أنا : هل هذه الأوراق حقيقية أم مزورة؟ باسكال : كل الأوراق حقيقية، أعلم جيداً أن هذا صعب، لكنها الحقيقة.. لم أعد قادراً على إخفاءها، لم أعد أقدر على النظر في عيونك حتى.. أنا : وماذا بعد؟ ما الذي لا أعرفه عن نفسي أيضاً؟ باسكال : حسناً، سأقول لك كل شيء. أنا : حسناً، أسمعك. باسكال : منذ سنة وأنت هنا، في المستشفى. أنا : لكني أتذكر أنني قضيت فيه سبعة أيام فقط. باسكال : سبعة أيام بعد استيقاظك من الغيبوبة فقط. أنا : هذا يعني أن خلال تلك السنة كنت شبه ميت فوق السرير؟ باسكال : تماماً كذلك، حتى أن كل الأطباء لم يكونوا يعتقدون أنك ستفتح عيناك يوماً ما. أنا : حسناً، لا بأس يمكنني تقبل هذا.. هل هناك شيئاً آخر لا أعلم به؟ باسكال : نعم لازال شيئاً آخر. (ومع أن كل سوء هذا العالم أصابني لازال هناك شيئاً آخر لا أعرفه، لا أعلم لماذا يحدث لي كل هذا؟ ولماذا أنا تحديداً؟ أنا : حسناً، أسمعك.. باسكال : (أخر ج أوراقاً و صوراً من محفظته وأعطاني إياهم، أعطاني إياهم و لم يقل لي أي شيء) كانت كل تلك الصور مرعبة ومشوهة، وملطخة بالدم، لم أجد بينها صورة واضحة واحدة. أنا : لمن هذه الصور؟ ولماذا تريني إياها؟ باسكال : إقرأ الأوراق كذلك.. قرأتها، كانت تشير إلى عدد العمليات الجراحية وتقويم الوجه من جديد، هذا كل ما فهمته. أنا : وما علاقة هذه الأشياء بي؟ باسكال : (أشار إلى وجهي) هذا ليس هو وجهك الحقيقي. أنا : أرجوك إني أكاد أجن من الأشياء التي تدور في عقلي، أنا مستعد لمعرفة كل شيء، أريد أن أعرف كل شيء.. باسكال : أريد قول كل شيء لك، لكني لا أعرف كيف سأقول لك هذا، صعب جداً.. أنا : لا عليك، أنا مستعد لكل شيء. باسكال : الصور التي بيديك هي صورك عندما وجدوك في البحر، والتقارير الطبية كذلك. أنا : لا، لا يمكن لذلك أن يحصل أبداً، حتى أنه لا يوجد خدش أو أثر جرح في وجهي. باسكال : يمكن ذلك، تقريباً استغرق ذلك (أي العمليات الجراحية وعمليات تقويم الوجه وكل شيء) سبعة شهور فقط. أنا : لكن أنا وجِدت في البحر غارقاً، ما دخل وجهي في ذلك، (أريه الصور) هل هذا وجه شخص يغرق؟ هذا يشبه وجه شخص دمرته الحروب، هذا يشبه وجه شخص تحطمت به طيارة أو سيارة. ماذا حدث لي؟ ما الذي لا أزال أعرفه؟ باسكال : لا أحد يعرف ماذا حدث لك، الله وحده هو الذي يعلم بذلك.. قامت الشرطة بتحقيق كبير في هذه القضية وإلى الآن لم يتوصلوا لشيء، وجدك الصياد في البحر بهذه الحالة هذا هو كل ما نعرفه. أنا : حسناً، و جسمي كيف كان حينها؟ باسكال : كانت جروح عادية و بسيطة، وحده وجهك الذي كان مشوهاً. أنا : ولماذا أخفيت عني أمر كهذا؟ لماذا لم تصارحني قبل ذلك؟ باسكال : لم أكن أعلم كيف سأقول لك شيء كهذا.. خفت كثيراً عليك، واِنتظرت حتى يأتي الوقت المناسب. أنا : عن أي وقت تتحدث، ما الذي تغير الآن؟ باسكال : أعتذر كثيراً. (انتهى الكلام بداخلي، كنت أشعر بالدوار وأن الأرض لا تسعني، كنت أحس وكأنني ضائع في خلاء أو صحراء) لطالما حصلت على جواب سؤال كان دائماً يلاحقني.. لماذا والداي ليسوا بجانبي ولماذا لا يبحثون عني؟ لماذا ليس لي أصدقاء أو أقرباء؟ أعلم جيداً أن لي عائلة تحبني وأصدقاء لا ينسونني وأناس كثيرة تفتقدني ويبحثون عني، لكنهم عاجزين ولا يعلمون شيء من الذي حصل لي ولا يعلمون الشكل والحالة التي أصبحت عليها.. كيف سيعلمون ذلك وأنا بنفسي لا أعرفني، لا أعرف سوى هذا الجسم الهزيل وهذا القناع المزور الذي ألتقي به أمام المرآة كل يوم.. أنظر للصور التي بيدي وأحاول تخيل ما الذي حصل لي حينها، كانت كل تخيلاتي توحي إلى جريمة قتل أو محاولة إنتحار.. لم أكن أرى شيئاً آخر غير ذلك.. أنا : (أشير إلى الصور) في نظرِك ما الذي قد يكون حدث لي وأوصلني إلى هذه الحالة؟ باسكال : سؤال صعب للغاية.. ليس لأنني لا أستطيع الإجابة عنه، لكن لصعوبة قول ذلك لك. أنا : لا بأس سأسمعك. باسكال : هناك احتمالين.. شخص ما حاول قتلك أو أنت حاولت قتل نفسك وفشلت.. لا شيء خلاف في ذلك. أنا : نعم، شيء واضح لكني لا أتذكر شيئاً. (كنت أختنق ولم أكن قادراً على البقاء، كنت أحس بإحساس بشع لا أستطيع وصفه) أنا : سأخرج قليلاً، أريد أن أتمشى. باسكال : سآتي معك. أنا : المعذرة، أريد البقاء وحيداً. باسكال : لن أتركك وحيداً و أنت في هذه الحالة. أنا : أرجوك.. باسكال : حسناً. خرجت.. تمشيت، بكيت، لم تتوقف دموعي ولو لوهلة، بكيت كثيراً، تعبت من المشي.. جلست على الأرض وزاد بكائي أكثر وأكثر، لم أكن أخاف على مظهري كيف سيبدو للناس، أو كيف سينظرون إلي، كنت أبكي لأنني بحاجة للبكاء فقط، أناس كثيرة كانت تأتي لتسألني عن ماذا بي، حكيت لهم قصتي كاملة هناك من أشفق علي، وهناك من كان يمد لي يد المساعدة، هناك من أعطاني نقوداً، وهناك من أخذ معي صوراً. أمشي وأبكي، أتعب فأجلس وأبكي، أحكي حكايتي الحزينة لكل شخص يسألني، ظللت على هذا الحال حتى الليل. تمشيت كثيراً، مررت بجانب ملهى ليلي ودخلته، كان فيه الكثير من الناس، من يرقص، من يغني، من يشرب، ومن يلعب قمار.. لم أكن أريد شيئاً غير أن أنسى قليلاً، طلبت مشروباً، الكأس الأول، الكأس الثاني، الكأس الثالث، طلبت الكأس الرابع.. النادل : لقد شربت كثيراً يا سيدي.. أنا : (أخرجت كل النقود التي كانت في جيبي ووضعتها فوق الطاولة) وما دخلك أنت؟ النادل : لا، لم أقصد هذا، لكن شرِبت كثيراً وهذا ليس جيد لك ولا لصحتك.. هل تود أن تجرب كؤوساً من (النبيذ). أنا : لا أريد شيئاً غير الخمر، أريد أن أنسى، لكني لا أستطيع نسيان شيء. النادل : حسناً، سأعطيك مشروباً من نوع آخر. أنا : حسناً، شكراً. أعطاني كأس، وكأس آخر، وكأس آخر، ولم أنسى.. قمت من مكاني، سقطت على الأرض، ساعدني النادل على النهوض. أنا : ساعدني على الوصول إلى منصة الرقص.. النادل : ممنوع ذلك، فهي مرخصة فقط للمغنيين والراقصين. أنا : أنا منهم كذلك، سأغني و سأرقص كذلك، لكن بطريقة أخرى. أوصلني للمنصة، أخذت الميكروفون وجلست على الأرض، والكل ينظر إلي وأنا صامت تماماً حتى سمعت صوتاً من الأمام يقول (هل ستغني أو سترقص لنا أيها السكير) تعالت الضحكات من حولي، كان الكل يضحك علي، ضحكت بصوت عالي لكن لم أكن أضحك على نفسي، كنت أضحك عليهم.. كم هم مثيرون للشفقة. أنا : أنا لست سكيراً، أنا مجرد شخص يحاول أن ينسى أنه فقد ذاكرته لكنه لم ينسى، مجرد شخص مجهول الهوية لا يعرف إسمه ولا وطنه ولا موطنه، مجرد شخص تغلب ضعفه عليه، تماماً مثلكم.. صفقوا على كلماتي ودعموني، حكيت لهم قصتي فبكوا معي وحاولوا مساعدتي، لكني في حالة لا تسمح لأي شخص بأن يساعدني. أردت الرجوع للبيت، لكني لا أقدر على المشي ولا أستطيع تذكر طريق البيت وأنا في هذه الحالة.. إتصلت بالسيد باسكال وقلت له أنني بحاجة إلى المساعدة، فجاء لي في الحال.. أخذني للبيت وساعدني في الوصول إليه، أوصلني لغرفتي، رتب لي السرير، أزال الحذاء من قدماي وقام بتغطيتي، نمت في الحال.. في الصباح التالي.. فتحت عيناي، وجدت السيد باسكال معي في الغرفة نائم فوق الكنبة، بقيت دقائق كثيرة أحاول تذكر ما حصل لي مساء البارحة وتذكرت كل شيء.. قد أكون مذنباً أو مخطئاً لا أنكر ذلك أبداً، لكن ضع نفسك مكاني ولا تلومني، فأنا مثلك مجرد إنسان ضعيف، مثير للشفقة أراد أن يرتاح ولو لوهلة. نهضت، استحممت وغيرت ملابسي، ونهض السيد باسكال كذلك أنا : صباح الخير. باسكال : صباح الخير، هل تشعر بتحسن. أنا : نعم، أشعر بتحسن شكراً.. وأعتذر أيضاً كثيراً عن الحالة التي كنت فيها ليلة البارحة. باسكال : هذا الموضوع سوف نتحدث فيه في وقت لاحق، الآن سننزل لتناول الفطور جميعاً.. أنا : حسناً.. تناولنا الفطور جميعاً في هدوء تام، لم يتكلم أي واحد منا، ليس لأنه لا يوجد لدينا ما يقال، بل لأن كل واحد منا مكوي في قلبه.. اِنتهينا من تناول الفطور.. السيد باسكال : أريد التحدث معك، سأنتظرك في غرفة اللوحات. أنا : حسناً.. أمشي وراءه، أحس أن قلبي يكاد أن يقع مني، لقد كانت نظرات عينيه صارمة معي. وصلت لغرفة اللوحات، طلبت الإذن ودخلت.