باسكال : فلنتفقد الولد الصغير إن كان يريد شيئاً. أنا : حسناً، سأذهب أنا. فتحت الغرفة فلم أجد شيئاً، هرب من البيت. نزلت، أخبرت السيد باسكال بأنه ليس موجوداً، فتشنا كل البيت ولم نجد له أثراً. باسكال : أظن أنه هرب عندما كنا نتمشى على البحر. أنا : نعم، حتى أنا أظن ذلك. باسكال : كنت أود مساعدته، لكنه هرب. أنا : أين سيكون الآن؟ وكيف ستكون حالته؟ لا زال صغيراً، إني أخاف على طفل مثله أن يقضي ليلة واحدة في الشارع. باسكال : لا تخف من ذلك، في أي مكان كان ستقدم له يد المساعدة، لن يتركوه لكلاب الشوارع، هو هرب لأنه خاف من أن نسلمه للشرطة، لا زال صغيراً، طبيعي جداً أن يفكر بهذه الطريقة.. لا تشغل بالك سيكون بخير. أنا : امل ذلك حقاً. باسكال : جهز نفسك، سنخرج لنشتري بعض الأغراض والملابس التي نحتاجها. أنا : هل يمكننا تأجيلها؟ باسكال : لا، لا يمكننا التأجيل. ذلك اليوم تحديداً كنت متعباً كثيراً، لم أكن أود مغادرة المنزل لأنني ذاك اليوم كنت ضعيفاً وأي شيء يمكنه التمكن مني. جهزت نفسي وخرجنا، تجولنا كثيراً واشترينا الكثير من الأغراض، كانت الشوارع مكتظة بالناس، هناك من كان برفقة والديه وهناك من كان برفقة زوجته، وهناك من كان برفقة أصدقائه، وهناك من كان وحيداً، إشترينا الكثير من الملابس وعند دخولي محل الملابس قال لي عامل هناك (مرحباً سيدي طال غيابك لم تعد تأتي هنا لمدة كبيرة) لقد بدأت أفصل وأخيط في عقلي حتى همس السيد باسكال في أذني (لا تهتم كثيراً لما يقوله هذا الأحمق، معظم العاملون في هذا المجال مثله ويستعملون هذه الطريقة ليوهمونك بأنك زبون قديم كي لا تستبدل المكان) ضحكت كثيراً حتى بانت ضروسي، لكنها فكرة ذكية. عندما انتهينا عرض علي السيد باسكال أن أذهب معه لمقهى يحبه، فوافقت. كان موقع المقهى جميل في وسط الطبيعة. (وكل ما هو طبيعي جميل وراقي) مقهى شفاف محاط بطبيعة خلابة ويحتوي على مكتبة فخمة، هذا كل ما يحتاجه أي شخص، كان كل شيء جميل حتى زبائن المقهى، كل واحد منهم غارق في عالمه الخاص، من يكتب، من يقرأ، من يرسم. أنا : مكان جميل أحببته كثيراً، شكراً على اصطحابك لي. باسكال : عرفت أنه سينال إعجابك، لا شكر على واجب. في تلك اللحظة تحديداً، تذكرت أنني كنت ظننت ظناً سيئاً في السيد باسكال، علمت أنني أخطأت في حقه وحكمت عليه قبل أن أعرفه. (قد يكون الشخص الذي تود الهروب منه بحاجة لأن تهرب إليه) أنا : سيد باسكال أريد أن أقول لك شيئاً. باسكال : نعم، تفضل. أنا : لقد كنت خائفاً منك عندما كنت تود مساعدتي. باسكال : خائفاً؟ من ماذا كنت خائفاً؟ أنا : كنت خائفاً منك أنت وظننت بك ظناً سيئاً، كنت أظن أنك تريد قتلي وتتاجر بأعضائي، حقاً، أعتذر منك كثيراً. باسكال : (ضحك كثيراً من الذي قلته) هل أنت جاد فيما تقول؟ أنا : مع الأسف نعم، لكن الآن لا.. أعتذر منك مرة أخرى. باسكال : شيء عادي، أتفهمك.. صعب جداً أن تثق في شخص لا تعرفه، لا تحتا ج للِإعتذار. (في بعض الأحيان نخاف من كل الأشياء المحيطة بنا، نخاف من كوب ماء أو من طبق اكل أن يكون فيه سماً قاتل من يدين آمنتين، نرتعب من بعض نظرات الأشخاص لنا، نخاف من فكرة تجول في داخل عقولنا، نخاف من ذلك الوحش الخفي الذي عندما يغضب يبدأ في تكسير كل شيء) ففي النهاية خذلنا كثيراً، من الناس الذين لا نعرفهم، ومن الناس الذين نعرفهم، خذلنا حتى من أنفسنا، لقد خذلني كل شيء، وطني، عائلتي، ذاكرتي. اِحتسينا القهوة وذهبنا للمنزل. صعدت للغرفة لأرتب الملابس داخل الخزانة وبصحبتي الأم ماريا لأنها أصرت على مساعدتي، رتبت معي كل الملابس وحتى الغرفة. الأم ماريا : من أنت؟ أنا : (لم أكن أعلم كيف سأقول لها من أنا وأنا بنفسي لا أعلم بهذا) أنا شخص فاقد لذاكرتي لا أتذكر شيئاً وإبنك السيد باسكال ساعدني. الأم ماريا : أخرجت دفتراً صغيراً من جيبها وأخذت تقلب بين صفحاته) حسناً تذكرتك مرحباً بك معنا. كانت تسجل كل شيء في ذلك الدفتر، كانت متكيفة مع حقيقة مرضها، كلما قلنا لها شيئاً ترجع للتأكد من الدفتر. إذا كنت تريد مساعدة نفسك أو الخروج من الظلام يجب عليك أولاً أن تتقبل نفسك كيفما كنت وأن تعترف بالفشل، أن تتقبل طريقة وقوعك في الظلام، هذه هي الطريقة الوحيدة.. كن صادقاً مع نفسك ولا تخدعها أبداً. الأم ماريا : الآن أنا سأنزل لتحضير العشاء، سنكون باِنتظارك.. أنا : هل يمكنني مساعدتك في المطبخ؟ الأم ماريا : نعم، تفضل. جهزنا العشاء ساعدتها قليلاً، حضرت طبقاً زائداً فوق المائدة ونحن كنا ثلاثة فقط.. لم أرِد سؤالها.. جلسنا على المائدة. الأم ماريا : لقد تأخر أبوك، لماذا لم يأتي إلى الآن.. باسكال : أمي.. أبي لن يأتي، أبي مات منذ عشرين سنة والآن أنت مصابة بمرض مزمن.. الأم ماريا : هل سأموت أنا كذلك؟ باسكال : لا أنت فقط مصابة بمرض الزهايمر (النسيان) تنسين بعض الأشياء لكن عندما تشربين الدواء كل شيء يصبح على ما يرام. الأم ماريا : (كالعادة رجعت للتأكد من مذكرتها) نعم إني أتذكر كل شيء، يمكنني نسيان كل شيء، لكن ولا مرة نسيته. الناس الذين يحبوننا نظل في ذاكرتهم حتى لو مر على وفاتنا ألف سنة، ينسون كل شيء ولا ينسوننا. إنتهينا من تناول العشاء وكل منا ذهب إلى غرفته، إلى عالمه الخاص.. وقبل ذلك سألني السيد باسكال عن ماذا وإلى أين سأذهب في اليوم التالي، أخبرته أنني في الصباح سأذهب لمكتب المساعدة كي أحصل على رقم هويتي. باسكال : حسناً، انتظرني سوف آتي معك في وقت استراحتي للغداء. أنا : شكراً. خلدت للنوم بعد يوم طويل وتعب كثير ويوم الغد سيكون يوم هام بالنسبة لي.. نهضت صباحاً وقفت أمام النافذة والبحر أمامي.. يبدو هادئاً دون أمواج، لكنه لا يخدعني بمظهره الهادئ، لأني أعلم أن وراء قناع الهدوء يوجد كل أنواع الموت والعذاب. عندما ألقي نظرة عليه لا أكاد أرى سوى البؤس واليأس، لا أتذكر ماذا حدث لي، لكني خرجت منه وأنا فاقد لكل شيء، وهذا سبب كافي لكرهي له. نزلت للأسفل تناولت الفطور، تناولته وحدي لأنني استيقظت متأخراً والسيدة ماريا كانت أمامي في الحديقة ومعها المساعدة الاجتماعية. لم أكن أعلم ما الذي سأفعله. فجأة تذكرت رقم الصياد الذي وجدني في البحر، أعتقد أنه سيساعدني. إتصلت به المرة الأولى والثانية والثالثة، لا يجيب على مكالماتي فتركت له رسالة صوتية. (كل الأبواب مقفولة في وجهي، لكنني أعلم أنني سأعبر كل الأبواب، ستغلق أبواب وستفتح أخرى. وأنا جالس بهدوء أفكر فيما أملأ وقت فراغي وإذا بي أسمع الصراخ، فخرجت للحديقة وأنا مرعوباً. أنا : لماذا تصرخين؟ المساعدة جاكلين : أبحث عن السيدة ماريا. حضرت لها القهوة وعندما جلبتها لها لم أجدها، يبدو أنها خرجت. أنا : حسناً، سأذهب للبحث عنها. جاكلين : سوف آتي معك. أنا : لا، ابقي أنتِ هنا، وإذا جاءت أخبريني، وأنا إن وجدتها سأخبرك. جاكلين : حسناً، لكن أرجوك لا تخب ر أحداً. أنا : حسناً. أخذت رقمها وأخذَت رقمي لنخبر بعضينا عندما نجدها. خرجت واتجهت يساراً كنت حريصاً على حفظ علامات الطريق كي لا أضيعها، بحثت في البحر، في الشوارع، في المقاهي، في محلات كثيرة ولم اجد لها اثراً، لم أكن أعلم اهتماماتها و الأشياء التي تحبها، لأني لو كنت أعرف ذلك لكنت وجدتها بسهولة. الإنسان يكون حيث تكون الأشياء التي يحبها. وصلت لساحة كبيرة مليئة بالناس، سمعت صوت عزف قريب مني، تتبعت الصوت حتى وصلت للمكان، وجدت عازف كلارنيت وحوله الكثير من الناس الذين يستمتعون بعزفه، تسللت للداخل وبحثت عنها ولم أجدها. سرت إلى الأمام وإذا بي أرى امرأة جالسة على الأرض وحولها الكثير من الناس. إقتربت لأرى فوجدتها، وجدتها وهي تبكي. أنا : لماذا تبكين؟ السيدة ماريا : أريد أن أذهب إلى منزلي ولا أتذكر الطريق. أنا : لابأس، سنذهب فوراً للمنزل. شكرت الناس الذين كانوا يحاولون مساعدتها واتصلت بالمساعدة الاجتماعية كي أخبرها أنني وجدتها وأننا في طريقنا للمنزل. أنا : لماذا تأتين إلى هذا المكان بالتحديد؟ السيدة ماريا : لا أعلم لماذا هذا المكان تحديداً، لكني أحبه و أشعر أنه يناديني دائماً. (لا تتذكر المكان ولا الذكريات التي تربطها به، ولا حتى السبب الذي جعلها تحب هذا المكان، لكنها لم تنسى حبها للمكان) أحياناً ننسى الأشخاص والأماكن الذين نحبهم لكن لا ننسى حبنا لهم، حبهم يتجدد في قلوبنا دائماً. أنا : (وصلنا للمنزل) هذا هو بيتك، هذا هو منزلك. الأم ماريا : (تبكي) إنني أنسى كثيراً، أحياناً أنسى أبنائي ولا أتذكر أحفادي، أنسى أين أضع أغراضي وأشيائي، أنسى هواياتي وكل ما أحب.. شيء عادي أقبل به.. لكن أن أنسى بيتي، البيت الذي قضيت فيه كل عمري، أن أنسى البيت الذي احتواني طوال حياتي، أن أنسى المكان الذي كنت أهرب إليه من سوء هذا العالم، شيء صعب جداً علي ولا يمكنني تقبله بتاتاً.. صعب جداً حقاً، إني أفهم ما يعنيه ذلك أكثر من أي شخص، أعاني مما تعانيه وأحس بما تحس، الغربة لا تقتصر على الأوطان فقط، لا يوجد أقسى من غربة النفس، تلك الغربة التي لا تعرف فيها نفسك وتبعدك عنها. أنا : (أحاول تهدئتها) حسناً، سيكون كل شيء على ما يرام.. وصلنا للبيت شكرتني المساعدة الاجتماعية جاكلين وأخذت الأم ماريا لغرفتها لتأخذ قسطاً من الراحة. مرت ساعتان على حدوث ذلك، جاء السيد باسكال للمنزل وسألني عن الأم ماريا فقلت له أنها في غرفتها تأخذ قسطاً من الراحة وبرفقتها المساعدة. (لم أقل له أي شيء من الذي حدث قبل ساعتين، لم أكن أريد إخفاء الأمر عنه، لكني خفت أن أضع المساعدة الاجتماعية في موقف محرج، أحياناً أخطاء بسيطة تتحول لمشكلات خطيرة) لكن الخير في المساعدة والناس للناس، لا بأس في إخفاء بعض الأشياء إن كانت الأمور حلت بطريقة سليمة. باسكال : أريد أن أطلعك على بعض الأشياء قبل أن تقوم بأي خطوة.. (أخرج أوراقاً من محفظته وأعطاني إياها) ستنفعك كثيراً هذه الأوراق. قرأتها وجدت أشياء لم أكن أعلم بها، صدمت كثيراً مما رأيت.. كانت المدة التي وأنا فيها هنا، وفي المستشفى تحديداً هي سنة، ليست بضعة أيام فقط.. (اعتقدت أن النهاية اقتربت لكني أخطأت التصويب مرة أخرى، لازلت عالقاً في البداية.. أحياناً نقترب للنهاية ونكاد نخطو الخطوة الأخيرة، لكن شيء ما يعرقل طريقنا ويأخذنا لطريق آخر ولبداية أخرى) إني أشعر وكأنني أطارد شبحاً.. كانت كل تلك الأسئلة وكل تلك الآلام، وكل تلك الدموع والأحزان مجرد عنوان لرواية حزينة.