كانت خطوات حمزة تتسارع كأنه يهرب من ماضيه كله، يركض ويركض ويركض وعقله يركض في مشاهد متباينة بين الماضي والحاضر حين سمع صوتا أنثويا يناديه، أبطأ سرعته تدريجيا ملتفتا خلفه فوجد فتاة حمراء الشعر تحاول اللحاق به في مضمار الجري، توقفت قدماه ببطء حتي وقفا إلي جانب شجرة ضخمة حمزة:: عفوا هل تعرفينني؟ الفتاة_مبتسمة:: و كيف لا ونصف هذا البلد يعرفك ابتسم حمزة و قطب جبينه متعجبا الفتاة:: بل ربما نصف العالم حمزة_ضاحكا:: لا ،بالطبع تبالغين ضحكت الفتاة ثم مدت يدها تصافحه قائلة:: كاثرين كريستي،ناشطة بجماعة(أحرار بلا حدود)' صافحها حمزة قائلا:: أهلا تشرفت بمعرفتك كاثرين:: أنا متابعة لقضيتك منذ ثلاثة أعوام وأنا جارتكم بالمناسبة حمزة_متعجبا:: جارتنا؟! كاثرين:: نعم فمنزلك رقم 82 ومنزلي رقم 88بنفس الشارع أعرف حبيبة وياسمين هل تتناول مشروبا دافئا معي؟ حمزة: ولكن كاثرين:: ليس هناك لكن فهذا أول طلب أطلبه منك يا جاري العزيز حمزة_مبتسما:: حسنا دخل حمزة بصحبة كاثرين إلى منزلها الفاره ذي الحديقة الجميلة حمزة:: هل تعيشين وحدك؟ كاثرين:: هل هناك مشكلة؟ حمزة_مضطربا قليلا:: لا،بالطبع لا قدمت إليه كاثرين مشروب الشوكولا الساخنة وهي تقول:: ولكن أنت مختلف عن عائلتك حمزة:: كيف؟ كاثرين:: مثلا، أنت تنظر إلي َّ أثناء حديثك أما رجال أسرتك فتتجول عيونهم في أي اتجاه بعيدا عن اتجاه جسدي، كذلك فقد صافحتني في حين أنهم لا يصافحونني باليد، كذلك فأنت تجلس معي الآن وأنت تعرف أنني بمفردي أما هم فلا يسمحون حتى لأختك أو لابنة عمتك أو حتى لزوجة أخيك حسام بزيارتي إلا و هنّ معا وللضرورة القصوى حين أطلب مساعدتهم في أمر ما، لم تزرني إحداهن وحدها أو بدون سبب قط ابتسم حمزة ابتسامة صغيرة مريرة قائلا:: أنا مختلف عنهم قليلا كاثرين_مبتسمة:: قليلا ؟ حمزة_شاردا:: لعله كثيرا، ولعله كثيرا جدا عاد حمزة إلى منزل أبيه فاستقبلته حبيبة مازحة:هل تركتُ بيتي لأكون معك أم مع ياسمين في المطبخ نعد الفطور؟ على فكرة أنا لم أشتق لياسمين فبيتي ليس بعيد و لكنني اشتقت إليك حمزة_يقبل رأسها ويبتسم:: آسف حبيبتي، فقط تعرفت على صديقة جديدة حبيبة:: من هي؟ دخلت ياسمين تضع الطعام على الطاولة ملقية السلام فشرد حمزة قليلا ناظرا إليها حبيبة::من هي يا أستاذ؟ حمزة:: ها؟ نعم، إنها كاثرين جارتنا، قابلتها في مضمار الجري و أصرت أن أتناول مشروبا ساخنا معها ففعلت حبيبة:: أين؟ حمزة:: في منزلها سقط الطبق من يد ياسمين ارتباكا فأسرعت نحو المطبخ متحججة بجلب شئ لتنظيف الأرض في حين كانت عينا حبيبة ترمقها في حزن صامت ثم رن جرس الهاتف فذهبت للرد في حين أسرع حمزة إلى المطبخ لمساعدة ياسمين في إحضار شئ لرفع بقايا الطبق المكسور،وجدها تخرج مسرعة حيث تفاجأت بوجوده فتراجعت وتراجع، نظرت إلى الأرض بتلقائية ونظر إلى عينيها بتلقائية،النقاب يغطي ملامح وجهها لكن جفونها محمرة وكأنها كانت تبكي حمزة_متعجبا:: ياسمين هل.......... ياسمين_مقاطعة:: عن إذنك سأنظف الأرضية تعجّب من نبرتها الجافة، واحمرار عينيها، لقد تعوّد منها علي نبرة حياء أحيانا،و نبرة مرح خجول أحيانا،و نبرة ارتباك أحايين كثيرة،لكن نبرة جافة كهذه؟؟ لماذا؟؟ قضى يومه يحاول أن يحادثها في أي موضوع فلا تكاد تجيب،و في المساء استأذنت حبيبة عليه في حجرته فأذن لها حبيبة_مبتسمة:: ألن تودعني قبل عودتي لبيتي؟؟ حمزة_متفاجئا:: لماذا ستعودين؟ ابقي معنا قليلا حبيبة_مازحة:: لا لا ، يكفي هذا ،لقد تركت بيتي خمسة أيام كاملة،لماذا لا تأتي معنا؟؟ حمزة_في حياء:: لا أريد أن أثقل عليكم حبيبة_واضعة كفها على خده بحنان:: ماذا تقول؟ تثقل علينا؟! أنت ابني يا حمزة أم أنك كبرت على حبيبة؟؟ احتضنها في حنان جارف مبادلا إياها حنانها الدفّاق منذ صغرهما حمزة:: أنت ِ أمي بعد أمي رحمها الله حبيبة_مبتسمة في تردد:: إذن، هل للأم أن تتحدث مع ابنها قليلا؟؟ تنهّد حمزة قائلا:: تغيرت، أعرف هذا يا حبيبة،تشعرون أنني لست حمزة الذي تعرفونه، تشعرون أنهم استبدلوني بآخر _ثم أضاف مازحا في ابتسامة ألم_ أو ربما قتلوني و أرسلوا إليكم شبيهي حبيبة_في حب صادق:: بل أنت حمزة أخي، لا أحد له عينان مثل عينيك الدافئتين،و لا قلب مثل قلبك الأخضر،مهما تقدم عمرك أو اخشوشن صوتك أو تبدلت ملامحك الطفولية بتلك الملامح الرجولية، أنت حمزة ،أخي و ابن أبي وأمي، ابن هذا البيت حمزة_في ألم:: و لكن؟ حبيبة:: ليست لكن بمعنى لكن، إنما أشعر أن هناك بعض الغبار يغطي روحك،فقط لو أزلتَ هذا الغبار،لو غسلتَه عن روحك لعدت إلى معدنك الطيب من جديد،لكل جواد كبوة يا أخي، وأنت جواد رابح إن شاء الله،لطالما كنتَ هكذا،فلا تَطُل كبوتك حمزة: أنت ِ لا تعرفين شيئا، لا تعرفين الشخص الذي أصبحت عليه حبيبة_في حرارة محبة:: لا أريد أن أعرف، لا أريد أن أعرف يا حمزة، أريدك فقط أن تزيل هذا الغبار الذي يخفي بهاءك لتعود إلى روحك القديمة،بعد الله لا أحد يستطيع أن يزيل هذا الغبار سواك دار حمزة بعينيه في أنحاء الغرفة ولم يجب حبيبة_تربت علي خده:: أنا أعرف أنك حادّ الذكاء، و قد فهمتني،لذلك لن أتحدث عن صلواتك التي لم أرك تصليها، ولا عن نظراتك الجريئة إلى ياسمين ،ولا عن ذهابك إلى بيت كاثرين وهي تعيش وحدها، أنت تعرف جيدا أن كل هذا....... قاطعها حمزة قائلا في سخرية حزينة:: أن كل هذا ضد مبادئ هذا البيت، و أن كل هذا يغضب أبي أليس كذلك؟ صُدمت حبيبة مما يبدو في لهجته من غضب مكنون لكنها تداركت صدمتها وقالت بهدوء:: لا ، بل هو ضد تعاليم دينك،و هو يغضب ربك سبحانه تفاجأ من هدوئها وكلماتها التي نزلت كالصاعقة على قلبه فعاد إلى الصمت من جديد، اقتربت منه ثم طبعت قبلة حانية على رأسه قائلة:: سأنتظرك يا أخي لزيارتي فلا تتردد أومأ برأسه موافقا فألقت السلام وفجأة ركض حمزة الصغير نحوه ففتح له حمزة ذراعيه حبيبة_موجهة كلامها للطفل::حمزة بهدوء حمزة:: دعيه يا حبيبة،ألست ُخاله؟ حبيبة_ضاحكة:: حسنا،قبِّله ثم تعالى حتى لا نتأخر وخرجت بهدوء من الحجرة مغلقة الباب خلفها،استندت إلى الباب قليلا تستجمع نفسها،ماذا فعلوا بذاك المسكين ليتحول إلى هذا الرجل الذي تراه الآن أمامها؟؟ اللهم آته رشده و قِهِ شر نفسه، أما هو فقد استعرت نيران الصراع داخله بعد رحيل أخته، استلقى على ظهره مفكرا ، كلمات حبيبة مؤلمة رغم توقعه للأسوأ كردود أفعال للجميع وكالعادة صب جامّ غضبه على والده و كأنه صار رمزا لكل متاعبه بل و انحداره الشخصي أيضا ، الحنق يزداد أواره اشتعالا لكن سيل أفكاره توقف فجأة عند هاتين العينين الحبيبتين، ياسمين، ترى هل كانت تبكي،و إن يكن فما الذي جعلها تبكي؟ هل..............، وانتفض جالسا، هل يمكن لها أن تكون......... ، هل يُعقل أنها.............. ، تحبه؟ أى جنون هذا؟ متى أحبته؟! ، وأنت متى أحببتها؟؟ أليست نفس المدة والطريقة؟؟ ما المانع إذن في أنها تحبك؟؟ لا لا ،لا تكن أحمقا و تستسغ الأوهام إذن بسيط أمرها، فلتصطنع بعض الحيل لتكشف مكنون قلبها، وأنت يا حمزة لن تعدم الحيلة، ف((تينا') و ((مارك)) و غيرهما لم يكونا يعبثان حينما قررت أن تسلم روحك لهم فقد أخلصو في بث سمومهم بعقلك أيما إخلاص،لكنه عاد و تذكر أباه و أين هو ، تذكر ياسمين و رقتها ،إنه لا يريد إخافتها منه أو تنفيرها، فقط يريد سبر غور قلبها، يريد أن يتأكد من مدى حبها له، إذن فلتكن الحيلة بسيطة قدر الإمكان، فليستعد إذن وليعد عدته عادت حبيبة إلى منزل والدها بعد حوالي أسبوع كامل فعملها في المركز الإسلامي مع رعاية حمزة الصغير تستنزف كل وقتها، لاحظت أن ياسمين لا تأكل إلا بضع لقيمات صغيرة، وأنها صامتة شاردة معظم الوقت، وأن حمزة يسترق النظر إليها من وقت لآخر، دخلت إلى حجرة ياسمين وجلست جوارها حبيبة:: ياسمين ما بك؟ هل أنت ِ مريضة حبيبتي؟ تبدين شاحبة و شاردة أطرقت ياسمين برأسها ولم تجب حبيبة:: ياسمين أتستحين مني؟ ألست أختك الكبرى؟ بدأت الدموع تتقاطر من عينيها الجميلتين في هدوء حبيبة_في ارتياع:: حبيبتي ما بك؟ ياسمين_بصوت متهدج::حمزة حبيبة:: هل ضايقك؟ قالت ياسمين في صوت متهدج:: لا ، إنه يحب كاثرين، يسألني عنها كثيرا جدا ، يثني على جمالها و خفة ظلها و وعيها بقضايا المجتمع و......و........و..........، أشياء كثيرة ، يذهب إلى منزلها يوميا، يتقابل معها كثيرا، إنه يحبها يا حبيبة يحبها حبيبة:: ماذا؟ لكنني لن أصمت إذاء هذا الجنون لابد أن ننقذه معا من كاثرين هذه ياسمين_ تمسح دموعها:: ماذا ستفعلين إذن؟ هل ستستجدين حبه لي؟ حبيبة_في رقة:: آسفة يا ياسمين،ما الذي أقوله، آسفة فقد ارتبك عقلي، حسنا انتظريني هنا ذهبت حبيبة خارجا فوجدت حمزة يجلس مع حسام و أحمد يتضاحكون،جلست بجوار حمزة ثم و في غفلة من الآخرين أسر ّت له أن:: وافني إلى حجرتك، قام بهدوء معتذرا ثم قامت هي حتى دخلت إليه حبيبة_في صوت منخفض غاضب:: حمزة، ماذا تريد من ياسمين؟ حمزة_متفاجئا:: ماذا تقصدين؟ حبيبة:: لقد حذرتك من العبث بمشاعرها، ياسمين من أكثر فتيات الدنيا براءة،لا يغرنك سنوات عمرها الاثنتين والعشرين، إن قلبها قلب طفلة في السادسة عشر، ينبوع صاف لن أسمح لك بتكديره ، ثم إنك.......... قاطعها حمزة مبتسما في هدوء:: أنا أحبها تفاجأت حبيبة قائلة:: ماذا؟! حمزة:: أريد أن أخطبها حبيبة_تحتضنه في فرح بالغ:: حقا؟؟ مبارك لكما يا حبيبي ثم تذكرت كاثرين فجأة فأرسلته بصورة مضحكة قائلة بغضب:: وكاثرين؟؟ حمزة في لا مبالاة:: مجرد جارة حبيبة:: إذن لماذا تتحدث عنها كثيرا أمام ياسمين؟؟ نظر حمزة إليها مبتسما قائلا:: أختبر شعور ياسمين نحوي للتأكد من حبها لي صُعقت حبيبة فسكتت قليلا تتأمله قائلة في مسحة حزن ممزوجة بابتسامة دهشة:: من أين تعلمت تلك الأساليب؟ حمزة_مازحا:: هل ستسألينها عن رأيها قبل مفاتحة أبي أم أضعكم أمام الأمر الواقع؟؟ ابتسمت حبيبة قائلة:: لا تقلق أيها الوسيم، كل شئ سيكون كما تحب إن شاء الله استوقفها حمزة قائلا:: سأراها أليس كذلك،أقصد أنها سترفع ذاك الشئ عن وجهها؟ قاطعته حبيبة مصححة:: النقاب،نعم سترفعه من أجل الرؤية الشرعية إن شاء الله حمزة_في ابتسامة متحمسىة:: حسنا، هيا اذهبي واسأليها عن رأيها لم تكد الدنيا تسعها من السعادة عندما أخبرتها حبيبة أنه يحبها ويفعل ذاك ليختبر حبها له، واشتعلت وجنتيها خجلا عندما خرجت حبيبة من حجرتها لتخبر حمزة بموافقتها ومن ثم يتحدث مع أبيه ، خرجت حبيبة فوقفت ياسمين أمام مرآتها و أغمضت عينيها متذكرة ذاك اليوم منذ ثلاث سنوات حينما لاحظ خالها أنها ترفض كل عريس يتقدم لخطبتها ، حين بعث إليها حبيبة لتتحدث معها و تتساءل عن السبب، حينها بكت ياسمين ولم تبح بسرها إلا حين ضغطت عليها حبيبة كثيرا، وقتها بكت ياسمين وأخبرتها أن قلبها لم يتعلق إلا بابن خالها القابع خلف جدران الظلم، ذاك المجهول المصير،المعذَّب بلا ذنب اقترفته يداه، تذكرت كيف بُهتت حبيبة وتعجبت من ذاك الحب الذي تنبت بذرته بعيدا عن ماء يرويه،و هل هناك ماءا يروي نبتة حب سوى الوصال ؟ لكنها بكت معها وتمنت لهما الخير لكن جمال ياسمين يلفت أنظار الخطاب ،فقررت الفتاة الغضة عندئذ أن ترتدي النقاب حتى تختفي عن أعين كل الرجال انتظارا لرجل واحد يهفو له قلبها، مسحت دمعة ندّت من عينيها،ها قد جاء اليوم الذي كانت تحيا من أجله، حلمها قد بدأ يتجسد أمام ناظريها، حمزة، هل يرضى الله عني فأكٌن لك حقا؟؟ ولكن، من قال إن الرياح تأتي بما تشتهي السفن؟؟ ،،،،،