Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل الرابع

أنا : حسناً.. الام ماريا : و أخيراً جئت.. هذا السؤال بعث في قلبي خوفاً أكبر من الخوف الذي احتلني قبل دخولي.. هذه الكلمات أكدت لي أن كل شكوكي في محلها.. ما معنى أن يقول لك شخص لا تعرفه، وأخيرا جئت؟ باسكال (الدكتور) : نسيت أن أخبرك بأن أمي مصابة بمرض (الزهايمر).. أنا : بالشفاء العاجل، هل هي مثلي؟ باسكال : شكراً، لا ليست مثلك.. هناك فرق بينكم.. أنا : ما هو الفرق؟ باسكال : أنت فاقد لذاكرتك ولذكرياتك و مع الوقت ستستعيدها، أما هي فلا، تخونها ذاكرتها وذكرياتها دائماً.. أحياناً تخرج وتنسى طريق بيتها ومرة أخرى تسأل عن أشخاصاً ماتوا، تنسى أين تضع أغراضها، فتضطر دائماً على تدوين كل شيء في مذكرتها فهذا يساعدها قليلاً.. باسكال لأمه : أمي هذا الشخص كان مريضي و أنا أود مساعدته، سيبقى معنا. الام ماريا : أهلاً بك معنا. (وطلبت من السيد باسكال أن يدون لها ما قاله كي لا تنسى) أنا : شكراً. تخيل أن تخرج للشارع وعندما تريد الرجوع تنسى طريق البيت فتجلس على الرصيف وتبكي ويأتي الناس لمساعدتك فيطلب منك واحداً منهم رقم هاتف إبنك أو زوجك، وأخر يسألك عن اسمك، وأنت لا تتذكر منهم أي شيء، لا تعلم شيئاً عن نفسك.. الغربة المرة هي أن تنسى من أنت، تنسى من تكون.. باسكال : سآخذك لغرفتك إن كنت تريد أن تأخذ قسطاً من الراحة؟ أنا : نعم، شكراً.. باسكال : هذا منزلك أيضاً، لا تشكرني.. (أوصلني للغرفة كانت جميلة كأي غرفة نوم، لكن كانت مظلمة وكل الشبابيك كانت مقفولة.. أحب الظلام كثيراً لكني أخاف من ظلام لست معتاداً عليه. انا : هل يمكنني فتح النوافذ؟ باسكال : طبعاً، هذه غرفتك إفعل فيها ما شئت، وخذ ما شئت من الخزانة فهي لك. أنا : حسناً، شكراً.. باسكال : طابت ليلتك.. أنا : تصبح على خير. أخذت ملابس مريحة من خزانة الملابس واستحممت كي أرتاح أكثر وبعد ذلك بقيت أتفقد الغرفة، كان كل شيء نظيفاً وجميلاً، لكن يبدو أنها كانت ملكاً لشخصاً آخر لأنه لا زال فيها الكثير من الأغراض، لماذا أتواجد في هذه الغرفة وهي ملك لشخص آخر؟ فتحت النوافذ لكن سرعان ما أغلقتها، ما رأيته كان بشعاً، كان البحر أمامي، لم أرِد التفكير في الأمر حتى.. غفوت ونمت لأنني كنت مرهقاً مثل عادتي، عادة ما أنام وأنا مرهقاً ومتعباً بالرغم من أنني لا أفعل أي أعمال شاقة، أتعب من الداخل، أرهق من خلال ما يدور في ذهني من أفكار وتساؤلات.. نهضت صباحاً وكان يوم الأحد، عادةً أول شيء أفعله عندما أستيقظ من النوم هو الوقوف أمام النافذة والتأمل في الجو خارجاً.. لكني هذه المرة لم أفعل بالرغم أن الجو سيكون جميل والحديقة ومناظرها الطبيعية الخلابة، لكن البحر أفسد كل شيء.. الكثير من الناس تحب البحر وترتاح عندما تذهب إليه، لكن أنا لا، مجرد تذكر إسمه يرعبني.. (هناك من يطرق الباب) باسكال : صباح الخير. أنا : صباح الخير. باسكال : كيف كانت ليلتك، هل نمت جيداً؟ أنا : نعم نمت وارتحت كثيراً. باسكال : جيد، يوم الأحد هو يوم إجازتي، أريد أن أطلعك على الكثير من الأمور إذ أردت ذلك. أنا : نعم، أريد ذلك. باسكال : حسناً، لكن قبل ذلك علينا النزول لتناول الفطور ستكون الوالدة في انتظارنا. (نزلنا ووجدنا الأم ماريا في انتظارنا على مائدة الإفطار) أنا : صباح الخير. الأم ماريا : صباح النور (جرتني من يدي و همست في أذني، لقد رأيتك تتسلل البارحة في الليل للمنزل متخفياً، أين كنت؟) أنا : كنت سهراناً مع أصدقائي. الأم ماريا : إبتسمت وقالت لي أنها لن تقولها لأبي. كانت تظن أنني حفيدها أو إبنها لم أرد تذكيرها كي لا تحزن، جاوبتها بكل تلقائية وكأنني أنا المقصود. بعد أن إنتهينا من تناول الفطور، إقترح علي السيد باسكال بأن نتجول في البيت لاِستكشافه فوافقت على الفور.. باسكال : ما رأيك أن نبدأ بالحديقة أولاً؟ أنا : نعم، لكني أريد أن أرى المنزل أولاً.. (كنت أريد أن أهرب ولو لبضع دقائق، لكن إلى أين سأهرب وهو محيط بي من كل الجوانب، إلى أين سأهرب وأنا كلما استدرت ألقاه، لا مهرب لي من البحر) باسكال : حسنا، نبدأ بالطابق الأول؟ أنا : حسناً. (كان الطابق الأول يحتوي على ثلاث صالات جلوس وكل صالة أجمل من الأخرى، يطلون كلهم على الحديقة، ويتزين بأثاث كلاسيكي قديم من الطراز الرفيع، وكذلك مطبخ كبير وبجانبه غرفة المؤن وبعض الغرف الخالية بحمامتها. باسكال : هل أعجبك الطابق السفلي. أنا : نعم، كثيراً. باسكال : هل نصعد للأعلى؟ أنا : حسناً. (يحتوي الطابق العلوي على ثلاثة غرف متقابلة بحمامتها، واحدة للسيد باسكال والثانية للسيدة ماريا والأخيرة كنت فيها أنا، وتتوسطها غرفة جلوس راقية، وبالجانب كانت هناك غرفة مقفلة.) باسكال : هذه الغرفة فيها الكثير من الأشياء التي تعني لي الكثير، هل تريد رؤيتها؟ أنا : نعم.. (أخرج المفتاح من جيبه وفتح الغرفة، عادةً الغرف التي تكون مقفلة في المنازل أول شيء تجده عند الدخول هو الغبار، لكن هذه لا، لابد أنه يقضي معظم وقته هناك ويحرص على نظافتها.. دخلنا، كان كل شيء مرتب وفي مكانه.. كانت الكثير من اللوحات التشكيلية الجميلة والمخيفة هناك، نعم مخيفة كثيراً وغريبة بعض الشيء.. صاحب اللوحات كان يريد أن يخرج ما بداخله إلى الخارج ليبعث لنا أشياءً عميقة عن طريق لوحاته.. صاحب هذه اللوحات كان يريد أن يقول الكثير لكنه لم يقل شيئاً وبدأ في الرسم ولوحاته قالت كل شيء.. لا أعلم في الفنون التشكيلية شيئاً ولا أقدر حتى على رسم طائر لكن حين أرى أي لوحة كيف ما كانت أعرف ما الذي يريد أن يثبته صاحبها وفيما كان يفكر وما هو غرضه من ذلك.. (من المستحيل أن يرسم لك فنان لوحة، أو كاتب يكتب لك كلمات، لا تعني لهم شيئاً) كانت هناك الكثير من اللوحات المعلقة على الحائط وبيانو قديم في زاوية الغرفة، لقد أثار انتباهي كثيراً ولم أستطع إنزال عيناي من عليه، وكان هناك مكتب متوسط الحجم يوجد فوقه جميع أنواع أوراق الرسم والاقلام والصباغة، كان مبعثراً بعض الشئ وكان من وراءه شيئاً كبيراً مغطى بستار، لابد أنه لوحة كبيرة.. لكن لماذا هي اللوحة الوحيدة المغطاة بين الكل؟ أنا : ماذا يوجد هناك؟ باسكال : لوحة كبيرة، هل تريد أن تراها؟ أنا : نعم، كثيراً.. أزاح الغطاء من على اللوحة... (لبثت صامتاً أمام تلك اللوحة أدقق في كل زاوية منها وفي كل جزء منها) واقفاً أنا أمام تلك اللوحة الرهيبة أدقق في كل أجزائها، كان كل جزء أفضل من الآخر، مصدوماً أمامها ليس فقط من الإبداع التي تحتوي عليه بل حتى من الموضوع والألوان وكيفية دمجهم معاً.. كانت ألوانها غامقة لدرجة لا توصف... اللوحة عبارة عن بحر لونه أزرق غامق اللون مائل للأسود وجميع الناس فيه غرقى، هناك من كان مستسلماً يكاد يطفو فيه، وهناك من كان يشير بيده طالباً النجدة، وكان شخص واحد فقط على حافة الشاطئ ينظر إلى المدى البعيد لا يحرك ساكناً ويبتسم.. كانت السماء حالكة الظلام لا يوجد فيها قمر أو نجوم. (في الليلة الظلماء يفتقد البدر) لم أستطع إنزال عيني عن تلك اللوحة، كنت أشعر وكأنني واحد من أولئك الغارقين.. أنا : ما موضوع هذه اللوحة؟ باسكال : مواضيع، ليس موضوع واحد. أنا : ماذا تقصد؟ باسكال : تجمع عدة مواضيع، و كل شخص يرى فيها نفسه لكن كل واحد منا بشكل مختلف عن الآخر.. أنا : أنت من رسمت كل هذه اللوحات؟ باسكال : لا لست أنا. أنا : ومن رسمها (أعلم أنني سألتك كثيراً أعتذر كثيراً لفضولي، هذه اللوحات الجميلة أثارت انتباهي وفضولي) باسكال : رسمها ابني وهو حاليا ليس موجوداً، مات منذ سنتان.. أنا : تعازي، اعتذر كثيراً لأني قمت بتذكيرك. باسكال : لا تعتذر، فأنا بالأساس لا أنسى. (الناس الذين يحبوننا يحتفظون بأشيائنا ولا نفارِق ذاكرتهم). أنا : لهذا أنت تحب هذا المكان ومازلت تحتفظ بهذه اللوحات الجميلة. باسكال : نعم إنه يذكرني بذكرياتي مع إبني وبالأشياء التي كان يحبها، هذا هو المكان الوحيد الذي أشعر فيه بأن إبني لم يمت ولازال موجوداً.. (لم يستطع إخفاء حزنه هذه المرة سقط على الأرض وبدأ يبكي، سقطت على الأرض، عانقته وبدأت أبكي معه.. لم يكن بوسعي فعل شيء آخر غير هذا، أو ربما لأنني أشعر بنفس الوجع الذي في داخله، كان يبكي لأنه مفتقد لاِبنه، وأنا كنت أبكي لأني مفتقد لأبي. أنا : سيد باسكال أنا سأساعدك في النهوض، فلننهض. باسكال : منذ رحليه و أنا لا أستطيع النهوض، منذ رحيله و أنا مكسور الرجلين. (فقدان الناس الذين نحبهم يضعفنا ويكسرنا كثيراً حتى لو كان واضح على وجوهنا العكس، نضطر إلى لبس الثياب الجميلة والراقية كي نغطي على تعاستنا، نصر على أن نكون أناس اجتماعيين لأننا لا نريد شفقة الناس علينا، نحب اللطف لأن الحياة كانت قاسية معنا بما فيه الكفاية، نتعامل بلطف كي يطبطب الله على قلوبنا) ساعدته في النهوض ومسحنا دموعنا. باسكال : أعتذر كثيراً، لم أكن أود أن تراني في هذه الحالة. أنا : لا بأس نحن مجرد بشر، لا حيلة لنا، والناس للناس. باسكال : شكراً، أعتقد أننا تجولنا البيت بأكمله، الآن حان الوقت للتجول في الحديقة. أنا : حسنا (لم يكن لدي مبرر آخر لتجنب الخروج من المنزل). نزلنا للحديقة كان بيني وبين البحر الرصيف فقط لكني كنت أتحاشى أن أمد عيناي بعيداً.. الحديقة كانت جميلة فيها الكثير من الزهور بأنواعه وفيها كذلك ثلاثة أشجار، شجرة البلوط العالية و شجرة التوت و شجرة الليمون ، شجرة الليمون المزهرة بالزهور البيضاء ذات الرائحة الطيبة.. نزلت تحت الشجرة الليمون وأخذت زهرات منها وأخذت أشمها وأنا مغمض عيناي، لقد أخذتني لعالم اخر.. كنت أشعر وكأن الماضي قريب مني كل القرب، كان قلبي يرفرف مثل أجنحة طائر رفراف.

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514