وضعت حبيبة آخر الرتوش من ألوان زينتها الرقيقة وعدّلت من طريقة تصفيف شعرها ثم أمسكت بفستانها ذاك الذي ارتدته في أول ليلة من زواجها وأرادت أن ترتديه اليوم لكنّها عدلت عن ذلك فارتدت فستانا آخر وأمسكت بالأول لتضعه في مكانه، إنها تريد أن تجد حلّا جذريا لمشكلتها و زوجها ولا تريد أن تضع عليه ضغوطا نفسية من أي نوع حتى و إن كانت مجرد ثياب يحبها هو لأنها تذكره بالليلة الأولي من حياتهما السعيدة، حياتهما التي ستمر الآن بمنعطف خطير، هي لا تريد شفقته، لا تريد تضحيته، لا تريد أن تستغل حبه لها،إنها تريد الحقيقة فقط،وستتقبلها كيفما كانت والله هو المستعان أما أحمد فقد عقد العزم علي مصارحة حبيبة الليلة بما يُكنُّه لهدى من مشاعر وبعزمه علي وضع تلك المشاعر في إطار شرعي، ولكنه في نفس الوقت لابد أن يفهمها أنه يحبها كأنه تزوجها بالأمس فقط، أنه يجد راحة قلبه معها، أنها ستظل أنسه و سكنه ، أن ما حدث فهو رغما عنه، أنه لو يملك زمام قلبه لما حوّله أبدا نحو سواها، وأنه لن يطيق يوما واحدا في الحياة بدونها، اجتاحت قلبه مشاعر حبه لحبيبة و إشفاقه على قلبها الرقيق من الحقيقة فتوقفت يده عن إدارة مفتاح باب الشقة، أطرق قليلا وأغمض عينيه ثم فتح الباب بسم الله، دخل أحمد ففاجأه ما رأي، المصابيح مُطفأة والشموع ينبعث منها أضواء ملونة خافتة و يغلف المكان رائحة جميلة،و إذا بحوريته تخرج لاستقباله بابتسامة لم يرها من قبل،ابتسامة ضحك لكنّه ضحك كالبكاء،كانت رائعة الجمال، حزينة العينين تخفي حزنها خلف ابتسامتها، رباه، إن مهمته أشق مما كان يتصور، اقتربت فقبّل جبهتها في حنان،نظر في عينيها طويلا ثم حرّك شفتيه قائلا بصوت خافت:: حبيبتي، أنت رائعة الجمال. سيطرت على تلك الدوامة التي تجتاح مشاعرها لتسحبها نحو أعماق هُوّة سحيقة وقالت بصوت خافت جريح و ثغر مبتسم:: تفضل، تناول عشاءك قبل أن يبرد لم يعرف طعم الطعام من همه رغم تنظيم الأطباق بشكل جميل، كان ساكنا في ظاهره لكنّ عاصفة تموج في باطنه لم ينطقا بحرف أثناء العشاء،بعد العشاء كانت حبيبة جالسة جواره تقطّع فاكهة وهو غارق في شروده فأصدرت آهة ألم فجأة، ركض أحمد وجثا علي ركبتيه ليري ما حدث ليدها فإذا السكين جرحته فسالت بعض الدماء أحمد:: تعالي أطهر لك الجرح ثم أربط لك يدك يا حبيبة حبيبة_تكتم ألمها:: بسيطة سألفها بهذا المنديل أحمد:: لا بل هيا لأربطها لك بالضمادة حبيبة_ف هدوء:: ما الموضوع الذي أردت الحديث فيه؟؟ تفاجأ أحمد فرفع رأسه إليها بسرعة ثم نهض ببطء ليعود إلي مكان جلوسه الأول، نظر إليها ثم سكت، لم يطيعه لسانه بالكلام استجمعت حبيبة كل شجاعة الكون لتهمس:: هل الموضوع متعلّق بهدى؟؟ نظر إليها مصدوما، لا يدري بماذا يجيبها؟ ظلت عيناه مشدودة إلي عينيها لا يستطيعان أن يُحوِّلا نظراتهما عن بعضهما البعض إلي أن حوّل أحمد نظراته إلي جهة أخري دون أن يتكلم، استشفت هي من نظراته الصراع الذي يعانيه فأشفقت عليه رغم ألمها، اقتربت منه أدارت وجهه إليها في رقة فوجدت أعتى علامات الألم في عينيه نطقت حبيبة بصوت يقطر ألما تخفيه خلف ابتسامة عينيها:: أحمد، أنا زوجتك، و أحبك، و أكثر من يشعر بك في هذا الكون، أخبرني الحقيقة فقط، أك ِّد أو اِنفي ما أشعر به،أعلم أنك تشفق عليّ لكن صدقني، الحقيقة مهما كانت خير لي من هذا البحر المؤلم الذي أسبح فيه بلا أمل للنجاة نظر إليها وفي عينيه مسحة من دمع فاغرورقت عيناها بالدموع ثم مسحتها بسرعة قائلة بصوت متهدج:: تحبها ؟؟ نظر إليها قليلا ثم نطق بصوت خافت:: نعم ظلت مبتسمة و الدموع تتساقط من عينيها رغما عنها فأمسك أحمد بيديها و قبّلهما في حب حقيقي ثم قال بصوت هامس حزين صادق:: حبيبة أنا لن أبرر ما حدث ولكنني أقسم لو كان بيدي لم أكن لأسمح بهذا، أنا أحبك ، لم ينبض هذا القلب لامرأة قبلك،أنت تعرفين هذا وتعرفين قيمة وعمق الحب الأول،وسيظل قلبي ينبض بحبك أبدا ما أحياني الله تعالى، و أنا أشهد الله علي هذا و أشهده علي أنك نِعم الزوجة ، لو كان الأمر بيدي لما جرحت قلبك الرقيق أبدا حبيبتي، أقسم أنني أحبك حد الموت يا حبيبة، لكنه شئ خارج عن إرادتي وضعت حبيبة وجهها بين كفيها و راحت في بكاء بلا صوت فاحتضنها زوجها في حنان جارف ثم قال بصوت متهدج:: أنا آسف حبيبتي، يا سكني و عشقي، لم أرد أن أجرحك أبدا،أقسم أنني لم أفكر في إحزانك أبدا، أنا أحبك يا حبيبة، أحبك ولا أجد كلمة أعمق من هذه لأعبر بها عما في قلبي لك، وسيظل هذا القلب ينبض باسمك مادامت دماؤه تتدفق استمرت في بكائها بين ذراعيه فأرسلها ببطء و أحاط وجهها بيديه في حنان ناظرا بعينيها الدامعتين هامسا في صدق:: حبيبة لقد بُحتُ لكِ بما في نفسي حتى لا أخدعك،لكنني أعدك أنني لن أتخذ أية خطوة تجاه هدي إلا بعد أن تأذنين، حتى ولو انتظرت كل العمر بدأت حبيبة تهدأ شيئا فشيئا و تمسح دموعها ثم استطاعت الكلام أخيرا فنطقت بصوت متهدج:: و أنا لن أتحمّل هذا الذنب على كاهلي ، فكيف ستحيا بكل هذه المشاعر تجاهها داخلك بلا رباط شرعي؟لك مطلق الحرية فيما تريد أن تفعل قبّل أحمد رأسها ثم همس:: لن يحدث شئ قبل أن نطمئن على محاكمة حمزة ، فكّ الله أسره عاجلا غير آجل مسحت حبيبة وجهها هامسة:: آمين،، هل تسمح لي بأن أبيت عند أبي الليلة؟؟ هدي في عطلة لمدة ثلاثة أيام تألم أحمد لشعوره أنها تريد الابتعاد قليلا فقال راجيا: الابتعاد ليس حلا يا حبيبة، إذا انجرفنا في تيار البعد فلن نستطيع الصمود و لا إنجاح حبنا، أعرف أنك حزينة و غاضبة ومصدومة وأنا أتمزق لكل هذا لكن البعد لا يجلب إلا البعد و الألم همست حبيبة:: أنا لستُ غاضبة صدقني،قد أكون حزينة ومصدومة لكنني لستُ غاضبة، فقط أريد وقتا أسكب فيه ألمي وأعالج جرحي وحدي أحمد_في ألم:: و بالطبع لا يمكن لمن كان سببا في هذا الجرح أن يعالجه ولا يحق له ذلك حبيبة:: أنت لستَ سببا في أي سوء ألم َّ بي، صدقني أنا لا أنظر لك تلك النظرة فلا تحزن،بضعة أيام فقط و أعود إن شاء الله أحمد_متنهدا:: كما تريدين حبيبتي، هيا سأوصلك توجهت نحو حجرتها فأغمض عينيه هامسا:: اللهم ألهمني الرشاد جسد بلا روح، أو روح أصابها زلزال مدمر، سواد ، ظلام حالك، مجرد حُطام ، هذا هو حمزة الآن، الفتي يلفه الدمار بعد قرار المحكمة بتجديد حبسه،المشاهد تمر برأسه كحلم هادئ ثم ككابوس جاثم، مشهده وهو يتوجه نحو طائرته التي ستقله من المعتقل إلى الولايات المتحدة مفعما بالأمل في الخلاص، يدخل إلي قاعة المحكمة مستبشر الوجه ملهوف العينين يبحث عن عيني والدته بالذات، تتلاقى عيناه بعيني أبيه فلم يُسمح لأحد بحضور الجلسة سوى والده، تغرورق عيناه اشتياقا فيما يبدو والده راسخا كجبل يشير له بعلامة النصر مبتسما ، القضاة،المحامي، أسئلتهم، إجاباته،الشهود، الحكم القاسي، تستنجد عيناه بعيني والده وتتجمد الدموع، والده مازال ثابتا كجبل لا يهتز ، العودة للقيود و للحرّاس و للألم، متجها نحو سيارة الشرطة يلمح والدته خارج المحكمة من بعيد، تركض نحوه باكية فيمنعها الحراس و يمسك بها والده و أخيه و زوج أخته الباكية هي الأخرى في انهيار، يسقط إلى الأرض فلم يعد قلبه يحتمل المزيد، يوقفه الحراس على قدميه ويقتادونه نحو العربة المصفحة،حسام يهتف من بعيد من بين دموعه((ضع ثقتك في الله يا أخي))،ظلام يغلف عينيه في وضح النهار، لا يكاد يصدق أنه لن يعود إلي حضن والدته بل إلي قيد السجّان في بلاد غريبة، جمدت عيناه عن البكاء، جمدت روحه عن الحلم، حتى لسانه وللأسف قد جمد عن الدعاء ،ينظر إلى الدنيا بعينين ميتتين، إنه يتمزق بلا أدنى صوت، فلينل منه السجن الآن كما يشاء، فلم يعد به رغبة للنضال حتى من أجل الحياة نفسها ظل حمزة في محبسه هكذا شهرا كاملا، لا يكاد يتكلم،لا يكاد يأكل،بل ويرفض مقابلة محاميه حتى استدعاه نائب الآمر بنفسه إلى مكتبه نائب الآمر_يصطنع الحزن:: حمزة يؤسفني أن أبلغك خبرا كهذا لكنك ترفض مقابلة محاميك ولا سبيل لنخبرك غير أن أخبرك بنفسي حمزة_يتنهد:: إن كنتم تنوون إعدامي فهذا ما أرجوه نائب الآمر:: لا، بل إنه يؤسفني أن أخبرك بأن والدك قد ذهب إلى جنوب لبنان والمعارك هناك دائرة و قد اصطحب والدتك معه وللأسف، أصيبت والدتك بطلق ناري وفقدت حياتها ظل حمزة يحدق في وجهه صامتا برهة ثم انفجر ضاحكا قائلا:: أنت تمزح معي أليس كذلك؟؟ نائب الآمر_في هدوء::حمزة تمالك نفسك يا بني حمزة_صارخا:: أنت كاذب، جميعكم كاذبون، جميعكم قتلة أمسك الحراس بحمزة بسرعة وهو ما زال يصرخ بكلماته هذه ثم أعطاه واحد منهم حقنة مخدرة سريعة في العنق حتي يهدأ قليلا و حملوه إلى حجرته في المبني تحت حراسة مشددة بأمر من نائب الآمر. قضى حمزة أيامه التالية في صمت مطبق، ظاهره ساكن كقبر و باطنه غاضب كبركان ثائر ، غضب لا يعرف سببه لكن لا شك في أنه يبحث عمّن يصب عليه ذاك الغضب، و قد واتته الفرصة بترتيب من إخوان الشياطين ، فقد كانت كلمات نائب الآمر و كلمات مارك من قبل تعصف برأسه، إذن أبوه هو سبب أحزان أسرته كلها ، ألقى بهم في أتون العراق ولم يبالي ، كان سببا في نكبته و الزج به في غياهب ذاك الجحيم، ملامحه الجامدة غير المبالية في المحكمة ، ثم والدته، كيف يصطحبها معه إلى مكان يموج بالاضطراب وهي لم تتعافى بعد من مرضها ولا من صدمتها في محاكمة ابنها؟؟ ألهذا الحد لا يرى غير ما يريد ؟ ألهذا الحد يفضّل مجده الشخصي على مصلحة عائلته، يفضّل أن يبدو أمام الناس على أنه ذاك المنقذ للمبتلين و النصير للمستضعفين بلا أي مراعاة حتى لشريكة حياته ، لقد أحرق بلهيب غضبه كل ما كان يربطه بأبيه و كل ما علمه إياه من مُثُل و أخلاق، و كأنها فرصة لا لتنفيس غضبه فقط بل للانسلاخ من جلده القديم تماما، إذا كان سيقضي بقية عمره في هذا السجن فليتحرّر من قيودٍ ظنّها قيود أبيه سيعيش منذ الآن بقلب جديد ، قلب لا يمتُّ لقلبه القديم بصلة، و ياسمين؟؟ ، لتكن ياسمين هي آخر ما يربط حمزة بماضيه حمزة الجديد ،،،،،