بدأ حمزة يستعيد قواه شيئا فشيئا و بدأ يتعرف في أوقات فسحة المعتقل علي شباب و رجال كثر أحبهم و أحبوه ولكنه في يوم من الأيام و في وقت الفسحة لاحظ وجود ضجة ثم رأي أبا بكر قادما نحوه وعلي وجهه آثار الارتباك حمزة:: ما هذه الضجة يا أبي؟؟ أبو بكر_ مرتبكا:: لا تشغل بالك يا بني وفجأة رأي الاثنان شابا يبكي بحرقةويصرخ و يسقط إلي الأرض فيعينه زملاءه علي النهوض وهم محزونون ثم اندفع ذلك الشاب نحو حمزة و زملاؤه يمنعونه وهو يصرخ بوجه حمزة بلهجة تبدو هندية ولا يفهمها حمزة و أخذ يصرخ بحرقة تقطع نياط القلوب وهو يشير نحو حمزة حتي ابتعد به زملاؤه واختفوا في جانب الفناء حمزة يلتفت الي أبي بكر بقوة وهو في ذهول:: ماذا يقول ذلك الشاب يا أبي ؟؟ ولماذا يشير نحوي ويصرخ بوجهي؟؟ أبو بكر في تردد حزين: لا عليك يا بني حمزة_منفعلا بالحزن:: أرجوك أخبرني أنت تفهم لغته أليس كذلك ؟ ؟ أطرق أبوبكر في حزن ولم يجب حمزة_في رجاء:: أستحلفك بالله يا أبي أخبرني....أرجوك أبوبكر_في تردد حزين:: إنه ينطق بكلمات لا يعنيها حمزة_مقاطعا في رجاء:: أبي أرجوك صمت أبوبكر ثم قال:: يقول إنك السبب فيما حدث ل(( ريزوان)) صديقه_رضوان بالعربية حمزة_في حذر: و ماذا حدث لريزوان؟؟ صمت ابو بكر مطرقا قليلا ثم قال بحزن وترقب: فقد عقله حمزة_في صدمة حزينة :: وكيف أكون أنا السبب في ذلك؟؟ أبوبكر_مترددا حزينا:: ريزوان فقد عقله بسبب وضعه في حجرة العزل لمدة اسبوعين منذ حادثة الإضراب عن الطعام لرفض سوء معاملة إدارة المعتقل معك ريزوان هو أول شاب قذف بطعامه إلي الأرض لينصرك نظر حمزة إلي أبي بكر قليلا ثم جلس علي الأرض و أولاه ظهره و دفن وجهه بين كفيه وراح يبكي بكاءا مريرا أمسك أبوبكر بكتفيه و أداره ليواجهه في قوة قائلا بعطف مغلف بالقوة:: حمزة يا بني...لا ذنب لك فيما حدث لريزوان...الشاب تعاطف معك لذلك ألقي بطعامه علي الأرض وهو يعلم تماما ما الذي قد ينتظره حمزة_هاتفا من بين دموعه: ولكن لماذا فعل هذا من أجلي؟؟؟ لماذا عرّض حياته للخطر؟؟ لماذا يا ابي؟؟؟؟ ابو بكر_في ثبات: ووالدك لماذا ذهب بكم جميعا للعراق ؟؟؟؟ سكت حمزة مفكرا من بين دموعه ثم قال:: لأنهم إخوتنا و يحتاجون المساعدة أبوبكر: كان يستطيع ترككم في بريطانيا ويذهب وحده ليؤدي واجبه كطبيب فلماذا اصطحبكم معه؟؟ سكت حمزة ثم قال:: لأنه قال إنه سيبيع كل ما لديه لله كما فعل المسلمون الأوائل صحابة رسول الله....المهاجرين والأنصار...قال إنه يريد أن يعلمنا أن كل ما هو لنا هو بالأخص لله ثم لمن يحتاجه ممن يستنجد بنا سواء أكان مسلما أو غير مسلم....هو قال لنا هذا قبل سفرنا للعراق مرارا وتكرارا أبوبكر:: أما خاف من فقدكم؟؟؟ حمزة_شاردا ببصره::نعم بالطبع ولكنه كان يقول أنه لا شئ أغلي علي الإنسان بعد الله من دينه و مبادئه الإنسانية أبوبكر:: إذن هل لو فقد أبوك حياته فهل يكون العراقيون هم السبب في ذلك؟؟ حمزة_ومازال شاردا:: لا بل قناعاته الشخصية أبوبكر:: وهل قناعاته الشخصية تلك خاطئة؟؟ حمزة_شاردا ولكن عينيه بعيني أبي بكر:: لا بل صحيحة كما أعتقد،فالتضحية من أجل الآخرين شئ سامٍ ونبيل أبوبكر:: إذن فأنت لم تضر ريزوان و لا أضرته قناعاته الشخصية بل هو ذهب فداءا لما يؤمن به بخطي ثابتة غير محزون ولا متردد وليجعل الله جزاءه عنده خير الجزاء آمين حمزة_وعيناه تذرفان:: إذن فلماذا يُحملني صديقه المسؤولية؟؟؟ أبوبكر_يربت علي رأس حمزة في حنان:: لسنا جميعنا نمتلك نفس القدر من الفهم و الشجاعة وعميق الإيمان يا بني...أحزنته الصدمة و سيثوب لرشده قريبا إن شاء الله مسح حمزة دموعه وهو يقول:: جزاك الله خيرا يا أبي ثبّت قلبي و هنا اقترب منهم شاب يبدو اكبر قليلا من حمزة وهو يبتسم من بين صفرة العناء التي تكسو وجهه فوضع أبوبكر يده علي كتفه برفق قائلا بابتسامة حنونة:: هذا نضال...صديقنا الفلسطيني....عمره ثمانية عشر عاما مدّ نضال يده ليصافح حمزة فصافحه حمزة في حرارة قائلا بابتسامة محببة:: أهلا بك هل تعلم أنني نصف فلسطيني؟؟ نضال_يبتسم بحرارة ناطقا بإنجليزية صحيحة:: حقا؟؟ حمزة_مبتسما بحرارة:: نعم فأمي فلسطينية نضال_بابتسامة مازحة:: إذن فأنا خالك حمزة_مبتسما:: يشرفني هذا ولو أنك لا تكبرني إلا بأربع سنوات فقط نضال _يبتسم رغم شحوبه:: لا فرق...ولكن أخبرني هل أتيت من استراحة العراق؟؟ حمزة_مبتسما بتعجب::استراحة؟؟ إنها حرب مستعرة نضال_ضاحكا بلطف:: نعم أعلم هذا فقد أتيت من هناك أيضا....إننا نطلق لقب استراحة هكذا مزاحا فجحيم الحرب هناك أبسط من لهيب الجحيم هنا حمزة_مبتسما في مرارة:: الجحيم هنا تبدو آثاره على قسمات وجهك بجلاء نضال_يهز كتفيه باستخفاف رجل بمعني الكلمة:: لا عليك ...ثلاثة أيام في أحضان العزل الانفرادي....لا يهم..تعال أعرفك علي صديقي غسان من سوريا استئذنا أبا بكر ثم توجها إلي شاب ذي لحيةمتوسطة نظر حمزة إليه فإذا هو مكبلةيداه إلي رجليه بسلسلة حديدية طويلة وهو يتحرك ببطء في الفناء حتي لا يسقط ومع ذلك فقد ابتسم لهما ابتسامة وادعة نضال_بابتسامة واسعة:: السلام عليكم غسان غسان_مبتسما:: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته....كيف حالك يا نضال؟؟ نضال:: الحمد لله_ثم ربت علي كتف حمزة قائلا بابتسامة:: إنه بطلنا حمزة سبب هذه السلاسل غسان_ضاحكا:: حقا؟؟؟ الحمد لله أنني تعرفت عليك يا حمزة حمزة_في حياء:: آسف لما حدث لكم بسببي غسان_ضاحكا:: وهل أنت السبب في أنني تحمست بشكل كبير فقذفت الحارس بطبق الطعام علي وجهه بدلا من قذفه علي الأرض كبقية الزملاء؟؟ حمزة_مبهورا::حقا فعلت؟؟ غسان_مبتسما:: نعم لذلك انا مقيد هكذا نضال_ضاحكا:: تعجبت لفعلتك هذه يا غسان هل أنت غسان الذي عرفته منذ عام هنا؟؟ الذي كان يضيق ذرعا بالسجن و لا يفعل أي شئ يغضب الحراس حتى يمضي عقوبته سالما ليعود سريعا إلى حياته الرغدة؟ غسان_ضاحكا:: الفضل لبطلنا الصغير بعد الله حمزة_مازحا::وهل جئت من استراحة العراق ايضا؟؟ غسان ضاحكا:: لا....لم أنل هذا الشرف....انا كنت في مظاهرة في أمريكا ضد أمريكا أقصد ضد الحكومة الأمريكية في حربها ضد العراق...أدرس في أمريكا منذ عامين المظاهرة احتدمت وقذفت بالحجارة مع من قذفوا الجنود الامريكيين فرأوا أن يستضيفونني هنا في منتجع جوانتانامو المريح للأعصاب ضحك ثلاثتهم ولكن فجأة أقبل مجموعة من الحراس فابتسم غسان في بعض الأسي قائلا:: آسف عرضتكما للخطر فلقد نسيت أنه محرم علي الابتسام وصل الحراس وهم يدفعون حمزة و نضال بعيدا عن غسان آمرين إياهم بالابتعاد عنه ثم جذبه اثنان منهم بغلظة وفيما كانوا يقتادونه لزنزانته نظر غسان لحمزة ونضال وهو يومئ لهما بعين واحدة يغمز بعينه مبتسما لقد كان حمزة ينظر إليه وهو يبتعد و إلي نضال و إلي باقي المعتقلين شبابا و كهولا وشيبانا وهو يتعجب من ثبات هؤلاء الناس وابتساماتهم و رسوخ إيمانهم رغم ويلات العذاب الذي يتجرعونه يوميا و راح يتساءل في نفسه هل هؤلاء رجال أم جبال؟؟ مرت أشهرا و حمزة يعيش في جحيم لم يكن يخطر بباله صحيح أنه لا يناله من النيران إلا الشرر مقارنة ببقية المسجونين إلا أن ذلك الشرر كان كفيلا بإنهاك مشاعره الغضة....عذاب وإهانات و صفعات و شتائم وتكليف بالأعمال الشاقة و ويلات في ليالي الاستجواب الطويلةو محاولات عديدة لسحق كرامة الجميع كان قلبه ينزف ألما لا لنفسه فقط بل لجميع المعتقلين وعلي رأسهم ابوه الروحيّ((ابو بكر)) و صديقيه((غسان ونضال))....لم يكن شئ يخفف عنه عذابات قلبه الأخضر سوي الهمس بالقرآن و جبهته المنبسطة علي الأرض في سجود طويل يناجي به ربه و عطف أبي بكر الدفّاق عليه وعلي الجميع.....حينما كان يخلو بنفسه لم يكن غاضبا علي أبيه بل كان دائما يغمض عينيه مبتسما هامسا كأنه يبعث رسالة لأبيه((أبي الغالي...لست غاضبا منك....أنا أحبك و أوقن أنك كنت علي صواب حين صحبتنا للعراق)) كان حمزة و غسان و آخرين ينظفون دورات مياه المعتقل بأمر من إدارة المعتقل وبعدما أنهيا عملهما جلسا خارج الحمام قليلا مستندين إلي جدار....كان غسان شاردا ببصره حمزة_يصدر صوتا عاليا بيده أمام وجه غسان مازحا:: هيه....إلي أين ذهبت؟؟ نظر إليه غسان كأنه أفاق من حلم ثم ابتسم في مرارة حمزة_يعتدل في جدية:غسان ما بك؟؟ غسان_وابتسامته المريرة لا تفارق ثغره:: اشتقت إلي أمي....إلي مزاح أبي...إلي حلب ثم تنهد بحرارة هامسا حلب الشهباء....ذبت شوقا إلي كل ما بها الشوارع المساجد ضحكات الأطفال....رائحة طعام أمي وخالاتي....حتي غضب أعمامي أحيانا من أبي بسبب تدليله الزائد لي و رد أبي الدائم:: إنه ولدي الوحيد لم يطعمني الله غيره لا بنتا ولا ابنا آخر فكيف لا أدلله؟؟ فيجيبونه:: هو ابننا أيضا ولا نريد إلا رشاده ثم دمعت عيناه هامسا:: فليأتوا الآن و ليروا ابنهم المدلل و ما آل إليه حاله تأثّر حمزة جدا بنبرة الحزن العميق بصوت غسان فوضع كفه علي ذراع غسان قائلا::غسان إن الله يبتلي العبد ليكفر ذنوبه أو ليرفعه درجات فقل الحمدلله مسح غسان عينيه متمتما:: الحمد لله استغفر الله العظيم وأتوب إليه ثم نظر إلي حمزة واعتدل في جلسته قائلا:: أشعر أن الله أرسلك إلي ّ لتثبتني يا حمزة...فرغم صغر سنك إلا أن الله قد انقذني بك ثم شرد ببصره هامسا::منذ أن وطأت قدماي أرض جحيمنا البغيض هذا وأنا أكفر كل يوم بمبادئي....كنت ألعن نفسي كل ليلة وأكاد أصرخ:: أيها الغبي لماذا خرجت بتلك المظاهرات؟؟؟ لماذا علا صوتك بكلمة الحق؟؟؟ لماذا لم تخنع كما خنع الكثيرون؟؟ لماذا ألقيت بنفسك في أتون جحيمهم؟؟؟ لماذا؟؟ نعم بدأت أتعرف هنا علي حياة هانئة لم تخطر ببالي فترة حريتي حياة المسلم الحقيقي....بعد مرحلة الصدمة الأولي والانهيار بدأت أتعرف علي رجال بنفس موقفي ولكنهم ثابتين كالجبال....تعلمت الصبر مع الدعاء....وسقيت الرضا بقضاء الله مع الفرائض و السنن و حملت كتاب الله بين جوانح قلبي حفظا و تفسيرا و تجويدا... أطلقت لحيتي تشبها برسول الله وصحابته فأصبحت تلك اللحية أغلي على من عيني ولكنني رغم هذا كنت أتوارى بظل الجدران خوفا كنت أول من يجيب أوامر السجّانين خوفا من العقاب الخوف كان زادي و طعامي وشرابي بل أنفاسي التي تتردد بصدري ثم التفت الي حمزة قائلا و دمعة تسقط سريعا من عينه اليمني فتذوب في لحيته:: إلي أن رأيتك ذلك اليوم وأنا أقدم الشاي لحراسك صبي صغير البنية مقيدا بالسلاسل وسط الساحةلكن عينيك لا تعرفان الخوف و سمعت صوتك العذب تترنم بآيات الله همسا مسموعا في غير خوف من الحراس فاحتقرت عندذاك خوفي الدائم وقذفت بالطعام بوجه سجّاني في اللحظة الحاسمة جزاك الله عني خيرا لقد حررتني من داء الخوف البغيض ربت حمزة علي كتف غسان مبتسما وبعينيه بحر من دموع فلم يستطع الكلام غسان_في إشفاق شديد::حمزة أنا الآن لست خائفا علي نفسي بل عليك إنهم لا يريدون منا إلا التخلي عن مبادئنا فعدني....... بل عد نفسك ألا تركن إليهم في رغبة ولا تنكسر أمامهم في رهبة أبدا....أعلم أن الأمر شاق جدا لكن صدقني....من يتنازل مرة يتنازل ألف مرة...هل تعي قولي؟؟؟ حمزة_في تأثر::نعم يا أخي جزاك الله خيرا.أسأل الله لي ولكم جميعا الثبات فجأة مرّ من امامهم حارسين يسحبان معتقلا مغشيا عليه و يجرانه إلي مبني الإدارة حمزة_في لوعة:: من هذا؟؟ غسان في مرارة:: إنه((ياسين)) أخ صومالي حمزة:: و ما له يجرونه هكذا؟؟ غسان_في حزن:: ياسين من أكثر الناس ابتلاءا في جحيمنا هذا..إنه في الدرك الأسفل من غضب إدارة المعتقل لا تتعجب نعم جميعنا في جحيمهم ولكن كل إنسان منا مبتلي بعذاب خاص دون الآخر حمزة:: وما ابتلاؤه؟؟ غسان:: لقد حكموا عليه ألا يصلي حمزة:: الصلاة مطلقا؟؟ حتي ولو منفردا؟؟ غسان_في أسف:: حتي ولو منفردا حمزة_متعجبا:: لماذا؟؟ إنهم يسمحون لنا بالصلاة غسان_في مرارة متهكمة:: إنهم يعتبرون أنفسهم آلهة هذا المكان يحكمون بما شاءوا علي من شاءوا بلا إبداء سبب يا صديقي حمزة_في حزن:: و ما عقابه إن صلى؟؟ تردد غسان قليلا وبدا عليه الحياء فصمت حمزة:: ما عقابه؟؟ غسان_في حزن شديد مشبوب بالحياء:: يبعثون له بمجندتين من عاهراتهم وهو مقيد بالأغلال ثم... اقترب غسان من أذن حمزة وهمس بكلمات جعلت الدم يغلي بعروقه غضبا حمزة مقطبا جبينه في غضب شديد:: إنهم سفلة منحطون ولكن لماذا هو مغشي عليه؟؟ غسان_في إشفاق:: ما سمعناه أنه دفع مجندة منهما بكتفه بقوة فارتطمت رأسها بالحائط و نزفت فظلوا يعذبونه انتقاما منه إلي أن فقد وعيه هل وعيت الآن معني كلماتي بعدم الانكسار أمامهم في رهبة؟؟ حمزة_وعيناه تتقدان غضبا:: نعم....وعيت ذلك تماما ****** مرّ ت عدة أشهر و حمدي يكاد يفقد عقله مما عايشه من تناقض في فكر العالم الذي يسمي نفسه عالما متحضرا... يدور على محاكم البلد وهو لا يستطيع توكيل محامي لينتشل ابنه الطفل من براثن الوحشية والهمجيةولكن من قال إن الجريح لا يمكنه الصراخ نعم صرخ بأعلي صوته و صرخ معه كل فرد من أسرته و أخيرا أخرج الله كل من كان بقلبه مثقال ذرة من رحمة من جحيم التبلد فانسابت موجة رحمة علي هيئة مظاهرة حاشدة ترفع صور حمزة و تنادي بالحرية واحترام حقوق الطفل و في مقدمتها الأب و الأم و الإخوة لكن سدود التعصب أوقفت السيل وهاهم المتعصبون من الإنجليز يهتفون تنديدا بكل من يقف إلي جانب ((الإرهابيين العراقيين)) و بدأت السماء تمطر وابلا من الحجارة قادمة من جهة المتعصبين ولم تستطع الشرطة حماية أنصار حقوق الطفل فتفرقت مظاهرتهم و سقط عدد من المتظاهرين أرضا، كانت من بينهم حبيبة أخت حمزة التي كان آخر ما رأته أمامها وجه زوجها وهو يهتف باسمها مندفعا نحوها مادا إليها ذراعا لم تستطع التمسك بها فتقاذفتها أمواج البشر المتلاطمة ******* ((الأيام حبلي بالأحداث)) جملة لطالما سمعناها بنشرات الأخبار لكن أيام حمزة و زملائه في جحيم جوانتانامو كانت علي النقيض... مر ثلاثة أعوام كاملة كل أيامها متشابهة..مستنسخة...بعضها من بعض في توأمة تكاد تفقد الرشيد صوابه إيقاع جهنمي رتيب جسد يعذب بلا رحمة ،كرامة تهدر عن عمد ، روح تفقد أجزاءا من انطلاقها مع كل إهانة فتتعلق بحبل الله راجية النجاة من المحنة و فك الكرب.. يكبر حمزة يوما بعد يوم في ظلمات الأسر ظلمات متراكمة إذا أخرج يده لم يكد يراها أتم بطلنا السابعة عشر عاما زهرة أيامه تذبل بين غياهب السجون بلا رحمة تلاطمت كل تلك الأفكار بعقل حمزة وهو مقيد اليدين خلف ظهره جاثيا علي ركبتيه وكسرات خبز ملقاة أمامه علي الأرض بلا وعاء....بعد قليل دخل الحارس ممسكا ب((نضال)) مقيدا بنفس هيئة حمزة وأجلسه علي الأرض جوار حمزة بعنف ثم قال متشفيا مشيرا إلي كسرات الخبز علي الأرض: هذا طعامكما أيها الكلبين فكلاه كما تأكل الكلاب ثم خرج وأغلق الباب بعنف حمزة_في ضيق:: لماذا فعلت هذا يا نضال؟ نضال_بابتسامة::أردت ان أؤنسك أم أنك أحببت ان تعاقب وحدك؟؟ حمزة_في ضيق: نضال أنا لا أمزح....أنا من أسقطت طعام ذلك الحارس الأحمق دون قصد من يدي و أنا أقدمه إليه فلماذا عندما رأيته يصفعني أسقطت طعام حارسك عمدا من يدك؟؟ نضال::وهل تظنني أمزح:؟؟....إذا عاقبوك وحدك فسيكون العقاب أليما ومبالغا أما إذا عاقبونا معا فستخف حدة العقاب قليلا كما تري. حمزة_صائحا:: وما ذنبك أن تشاركني عقابي؟؟ هل تراني ما زلت طفلا في الرابعة عشر؟؟ أم أنك مازوكي تستمتع بتعذيبهم لك؟؟؟ صدم نضال من كلماته لكنه نظر إليه نظرة عتاب ولم يجب، شعر حمزة بفداحة كلماته وأسلوبه فقال متداركا في رجاء:: نضال أنا آسف...أنا فقط...أنا.لم أعد أحتمل هذا المكان...سامحني أرجوك...أنا فعلا لا أستحق تضحيتك من أجلي نضال_مبتسما ليخفي صدمته:: ما هذا؟؟؟ هل ستحول الموقف لدراما؟؟؟...ثم ما الذي لا يعجبك في معتقلنا الرائع ذي الخمس نجوم هذا؟؟؟ ..هيا هيا.فلنتناول طعامنا الفاخر...ياتري ماذا اعدوا لنا من طعام؟؟؟ بيتزا أم برجر؟؟ نظر إليه حمزة صامتا قليلا ثم بدأ يضحك فضحك نضال ثم تعالت ضحكات حمزة فراح نضال يرمقه بدهشة.وابتسامة ذابلة ذاهلة علي شفتيه في حين أخذت ضحكات حمزة تتعالي اكثر نضال_ بصوت خفيض مندهش:: حمزة تعالت ضحكات حمزة الهيستيرية نضال::حمزة؟؟ تلوي جسم حمزة بشدة من الضحك حتي سقط علي ظهره و مازال يضحك فانتفض نضال و زحف إلي جواره تعيقه يداه المقيدتان خلف ظهره حتي اقترب منه قدر المستطاع نضال_متعجبا:: حمزة ما بك؟؟ تناقصت وتيرة ضحكات حمزة و حلت محلها سعلات خفيفة حتي توقفت عجلة الضحكات تماما ثم نظر إلي نضال وعلي وجهه أقسي ابتسامة مغموسة بالمرارة والحزن و راح يحدث نضال وكأنه يحدث نفسه قائلا بصوت ينزف ألما:: هل تعلم يا أخي ما المضحك حقا؟؟؟ المضحك أنني نزفت ثلاثة اعوام من أروع أيام حياتي هنا في هذا القبرحتي أنني نسيت كيف يعيش من هم في سني حياتهم الطبيعية بالخارج...وكيف تكون الحياة طبيعية؟؟... هل الطبيعي ان تكون داخل القضبان أم خارجها؟؟ هل الطبيعي ان نصحو كل ساعتين ليلا للتفتيش بيد الحراس أم النوم الهادئ الهنئ؟؟؟ هل الطبيعي أن نهان و نشتم بسبب وبدون سبب أم أن حفظ الكرامة هو الطبيعي؟؟؟؟ من منا الحر و من السجين؟؟؟ اختلطت المعاني حتي لم أعد أميز بينها تفاجأ نضال فهذه المرة الأولي الذي يري فيها حمزة علي هيئته اليائسة هذه فارتبك قائلا:: هذه اقدارنا وما من محنة إلا وتنجلي إن شاء الله و للصابر أجر صبره و....... حمزة_بنبرة خفيضة حزينة وتائهة:: صدقني أعرف كل ما تنوي قوله...و صدقني انا لا أعترض على قضاء الخالق....أنا فقط سئمت نذالة المخلوقين....سئمت هذا الحبس بلا محاكمة....سئمت....سئمت كل شئ نظر نضال إليه طويلا في صمت فحاول حمزة الاعتدال حتي جلس بصعوبة ثم نظر إلي نضال فوجده مازال ينظر إليه صامتا حمزة_في هدوء:: ماذا؟؟ نضال_في مسحة حزن:: لا أدري حمزة_ناظرا أمامه و متسائلا كأنما يدرك ما يجيش به صدر نضال:: لا تدري ماذا؟؟ نضال_ونبرة الحزن المتردد لا تفارقه:: لا أدري إلا أنك أسطورة هذا السجن و بطله الذي يبث بثباته الثبات في قلوب المعذبين هنا حمزة_مقطبا جبينه في مسحة غضب خفية:: مخطئون نضال_في هدوء مشبوب بالدهشة:: من هم؟؟ التفت حمزة إليه و قال بنبرة غضب وبصوت ينذر بالعاصفة:: من تعلقوا بهذا الحلم....من يثبتون بثباتي....أنا إنسان....مجرد إنسان...لست ملاكا....لست نبيا...حتي هذا سئمته...يحملونني ما لا طاقة لي به....أتظاهر بالقوة لأجلهم،لأجل ألا أضعفهم و أخذلهم، في الوقت الذي أتمني فيه لو أفرغ ما بقلبي وأصرخ باكيا...أخاف أن أسقط من الإعياء النفسي حتي لا يسقط بعضهم بسقوطي....الناس هنا كغرقي في بحر أسود ويتعلقون بقشة ظانين أنها ستثبتهم...والقشة تعبت من الأحمال....أخبرني أليس لي الحق في البكاء؟؟؟ أليس لي الحق في الانهيار؟؟؟ حتي حق الانهيار سلبوه مني....صدقني عذابي علي يد من يحبونني ليس أقل من عذابي علي يد هؤلاء الأبالسة حكام هذا السجن ،فليس أقسي علي المرء من أن يراه الناس جبلا يتقوون به و هو في داخله يدرك تماما أنه أصبح ريشة في مهب الريح بعد كل سنوات العذاب تلك ، لقد تعبت من كل هذا تلاشي نقع هذه الكلمات الثقيلة علي نفس الشابين بطيئا فيما ظلت أعينهما مثبتتان علي وجهي بعضهما في صدمة صامتة ،فلا حمزة يصدق أنه أخيرا باح بما يثقل قلبه ولا نضال يصدق أن هذا الذي أمامه هو حمزة الذي يعرف. أسند حمزة ظهره إلي الجدار شاردا ناظرا لسقف الزنزانة فيما تراجع نضال قليلا مسندا رأسه الي جدار الزنزانة الرطب دون أن ينبس ببنت شفة لقد كبر حمزة...و حدث ما كان يخشاه نضال...مرحلة الصدمة زعزعة ما بعد الثبات....مرحلة تلاطم المشاعر إن نضال يكبره بأربع سنوات فقط لكنه مر بهذه المراحل ويعرف مدي تلاطمها إنه لا يخشي علي حمزة من الأمريكان إنه يخشي علي حمزة من حمزة....و ياله من خوف!! ،،،،،