرة في أمر ما حتى سألت بفضول، وبعينيها بريق لامع: -هو أنت يا "عبده" هتدخل باسمك في مشروع القرية ؟، مش هتدخلي معاكوا؟ دهس سيجارته بمطفأته الكريستالية بجوار أخواتها بضيق واضح وقد فضل عدم التجاذب معها في تلك الساعة حتى يستطيع تصفية ذهنه من شوائب أفكاره، تحرك من مجلسه يخبرها بصوت مرهق: أنا داخل أريح جتتي شويه، ورايا بكره هم ما يتلم. راقبته بملامح غير راضية عن استسلامه تهمس لنفسها: "و ماله ؟! ریح یا خويا ، المهم المشروع يتم ونبقى من علية القوم". احتضنت رضيعها الباكي لصدرها تطعمه من حنانها، و تتحسس وجنته الوردية باستمتاع لتلك القطعة الثمينة في حياتها ، شاردة في مصيرها المجهول، ترى هل ستنزلق قدميها في هوة "حاتم" مرة أخرى ؟ أم ستستطيع النجاة بمعجزة؟، رفعت نظرها لباب غرفتها المغلق من الداخل كأنها تسأله بصمت هل مازال موجودا كما هو في مكانه ؟ أم لبي رغبتها وخضع لصراخها، وانسحب خارجا من نافذتها كما ولج منذ ساعات ؟ تنهدت بتألم عندما عاودها مشهد صراخها بوجهه رافضة ما يمليه عليها من مساعدات، ولم تشعر بحالها إلا وهي تطرده من شقتها بكل وقاحة آمرة إياه بالانصراف، والابتعاد عن حياتها وعدم التدخل فيها ، وأن ينس أنه التقى بها يوما كما هي فعلت ، وهل حقا فعلت؟!. هل نسته بالفعل أم كانت صورته تقفز دوما أمام عينيها؟؛ لتذكرها دائما أنها طعنت يد من سلمته روحها وقلبها قبل عقلها ؟ تنهدت مرة أخرى بعمق أكبر تستند بظهرها فوق فراشها بعد أن أراحت جسد طفلها الرضيع بجانبها، كم تمنت في تلك اللحظة أن يطرق بابها ويبلغها بتمسكه بها، وإصراره على البقاء المخالف لرغبتها، نفس الشعور يضربها مرة أخرى ، لقد مرت بمثل تلك اللحظات منذ عدة سنوات مضت كانت على فراش مماثل ولكن بوقت غير الوقت وعمر غير العمر ، حتى الحدث مختلف، شردت في أربع سنوات مضت عليها كانت راقدة بفراش المشفى.. التي علمت بأنها نقلت إليها بعد تعرضهما لحادث سيارة كارثي ليكون أول سؤالها بعد إفاقتها عنه هو، نعم لقد سألت عنه العديد من المرات، ولم تلقَ إجابة تريحها من شقيقها وزوجته، لتعلم بعدها أنه تعرض لكسور مضاعفة بجسده، لقد أحزنها ذلك بشدة بقدر حزنها على حالها وحالة جسدها التي آلت إليها من حروق وسحجات بكتفها، وقتها انتشلها طبيبها المعالج من حزنها وتألمها قائلا: عاملة إيه دلوقتي يا آنسة ؟ رفعت عينيها الباهتة تمرر نظرها بينه وبين ممرضته التابعة له بحزن واضح تجيبه بصوت متألم: الحمد لله. اقتربت المساعدة منها تحاول كشف كتفها الجزء الملتف بالكثير من الشاش الأبيض والقطن، ضربها ألما حارقا كنار كاوية لجسدها فأطلقت صرخة قصيرة ابتعدت الأخيرة على أثرها تقول معتذرة: أسفة والله بس حضرتك لازم تستحملي شوية عشان أغيرلك والدكتور يكشف . هزت رأسها أكثر من مرة رافضة أي تعامل أو علاج ، حتى اقترب الطبيب خطوة يهدئها: الحرق لازم يتغير عليه، وما تقلقيش هي إيدها خفيفة ، حاولي تستحملي وأنا هديكي مسكن قوي. بعد الانتهاء من الكشف الدوري والتغيير فوقه أرادت الاطمئنان على حالة جسدها لعل حديثه يخفف عنها هواجسها القاتلة، فبادرت تسأله بحرص شدید: كنت عايزة أعرف من حضرتك الحرق اللي في كتفي ده هيفضل كده، مالوش علاج وهيسيب أثر ولا لا؟. لاحظت الارتباك على وجهه متأثرا من سؤالها حتى تبادل النظر بينه وبين مساعدته يحاول اختيار الكلمات الملائمة حتى لا يسبب لها صدمة ، فأجلى صوته يردف بكلمات مهذبة مرتبة: إنت حضرتك أكيد عارفة درجة الحرق اللي اتعرضتي ليها، مكانتش هيئة ، ولكن الطب اتقدم وفي علاجات ودهانات كتير تجميلية مع الوقت والاستخدام مش هيسيب أثر ممكن أثر خفيف. كان يرغب في بث الطمأنية بروحها، ولكنه من الواضح فشل في ذلك فتابعت في سؤالها : حضرتك عارف إن جيت في حادثة عربية مع واحد، الحقيقة مش عارفة عنه حاجة ومحدش عايز يقولي ولا يريحني ، أنا عايزة أطمن عليه. نظر الطبيب لمساعدته بتساؤل لعل لديها إجابة فأسرعت تبلغه: الضابط اللي كان مع حضرتك في الحادثة، مش كده؟، ده خرج من المستشفى من أسبوع تقريبا. إيه ؟ خرج ؟، خرج إزاي، وهو.. وهو عنده كسور؟ صححت لها الممرضة المعلومة فأردفت توضح: أيوه، ما والدته نقلته بعربية إسعاف لمستشفى ال... التابعة لشغله. شعرت بالحزن الشديد لما آلت إليه الأمور، كيف سمح لنفسه أن يخرج تاركا إياها بدون سؤالا أو حتى يطمئن على حالتها ويواسيها في مصابها ؟.انتبهت لصوت خطوات حذاء نسائي يقترب من حيز حجرتها لتتفاجأ بوالدته أمامها كما عهدتها دائما.. أنيقا ،مرتبة، بوجه أصغر من عمرها الحقيقي، شامخة الأنف انفرجت أساريرها لرؤيتها كأنها طوق نجاتها المنتظر، لم تعر اهتماما لكلمات الطبيب الموصية بحالتها ، كل ما يهمها أنها هنا لتطمئنها عليه. لم تصدق ما ألقته على سمعها، تنظر بذهول وصدمة لتلك العلبة الصغيرة المخملية المفتوحة التي تحمل بداخلها حلمها الضائع ، عينيها لم تستطع أن تحرر خاتم خطبته - البلاتيني - الماكث داخلها ، بللت شفتيها الجافتين ، أرادت التأكد مما سمعته منها فسألت مرة أخرى: هو إللي قال كده ؟، قال عايز يفسخ الخطوبة. تشدقت شويكار " بعبارات جارحة أنا عارفة إن الموضوع صعب على واحدة زيك، وخصوصا بعد إللي حصلك ، بس هنقول إيه ؟ مفيش نصيب بينكم. سألتها بصوت حاولت تمالك اهتزازه: ممكن أعرف السبب ؟، وليه هو مجاش زي أي راجل محترم يفسخ الخطوبة بنفسه ؟ أكيد في حاجة غلط ، أحنا كنا راييحين نشتري الستاير قبل ما . اختنقت نبرة صوتها عندما داهمها مشهد انقلاب السيارة حينما انشغل بها لبرهة عن متابعة الطريق، فألقت "شويكار" كلماتها المتعالية تقصد اهانتها: شوفي يا "نيروز" ، من البداية أنا كنت رافضة الخطوبة دي؛ لأنك مش البنت اللي اتمناها لأسر ابني، بس مش هخبي عليكي استريحت أما أخد القرار ده وطلب مني أوصلك دبلته. نظرة منها لخاتمه اللامع لتتأكد أنه بالفعل قد تخلى عنها في أصعب ظروفها ، حتى سمعت بعدها كلماتها الرادعة: أما عن سبب فسخ الخطوبة ، فبلاش ندخل في مواضيع تجرحك ، إنتي حاليا زي ما عرفنا مشوهة وابني ما قدرش يتحمل صدمة زي دي ، لانه خدك جميلة وكان عايزك دايما جميلة. لكن دلوقتي.... مسحت "نيروز" دموعها بكبرياء مصطنع تلملم بقايا كرامتها المهدورة لتقاطعها بحدة بلغي "أسر" باشا إن كل شيء قسمة ونصيب. انتشلها من ذكرياتها المؤلمة صوت حركته خارج الحجرة تجاه حمامها فتحركت ببطء حتى لا تزعج طفلها الغافل، تلتقط بخفة إسدال صلاتها تخفي به خصلات شعرها والأهم آثار حروقها الظاهرة بجانب عنقها وكتفها المشوه، تحركت تفتح الباب بحرص، ثم خرجت تتلفت حولها بآخر الممر حتى وصلها صوت مياه من الداخل لتتيقن وقتها من عدم انصرافه كما أمرته، بهجة ضربت قلبها بعد تأكدها من وجوده، لم يتخل عنها مرة أخرى في أشد حاجتها، تعلم أن من الخطأ وجوده معها بنفس الشقة، وإن شعر أحد به ستكون القاضية لسمعتها ولكن من الغريب أنها تشعر بالراحة لوجوده بجوارها نهرت حالها على الحنين إليه بعد أن غدر بزهرة شبابها، فارتدت وجهها البارد الصلب حينما تراءى لسمعها توقف المياه وتحرك مقبض الباب، ما كان منها إلا القفز جريا لداخل المطبخ حتى تظهر تفاجؤها عند رؤيته.