كانت سوداويتي تدفعني لإعطاء الأمل لكل شخص أرى أنه يفتقده.. أعلم جيداً ما معنى السوداوية، وأعلم جيداً ما معنى أن ترى أن كل الأبواب مغلقة ولن تفتح، أعلم ذلك جيداً.. (لقد كذبت كثيراً، لكني لا أستطيع الكذب على نفسي) لم أقدر على فتح كتاب زهراء الذي بقي معي، ربما سأقدر لاحقاً، أما الآن فلا.. ماذا سأفعل الآن؟ هل أخرج أو أظل متسطحاً؟ يبدو أنني حالياً لا أستطيع مقابلة الناس والحديث معهم، أحتاج أن أبقى وحيداً.. لكن ماذا سأفعل لا يمكنني البقاء هكذا، لا أفكر في شيء سوى الفراغ. تشجعت وقررت أن أفتح كتاب زهراء. فتحته وقررت أن أقرأ آخر صفحة فيه، وبعد ذلك سأقرأه من البداية. (اليوم زارني ملكاً طيباً وكأنه مبعوثاً من الجنة أهداني باقة ورود جميلة ولطيفة مثله، أعجب بمسرحياتي ووعدني أنه سيأخذني للمسرح كل يوم سبت، أنا سعيدة جداً بوجود شخص لطيف مثله في حياتي). كانت هذه هي آخر جملة كتبتها زهراء.. "أحيانا لا تعرف قدر نفسك إلا في عيون الناس التي تحبك وتقدر كل الأشياء التي تفعلها حتى لو كانت بسيطة في نظرك" لم أستطع قراءة شيء آخر، لأني فرحت وحزنت في نفس الوقت، حالة غريبة لكني شعرت حينها بذلك.. كنت سعيداً بأن زهراء كانت سعيدة بوجودي وفي نفس الوقت كنت حزيناً أكثر لفقدانها وعدم الوفاء بوعدي لها.. الوقت كان قاسياً علينا.. صدق من قال أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. بدأت أفكر في الهروب من المستشفى لأنه لا زال لي يومان وأنا أشعر بتحسن وحال جيد.. لا أريد تضييع الوقت بين أربع حيطان، أريد أن ألتقي بذاتي، بي، وهذا لا يمكن إلا خارجاً.. لكن يبدو أن الهروب ليس فكرة جيدة، الهروب لن يؤثر علي في شيء لأنني بلا هوية وليس هناك ما أخاف منه، لكني أحتاج إلى المساعدة لمعرفة إلى أين أتجه للحصول على هوية وجنسية.. (لا أعرف موطني ولا جنسيتي الأولى، لكني أتمنى أن أحصل على الجنسية الإسبانية وأرغب بذلك حقاً ولا أريد تضييع هذه الفرصة أبداً، ولهذا يجب علي طلب الإذن وليس الهرب.. وفي الوقت الذي أفكر فيه دخل الطبيب لفحصي، وقال لي بعد تشخيص صحتي الجسدية والنفسية أني تحسنت كثيراً.. أنا : دكتور، هل يمكنني الخروج من المستشفى حالياً؟ الدكتور : نعم، لا بأس صحتك جيدة مقارنة من اليوم الذي أتيت فيه إلى هنا.. لكن ذاكرتك ليست بحال جيد فيلزمك الكثير من الوقت لاستعادتها.. أنا : نعم، إني أحاول التأقلم مع الوضع.. لكن ما هي الأشياء التي ستساعدني كي أتذكر.. الدكتور : ذكرياتك، هواياتك، و كل شيء كنت تحبه أو تكرهه، لكن سيكون ذلك صعباً وسيتأخر قليلاً.. أنا : أظن أني أستطيع الضغط على عقلي كي أتذكر.. الدكتور : لا يمكنك ذلك أبداً، كلما ضغطت على عقلك ستضيع أكثر لأنك فاقد لذاكرتك.. أنا : وكيف يمكنني التذكر؟ الدكتور : أن تضع خططاً لأيامك وحياتك، أن تقرر من الآن ماذا تريد وماذا ستصبح؟ أن تضع أهدافاً وتسعى لتحقيقها.. هذا هو الحل الوحيد. أنا : شكراً جزيلاً.. الدكتور : عفواً، هل ستخرج اليوم؟ أنا : نعم، أود ذلك. الدكتور : (أخرج بعض النقود من جيبه و بطاقة فيها رقم هاتفه) تفضل هذه مساعدة صغيرة أتمنى أن تقبلها مني.. أنا : شكراً كثيراً على لطفك، لكني لن أقبلها. الدكتور : أنت محتاج لها، ستخرج من المشفى و ستحتاج لمأوى وأكل، قبل أن تحصل على هويتك وكل حقوقك، خذها مني واِعتبرني مثل والدك.. (لبثت صامتاً هادئاً كعادتي لكن داخلي كان يوجد وحش كاسر يكسر أي شيء أمامه ويصرخ، لقد ذكرني بأبي الذي لا أتذكره، لا أتذكر أي ذكري جميلة لي معه، هل تدرك ما معنى أن تنسى طمأنينة وسكينة قلبك؟ ما معنى أن تنسى سندك؟ أحبك كثيراً يا أبي، بالرغم من عجزي على تذكرك.. الدكتور : أعتذر كثيراً، إذا كنت لا تتذكر أبوك فأنا أبوك حتى تتذكره، أعلم أن الإنسان في وضعيتك يحتاج لعائلة و لأب يساندونه .. أنا معك حتى تتحسن. (كان الكل لطيفاً معي من اليوم الأول حتى الآن وكأنني ببلدي وسط الناس الذين يحبونني، لم استغرب فأنا في بلد الإنسانية، الناس يمشون على مقولة (الناس للناس) أنا : شكراً جزيلاً يا دكتور، أقبل بمساعدتك.. الدكتور : لقد غيرت رأيي، ما رأيك أن تمكث معي في بيتي إلى أن تتحسن حالتك الصحية والمادية؟ أنا : لا أقبل أن أكون عبئاً عليك وعلى أسرتك، شكراً جزيلاً على لطفك لكني لن أقبل.. الدكتور : بالعكس ستكون أمي سعيدة جداً بوجودك في البيت، أمي مريضة قليلاً وأترك معها دائماً مساعدة اجتماعية إلا في الليل لأنني أكون موجوداً، وأنا أغلب وقتي أقضيه في العمل، ما رأيك؟ (سيكون من الجيد أن أقبل بمساعدته، فأنا لا أعرف أي شيء هنا في هذا البلد ومكوثي معه لبضع أيام ريثما تتحسن صحتي فكرة سديدة. أنا : نعم سأقبل بمساعدتك، شكراً جزيلاً. الدكتور : لا شكر على واجب، الآن في انتظاري عملية، سآخذك بعد ساعتين، جهز نفسك.. أنا : حسناً. (هناك حياة جديدة تنتظرني لا أعلم شيئاً عنها سوى أنني حياً، لا أعلم ما الذي أريده بالضبط؟ لا أعلم ما هو حلم حياتي؟ صعب جداً أن أتذكر لأن ذاكرتي نفت كل ذكرياتي وأشيائي الماضية.. لكني سأفعل أي شيء أريده لاحقاً لأني بذلك قد أكون حققت كل ما كنت أريد سابقاً دون أن أعلم حتى) اِرتديت الملابس التي بقيت عندي، لم أجد حذائي فبقيت مرتدياً حذاء المستشفى.. جمعت كل أشيائي في الكيس البلاستيكي والتي كانت عبارة عن دمية ومذكرة زهراء. مرت الساعة الأولى ففكرت في أن أذهب لقسم مرضى السرطان لزيارة السيدة التي لم أسألها حتى عن اسمها)، ذهبت ولم أجدها، سألت الممرضة وقالت لي أنها في الحصة الكيميائية، فكتبت لها رسالة وتركتها فوق سريرها.. الرسالة (سيدتي التي نسيت أن أسألها عن اسمها أعتذر كثيراً، اليوم سوف أخرج من المشفى وسأذهب للبيت الذي قدم لي صاحبه يد المساعدة، جئت لأزورك لكني لم أجدك وقالت لي الممرضة أنك في حصة كيميائية، أتمنى لك الشفاء قريباً وأتمنى أن تكوني قوية ولا تسمحي له بهزيمتك، سأزورك في أول فرصة تمنح لي.. دمت معافاة وطيبة) مرت ساعتان. الطبيب : هل أنت جاهز؟ أنا : نعم جاهز. الطبيب : (بعد تمعنه في قدماي) لماذا لست مرتدياً حذاءك؟ أنا : لم أجده بين أغراضي. الطبيب : لا بأس سيكون لك الكثير من الأحذية في المنزل. (أخذني إلى المنزل، وعندما نزلت من السيارة بقيت واقفاً في مكاني، متوتراً، خائفاً، لأني لا أعلم ماذا ينتظرني.. تسرب الشك بداخلي، لماذا يريد مساعدتي أنا بالتحديد؟ هل يريد قتلي وبيع أعضائي؟ حتى أنه لا أحد سيعرف بذلك.. أنظر إليه وأقول في خاطري ماذا لو أن هذه الملامح الواضحة، المسالمة تخفي وراءها كل أنواع الخبث.. إني أخاف كثيراً الأشياء الواضحة لأنها تصد الشك بعيدا عنها، أؤمن أن خلف الوضوح أشياء غامضة، ماذا أفعل؟ هل أهرب أم أخاطر بحياتي؟ (عادة الأشياء المجهولة تبعث الخوف في أنفسنا حتى لو حاولنا دفنها) الطبيب : لا تخف سيكون كل شيء على ما يرام. أنا : حسناً.. الطبيب : تفضل. أنا : شكراً. (المنزل جميل جداً يحتوي على طابقين ومحاط بحديقة جميلة، ما اثار انتباهي في ذلك المنزل هو الأثاث القديم الكلاسيكي، والحوائط العتيقة، إني أنجذب لكل شيء قديم.. استقبلتنا الأم ماريا (أم الدكتور) بحفاوة وجهزت لنا العشاء و أول شيء لاحظته أن الأم ماريا ليست مريضة كما قال لي الدكتور وليس عليها أي علامة تدل أنها كانت مريضة.. وبينما نتناول العشاء سألني عن رأيي بالمنزل.. أنا : منزل رائع يا دكتور. الدكتور : إسمي باسكال.