أنا : حسناً، في أقرب وقت. اِنصرفت الشرطة، بقيت أنا والسيد باسكال. باسكال : عندما تكون جاهزاً أخبرني، أريد أن أكون بجانبك.. أنا : في ماذا؟ باسكال : عندما تريد الذهاب لمركز المساعدة للحصول على هويتك. أنا : حسناً. باسكال : لماذا لا أراك سعيداً؟ أنا : لا أتذكر إسمي، ولا أعرف أي إسم سأختار. باسكال : بسيطة.. هناك الكثير من الأسماء، قم باِختيار واحد منهم وأنا سأساعدك. أنا : (نظرت إليه بهدوء) لو كنت مكاني كنت ستفعل هكذا؟ باسكال: (بعد استيعابه لسؤالي) أعتذر كثيراً أنا لم أقصد ذلك، أردت فقط مساعدتك. أنا : أعتذر منك حقاً، إني أمر بتجربة صعبة و أنا في وضع حرج، كل شيء بحياتي مزور.. وجهي، وطني، وإسمي سيكون كذلك.. هل تفهمني؟ باسكال : أفهم كثيراً بماذا تمر، وأفهم جيداً بماذا تشعر، لكن أرجوك كن قوياً ولا تضعف، فنحن لا زلنا في بداية القصة.. وأنت لا تعرف ماذا ينتظرك في نهاية الطريق، تمسك جيداً. أنا : أتمنى أن تكون نهاية الطريق ليست كبدايتها، فأنا متعب ولا أريد سوى أن أعرف من أنا، الحقيقة فقط، لا شيء سوى الحقيقة. (الحقيقة ليست سهلة كما نظن، الحقيقة تبني حولها الكثير من الجدران.. جدران خطيرة يختبئ وراءها الظلم بأنواعه، الإبتزاز، الآنتقام، سفك دماء الأبرياء، القتل، الموت.. مخطئ أنت إن كنت تظن أن الحقيقة ستظهر من تلقاء نفسها دون مقابل.. إذا كنت تريد الحقيقة جهز نفسك لخسارة شيء أو لخسارة كل شيء.) باسكال : ما الذي سنفعله الآن؟ أنا : أريد أن أرِيك شيئاً. باسكال : حسناً. أنا : فلنذهب لغرفة اللوحات. ذهبنا و أريته اللوحة التي رسمتها. باسكال : من أين تعرف هذا الشخص المرسوم في اللوحة؟ أنا : لا أعرفه، لكني أراه كثيراً في منامي. باسكال : كيف تراه بالضبط؟ ماذا يقول لك؟ أنا : أراه تماماً مثل ما رسمته في اللوحة. باسكال : قلت أنك لا تعرف الرسم، كيف رسمت؟ أنا : لا أعلم، بقيت لدقائق هنا، وجدت نفسي أرسم هذه اللوحة، ورأيت أشياءً غريبة، إني لا أفهم شيئاً من هذا؟ هل تعرف أنت من هذا الشخص؟ باسكال : ثواني... (أخر ج لوحة من وراء اللوحات ووضعها بجانب لوحتي). باسكال : تفضل. (كانت اللوحة التي جاء بها تشبه لوحتي.. نسخة طبق الأصل، بجسمه وملامحه وكل تفصيل صغير رسمته أنا رسمه هو، حتى الوشم الذي يوجد في يده اليسرى.. أنا : من رسم هذه اللوحة؟ باسكال : رسمها إبني قبل موته بأيام قليلة. أنا : ما هذه الصدفة الغريبة؟ ما هذا بحق الجحيم؟ باسكال : لا ليست صدفة، لا أظن انها كذلك. أنا : ماذا تسميها إذاً؟ ما هذه الإشارة اللعينة؟ لا تشير للخير بتاتاً.. بالأساس أنا عالق والإشارات تزيد ضياعى أكثر. (إني لا أفهم ماذا يحدث في حياتي، ما بال هذه الحياة تريد قتلي بشتى الطرق، أحس وكأنني في حلقة من قاع الجحيم) باسكال : وما هو تفسيرك لهذا، لا شيء يحدث دون سبب.. أنا : أراه في منامي كثيراً و لا أتذكر أنني أعرفه من قبل أو أنني رأيته. باسكال : أنا أيضاً عاجز عن التفسير، في البداية كنت أظن أن هذا شيء عادي، لكن تكرر مع إبني نفس الشئ، ولا أعتقد بتاتاً أن هذا شئ طبيعي وعادي، وكل ما علينا فعله هو تجاهل هذه اللوحات و المضي قدماً. أنا : قرار صائب، إني مشغول كثيراً، شيء صغير مثل هذا لن أعطيه أكثر من حقه.. باسكال : نعم، كل ما علينا فعله الآن هو التركيز عليك أنت، وعلى حقيقتك التي تريد معرفتها.. شيء غير هذا ممنوع. (أحيانا الحياة تعطينا فرصة كبيرة لا تعوض، تعطيك طريق بسيط ومختصر لدرجة لا تصدق، ولأننا أشخاص معقدون نرفضه ونضيعه، فنبحث عن درب ملتوي يشبهنا، ليس له مخرج، نلف وندور في دوائره الخطيرة و لا نحصل على نتائج فورية). أنا : نعم، مفهوم. باسكال : إني أتضور جوعاً، فلننزل للغذاء. نزلنا للغذاء كنا ثلاثتنا حول المائدة لتناول الغذاء. الأم ماريا : ما بال وجوهكم تعيسة وكأنكم تحت حبل المشنقة؟ ما الذي يحصل في هذا البيت ولماذا جاءت الشرطة اليوم؟ باسكال : الشرطة جاءت لبيتنا لترى إن تحسن هذا الشاب الذي يقعد بجانبي أم لا، جاءت للإطمئنان فقط ومعرفة إن تذكر شيئاً أم لا. الأم ماريا : ومن هو هذا الشاب؟ باسكال : أنا الطبيب الذي كان يتابع حالته، وأنا ساعدته و أبقيته معنا هنا في البيت، و لقد قلت لكِ هذا في أول يوم جاء للمنزل. الأم ماريا : (أخرجت مذكرتها، وأخذت تقلب في صفحاتها، نظرت إلي، أغلقت المذكرة) مرحباً بك معنا. أنا : شكراً. الأم ماريا : أنا سيدة عجوز وعاجزة، أنسى كثيراً كذلك.. لا يمكنني مساعدتك كثيرا لكني سأقول لك شيئاً سينفعك كثيراً، شيئاً واحداً. (الحياة قصيرة، عشها كما تريد فأنت لا تعرف ماذا تخبئ لك الأيام المقبلة، عش حياتك بالطريقة التي تريدها يا إبني ولا تظلم أحداً كي لا تظلمك الدنيا فيمن أحببت، ولا تؤذي أحداً كي لا تؤذيك في أغلى ما لديك، واِتبع قلبك ولا تصدق كل ما تراه عينيك، العين خداعة وتسبق الأحداث، أما القلب لا يكذب، صادق ولا يخطئ). أنا : شكراً كثيراً، لقد كنتِ تدعِميني دائماً وهذه ليست أول مرة، أشكرك كثيراً على طيبتك. الأم ماريا : (عانقتني) إذا احتجت لأي شيء فى أي وقت فأنا موجودة. أنهينا طعامنا، واقترح علي السيد باسكال الخروج للشارع فوافقته على ذلك.. كنت أريد تغيير جو ولو قليلاً، إني كنت قبل هذا أحبس نفسي في غرفة صغيرة ومظلمة غارقاً في عزلتي وفي أفكاري.. أنا : وإلى أين سنذهب؟ باسكال : لا أعرف بالضبط لكن شوارع مدينة برشلونة قريبة منا، دعنا نتمشى في أزقتها وإن لم يعجبك ذلك سنغير المكان. أنا : حسناً.. باسكال : هل تحب أن نذهب بالسيارة؟ أنا : لا داع، قلت أنها قريبة جداً، دعنا نتمشى في شوارعها. خرجنا كان الجو جميل، برد وغيوم وروائح القهوة تحاصرِني من كل مكان، ومحلات الورود الجميلة التي تمتزج رائحتها مع رائحة القهوة، الفن في كل مكان، اللوحات التشكيلية، عازفي الآلات الموسيقية، مغنين، مهرجين، كان الجو دافئاً على قلبي وتلك التفاصيل الصغيرة تمتلكني.. الفن يسري بعروقي، أنا شخص يتنفس الفن.. حيث يكون الفن موجوداً أكون أنا. تجولنا كثيراً ورأيت كل الجمال، وكل الحياة التي أفتقدها. فجأة بدأت أتخيل وكأن شخص ما يتبعني، شخص ملابسه سوداء ويضع كمامة سوداء على وجه، أينما أستدير أجده في كل مكان نذهب إليه، لكني لا أعلم إن كانت فقط صدفة، فهناك أشخاص كثيرون يرتدون نفس الملابس، أو يمكن أن أكون أتوهم، لكني كنت أحس أن شخصاً من بين كل هذا الوجود يعرفني ويعرف من أنا.. رن هاتف السيد باسكال.. ذهب لمكان قريب مني ليتحدث. بقيت أنا وسط الحشد، الكل يمر وأنا واقف في مكاني لا أتحرك، مظهري يبدو ثابتاً، الحزن لا يبدو على ملامحي ولا على حالتي، إلا أنه كان قابعاً في فؤادي لا أحد يراه.. أصرخ وأبكي ولا أحد يسمعني. مر أحد الأشخاص من جانبي، صدمني في كتفي، ولما استدرت وجدته نفس الشخص الذي كنت أظن أنني أتخيل أنه يتبعني، ملابسه سوداء وكمامة على وجهه، همس في أذني (في المرة المقبلة سأقطعه) وأعطاني كوب من قهوة لما أخذته منه رأيت الوشم على يده اليسرى، نفس الوشم الذي رسمته في اللوحة ورسمه إبن السيد باسكال، بدأ يركض، وتبعته أنا، لم أستطع الإبتعاد أكثر، أنا في مدينة لا أعرف خباياها ولا يمكنني المخاطرة.. (عادة ما أخاطر، أخاطر بحياتي حتى، لكن هذه المرة شممت رائحة الخطر تحوم من حولي، وأي خطوة سأخطوها لن تكون بصالحي أبدا) اِنتهت مكالمة السيد باسكال.. باسكال : من أين اشتريت القهوة، أريد واحدة أنا أيضاً. أنا : لم أشتريها، أعطاني إياها أحد المارة..(لم أكن أريد قول الحقيقة له، من الممكن أن لا يصدقني ويحسبني أتخيل أو أتوهم).. رميتها في سلة المهملات.. لنشتري قهوة ساخنة. إشترينا القهوة، جلسنا أمام منظر جميل نتبادل أطراف الحديث. باسكال : عندي لك خبر جيد عن آخر أخبار قصتك على السوشيال ميديا. أنا : نعم، أريد أن أعرف. باسكال : الكثير من الناس تفاعلوا معك ودعموك، وأوصلوا قصتك لكل العالم، وكذلك هناك العديد من القنوات التلفزيونية رأت المنشور الذي تم تداوله عنك ويبحثوا عن طريقة للوصول إليك كي يستضيفوك في فقرة من فقرات برامجهم وهذا كله لمساعدتك وكذلك القناة الأولى في إسبانيا تريد التواصل معك.. ما رأيك؟ أنا : أقبل بمساعدتهم، هذا سيساعدني كثيراً، و أريد مساعدتك في هذا. باسكال : نعم، سيساعدك كثيراً و ستصل قصتك إلى أكبر عدد من الناس، لا عليك سأتكلف بكل شيء وسأتواصل معهم، وأي جديد سأخبرك به.. أنا : شكراً.. باسكال : لا شكر بين الاقرباء. كانت هناك فرقة موسيقية قريبة منا جداً، انتظرتهم كثيراً لكن لم يبدأوا بعد، يبدو أن أحدهم لم يأتي وهناك فراغ في مجموعتهم. (العمل الجماعي غير عادل أبداً، أشخاصاً تغطي ضعفها تحت أشخاصاً آخرين، حتى أن كل فرد من المجموعة لا يعطي كل ما لديه، والكل يتواكل على الآخر، وأحيانا يعملون بكل غباء ويتجادلون على أشياء بسيطة، على عكس العمل الفردي الذي يعطي صاحبه أكثر مما لديه، يعتمد على نفسه ويتحمل المسؤولية الكاملة سواء في النجاح أو في الفشل ويسعى دائماً على تقديم الأفضل. أنا للسيد باسكال: هل ترى تلك المجموعة الموسيقية التي أمامنا؟ باسكال : نعم أراها، نحن نبعد عنها بخطوات قليلة. أنا : إنهم يحتاجون للمساعدة، سأذهب لأرى ما بهم.. باسكال : حسناً سأكون قريب منك، سأكون هنا. ذهبت لهم، كانوا مجموعة من الشباب وبحوزتهم آلات موسيقية. أنا : مرحباً، منذ ساعة وأنا أنتظر العرض الذي ستقدمونه. أجابني فرد من المجموعة كان يحمل ناي.. هو : نعتذر كثيراً، لن نقدم العرض هذا اليوم، هناك فرد ناقص منا.. سنعوضها مرة أخرى. أنا : الفرد الناقص ما هو دوره في المجموعة. هو : عازف البيانو. أنا : يمكنني حل هذه المشكلة إذا قبلتم بمساعدتي، أنا عازف بيانو. هو : لا أعتقد ذلك، نحن كمجموعة بالكاد نتفاهم، وأنت جديد لا أظن أنك ستنسجم معنا. أنا : أعطني البيانو، وشاهد.. قام بإنزال بيانو متنقل من السيارة وأنا ساعدته في ذلك.. جلست على الكرسي، كان الكثير من الناس حولي لكني لم أخف، أغمضت عيناي وأخرجت كل تلك الألحان العالقة في روحي، أعطيت كل ما لدي.. فتحت عيناي وانهالت التصفيقات علي من كل إتجاه والسيد باسكال كان أولهم، دائماً ألقاه في أحزاني وفي أفراحي، أجده بجانبي دائماً. وبعدي بدأ عازف الكمان بتقديم العرض، الكمان آلة ليست ككل الآلات، لها ميزتها وطريقتها، لا تستطيع أي آلة تعويضها وإذا اِلتقيت بعازف موهوب فسيكون عرض ولا أروع، سيكون عرض مثل هذا الذي أمامي، من بعده بدأ عازف الناي كذلك، هناك شيء من الإنسان في الناي، لا أعلم ما هو بالضبط لكن الناي وعلى مر العصور في الزمان والمكان كان أداة للتعبير عن البوح بالألم. (كانت طريقة هذه المجموعة جميلة، الكل يقدم الفن بطريقته، والكل يؤدي دوره بشكل فردي ممتاز على الرغم من أنهم مجموعة.. كنت أريد المعرفة والِاستفسار أكثر.. فسألت عازف الناي الذي للتو أنهى عرضه.) أنا : هل تقدمون عروضكم هكذا دائماً، يعني بشكل فردي. هو : قبل الإجابة أريد أن أشكر ك على المساعدة، نعم في المقدمة نقدم عروضنا بشكل فردي، وفي النهاية نقدم أغنية بشكل جماعي.