باسكال : حتى لو دلائل العالم كلها كانت أمامي، حتى لو رأتك عيناي لم أكن لأصدقها، أثِق بك كثيراً. أنا : هل سامحتني على مسح وإخفاء دلائل قتل ابنك؟ باسكال : إني أعذرك، وأي شخص كان في وضعيتك كان سيفعل ذلك. أنا : أشكرك كثيراً.. باسكال : (عانقني) لا تخف أيام قليلة وستخرج من هنا، لن أتركك كثيراً. أنا : أثق بك. باسكال : يوم الغد سيكون يوم محاكمتك وتحديد حكمك. أنا : نعم يوم الغد. باسكال : لا تخف سيكون كل شيء على ما يرام، وسيكون دليل براءتك بحوزتي، كل ما عليك فعله هو أن تثق بنفسك وأن تكون قوياً، والمحامي كذلك سيفعل كل جهده لتخرج من هنا. أنا : لا يهمني كم من الوقت الذي سأظله هنا، يكفيني أنك واثق بي، تساعدني وتدعمني. باسكال : لا أريدك أن تضيع مستقبلك هنا وأنت مظلوم، أعلم جيداً أنك لست مجرماً ولم تكن كذلك أبداً. اِنتهى وقت الزيارة، رجعت للزنزانة كان حينها قلبي يرفرف من الفرحة، لأن الأمل ولد في قلبي من جديد، وكذلك أحسست براحة كبيرة في قلبي لأنني لست مجرماً ويداي غير ملطختان بالدم، أصبحت أرى الحياة بنظرة أخرى ومن جانب آخر، لأول مرة أرى فيها أن الحياة مبهجة، مشعة بالنور في عيناي. تخالطت مع السجناء، أخبرتهم بقصتي وسمعت قصصهم، هناك من قتل، وهناك من سرق، من كان مجبوراً، من ظلم ومن ظُلِم.. هناك قتلة وهناك أبرياء وهناك ضحايا.. (الشيء الذي لفت إنتباهي في الأشخاص الذين يتواجدون بالسجن هو أنهم حقيقيون لا يكذبون، لا يبررون سوء أفعالهم الخبيثة.. من قتل عمداً معترف بهذا ويقولها بأعلى صوت، ومن كان مجبوراً يعرف أنه يدفع ثمن خطأه.. عكس الناس المنفصمة الشخصية التي توجد بالخارج والتي تصر دائماً على ارتداء الأقنعة لتغطية خبثهم.. وكذلك لاحظت أنهم يجتمعون دائماً.. يتحدثون في مواضيع ثقافية، يلعبون شطرنج، جلسات غنائية، إلقاء النكت، يساعدون بعضهم البعض دائماً ولا يفرقون بين الناس كيف ما كان مستواهم، غني أو فقير، طويل أو قصير، أبيض أو أسود.. لا أحد يرى أنه أفضل من الآخر، متحضرون، متحررون بالرغم من أنهم سجناء وأنهم في السجن، أدركوا أن ذلك بل فائدة، لا الطبقات الاجتماعية ولا النسب ولا أي شيء، أدركوا شيئاً بالرغم من أنهم عرفوا ذلك في المكان الخطأ، أدركوا أن كل ذلك سطحي دون قيمة. أنتم الذين تتواجدون خارج أسوار السجن، لماذا أنتم وحيدون ومتغطرسون في أعماق الوحدة المظلمة؟ لماذا تركضون بهذه السرعة اتجاه مصالحكم الشخصية؟ لماذا تؤذون بعضكم البعض بأنانيتكم؟ ألم تمنح لكم طوال حياتكم ولو فرصة واحدة لتجلسوا مع أنفسكم وتتصالحوا مع ذواتكم، لتدركوا ماذا فعلتم بأنفسكم وتتصالحون معها؟ ولماذا أصبحتم هكذا؟) مكثت مدة قصيرة في السجن وعرفت الكثير من الأشياء، الكثير من الحقائق.. وعندما سأخرج منه لن أكرر أخطائي السابقة وسأكون أنا، دون تزييف ودون أقنعة، سأكون أنا فقط وليحدث ما يحدث. (استيقظت باكراً، جهزت نفسي وجلست أنتظر ميعاد المحكمة..) أخذوني للمحكمة وقبل دخولي إليها قابلت المحامي المشرف على قضيتي، أخبرني المحامي بأن لا أغير من أقوالي السابقة وأخبرني بأن أكون واثقاً، هادئاً لأن دليل براءتي بحوزته.. باسكال : أخبرتك أنه سيكون كل شيء على ما يرام، وأنه لم يتبقى إلا القليل لتخرج. أنا : شكراً. (تم استدعاءنا للدخول إلى المحكمة.. ودخلنا) وقفت أمام القاضي وجاوبت عن كل سؤال موجه لي، وعلى كل ما حصل لي حينها وكيف كنت مجبوراً على ذلك... وقدم المحامي دليل براءتي والشاهد كذلك وهو خبير التكنولوجيا الذي عرض عليه الفيديو الذي أظهر فيه أني أقتل شخصاً مجهولاً في الغابة وهو فيديو مفبرك والشخص الذي كنت أعتقد أنني قتلته هو شخص وهمي.. وكذلك تم استدعاء حيدر للشهادة واعترف بذلك، وأخبرهم أنه إستعمل الفيديو لتهديدي به فقط، وبعد ذلك تمت تبرئتي من هذه الجريمة. لم أكن أظن أن حيدر سيعترف بذلك، طوال حياتي وهو يطاردني ليقتلني ويؤذيني وعندما منِحت له فرصة على طبق من ذهب ضيعها.. (إذا ساعدك شخص يكرهك على الصعود من القاع، كن متأكداً أنه في يوم ما سيرميك من القمة، ساعدك لأنه يريد أن يؤذيك أكثر وليرى الخوف مرة أخرى بعينيك) القاضي : ماذا تريد أن تضيف في قضية مسح آثار الجريمة وإخفاء السلاح. أنا : أنا من مسحتها فعلاً عندما تأكدت أنه ميتاً، وأنا من أخفيت السلاح و أنا من... المحامي : (قاطعني قائلاً) كان مجبراً، لو لم يفعل ذلك لكان حيدر قتله. القاضي : صحيح؟ أنا : نعم يا سيدي، كان سيقتلني لو لم أفعل ذلك، كان دائماً يهددني بالقتل، حتى أنه حاول قتلي عدة مرات وكان سبباً رئيسياً في فقدان ذاكرتي وخطفني عدة مرات عندما كنت أحاول الذهاب لمركز الشرطة. (اعترف كذلك حيدر بهذا وكان صريحاً) القاضي : هل لديك أي إضافات؟ أنا : لا. القاضي : حكمت المحكمة على السيد حيدر بالمؤبد وعدم التخفيف عنه تحت أي ظرف نظراً لجرائمه التي لا تحصى.. وتمت تبرئة السيد صالح من جريمة القتل المنسوبة له وسنعوضه عن ذلك مادياً ومعنوياً.. وحكمت عليه المحكمة بتهمة إخفاء وسائل الجريمة والتكتم عنها، ونظرا لمسامحة ولي أمر المقتول، ونظراً لتسليمه نفسه للعدالة بأسبوعين نافذين.. باسكال : لكن يا سيدي.. القاضي : هدوء. (كنت أتوقع أكثر من ذلك، كيف ما كان ظرفي وكيف ما كانت أسبابي، الجريمة تظل جريمة، لكن الحياة هذه المرة كانت عادلة معي وأعطتني فرصة ودرس جيد لن أنساه بحياتي) خرجت مكبلاً لينقلوني للسجن، قاطع طريقي السيد باسكال ليتحدث معي. باسكال : كنت أتمنى لو خرجت معي الآن. أنا : لا أعرف ماذا سأقول لك، لكن هذا جيد لي، إنها فترة قليلة، أريد أن أريح ضميري.. باسكال : كيف تقول ذلك بكل بساطة. أنا : ليس ببساطة لكنها الحقيقة، إني أستحق ذلك، أستحق العقاب، لست حزيناً، بالعكس لأن ضميري مرتاح الآن وأسبوعين مدة قليلة وبعدها سأخرج.. هذا هو كل شيء. باسكال : سأزورك دائماً، انتبه لنفسك كثيراً. أنا : شكراً. (قضيت كل تلك المدة في السجن، بصراحة لم أشعر أنني في السجن، كان كل شيء جميل، اكتسبت رفقاء جدد، دروس، عرفت من أنا.. كان كل هذا جيداً بالنسبة لي كشخص نجى من الموت ومصائب الدنيا، لو كنت أعلم أن هذا ما كان سيحدث لكنت سلمت نفسي فوراً عندما استرجعت ذاكرتي، لكن لا بأس كل شيء يحدث في الوقت المناسب) الآن لدي كل شيء استرجعت ذاكرتي، تذكرت عائلتي وموطني، وسأعود مباشرة بعد خروجي من السجن. هذه التجربة الأليمة التي مررت بها علمتني الكثير من الأشياء.. ألا أثق بأي أحد، ألا أثق بي وبكل ما تراه عيني. أن أتبع الطريق الذي رسمه قلبي دائماً. أن أواجه، ألا أهرب مرة أخرى من اكتشاف الحقيقة، لأنني كلما حاولت إخفاءها ستظهر وستؤذيني حينها. ألا أخاف من قول الحقيقة كيفما كانت وسأرددها بأعلى صوت وليحدث ما يحدث. أن أظهر مشاعري ومخاوفي والأشياء التي أخفيها سواء كانت جيدة أو سيئة للشخص القريب مني. أن أتشبث دائماً بالأمل حتى لو كان ضئيلاً، فأنت لا تعلم ماذا سيحدث بعد ذلك. (خرجت من السجن، خطوت خطواتي إلى الخارج، خطواتي مثل خطوات صبي صغير يعبر الطريق إلى بائع الحلوى، خطوات مظلوم خارج من الظلام إلى النور، مثل فرحة العصفور الذي فتح له القفص ومن شدة فرحه لا يعلم إلى أين سيذهب..) وجدت السيد باسكال ينتظرني خارج السجن ليوصلني إلى المطار.. كنت أعلم أنني سأعود لبلدي مهما طال الزمن، ومهما واجهت من مشاكل وصعوبات، كنت أدرك أنني سأعود مهما حاولوا تقييدي بالكذب. الحقيقة قد يخفيها الوقت قليلاً لكنها تظل تحاول دائماً إظهار نفسها، الحقيقة لا تختبئ، الحقيقة تكشف عن نفسها مهما طال الزمن. لا أعلم ماذا ينتظرني بعد ذلك، ولا أريد التفكير بذلك حتى، لقد دفعت الثمن مسبقاً، وخسرت كل شيء، لكن في الدقيقة التسعين سجلت هدفاً جميل في مرمى أعدائي، ونجوت من الهزيمة والخسارة بأعجوبة. الحياة هكذا يمكنها أن تعذبك كثيراً ولمدة طويلة، يمكنها أن تسلب منك كل ما أعطتك في رمشة عين، وبغير سبب محدد، وبدون سابق إنذار، يمكنها أن تعطيك مفتاح للخروج من كل المصائب، يمكنها إعطاءك يوم واحد من الفرح ينسيك كل سنين ألمك، وأحياناً تضع لك وسيلة النجاة في مكان خطر لا تظن أنك ستخرج منه وستنجو بعد ذلك. كش ملك.