باسكال : هل أعجبتك زهور الليمون. أنا : لقد أحببتها كثيراً، هل يمكنني الأخذ منها والإحتفاظ بها. باسكال : بالطبع خذ أي شيء تريده، هذا بيتك. أنا : شكراً. كان هناك كذلك بيت صغير في الحديقة يترك فيه سيارته ودراجتان وبعض الأغراض. باسكال : هل تعرف كيف تقود الدراجة؟ أنا : لا أعلم إن كان يمكنني ذلك أم لا. باسكال : حسناً، فلنتدرب في البحر وأنا سأساعدك. أنا : لا أريد ذلك، أعتذر كثيراً. باسكال : البحر هو السبب، صحيح؟ أنا : نعم، لا أستطيع حتى النظر إليه. باسكال : نعم أعلم ذلك، قبل قليل كنت تتحاشى النظر إليه حتى أنك البارحة لم تفتح نوافذ غرفتك، أعرف جيداً موقفك و لا ألومك، من حقك أن تخاف منه، فانت تراه بشكل غير الذي نراه نحن.. لكن هل ستظل دائماً تهرب منه؟ ستظل دائما تغلق النوافذ والأبواب وعيناك كي لا تراه؟ ستبقى طوال حياتك مختبئاً لا تريد مواجهته؟ أنا : بلى، لكني لا أريد الغرق مرة أخرى. باسكال : لقد غرقت فيه قبل ذلك ولم يقع لك أي شيء، أنظر أنت بخير و لم تمت، لقد تحديته و ربحته. أنا : إني أغرق في كل يوم و في كل دقيقة لا أكاد أتذكر فيها شيئاً، لا أعلم من ربح الثاني لكنه أخذ مني كل شيء و يحاوطني من كل إتجاه، إني لا أتذكر شيئاً. هل تدرك ما معنى ألا تتذكر شيئاً؟ أن تكون لا تعلم شيئاً عن نفسك؟ غريب وفاقد لكل شيء في أرض لا أعلم عنها شيئاً، لولا مساعدتك لا أدري أين كنت سأكون. باسكال : لهذا السبب عليك مواجهته لا الإختباء منه، ليس لديك شيئاً لتخسره الآن. أنا : فعلاً ليس لدي شيء لأخسره بعد الآن، لأني قبل ذلك نسيت كل شيء، لا يهمني شيء بعد الآن، لا أخاف من الموت حتى ولن يرعبني البحر بعد الآن. خرجت مسرعاً وعبرت الشارع مثل المجنون، كان السيد باسكال يتبعني لكني كنت أسبقه بكثير، وقفت أمام البحر، بدأت أصرخ عالياً ثم شرعت في الدخول للبحر والاِستسلام له، يحاول السيد باسكال أن يمنعني لكنني لا أجيبه وكلما حاول الإقتراب أكثر أبعد أنا أكثر، كنت أود الغرق مرة أخرى وإذا بي أسمع صوت بكاء قريب مني، فنسيت أني كنت اود الغرق وشرعت في البحث عنه، وجدت طفل صغير يسبح ويبكي، أول ما رآني طلب مساعدتي وقال لي لا تتركني للبحر، لا تدعني أموت. أتذكر جيدا هذه اللحظة، كانت أقسى لحظة رأيتها على الإطلاق، ساعدته وأخرجته من البحر، جلس وشرع في البكاء، طفل صغير بعمر العاشرة أو الحادية عشر سنة يهاجر من بلده وحول خصره قنينات فارغة كي لا يغرق في البحر ويبكي، مشهد يختصر لك كل المعاناة البشرية على مر العصور، طفل صغير فقط، كان مشهد مؤلم جداً لن أنساه ما دمت حياً، بكيت معه كثيراً، كنت أشعر أن قلبي يتمزق، كان يبكي كثيراً حاولنا أنا والسيد باسكال أن نزِيح عنه القنينات. أنا : لا تبكي يا صغيري، سيكون كل شيء بخير. الطفل : مات أخي، ماتوا كلهم. أنا : لكنك وحدك. الطفل : لا، لقد كنا سبعة أشخاص مهاجرين، غرقت بنا السفينة.. لم أكن أظن أنني سأنجو. (كل يوم وكل ساعة يدخل الكثير من المهاجرين الإفريقيين البحر ليهاجروا لإسبانيا، هناك من يصل وهناك من يموت في البحر، يخاطرون بكل شيء، بعائلاتهم، بأنفسهم، بحياتهم.. لا يخافون من شيء ولا يهمهم إن ماتوا أو لا، لا أعلم أي نوع من الحياة يعيشوها كي يفعلوا ذلك، كيف يراهنون على شيء يعتمد على الحظ و من الممكن في أي لحظة أن يخسروا كل شيء) باسكال : فلنذهب للبيت. ذهبنا ثلاثتنا وغيرنا ملابسنا المبلولة. الطفل : أشكرك على إنقاذك لحياتي. أنا : وأنا كذلك، مدين لك بحياتي. الطفل : لم أفهم. (كنت أريد أن أنتحر فجاء هو، عندما سمعت صوت بكاء لم أستطع تجاهله، تشبثت بالحياة مجدداً كي أساعد الغير الذي بدوره أنقذني). انا : لا بأس، ما إسمك يا صغيري. الطفل : إسمي عمر. (عادة ما أطرح الأسئلة كثيراً، لكني لم أرِد أن أطرح عليه أي سؤال آخر، لأنني رأيت ما فيه الكفاية في عينيه، عينيه حينها قالت كل شيء، يا ترى ماذا يحدث في وطن حتى صغاره يهاجرون عبر البحار؟ كيف نقنعه بعد ذلك بحب الوطن والتضحية لأجله؟ إنه لمن الظلم والآنانية أن نتحاسب معه مستقبلاً إن اختار بلداً أخرى على حساب بلده، إنه من العيب والعار أن نعطي دروساً في الوطنية و نحن نفتقدها. باسكال : لا تخف يا صغيري سنساعدك. عمر (الطفل) : شكراً جزيلاً. (لم يكن قادراً على الأكل وهذا طبيعي جداً، عندما يحزن الإنسان أو يفقد شيئاً، يفقد شهيته معها) أنا : هل تود أن ترتاح قليلاً وتنام؟ عمر : نعم، أود ذلك. باسكال : حسناً، سأرتب لك غرفة في الحال. أنا : لا بأس يمكنه أن يرتاح في غرفتي الآن إذا سمحت لي بذلك.. باسكال : نعم، تفضل. أوصلته للغرفة، نام فوراً، كان متعب جداً لاحظت ذلك منذ أن وجدته في البحر. (الأشخاص المتعبين مختلفون عن الغير، في نظراتهم، ونظرتهم للحياة، في كلامهم ونبرات أصواتهم، إني أعرفهم جيداً لأنني وبكل بساطة واحداً منهم) أطفأت الآنوار، خرجت من الغرفة ونزلت للأسفل. باسكال : لم تأكل شيئاً من الصباح. أنا : سآكل لاحقاً، شكراً. خرجت للحديقة لاِستنشاق هواءً نقياً، جلست تحت شجرة الليمون متأملاً البحر. باسكال : حاول مجدداً. أنا : لا أفهم ماذا تقصد؟ باسكال : أركض للبحر واِنتحر، هذه المرة لن يعيقك شيئاً، ولن يوقفك أحداً. أنا : أعتذر كثيراً على ذلك. باسكال : تعتذر مني، الجبناء يعتذرون دائماً عندما لا يكون لهم مبرر مقنع.. لا أعلم كيف خطر ذلك على بالك من الأساس، لم أكن أدرك أنك شخص غبي وضعيف.. (لم أقل كلمة واحدة، بقيت صامتاً لأن كل ما قاله صحيح. كل شيء كان قاسياً هذا اليوم حتى كلمات السيد باسكال. لقنتني الحياة ذلك اليوم درساً لن أنساه طوال حياتي، حتى أنني شعرت بالقرف والضعف والشفقة على نفسي، لأنني وبكل بساطة يئست وليس من حقي ذلك أبداً. كنت أريد الموت وكنت ذاهباً إليه بقدمي ومن جهة أخرى طفل صغير فقد كل شيء ولازال متمسكاً بالحياة ولا يريد الموت، معادلة صعبة جداً، كنت أشفق على نفسي كثيراً، لأني لا أتذكر شيئاً. هل تدرك ما معنى أن تنسى كل حياتك وذكرياتك؟ حالي مثل حال الكاتب الذي دون كتابه في حاسوب وسرق منه، حالي مثل حال الرسام الذي رسم لوحة في أعوام كثيرة وسكب عليها شخصاً مجنوناً كوب قهوة. قطعت الشارع، ذهبت للبحر، تمشيت في رماله، بللت رجلي في ماءه، بالرغم من ذلك لم أكن أرى شيئاً غير الظلام والسواد. كنت أحس أنني شيئاً لا قيمة له ولا معنى له، ولا أحد يحبني، كان هذا قاسي جداً علي.. لا أصدقاء، لا عائلة، لا أقرباء، لا شيء.. فجلست للمرة الثالثة على التوالي أبكي، بكيت كثيراً، حتى شعرت بيد دافئة فوق كتفي، لقد كان السيد باسكال. باسكال : تبكي مع الباكين، وأنت تبكي وحدك؟ أنا : إني متعب كثيراً. باسكال : أعلم ذلك جيداً، أعتذر منك كثيراً على قساوتي، قلت لك ذلك الكلام لمصلحتك فقط، لا أريدك أن تفقد الأمل، أريدك أن تحارب لآخر نفس، لا أريد لليأس أن يستولي عليك.. وأنت لست وحيداً، أنا معك دائماً سواء في النور أو في الظلام، سواء كنت واقفاً أو ساقطاً على ركبتيك، محقاً أو مخطئاً سأكون معك، سأضحك معك حين تضحك وسأبكي معك حين تبكي، سأكون دائماً بجانبك. (هو لم يكن قاسياً معي وحتى كلماته، بالعكس هو كان يريد فقط مصلحتي، أنا كنت في وقت حرج وحساس لذلك جرحتني تلك الكلمات، لكني تفهمت كل شيء فهو مثل باقي الآباء الذين يخافون على أبناءهم بالرغم أنني لست إبنه) أنا : شكراً جزيلاً. باسكال : لا شكر بيننا، الجو بارد هنا و لم تأكل شيئاً من الصباح فلنذهب للمنزل. أنا : حسناً. ذهبنا وتناولنا طعامنا.. كانت بصحبتنا الأم ماريا وهي هادئة تتأمل بعض الصور في الألبوم.