رن جرس الباب في تمام الثامنة مساءا بمنزل الطبيب حمدي فركضت حبيبة مسرعة وقائلة:: هذا لا شك أحمد تراجع حسام الذي كان في طريقه ليفتح الباب مفسحا المجال لأخته مومئا بعينه في(( غمزة)) ضاحكة ذات معني ثم غيّر طريقه نحو حجرته، ابتسمت حبيبة في حياء ثم أكملت طريقها نحو الباب لتستقبل زوجها بحضن دافئ كعادتها، احتضنها رابتا علي رأسها في حنان حبيبة:: حمدا لله علي سلامتك حبيبي أحمد_مبتسما في حب:: اشتقت إليك ِ حبيبتي حبيبة_خافضة صوتها في مزاح:: و أنا اشتقت إليك حتي افتضح أمري أحمد_خافضا صوته في اندهاش مازح:: يا ويلي عند من؟؟ حبيبة_خافضة صوتها:: عند أخي حسام، ضبطني بالجُرم المشهود وأنا أركض كالبلهاء لاستقبالك أحمد_هامسا في حب:: أنت ِ كطفلة صادقة مُحبّةٍ لا تعرف التظاهر ولستِ بلهاء حبيبة_ضاحكة في همس:: ها هو حبنا قد انفضح أمام أهلي أيها العاشق فاهرب قبل أن يقبضوا عليك التقط أحمد خيط المزاح فهمس مازحا:: أنا عاشق ذو قلب ميت، لا أهاب الموت في سبيل محبوبتي استمرت حبيبة في مزاحها الهامس قائلة:: دعك من دور عنترة ابن شداد هذا فأعمامي من صعيد مصر، و اخوالي من (القدس) مما يعني أنك هالك لا محالة، لاشك أنك خائف لكنك تكابر أحمد_محتضنا زوجته بقوة و هامسا في ضحك:: لا تستفزيني و تجعليني أخبركِ إن كنت خائفا حقا أم لا حبيبة_تبعده وهي تضحك هامسة:: أحمد هل جننت؟؟ و هنا سعل حسام سعلة تعلمهم بقدومه فارتبك أحمد حياءا وابتعد بسرعة عن حبيبة قائلا في توتر:: كيف حالك يا حسام؟؟ **أثار رد فعله التلقائي ذهول حبيبة فجمدت مكانها في حين صافحه حسام ثم عاد إلي حجرته، نظرت حبيبة المصدومة إلي زوجها ثم انفجرت ضاحكة حتي جثت علي الأرض علي ركبتيها، أثار ضحكها بعضا من حنقه فمدّ يده إليها لتقف قائلا في بعض التأفف::انهضي،، ستقعين من كثرة الضحك، ألهذا الحد أثرت ُ ضحكك؟!! حبيبة_وهي لا تقوي علي النهوض من كثرة الضحك:: فارسي المغوار،، عاشقي الذي لا يهاب أحدا ثم راحت في نوبة ضحك جديدة، وقف أحمد ناظرا إليها في غضب ثم ما لبث أن أصابته عدوي الضحك أيضا حتي جلس جوارها علي الأرض من شدة الضحك أحمد_يمسح وجهه من شدة الضحك:: حبيبة، حبيبة، هيا إلي حجرتك حتي لا يوقن أحد أننا قد مسّنا الجنون وقف أحمد وساعدها علي الوقوف وهي تستند إلي ذراعه متوجهان نحو الحجرة، في حجرتها بمنزل والدها كانت حبيبة تضع الطعام بترتيب جميل لزوجها أحمد_مبتسما:: ما شاء الله، طعام لذيذ من يدين بارعتين،سلمت يداكِ حبيبتي حبيبة_مبتسمة:: سلمتَ من كل شر حبيبي طَعِمَ أحمد مما صنعت زوجته في سعادة كبيرةونهض ليغسل يديه حبيبة:: أحمد حبيبي هل أستأذنك أن أتفقد أمي في حجرتها من وقت لآخر خلال الليل لأن أبي يبيت في مشفاه؟؟ أحمد_بتلقائية وهو يجفف يديه:: و أين هدي؟ حبيبة:: والدتها مريضة فأتي جارٌ لها واصطحبها إلي منزلها باكرا **بُهت أحمد لما سمع فتوقف قليلا وقد أحس أن عروقه تنتفض داخل جسده رغما عنه لكنه سيطر علي نبرة صوته قائلا بحيادية: أليس أخوها هو من يأتي لاصطحابها كل يومين؟ حبيبة_بتلقائية:: لا أدري، جاء جارها واصطحبها أحمد_محاولا السيطرة علي صوته:: هل....هل جارها هذا صغير السن؟؟ حبيبة_بلا مبالاة:: لا ليس كذلك، إنه من سنها تقريبا، أنا أيضا تعجبت،إنها امرأة ملتزمة بدينها لكن يبدو أن ظروفها هي من سمحت لجارها ذاك باصطحابها،غدا إن شاء الله أحادثها في هذا الأمر فأنا لا أرجو لها سوى الخير كاد أحمد أن يضرب الحائط بقبضته غضبا لكنه رسم ابتسامة جوفاء على وجهه قائلا:: حسنا حبيبتي بالطبع يمكنك تفقد والدتك،شفاها الله وعافاها طبعت حبيبة قبلة سريعة علي وجنته شاكرةً له ثم انطلقت نحو حجرة والدتها أما هو فقد مسح شعره بكلتا يديه في غضب شديد مغمضا عينيه ثم قال لنفسه هامسا بصوت بالكاد مسموعا لعل نفسه تفيق مما هي فيه::ما بك؟؟ إلي متي ستستمر حالتك هذه؟؟ لماذا يغلي دمك غيرةً و حنقا هكذا؟ ماذا يغضبك إن كانت هدى خرجت مع جارها أم أخيها؟ ماذا تعني لك حتى تغضب عليها هكذا؟ إما أن تفيق أيها الشاب أو تسقط و تُسقِطَ زوجتك وبيتك في دوامة لا آخر لها،،ربِ هئ لي من أمري رَشدا........... أما حمزة فلقد ظل أياما يتقلب على الجمر ، كان يفكر بأبي بكر، لو كان معه الآن لأرشده للصواب، إنه يتخبط في مشاعر جديدة عليه لا يدري صوابها من خطئها، رباه، ما الذي أنا مقدمٌ عليه؟؟،عندما استيقظ و أنهي أعماله حان موعد الدرس فأتى مارك كالعادة ،كان حمزة شاردا مارك:: هاي،،،، ما بك؟؟ حمزة_كأنما أفاق من غفلة:: ها؟؟ لا شئ مارك:: أنت شارد الذهن كثيرا منذ عدة أيام حمزة_مطيلا النظر إليه في تردد:: هل، هل أسألك سؤالا؟؟ مارك:: علي الرحب والسعة حمزةينظر إليه في تردد ولا يتحدث مارك_يضع يده علي كتف حمزة:: حمزة، لماذا هذا التردد؟، أنا صديقك، بُح بما تريد نظر إليه حمزة ثم تكلم علي استحياء:: ألم تخبرني أنك تحب((تينا)) المجندة التي معنا هنا في جوانتانامو؟؟ مارك:: بالطبع، أحبها و تحبني حمزة_في تردد:: إذن،، إذن كيف عرفت أنك تحبها؟؟ اعتدل مارك فجأة في جلسته ووضع يده علي كتف حمزة ضاحكا بقوة:: ماذا؟ هل سقطت في بئر الحب يا أستاذ حمزة؟؟ انتفض حمزة واقفا قائلا:: حسنا أنا المخطئ إذ سألتك وقف مارك ممسكا ذراعه بلطف:: لا لا،، لا تغضب فورا هكذا يا صديقي،، لم أقصد إهانة أو استهزاءا، أعتذر لك، لا تغضب،اهدأ جلس حمزة علي مضض أما مارك فقد أغمض عينيه قائلا بصوت مؤثر:: في البداية أحسست أنني لا أستطيع النوم إلا لأجل أن أحلم بها، أفكر بها مع كل نَفَسٍ أتنفسه، أتخيل أنني أحادثها حتى و إن لم تكن معي، أشكو لها أحزاني في خيالي، و أحكي لها أفراحي، ينبض قلبي باسمها، أذوب حين أري عينيها، تقتلني ابتسامتها و تحييني، أتنفسها، أحياها بكل تفاصيلها، رضاها شمسٌ تسطع فتضئ روحي ببهائها،و غضبها ليلٌ حالك لا قمر فيه، عيناها جنة فؤادي و جحيمه كان حمزة مغمضا عينيه، يشعر بكلمات مارك تتغلغل داخل أدق زوايا روحه، الكلمات تأسره و ترسم حالته تماما، إنه الآن موقن أن ما بقلبه نحو ياسمين هو بدايات خطوط بزوغ حب بدأ منذ اللحظة الأولي يغسل جراح قلبه،فتح عينيه ببطء، كان مارك مستمرا بكلماته:: تمسّك بهذه الأيام يا صديقي، إنها الأروع، هنيئا لك بأيام الحب الأولي، الحنين، اللهفة للقاء، اللهفة للكلمات، الخيال الجامح، أتعرف؟؟ أغمض عيني ثم أترك نفسي للخيال مستمتعا به، أتخيل أنني ألمس وجنتيها و أسترسل في شعرها ثم ............ وضع حمزة يده علي فم مارك بهدوء ففتح مارك عينيه مستفهما ،أومأ حمزة برأسه يمنة ويسرة علامة علي الرفض في هدوء ثم قال مبتسما في وداعة:: لا تكمل يا مارك، لا تفسد روعة ما قلته آنفا، أنا لا أريد وصفا أكثر من هذا، هذا فقط يكفيني، وهذا فقط ما أفكر به، تلك المشاعر الصافية،، اختلاجة النفس ونبضات القلب، ذلك الحب الصافي الذي لا تشوبه الغرائز، أنا لا أستطيع أن أفكر فيمن أحب ولو بخاطرة تقلل من قدرها عندي، إنها غالية جدا يا مارك، أغلي مما علّمتك ثقافتك عن المرأة وعن الحب، لا تساويها كنوز الدنيا اعتدل مارك في جلسته قائلا في صدمة:: حمزة، لا أصدق،كيف و متي أصبحت َ هكذا؟ أصبحت َ عاشقا في ليلة وضحاها_ثم أومأ بعينه قائلا:: هنيئا لك ارتبك حمزة و لطخت دماء الحياء وجنتيه ولم ينقذه إلا وصول المعلم للدرس،لقد جاء في الوقت المناسب ********** ظلت ياسمين تحرك قلمها في حركة عصبية وهي تستذكر دروسها، فقد لامت نفسها ألف مرة علي تلك الجملة التي خطتها بيمينها إلي حمزة، داخلها صراع محموم،عقلها يهتف بها لماذا كتبتِ هذه الجملة؟؟ لقد بدا حبك له سافرا واضحا لعينيه و إن خفي عمن حولك، إنه كبير الآن بما يكفي ليصل إلي بَر كلماتك تلك حتي بلا قارب و يسبر غور قلبك،، فيرد قلبها علي استحياء:: لكنني لم أكتب سوى غيض من فيض، قطرة من اليَمّ ، أخفيت مشاعري عنه قدر الإمكان،قدر ما تستطيع سنوات عمري الغضة أن تحتمل فيهتف العقل بالقلب غاضبا:: و إن كان قدر الإمكان هذا ليس كافيا؟؟ عليك أن تتحمل أكثر، أنت جديد في هذه التجربة،فاعلم أنها كلعبة بالنار،وعليك بطاعة أمري فينتحب القلب:: لو أمكنني طاعتك ما ألقيت بنفسي إلي ابن خالي الذي كان محض أخ لي، القابع الآن خلف أسوار سجن لا يعلم إلا الله متي يخرج منه، الإنسان الذي أعلم تماما أن لديه من الهموم والجراح ما يغنيه عن التفكير بي أو بغيري،لكنه سهم أصابني علي غفلة مِنّي،سهم ذو حدين حلوٌ و مُرّ،،أرجوك فكُفَّ عن جَلدي و تعذيبي، اتركني أيها العقل و شأني فيرد العقل في حنق:: حسنٌ إذا ً، أنت طلبت الحرية من قيودي، فليكن عاقبة أمرك خيرا، ولا تعد لي باكيا بعد هذا ظلت هذه الحرب دائرة تكوي كيانها الصغير حتي وضعت يديها علي عينيها في إرهاق هامسة:: ليتكِ ما كتبتِ له هذه الجملة يا ياسمين، إن فهمها بشكل صحيح وعلم حقيقة مشاعركِ نحوه فماذا ستكون ردة فعله؟؟ كيف سينظر لكِ حينها؟؟ لماذا ألقيت ِ بنفسك في بحر من لا يُكنُّ لكِ نفس المشاعر؟؟ رباه،، ليتني لم أفعل *********** لم يستطع أحمد أن يتخلص من هذا الغضب الكامن بقلبه منذ عدة أيام، الغيرة تنهش عقله و قلبه و كيانه كله، كان في المشفي نازلا الدَرَج حين صادف هدى أمامه صاعدة نفس الدَرَج، تفاجأت لرؤيته وخفق قلبها بشدة كعادته كلما وقعت عيناها علي أحمد لكنها تداركت نفسها و تماسكت، أما هو فقد اشتعلت نيران الغضب بعينيه هدي:: السلام عليكم د.أحمد أحمد_كاتما غضبه وهو لا ينظر نحوها:: وعليكم السلام كاد يكمل طريقه في غضب حين قالت هي بسلامة نية:: آسفة من أجل ذهابي مبكرا تلك الليلة في غير مواعيد عطلتي رفع عينيه إليها و الشرر يتطاير منها محاولا السيطرة علي غضبه قائلا:: و ماذا عن جارك الذي أوصلك إلي منزلك؟ تعجبت من طريقة حديثه التي تنبئ بالغضب لكنها قالت بهدوء:: آه، نعم، إنه محمود جاء ليوصلني لأن..................................... قاطعهاّ أحمد مندفعا وراء غيرته بلا وعي:: ألم يكن أخوكِ هو من يصطحبك؟؟ ردت بنبرة مصدومة من ردة فعله:: نعم لكن جاري هذا ..غيرت ردّ أحمد غاضبا دون وعي:: جارك ماذا؟؟ ألا تعلمين أن حكمه هو حكم الرجل الأجنبي عنك؟؟ أين صلاحكِ و تقواكِ الذي يبدو للعيان إذن؟؟ أين حفاظكِ علي سمعتك؟؟ أنت ِ مطلقة وتعيشين في مجتمع عربي داخل مجتمعنا الانجليزي هذا،، أم أنكِ ظننتِ أنك ِ في مأمن من سوء ظن الناس لأنك ِ في مجتمع أوروبي؟؟أعتقد أن للحرية ضوابط تحكمنا مهما اختلف موقعنا **أصاب الدوار هدي فكتمت دموعها بالكاد قائلة:: د.أحمد،، د.أحمد أنا .............. أحمد_لا ينظر إليها:: أنت ِ حرة و ناضجة بما يكفي لمعرفة عاقبة أمرك،، لا شأن لي بحياتك بعد الآن، هذه هي المرة الأولي والأخيرة، بعد إذنك ثم نزل مسرعا حتي أوقفه صوتها المرتجف من خلفه عند منتصف السلم قائلة:: جاري هذا هو أخي من الرضاع، علاقة أسرتينا قوية و راسخة منذ ما قبل ولادتنا، سافرت أسرتينا معا من بلدنا إلى هنا منذ سنوات و محيط جيراننا العرب كلهم يعرفون أنه أخي قالت جملتها ثم أسرعت بخُطي واسعة نحو حجرة الممرضات حتي لا تتساقط دموعها أمام عينيه،، أما هو فقد ظل جامدا مكانه برهة لا يدري ماذا حدث ولا ما الذي سيحدث، لقد ألجمه الموقف تماما ************ أتت ((تينا)) المجندة بمعتقل جوانتانامو بزيها العسكري المميز تجد الخطي نحو حجرة حمزة، طرقت الباب ففتح حمزة، لم ينظر إليها مباشرة كالعادة فهو لا يحبها رغم أنها الصديقة الحميمة لصديقه مارك تينا_في فرحة زائفة:: حمزة هيا أسرع، لقد أتي محاميك وهو في انتظارك بمكتب نائب الآمر رفع حمزة عينيه إليها ربما لأول مرة منذ رآها منذ عام،غير مصدق ما سمع، ارتسمت أبلغ علامات الدهشة علي وجهه ثم قال أخيرا:: ماذا؟؟ محاميّ ؟؟ تينا_ضاحكة:: نعم أيها الوسيم ما بك؟؟ هيا أسرع حتي لا يضجر نائب الآمر ارتسمت ابتسامة مشرقة مذهولة علي وجهه رغما عنه ثم قفز نحو حجرة نومه فارتدي ملابس المعتقل الرسمية بسرعة البرق ثم اتجه مع تينا نحو حجرة نائب الآمر، استأذنت تينا فأذن لها فدخلت ومعها حمزة ثم خرجت تينا و نائب الآمر تاركين حمزة مع محاميه وحدهما في المكتب المحامي_مبتسما و مادّا يده للمصافحة:: أنا روجر روبن ،المحامي الذي وكّلني والدك السيد حمدي للدفاع عنك صافحه حمزة وهو يحاول السيطرة علي مشاعره المختلطة المحامي_ناظرا في أوراق بيده:: كما تثبت الأوراق فإنك هنا منذ ما يزيد علي ثلاث سنوات، تم اعتقالك يوم................ ظل حمزة صامتا لا يكاد يسمع حرفا مما يقوله المحامي ثم نطق فجأة مقاطعا و قد فقد السيطرة علي فيض مشاعره:: هل هناك أمل في خروجي؟؟ نظر إليه المحامي ذو الأربعين عاما نظرة دهشة متفاجأً كرر حمزة في نظرة رجاء تفتت القلوب:: هل هناك أمل في خروجي من هنا سيد روجر؟ أشفق المحامي عليه إشفاقا صادقا فابتسم في رقة قائلا بنبرة مطمئنة:: نعم يا حمزة، ظروف اعتقالك ضد القوانين الدولية، لا تقلق، أيام الحبس ستولي إلي غير رجعة رغما عنه أخذ حمزة ينظر إلي محاميه والدموع تتجمع بعينيه، حاول السيطرة علي دموعه فلم يستطع فدفن وجهه بين كفيه متكئا بوجهه المغلف بيديه إلي طرف المكتب و راح في بكاء بلا صوت إلا من زفرات صدره الحارّة، تصدّع قلب المحامي فأخذ يربت علي رأسه في حنان حقيقي قائلا:: حمزة، حمزة انظر إلي َّ يا بني لم يستطع حمزة التوقف عن بكائه فربت المحامي علي كتفه قائلا في صدق:: حمزة أرجوك، تماسك قليلا فقط رفع حمزة رأسه عن المكتب ومازال مطرقا برأسه دون النظر إلي المحامي و مازالت بقايا دموعه تتساقط و صدره يعلو و يهبط، ربت المحامي علي ساعده قائلا::أعلم أنك قاسيت الكثير يا بني، لكنك أقوي من هذا كله، انظر الآن، لقد اعتقلوك وعمرك أربعة عشر عاما فقط، و ها أنت الآن، ما زلت قويا أمام الصعاب وقد أصبحت َ رجلا، أفلا تصبر عدة أيام فقط؟؟ مسح حمزة دموعه ثم نظر للمحامي قائلا:: أنا آسف ابتسم المحامي في حماس:: لا أسف بعد ذلك أيها البطل، ستخرج من هنا وتعيش كما يحلو لك، أعدك،هل تثق بي؟ حمزة:: أثق بك **ابتسم المحامي ابتسامة صافية قائلا:: هيا إذن، أرني ابتسامتك المشرقة ابتسم حمزة قليلا المحامي_مازحا:: لن أتنازل عن ابتسامة مشرقة اتسعت ابتسامة حمزة حتي أنارت وجهه ومعها ابتسم قلبه ابتسامة لم يعد يعرفها منذ وقت طويل كان حمزة لا يسع قلبه العالم كله فرحا حين عاد لمبناه ، كان ينتظر مارك علي أحر من الجمر، حتي جاء هذا الأخير لاهثا مارك_لاهثا:: جئتك مسرعا كما طلبت يا أستاذ، و أحضرت معي ما طلبت، ماذا ستفعل بهذه الأشياء العجيبة، لقد استطعت أخذ تصريح بها بصعوبة بالغة حمزة_ضاحكا:: كعكة مارك_في ذهول:: كعكة؟؟ أنت من ستصنعها؟؟ وهل تعرف الطريقة؟؟ حمزة_ضاحكا:: أنت و نصيبك مارك:: لا أرجوك، أنا لا أريد أن أصاب بالتسمم استغرق حمزة في ضحكته الصافية ثم قال:: هناك ضيف سيحضر معنا الاحتفال مارك_في فضول:: من؟؟ حمزة:: مفاجأة، تعال إلي المطبخ لتساعدني، هيا أسرع ********** كان حمدي يستقي طعم السعادةو هو يخبر سعاد بما أخبره المحامي من حديثه مع حمزة، لكنه لم يخبرها أن ابنهما كان يبكي بادئ الأمر سعاد_في فرح شديد:: الحمد لله، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك حمدي_في ابتسامة صافية:: الحمد لله، هيا تعافي بسرعة يا حبيبتي، فيوم المحاكمة يقترب سعاد_في فرح:: إن شاء الله حمدي:: استأذنك الآن يا حلوتي سعاد:: إلي أين؟؟ حمدي:: إلي حجرة مكتبي، لا أقل من أن أقضي الليلة كلها قياما لله تعالي شكرا علي عطائه و فضله سعاد:: معك كل الحق يا حبيبي، أنا أيضا سأقضي الليلة في الصلاة إن شاء الله تعالي،، لابد أن قرة عيني حمزة سيقضي ليلته في الصلاة شكرا لله أيضا حمدي:: اللهم عجِّل لنا بلقاء قريب علي ما تحب وترضي سعاد:: آمين يا أرحم الراحمين *********** أخرج حمزة الكعكة المزينة من الثلاجة فأطلق مارك صفيرا دليلا علي الإعجاب حمزة_ضاحكا:: لا تستهن بقدراتي بعد ذلك مد مارك إصبعه ليتذوق الكعكة لكن حمزة ضربه بمزاح علي يده مارك:: يا رجل لقد سال لعابي سنأكلها حين يأتي الضيف دق الباب فخرج مارك مسرعا في حنق قائلا:: لنري من هذا الضيف الذي جعنا لأجله فتح الباب فدهش لما رأي، إنها ((تينا)) و قد ارتدت فستانا للسهرة، وقف مارك مذهولا فلم يكن يتوقع أن يدعو حمزة تينا للاحتفال، كان حمزة يخرج من المطبخ حاملا الكعكة مبتسما في فرح ثم ذبلت ابتسامته عندما رأي تينا ترتدي هذا الفستان غير المحتشم، لكنه اضطر إلي أن يقول:: تفضلي تينا غنى الشباب الثلاثة و احتفلوا و تناولوا الكعك و شرب مارك و تينا بعض الكؤوس أما حمزة فقد رفض كعادته تينا_وهي ثملة قليلا:: حمزة، أعلم أنك تكرهني منذ عرفتني لكن لماذا دعوتني للاحتفال؟ حمزة_باسما:: احتفالا باليوم الذي لن أري فيه وجهيكما ولا وجه أي أحد هنا بعده ضحك مارك و استغرقت تينا في الضحك قائلة:: كنت أعلم، كنت أعلم تماما أنك لا تحبني، لكنني لم أكن أعلم أنك تكره مارك، مارك صديقك حمزة_ ضاحكا:: مارك، خذها و اذهبا قبل أن تنال منها الخمر أكثر من هذا مال مارك علي أذن حمزة قائلا:: كن شهما و دعنا نبيت عندك الليلة فأنا لا أري أمامي كي أوصلها إلي استراحتها حمزة:: هل هذا رجاء صديق أم أمر جندي لأسيره؟ مارك:: جندي و أسير ماذا في موقفنا هذا؟ إنه محض رجاء صديق طبعا حمزة_باسما:: حسنا يا صديقي تهلل وجه مارك بابتسامة كبيرة فأردف حمزة قائلا بابتسامة: إن كان رجاء صديق فهو مرفوض انطفأت ابتسامة مارك سريعا في مشهد مضحك قائلا:: ألا تلبي طلبا لي أبدا؟ حمزة:: أنت تعرف مبدأي في هذا الأمر جيدا يا مارك، آسف جدا وقف مارك مسندا تينا قائلا:: حسنا يا حمزة، عموما شكرا لك علي الكعكة يا صديق، أراك غدا حمزة:: انتظر، خذ معك زجاجات خمرك هذه،الفارغة و المملوءة، أنت تعلم أن الإدارة تبعث بواحد من المعتقلين يوميا لتنظيف الحجرة ضحك مارك قائلا:: حسنا سآخذها، لكم تحرص علي نقاء صورتك أمام زملائك المعتقلين ،ليتك تحرص علي صداقتنا هكذا ضحك حمزة ثم اقتربت منه تينا مترنحة تريد احتضانه وهي تقول:: تهانينا يا حمزة أبعدها حمزة برفق قبل أن تقترب أكثرقائلا:: حسنا حسنا تينا، شكرا لكِ جذبها مارك برفق وهو يترنح قائلا:: ألا تعرفين أنه لا يحب الوداع بهذه الطريقة؟؟ ترنحت مستندة إلي كتف مارك قائلة:: حسنا حسنا نسيت، السيد حمزة عدو الاحتضان، إذن أحلام سعيدة سيد حمزة لوّح لهما حمزة مودعا ما بين سعادته وبين ذلك الوخز المؤلم داخل قلبه، وخز يخبره بأنه لا يفعل صوابا، و أنه ينسلخ من جلده ببطء و إيلام و استسلام ************* مرّت عدة أيام و ((هدي)) تتحاشي النظر إلي أحمد تماما، و كذلك كان يفعل هو، أما قلبه فلم يهدأ، صراع دامٍ مرير ذي ضحايا بين حبه لزوجته التي تتفاني في إسعاده و بين دقات قلبه نحو هدي، تلك الدقات التي لا يستطيع كبحها بل يزداد رنينها حتي كاد يصم أذنيه، إلي متي سيظل هكذا؟؟ إلي متي سيظل علي هذا الوضع الذي ضرُّه أقرب من نفعه، رباه ماذا يفعل؟؟ يعلم أن ما يفكر به حلال لا ريب، لكنه يعزّ علي قلبه أن يجرح زوجته الرقيقة كجناح فراشة، ثم من أين يبدأ؟؟ هل يبدأ من زوجته فيؤلمها و يجرحها قبل أن يستشير هدي؟؟ و ماذا لو رفضت هدي؟؟ يكون قد حفر صدعا لا يلتئم بينه و بين زوجته بلا فائدة،، أم يبدأ بهدي؟؟ يكاد رأسه أن ينفجر، لا يدري ماذا يفعل أما حبيبة فهي أكثر ذكاءا من ألا تلاحظ هذا الموقف، زوجها شارد مهموم علي غير عادته، ترمقها عيناه بنظرات حزن مبهمة، علي لسانه سؤال يخشى البوح به، زفرات صدره تخرج حارة حين يظنها نائمة فيسمح لبركان قلبه بالتنفس قليلا، كذلك هدي فحالتها عجيبة، تتحاشي تماما حتي الكلام الطبي مع أحمد، تتحاشي التواجد في مكان هو فيه حتي لو في وجود الآخرين، تتصرف بطبيعية حتي إذا عاد أحمد إلي المنزل انقلب حالها إلي الاضطراب و الشرود و الحزن، في نفس حبيبة شئ حزين لا تعرف كنهه، شئ يخبرها انها ستفقد كنزا قريبا جدا، دعت الله كثيرا أن يهديها إلي رشاد أمرها جاءت المنحة من السماء فقد علمت من المركز الإسلامي عن شاب أسلم منذ عدة أشهر وقد أوصي الشاب مدير المركز أن يبحثوا له عن زوجة ذات أصول عربية ، حدثتهم حبيبة عن هدي فطلبوا منها مفاتحتها و ترتيب لقاء، خرجت حبيبة من المركز وهي تشعر كأنها تحمل في قلبها حصان طروادة، هل هي محنة في ثوب منحة؟؟ لا تدري، نعم قلبها يرجف خوفا، لكنها ستؤدي هذا الاختبار فالموت أهون من انتظاره كما يقولون قررت أن تبدأ بزوجها فهو الأهم في هذه المعادلة الصعبة، حاولت أن تفاتحه أثناء الطعام فأشفق قلبها عليه ألا يتم طعامه بعد يوم عمل شاق، يا ويح قلبها! هل صار مؤمنا إلي هذا الحد أن زوجها يُكنُّ مشاعر ما نحو هدي؟؟ هل صار داخلها موقن أنه سيحزن عند سماعه خبر العريس المرتقب؟؟ يبدو أن الموت ليس أسهل من انتظاره أبدا، يبدو أنه أصعب بكثير استجمعت شجاعتها بعد الغداء قائلة وهي تتظاهر بمطالعة مجلة أدبية:: اليوم في المركز الإسلامي كان هناك شاب حديث الإسلام قد أوصي مدير المركز بالبحث عن عروس له رد أحمد بلا اهتمام وهو يقلب قنوات التلفاز بالريموت:: و إذن ؟؟ كاد دوي نبضات قلبها المرتجفة أن تصل إلي مسامع زوجها وهي ترد و عينيها في المجلة:: عروس ذات أصول عربية تجمدت عيناه علي شاشة التلفاز و تيبست أصابعه فوق الريموت وكأنما الجليد يغلف كل عظمة من جسده، حاول السيطرة على مشاعره فنظر إلي حبيبة قائلا بصوت سمعت هي فيه نبرة ارتجافة رغم اجتهاده في الإخفاء:: و إذن ؟؟ كاد قلبها يتوقف مما التقطته أذناها من ارتعاشة صوته، لم تستطع رفع عينيها نحوه، لكنها سيطرت علي صوتها فقالت ومازالت تنظر بالمجلة:: رشحتُ لهم هدى لم يشعر أحمد بنفسه إلا وقد سقط الريموت من يده و تهشّم علي الأرض، قام مسرعا ليخفي اضطرابه قائلا بابتسامة باهتة:: آسف، سآتي بوعاء أجمع فيه أجزاءه ثم أسرع الخطى نحو المطبخ فيما أسرعت حبيبة نحو الحمام لتخفي انهيارها، نظرت إلي المرآة و علي. وجهها أعتى علامات الصدمة، ثم انهارت جالسة علي الأرض مسندة ظهرها إلي الباب المغلق دافنة وجهها بين كفيها في بكاء مكتوم، أما أحمد فقد كانت الأرض تدور به، الصدمة تغلف كيانه كله، نظر إلي السماء هامسا:: رباه أرشدني إلي سواء السبيل نام كلا الزوجين علي جمر كأنه جمر الغضا، أما أحمد فقد كاد يفقد عقله، ينظر إلي حبيبة التي تتظاهر بالنوم العميق، يلمس وجهها بأطراف أصابعه، كادت تقفز باكية صارخة::أنا أحبك، لكن شيئا ما منعها من ذلك، أذهلها أن أحمد اقترب منها بهدوء واضعا رأسه علي كتفها محتضنا إياها في حنان، أولته ظهرها حتي تسمح لبركان دموعها بالثوران في صمت، صوت قوي داخلها يخبرها أنه يحبها، لكن قلب الرجال يسع أربعا، ليس كقلب المرأة الذي لا يملكه إلا أمير واحد، أخذ عقلها يدور في دوامات، أليس من حق زوجها أن يبحث عمن تهديه ولدا من صلبه يكون قرة عينه وبهجة دنياه كما كان يتمني دائما؟؟ أليس من حقه أن يبحث عن هذا الولد قبل أن تنفرط سنوات الشباب الغالية فيعود أمره إلي الندم المرير؟؟ أليست أنانية منها أن تحرمه هذه السعادة بعدما أهداها حبه الصافي و صبر معها وجاهد لعلاجها بلا طائل؟؟ ماذا كانت تظن زوجها؟؟ ملاكا مُنزَّها عن رغبات الدنيا؟؟ إنه بشر ، بشر يبحث عن السعادة كأي بشر ، لو كان رجلا آخر لربما تزوج من هدي دون أن يخبر زوجته أبدا، أو ربما صفعها بكلماته عن حبه لهدي و نيته للزواج منها دون إشفاق علي مشاعرها، يارب،يا أحكم الحاكمين، يا من وهبت الحكماء حكمتهم، آتني الحكمة ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، أغمضت عينيها علي دموعها مسلمة أمرها لربها حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا، في الصباح كان أحمد يستعد للذهاب إلى عمله بالمشفي و أخذ ينظر إلي حبيبة التي تظاهرت بالانشغال بترتيب الفراش، اقترب منها واضعا كفيه علي كتفيها مديرا إياها برفق لتواجهه، كادت تلقي بنفسها بين ذراعيه باكية حتي تغرق الكون كله لكنها اكتفت برفع نظراتها إليه راسمة ابتسامة باهتة علي شفتيها، كان يتفرّس في ملامحها كأنه يراها لأول مرة علي وجهه تبدو ظلال حزن ظن أنه استطاع إخفائها عن زوجته، استطاع أخيرا أن يتكلم هامسا في صدق:: حبيبة، أنا أحبك نظرت إليه بعينين ذابلتين تخفيان نهر ألم ثم استطاعت أخيرا الرد بصوت باهت كابتسامتها المزيفة قائلة:: أعلم احتضنها بقوة حتي تمنّت أن تزهق روحها الآن بين ذراعيه، وهل هناك ميتة أسعد من الموت بين يدي الحبيب؟،بعد بره