واقفا وسط مطبخها يمرر عينه في جميع زواياه حاملا بين أحضانه رضيعها المشاكس الذي لم يكل من جذبه من خصلات شعره ليظهره بمظهر مشعث، والفضل في النهاية يعود له، أنّةً ضعيفة صدرت منه نتيجة جذب خصلته مرة أخرى بطريقة مؤلمة، ليولي اهتمامه لذلك المشاغب الصغير القابع بين أحضانه باستسلام فيوبخه بطفولة مماثلة لسنه: هو شعري يلزمك في حاجة يا أخ "بودي" ، لو يلزمك قول ما تتكسفش. شقت ابتسامة فوق شفتيه عند سماعه ضحكاته الشقية بفم منفرج يتساقط منه سائله الشفاف، كأنه يجيبه عن سؤاله الذي لم يفهمه، فما كان منه إلا الانحناء فوق وجنته يودعه قبلةً عميقةً أغمض عينيه خلالها ليستمتع بملمس بشرته الناعمة التي أذهبت بعقله ، مستنشقا رائحة عطره المميز، يحبسه برئتيه برهة من الوقت باستمتاع متعجب هو منه، سائلا حاله هل لو كان ابنه منها، كان سيحمل نفس الرائحة الممتعة ؟، ترى ماذا سيصبح شكله؟، هل ستصير ملامحه تشبهها أم تشبهه أكثر؟، في وسط دوامة الأفكار وأمواجها المتلاطمة، لم يصل إلا لشيء واحد فقط بأنه عاشق لأطفالها حتى لولم يكونوا من صلبه مجرد فكرة أنها تملك لقب أمومتها لذلك الطفل، كفيلة بأن يعشقه حد النخاع، فما كان منه إلا أن ابتسم لتلك الخاطرة الغريبة التي لا يتقبلها غالبية الرجال، قائلا بصوت حاني، موجها حديثه لذلك المشاغب: دلوقتي جه وقت الأكل يا برنس، تحب تاكل إيه ؟. ظل يفكر وهو يتجول بين أركان مطبخها بفضول متسائلا كأنه منتظرا إجابة من ذلك المشاكس: ماما بتشيل اللبن بتاعك فين يا سي "بودي"، عايزين نعملك رضعة تعدل مزاجك الحلو ده. صدرت أصوات من حنجرة الرضيع كضحكات خافتة نتيجة دغدغته له، مع تقدمه يفتح أول وحدة، باحثا عن غرضه المفقود ويجد صعوبة في العثور عليه فقال متذمرا بعد فشله: أمك محسساني أنها قاعدة في "جوانتانامو" ياجدع حتى اللبن مش محطوط في مكان زي الناس الطبيعية، دا لو دهب مش هتخبیه کدة. صمت للحظات يدور حول نفسه بحيرة تملكت منه ثم صاح مهللا عندما وجده في الوحدة العلوية لمطبخها: أخيرا لقيته. صدرت صرخة عالية من حنجرة الرضيع تترجم فرحته، فرفع "آسر" حاجبه باندهاش من تصرفاته قائلا: لا متنشكحش أوي كدة وتفرح، دة لسه الدور على الببرونة بتاعة حضرتك، يا ترى دي بقى أمك مخبياها فين هي كمان؟ وقفت بذهن شارد تلتقط عيناها تفاصيل تلك اللوحة الفنية الحية التي شلت حركتها لبعض الوقت لم تكن تدرك عندما انتفضت من نومتها باحثة عن رضيعها الذي غفلت عنه سهوا بنومها العميق، أنها ستجده بين أحضانه بهذا الوضع الساحر، متسطحا هو فوق أريكتها مغمض العينين حاملا فوق صدره رضيعها الساقط في هوة نومه، متسطحا على بطنه بفم منفرج وذراعين فولاذيتين حاجزا لطفلها يمنعه من السقوط، يوفران له كل الدعم والأمان، ذلك الأمان الذي فقده مع أبيه رغم ما يجمعهما من دماء، ودت لو كانت عينيها لقطة مصور لتحتفظ بتلك الذكرى الفريدة حتى انقضاء أجلها، ولكن وجب عليها واقعها بأن تنفض تلك الحالمية المبتذلة غير المناسبة لمأساتها، فدفعت ساقيها باتجاههما في محاولة منها لجذب رضيعها لتترك له بعض الوقت يتمتع بنومه كما فعل معها، كادت أن تنتشل رضيعها لتجفل رعبا عندما قيدت قبضته معصمها بقوة مباغتة مؤلمة رفعت نظرها إليه مضيقة عينيها باستغراب في أمره لتلحظ عدم وعيه بما يحدث حوله ينظر لها بعين مغلقة وأخرى مفتوحة في محاولة مضنية منه لاستيعاب ما يحدث، لم تمر اللحظة إلا وشعرت بانبساط قبضته تدريجيا محدثا إياها بصوت متحشرج من أثر النوم: إيه إللي صحاكي، فيك حاجة؟ ابتسمت على تعليقه البسيط، على الرغم من إرهاقه البيّن يتفانى في التضحية من أجلها، فأجابته بعد أن استقامت حاملة طفلها الغافي: ياريت تفوق عشان تشوف هتخرج إزاي قبل ما حد يحس بيك. بعد ساعة من الجدال زفر بقلة صبر واضح لعنادها، رفع كفيه يضغط بهما على جوانب رأسها متجنبا ألامها التي شقت رأسه نصفين، ويعيد لها ما أمرها به: نيروز، اسمعي كلامي وثقي فيا اتصلي بيه بلغيه إنك مستنية المأذون يجيبه الساعة ١٠ بليل. إنت هتتخلى عني تاني مش قولت لي هتساعدني ، إزاي وأنت بتقولي ارجعي له. صاحت به لائمة قراره، مع ملاحظتها لتألمه من صوتها فأسرعت تعتذر: أنا أسفة، شكلك عندك صداع. ابتسم ساخرا من ملاحظتها البسيطة فهو بالفعل لم يذق النوم منذ ليلتين إلا بضع دقائق، فاقترب منها يحتوي كفيها بإصرار كادت أن ترفض ذلك التلامس لولا تشبثه بها يفهمها برقته المعهودة: -اتصالك بيه مجرد تخدير ليه مش أكثر، إنك فعلا موافقة عشان يطمن لك، وكمان قبل الساعة ١٠ هكون أنا متصرف، أنا عايزه بس يشيلك من دماغه لحد بليل. تنهدت بقلة حيلة فليس أمامها إلا طوق نجاته حتى لو كان مثقوبا، راقبها وهي تنفذ أمره بطاعة وثقة في شخصه ونجحت في تخديره كما توقع لها حتى سألته مرة أخرى عن الخطوة الثانية فأجابها بحرص: دلوقتي قادمنا مشكلتين لازم نحلهم وبسرعة ، مشكلة الثور اللي واقف على الباب ده ومشكلة التوكيل. انتبهت لأمر التوكيل الذي قد بدأت في نسيانه بسبب تفكيرها بابنها فسألته بقلق: هعمل إيه دلوقتي؟ أنا عرفت إن عبد الله هيتمم البيعة الساعة ٦ بالليل مع المشتريين. لم يعلق ولكنه أولى اهتمامه لهاتفه مرة أخرى وهو يطلب منها للمرة الثانية مداعبا إياها: قومي غيري لبودي رحيته تق.... أشارت بأصبعها له تحذره: بقولك إيه ؟، مش عجبك رحته قوم غيرله ، المرة اللي فاتت مكنش عامل بي رفع حاجبه مصدوما من طلبها، وتخيل نفسه يقف أمامه يفتح حفاضه بما فيه من فضلات، فأسرع متهربا: لا لا، أنا بقول نشوف هنخلص من أبوه إزاي أفضل من تغير البامبرز. نظرت له بانتصار وأنف مرفوعة: أيوه كده ، قال ريحته وحشه قال؟ حركت أنفها يمينا ويسارا باشمئزاز من وصول لأنفها رائحة كريهة من طفلها لتقول بصدمة: تصدق ريحته وحشه راقبها تنسحب مسرعة تداري حرجها منها تقول: -هعملك قهوة تفوقك. فقال يغيظها: بعد متخلصي أبقي اغسلي ايدك بمية نار أو أقطعيها يكون أفضل قبل ما تعملي القهوة. وقف شاردا بالمنظر الخارجي المطل على الكثير من المباني غير مكتملة الانشاء في تلك المنطقة الهادئة، يشعر بالامتنان لفقده مفتاح المبنى فلولا ضياعه لما اكتشف وجودها ولا اطلع على مشاكلها، كل الفضل يعود لتعلقه على مواسيرها.. يا له من متهور، زادت ابتسامته عند مرور ذكرى بعيدة أمام عقله تؤكد له أنه يتميز بخصال التهور منذ زمن بعيد، وليس جديد عليه ذلك ، عاد بذاكرته في يوم كانت نسبة اندفاعه تفوق المعقول. وقف بملابسه الرسمية أمام باب الجامعة الرئيسي لا يتخيل أبدا أنها ستدفعه للتصرف مثل المراهقين ليبدأ في مراقبتها أثناء ذهابها وإيابها يوميا من جامعتها منتظرا الفرصة الذهبية والشجاعة الهاربة منه ليحدثها، انتبه لسيرها تتوسط فتاتين على نفس شاكلتها تتجاذب الحديث غافلة عن عينين صقريتين تلتقط حركة فريسته، اقترب منهن يستوقفهن قائلا بخشونة: بطايقكم لو سمحتوا. كانت ملابسه البيضاء الرسمية كفيلة بأن تبث الرعب في نفوسهن ولكن رعبها هي تعدى صديقاتها بمراحل، وقفت تنظر له بفاه فاغر وأعين جاحظة من أثر الصدمة حتى تابعت إحدى صديقاتها : ليه يا فندم، إحنا عملنا إيه ؟ لا متقلقوش، ده إجراء أمني مش أكتر. كان يعلم أنه يكذب، ويحيك الكذبة بإتقان حتى تظهر أكثر واقعية، وقف منتظرا أن تتحرك من ثباتها وتعود لإدراكها وتعطيه هويتها، فقال بصوته الخشن نسبيا الذي بدا لها من بعيد: بطاقتك يا أنسة، ولا نسياها. ها، لا، أه.. أقصد معايا. أسرعت تفتش بأنامل مرتعشة متجمدة بحقيبتها، فشقت ابتسامة فوق ثغره على ارتباكها حتى تناول هويتها منها، يتفحصها ثم اكمل دوره ببراعة: اتفضلوا أنتوا، لأن محتاج الأنسه شوية. نظرت كلتاهن لبعضهن بريبة وشعر هو بخوفها وقلقهن عليها، فتابع يأمرهما ببعض الحدة: متخافوش، اتفضلوا وهي هتتصل بيكم تطمنكم على نفسها. وقف ينظر لانصراف الفتاتين بوجه متحفز حتى ابتعدتا عن مجاله وأولى اهتمامه لتلك المرتعبة، فسمعها تسأله بعيون زائغة وكادت أن تجهش بالبكاء: هو مش حضرتك قفلت المحضر، وعرفت أني مسرقتش حاجة؟ اقترب منها خطوة ينظر بعينيها يراقب ردة فعلها باشتياق، ثم قال: إنتي أه طلعتي براءة من تهمة السرقة اللي فاتت، بس للأسف سرقتي حاجة أكبر المرة دي. صمت للحظات ثم تابع بصوت متأثر يجيش بها عشقا – سرقتي قلبي يا "نيروز". مادت الأرض أسفلها مع تتابع كلماته حتى هييء لها رؤية الأسفلت فوق رأسها وانقلاب الناس من حولها، لاحظ عينيها الزائغة، وتنفسها الذي زادت من وتيرته مع تعرق جبينها وعدم اتزانها ليتفاجأ بميل جسدها ليتلقاها بذراعيه مانعا ارتطاما، يهمس في أذنها بصوته اللائم: يا بنت الناس نفسي أكمل جملة مفيدة معاكي، إيه الحظ ده يا ربي؟.