*بداية سعيدة*في صالة الاستقبال بمكتب المُحاماة بإحدى المناطق المتوسطة هَبَّت تلك المرأة التي يبدو عليها نفاد الصبر واضحاً لتتجه إلى موظفة الاستقبال هاتفة بِنَزَق:_هل سننتظر كثيراً بعد؟! لقد سمحتِ لتلك المرأة بالدخول قبلنا رغم أننا على موعد مع الأستاذ، هل أنتِ جديدة التعيين هنا أم ماذا؟حدَّقت دينا بالمرأة التي تقف قُبالتها برُعب ثم انحدرت نظراتها إلى السلاسل الذهبية الضخمة التي تتدلى على صدرها ، ثم انتقلت إلى ذراعيها المُثقلين حتى المرفقين بالأساور الذهبية وتساءلت في نفسها:"كيف تتحمل وزنهم؟!"_هل أنتِ صَمَّاء؟! حمحمت دينا بقلق وهي تتهرب من عيني المرأة المُخيفتين ثم ردَّت بتوتر:_الأستاذ ماجد سيُقابل حضرتك بعد أن تخرُج المُوكِّلة بالداخل.هنا اتسعت عينا المرأة بطريقة أكثر إرعاباً وهي تشيح بيدها في وجهها قبل أثناء هتافها بها:_الفتاة التي كانت تعمل هنا قبلك كانت نشيطة وذكية، بينما أنتِ بطيئة وتُثيرين الأعصاب وأنا أتحمل نفسي بصعوبة هذه اللحظة، أنصحك بالتركيز قليلاً فأنتِ لا تُريدين أن تتعرضي لغضب أحد من.. الزبائن!وعندما تأمَّلت دينا وجوه "الزبائن" وجدتهم جميعاً ينظرون إليها بفضول؛ وبعض التحذير؛وبعض السخرية؛وبعض الـــ... خُبث!! وها هو الرجل ذي الجرح الطولي بوجهه ينظر إليها بطريقة أثارت الامتعاض في نفسها مُقترِناً بالخوف الشديد. لقد مرت أربعة أيام منذ أن بدأت بالعمل في مكتب الأستاذ ماجد المُحامي بعد التوصية التي حصلت عليها عن طريق حمزة، وعلى العكس من توقُعها أنها ستستفيد بدراستها الحقوق فوجئت به يشترط عليها العمل بمكتب الاستقبال لفترة قصيرة أولاً حتى تُهييء نفسها للــ"زبائن" الذين ستتعامل معهم مُستقبلاً..وقد أبدت رفضاً قاطعاً في باديء الأمر مُستهجنة فكرة انحدارها إلى تلك المرحلة وظناً منها أن حمزة قد أكد على تخطيها لتلك المرحلة، لكنها لم تلق سوى اللامبالاة والأستاذ ماجد يعتذر لها بلباقة.وهكذا وجدت نفسها باليوم التالي تتجه إلى المكتب مُبدِية استسلامها واستعدادها إلى تسلُّم مهام وظيفة الاستقبال بعد أن أخبرها أبيها _الذي يتحمل رؤيتها بصعوبة_ أنها يجب أن تبدأ بالاعتماد على نفسها وتُلقي التدليل الذي تشرَّبته حتى عُنُقها خلف ظهرها.وعندما حاولت التواصل مع أمها التي تقيم لدى خالها نهرتها آمرة إياها بعدم الاتصال بها ثانية لأنها ستظل إلى الأبد غاضبة عليها.وهكذا وأدت أملها في استقبال خالها وزوجته لها لتتقبل رغماً عنها معاملة والدها الجافة.ومشكلتها الحقيقية حتى الآن أنها للأسف لم تعتد نظرات هؤلاء الـ.. زبائن!!استيقظت على قُبُلات رقيقة حانية تناثرت على جيدها ووجنتيها، فابتسمت ثم فتحت عينيها لتجده يُناظرها بِعِشق وهدوء يتناقضان تماماً مع غضبه الذي كان كامناً بكل خلجاته منذ ساعات. رَفَع يدها إلى شِفتيه مُقبلاً إياها ثم هَمَس بأذنها: _شكراً حبيبتي.انعقد حاجباها بتساؤل مُستعيدة كل عبارات الشُكر والامتنان التي لم يتوقف عن التلفظ بها منذ الليلة الماضية فابتسمت بِرِقة ثم قالت مُحاوِلة التغلب على خجلها:_علام تشكرني منذ الأمس ساري؟ جذبها إلى صدره قائلاً بِنبرة رخيمة هادئة:_أشكرك لأنكِ خلصتني من عبء أثقل كاهلي لسنوات، أشكرك لأنكِ ظهرتِ بحياتي لتمنحينني حُباً لم أكن أنتظره مُطلقاً، وأشكرك لأنكِ ستمنحينني المزيد كما أثق.أغرقت نفسها بداخل أحضانه ثم سألته بعد قليل بِصوت مُتَوَجِّس: _هل ننصرف من هنا؟رَفَع وجهها إليه وابتسم قائلا بِصِدق:_اطمئني رهف، أنا أريد أن أبدأ بسلام معك، لا أريد الانشغال بأي أحقاد أخرى.ابتسمت بِحنان ثم سألته باهتمام:_وماذا ستفعل في هذا المنزل؟ظهر التفكير على وجهه لِدقائق ثم قال بِحزم:_سأبيعه، سأتحرر منه إلى الأبد.اتسعت ابتسامتها أكثر ثم اشرأبت بعنقها لِتقبل جبهته وهي تقول بلهجة واعدة:_سأعوضك ساري عن كل عذاب وكل ألم، ستنسى كل ما فقدت هنا، ستعيش بِسعادة تفوق أي حُزن سبق أن تعرضت له، هذا الماضي الذي تسبب بِجراحك الغائرة سيمحوه حاضرنا ثم مستقبلنا معاً.تعلقت عيناها بعينيه واستأنفت بِتَمَنِ حالِم:_بيت سعيد، أطفال مشاغبون، بِعيون خضراء... قاطعها مُكملاً نفس الوعد:_وأهداب مُشعثة!أومأت برأسها إيجاباً وابتسامتها تتسع أكثر هامسة:_وأهداب مشعثة!صمت قليلاً ثم تسللت يده إلى وجنتها وقال: _أحياناً أفكر بدهشة في كيفية وصولك إليّ سالمة بعد كل هذه الوقت، أراقبك منذ سنوات باهتمام كابنته فقط لا غير، تعرضتِ للكثير والكثير لكن لم يُصِبكِ أذى.ثم التهم ملامحها بِعينيه مُتابعاً:_أتساءل هل كان هناك شيء بداخلي يعلم أنكِ لي؟، أن اهتمامي بكِ يتعدى اعتقاداتي؟، أنني لن أسمح بوقوع أي أذى لكِ؟، ليس لأنكِ رهف من ستحقق هدفي، لكن لأنكِ رهف من ستصيرين يوماً زوجتي. وَضمَّها مرة أخرى متسائلاً بندم:_هل كنت أهرب؟! هل كنت أعمى؟! هل أدركك قلبي منذ الأزل ولم يفعل عقلي إلا حينما قابلتك بالشركة؟ أو.. أو ربما حينما استمعت لِصوتك الهاديء بالهاتف؟ثم أضاف بِلوم مصطنع: _عندما نعتيني باللص!تعالت ضحكاتها المستمتعة فارتسم الغيظ على وجهه لتعتدل هي قائلة بِصِدق:_لا أهتم متى حدث ذلك ساري، أنا أعلم أنكَ قد صِرت حبيبي الوحيد منذ أن رأيتك للمرة الأولى، وهذا يكفيني.ثم أضافت بِمرح: _ومنذ أن طلبت مني بعض الدروس الخصوصية. شَعَّ وجهه بابتسامة ماكرة ويده تتجه إلى كتفها ببطء قائلاً بخفوت:_على ذكر الدروس الخصوصية، هناك نقطة هامة لم أستوعبها جيداً وأريدك أن تعيديها عليّ مرة أخرى. ارتفعت ضحكاتها التي شابها بعض الخجل ثم سألته باستنكار:_ألم تمل دروسك هذه يا ساري؟لكنه كان اجتذبها إليه تماماً ثم نظر إليها بجرأة هامساً:_أي ملل حبيبتي؟! ربما سأطالبك ببعض فصول التقوية الإضافية أيضاً، تعلمين أنني مُجتهد جداً وأحب التركيز جداً! ما إن أجابت سما هاتفها الذي تعالى رنينه منذ دقائق حتى صدح صوته في أذنها مُنزعجاً.. مُصمماً:"أنا أريد الزواج سما!"اتسعت عيناها بذهول وهي تتشرب عبارته ثم ما لبثت أن هتفت به حانقة:_أتريد الزواج عليّ عاصم؟! منذ الآن؟! بِمَ قَصَّرت أنا معك؟! هكذا أنتم الرجال..قاطعها حانقاً أكثر:_وهل تزوجتك أنتِ بعد؟!تداركت تسرعها وحمحمت بِحرج ثم قالت:_كنت.. كنت أمزح فَحَسْب، ماذا تعني إذن؟!هدأت نبرة صوته وهو يقول بتفكير:_بعدما مَرَّ الزفاف بالأمس _للغرابة_ على خير أجد نفسي أرغب بالزواج منكِ في أقرب وقت!شاركته تفكيره..ورغبته، متسائلة:_لكن كيف سنفعل ذلك؟ لايزال أمامنا وقت طويل كي ننتهي من تجهيز الشقق الثلاث.زفر بضيق وقال بِنزق:_لا أعلم سما، لكن لا يعقل أن يتزوج ساري ثلاثة مرات وأنا أكتفي بالمشاهدة، حتى سارة تبدو أنها ستوافق على الزواج من ذلك الطبيب، وهكذا يعيش الجميع في سعادة وهناء بينما أنا أظل متمسكاً بحلقة فضية في خنصري الأيمن لم أكتشف مدى أهميتها إلا مؤخراً! وتابع بغيظ:_لقد شقيت أكثر منهم جميعاً وهذا ليس عدلاً! تعالت ضحكتها المستمتعة في أذنه فابتسم رغماً عنه قائلاً بنبرة مُشاكِسَة:_يا للضحكة الرقيقة يا سما! من أين اختلقتِها؟!عَضَّت على شفتها وقالت بخفوت:_أنا بالأصل رقيقة يا عاصم لكنك من تدفعني إلى إخفاء ذلك معك. واكتسبت لهجته مكراً غريباً بالنسبة له فقال:_لا تفعليها ثانية إذن!ثم تابع هامساً:_أو افعلي! أنا أحبك بجميع حالاتك.وأضاف مستغلاً احتباس كلماتها النادر: _أحب سما الرقيقة التي يتورد وجهها الآن بخجل وأنا لا أستطيع رؤيتها.واستطرد مازحاً:_وأحب سما سليطة اللسان التي تتعمد إزعاجي كلما واجهتني.وبنبرة امتزجت بها السعادة بالدهشة سألته:_ماذا بك عاصم؟ لم أعتد منك على هذه الكلمات العاطفية!تظاهر بالحنق هاتفاً: _إنها المشاعر الجميلة المتبادلة سما! هل نسيتِها؟!وعادت ضحكتها مرة أخرى فاستأنف باهتمام شارداً:_يبدو أن حفل الزفاف الأخير كان به فأل حَسَن للجميع فعلاً، منذ استيقظت وأنا أرغب بالتغزل بكِ بلا داعِ، حتى أنني أشعر بالاشتياق إليكِ أيضاً.زاد خجلها بينما قالت بصوت متقطع:_لقد.. كنا سوياً منذ عدة ساعات فقط عاصم. ابتسم بلؤم ثم ردد بخفوت:_لقد أخذت إجازة من صديقي المزعج وتفرغت لكِ، وعدتك أنني سأبهرك وسأفعل، أحضري دفتراً وسجلي كل كلمات الغزل التي سألقيها على مسامعك، واستعدي لتُذهلي بأي رجل حالم ستتزوجين، كما أن....وعندما بتر عبارته انتظرته بحماس طال قليلاً، ولما شعرت بالقلق جراء صمته سألته:_ماذا هناك؟ استمعت إلى صوته المتوتر قائلاً:_إنه ساري أرسل لي رسالة، انتظريني سأرى ماذا هناك!وحينما التقط السماعة المستقلة ووضعها على أذنه، فتح الرسالة ليجُّز على أسنانه بغيظ بينما يقرأ الكلمات بها:"عاصم! أحضر سيارتي إلى ذلك البيت بالحي القديم، أنا ورهف هناك منذ الأمس وسنذهب إلى مكانٍ ما، ولا أريد استخدام سيارة أجرة!"وعندما أنهى قراءة الكلمات تمتم بكل غيظه: _لا حول ولا قوة إلا بالله! أعلم أنني لن أتخلص منه أبداً! والتوتر بات من نصيب سما التي سألته بسرعة: _ماذا حدث عاصم؟ هل هو ورهف بخير؟تأفف متأوهاً ثم قال بدهشة:_لا أعلم، لكن أخبريني أنتِ ماذا يجعل شخصين لديهما خلية ذهنية واحدة يقضيان ليلة زفافهما بمنزل قديم متهالك ذي قبو لن أعجب مُطلقاً إن كان مسكوناً بالأشباح؟!زفرت براحة بينما تابع هو متهكماً: _والآن العريس يريدني أن أحضر له سيارته إلى هناك! خاطبته برفق قائلة:_اهدأ عاصم، ما يهم أنهما بخير. ومن بين أسنانه تحدث:_دوماً ما يكونا بخير سما، دوماً ما يكونا بخير، وأنا وحدي من أعاني بسببهما.وبحنق أضاف: _حتى في اللحظة التي أردت أن أغازلك بها قاطعني ذلك الوغد الذي سألقي له بسيارته أمام ذلك الوكر ثم سأقطع علاقتي به اليوم حتماً و...!وعندما بتر عبارته ثانية عاد القلق إليها ثانية وهي تسأله:_ماذا هناك؟لم يرد وهو يحدق في الرسالة الأخرى التي جاءته حاملة اسم سارة:"عاصم! أمي ترفض حضور حمزة وأهله رفضاً قاطعاً، يجب أن تتحدث معها وتخبرها أنني لن أتزوج سواه!"وبابتسامة واسعة لا يشعر بها حقاً ردد:_أهلاً وسهلاً.. أهلاً وسهلاً، ها هي المجنونة شقيقته ترسل لي لتخبرني أن والدتها ترفض ذلك الطبيب الذي يتظاهر بالوقار وتطلب مني التدخل لإقناعها.ثم ضرب قبضته بفراشه متسائلاً باعتراض: _لماذا يحدث لي ذلك؟! هما أصلاً ليسا ابني خالتي حقَّاً! وعادت ضحكتها أيضاً قائلة بهدوء سببه كلماته الرقيقة برغم قلتها:_اذهب أنت إلى العروسين وأنا سأهاتف سارة الآن لأفهم ماذا حدث.مط شفتيه بضيق ثم قال مستسلماً: _سأفعل! لكن تذكري جيداً أنني حاولت أن أصير عاطفياً لكن الظروف كلها قد وقفت ضدي!وأنهت المكالمة فَهَمَّ بارتداء ملابسه ليرتفع صوت وصول رسالة أخرى، ورغماً عنه صاح غاضباً:_ماذا هناك هذه المرة؟! هل قامت الحرب ويطلبونني على الجبهة؟!لكن حاجباه انعقدا دهشةً ثم ابتسم فجأة وهو يقرأ الكلمات القليلة بعينيه.. ذات الأثر العظيم في قلبه..:"عاصم! أنا أحبك جداً!"وبعدما أعاد القراءة مرتين اتسعت الابتسامة وهو يعلق بزهو: _وهكذا تكون الرسائل.. وإلا فلا!شَبَّكَت أصابعها بأصابعه بعد أن قام بإيصاد باب المنزل جيداً وتقهقر إلى الخلف في صمت حتى وقفا أمام سيارته التي أحضرها عاصم بناءاً على طلبه، اختلست النظر إليه عندما جلس خلف مقعد القيادة، واجماً شارداً..لا هو يتراجع.. ولا هو يتقدم؛ ملامح مُصمتة؛أنفاس هادئة؛خسارة...فوز!ووداع..؛ يودع كابوساً وقبراً وأدوات تعذيب احتفظ بها لسنوات..؛ يودع حسرةً وألماً يبدأ بالانسحاب منه تدريجياً..؛يودع ذكريات خِزيُه وقيوده وثمانية أيام من القهر الذي احتبسه معه هنا بالتحديد..!"أشتهي المثلجات ساري!" قالتها بنبرة طفولية فالتفت إليها مستغرباً، لتتابع بِعبوس: _لقد وعدتني من قبل أنك ستبتاع لي المثلجات لكنك لم تفي بوعدك إلى الآن رغم مرور أكثر من أسبوع على عقد قراننا، أريد تناولها الآن إن سمحت!التفت إليها بحدة قائلاً بسخرية:_أعذريني إن انشغلت قليلاً في البحث عن عروسي المخطوفة بين حرائق الأخشاب وكأنني بطل أحد الأفلام الهندية أو ما شابه!وعندما ابتسمت بزهو لتغيظه رمقها ملياً في صمت محاولاً تحليل ما يشعر به منذ الليلة الماضية فلا ينجح؛لقد تأكد منذ مدة أنها ليست مجرد حبيبة، ليست مجرد امرأة يرغب ببدء حياته معها..وبالأمس أدرك أنه لا يجرؤ على تصور يوماً واحداً يقضيه دونها.. والأغرب أن الفكرة التي تسيطر عليه منذ استيقظ صباحاً هي رغبته برؤية طفله منها وحدها!عقدت حاجبيها بضيق مُفتعل.. فَزَفَر بحرارة؛واحتلت الابتسامة وجهه مُدركاً محاولتها لإلهائه..فاستجاب!_أنا لم أعدك أننا سنتناولها في الشارع مُطلقاً.وتابع بمكر:_لكننا سنبتاعها اليوم لتكون أول ما نتناوله ببيتنا!أشاحت بوجهها بعيداً بابتسامة خَجِلة، إلا أن قُبلته على كفها أدارتها إليه مرة أخرى، لتجده ينظر إليها برجاء ثم سألها:_هل سامحتِني رهف؟ رمقته بحنان ثم قالت ببساطة:_ألازلت تسألني؟! لقد أخبرتك مراراً أنني فعلت ساري، لِمَ لا تنفك تكرر نفس السؤال؟ورجاؤه زاد؛وندمه أكثر وضوحاً؛_لأنني لن أسامح نفسي مُطلقاً رهف، لِذا افعلي أنتِ نيابةً عني!وبإصرار طالبها:_أحب سماعها منكِ، فلا تتوقفي عن ترديدها مُطلقاً!أومأت برأسها موافِقة، فأضاف هو بحماس: _والآن هل أنتِ مُستعدة لزيارة مدينة الألعاب؟!انسحبت الابتسامة من وجهها بالتدريج وهي تسأله بتوجس: _متى سنذهب إلى مدينة الألعاب؟وكان ردُّه أن استخرج من جيب سترته تذكرتين رافعاً إياهما أمام وجهها قائلاً: _الآن!لتهتف به باستنكار:_هل تريدنا أن نزور مدينة الألعاب في صبيحة زفافنا ساري؟قام بتشغيل المُحرك وهو يُجيبها ساخراً:_بعدما قضينا ليلة زفافنا نفسها بقبو مظلم بناءاً على إصرارك حبيبتي، احمدي ربك أنني سأصطحبك إلى مدينة الألعاب الآن، ليس إلى المقابر مثلاً!تحت مَوَدَّة الباب ثم ابتسمت بتوتر واضح قائلة بترحيب:"خالتي!" نظرت لها نهال ببرود وهي تسألها:_كيف حالك مَوَدَّة؟ ازدردت لُعابها بقلق وهي ترد:_أنا بخير، تفضلي خالتي بالدخول!دخلت نهال تتطلع باستنكار واضح إلى الشقة لكنها لم تُعَلِّق ثم سألتها:_أين هو عَمَّار؟أجابتها مَوَدَّة بقلق: _إنه يبتاع بعض الأغراض وعلى وشك الوصول، كنت أحسبك هو.هزت نهال رأسها بلا معنى فسألتها مَوَدَّة: _ماذا تريدين أن تشربي؟وبكل البرود أجابت نهال:_لا شيء. ثم أردفت بامتعاض:_هل تلك الفتاة هنا؟اتسعت عينا مَوَدَّة بحذر وهي ترد:_رهف؟ لا، لقد تزوجت بالأمس فقط. اومأت نهال رأسها بلا اكتراث، ثم قالت:_أخبرتني تغريد بالحمل، مُبارك.اتسعت ابتسامة مَوَدَّة وهي تجلس بالقرب منها قائلة:_بارك الله بكِ خالتي، أتمنى أن يرزقنا الله بفتاة تلك المرة، عَمَّار أيضاً يتمنى ذلك، لكن إياد يغضب بشدة عندما نُعبِّر عن أُمنيتنا تلك، يتمنى صبي وبترت مَوَدَّة عبارتها عندما سمعت صوت دوران مُفتاح عَمَّار في الباب فوقفت زافرة براحة:_ها هو عَمَّار قد وصل!اتجهت إلى زوجها الذي اختطفها بأحضانه ما إن رآها فهمست في أُذُنه:_خالتي هنا عَمَّار.اكتنفه قلق شديد وهو يترك زوجته ويتجه إلى غرفة الاستقبال صائحاً:_مرحباً أمي!وترحيبها جاء في هيئة استنكار:_هل لازلت تتذكر أنني أمك بالفعل عَمَّار؟ورده هو جاء صادقاً:_وهل ينسى المرء أهله يا أمي؟ هنا هبَّت هي من مِقعدها صارخة بعد أن فقدت كل برودها بسببه:_لقد نسيت أبيك عَمَّار، لقد نسيته وساعدت في الوضع المُخزي الذي يتعرض له الآن، لا أفهم كيف تتحمل مُشاهدته في السجن بين المُجرمين واللصوص والقتلة؟ وقف هو مُحدِّقاً بها بصلابة:_ماذا تتوقعين أن أفعل أمي؟! ليس بإمكاني إنقاذه، ما يعيشه الآن هو العدل الذي يستحقه كل من يظلم الآخرين إلى حد ارتكاب الجرائم. صرخت بوجهه والغضب يتراقص بعينيها:_عَمَّار! ابتسم ساخراً وهو يرد:_ما بكِ أمي، الجميع يعلم كل ما ارتكب، وأنتِ تعلمين ذلك ولا أجد منكِ أي اعتراضاً على أفعاله طالما ظلت في طي الكتمان، مُشكلتك الوحيدة أنه كُشِف، وهذا هو حقاً ما لا أفهمه!حدَّقت به بِغِل شديد ثم هتفت:_أيعني هذا أنك لن تُساعد أبيك؟ضَيَّق عينيه بِدهشة ثم قال باستهجان واضح:_أتعتقدين أن هناك ما يمكن أن يساعده الآن؟ الوثائق المُقدَّمَة ضِدُّه لن يستطيع إنكارها، هم حتى ليسوا بحاجة لاعترافه كي يستطيعوا إدانته.ثم اقترب منها أكثر مُتحدِثاً بهدوء:_ما سيُفيده حقاً الآن هو أن يدرك أخطاءه التي اقترفها على مر السنوات، وإن كان هناك مَظالِم يستطيع ردَّها فليُسرِع إذن، وليعِنه الله على الباقي!ضغطت نهال أسنانه بغيظ شديد ثم اتجهت إلى الخارج فهتف بها:_أمي!توقفت مكانها بدون أن تلتفت إليه فتابع بحنان:_أنتِ لازلتِ أمي، بيتي هذا هو بيتك ومُرحَب بك به بأي وقت، وسأنتظرك أثناء ولادة طفلي القادم مثلما كنتِ حاضرة أثناء ولادة إياد.وأيضاً بدون أن تلتفت صاحت ببرود:_أنت اخترت عَمَّار، وطالما تضم تلك اللقيطة، أنا لن آتِ إلى هنا مُطلقاً. وبدون كلمة إضافية فتحت الباب وانصرفت، حدَّق عَمَّار في إثرها بحزن حتى شعر بيد حبيبته تُربِّت على كتفه قائلة بخفوت:_عَمَّار! أريد تيناً شوكِياً!انمحت نظرة الحزن من عينيه لتحتل الابتسامة وجهه وهو يستدير مُحتضِناً إياها: _يبدو أن ابنتنا ستحصل على شامة بشِعة إذن! من أين أحضر لكِ تيناً شوكِياً بهذا الوقت؟! تعثرت في خطواتها إلى مدخل البيت وهي تتمسك بهاتفها لتحدق في الصور التي التقطها لهما سوياً..وبعقلها أخذت تقارن بين زيارتها لنفس المكان مع أخيها منذ فترة قصيرة، وزيارتها مع زوجها اليوم..مرتين فقط ذهبت إلى مدينة الألعاب لتتأكد اليوم أنها لم تحب المكان بقدر ما أحبت الصُحبة؛لقد شعرت أنه وضع نفسه بمقام الأب المفقود؛ لم يسمح لها برفض ركوب أية لعبة، لم يسمح لها بإظهار خوفاً قصدت به تدللاً عليه، وكما أخبرها يوماً أنها ستفعل.. ضحكت حتى اختنقت سُعالاً!والمقارنة بين صحبة عَمَّار وساري كانت عادلة؛فالسعادة وعدها بها عَمَّار فنفذ.. وكذلك فعل ساري؛والانطلاق وعدها به عَمَّار فنفذ.. وكذلك فعل ساري؛والتعويض وعدها به عَمَّار فنفذ.. وكذلك فعل ساري؛صحيح أن الأخير تفوق ببعض المغازلات الجريئة التي ظهر تأثيرها في صورهما واضحاً، لكنها اليوم أدركت أنها قد حُرِمت عمرها بأكمله من الأب، لتجد بدلاً منه اثنين!"انتظري رهف!"ناداها بخفوت قبل أن تدق باب شقة والدته بعد أن صف سيارته ولحق بها، فالتفتت إليه بنظرة مستغربة، ليتابع بنفس الهمس: _سنُلقي التحية سريعاً لكننا لن ندخل. ضاقت عيناها بدهشة وهي تسأله:_لماذا؟ مط شفتيه بضيق قائلاً بتعب واضح وهو يشير إلى العلبة الصغيرة التي يحملها بيده:_لأنني أشعر بالإرهاق وأريد النوم رهف، والمثلجات ستذوب أيضاً، غداً بإمكاننا تناول الغداء جميعاً إن أردتِ.بان الاعتراض على ملامحها وهي تقول برجاء:_لكنني أريد معرفة تفاصيل مشكلة والدتك مع حمزة، لم أفهم من رسالة سما شيئاً!تَلَمَّس وجنتها بحنان هامساً:_سأخبرك أنا فيما بعد، لكنني مُتعب الآن حقاً وأريد تناول المثلجات ثم الخلود للراحة.احتل الحماس عينيها، وابتسمت هامسة وهي تتشبث بكفه:_كما تشاء حبيبي، هيا ...وبترت عبارتها لتلتفت إلى الخلف معه، حينما صدحت العبارة الساخرة:"الطالب المجتهد؟! كيف حالك؟!"وبنظرة جامدة رمق سما المبتسمة التي وصلت لتوها، قبل أن يقول بصوت واضح:_لقد طلبت منكِ أن نصعد، كنت أشعر أن هناك ما يحثني على الانصراف من هنا، سبحان الله!ولم تُعلق على رده وعيناها تتعلقان بالدمية التي تحملها رهف بإحدى يديها قبل أن تسألها: _من أهداكِ هدية زواج مثل هذه؟!ازدردت رهف لعابها وقالت بحرج:_لم يهدني أحد إياها، أعني.. أن ساري فاز بها بمدينة الألعاب لأجلي.فغرت سما فاهها بذهول وهي تنقل نظراتها بينهما قائلة:_هل.. كنتما في مدينة الألعاب بصبيحة زواجكما؟!!أومأت رهف برأسها إيجاباً بينما سألها ساري بسخرية:_نحن نحب المرح بطريقة مختلفة، ما هو وجه اعتراض سيادتك آنسة سما؟ابتسمت سما باستفزاز قائلة:_لا أعترض على شيء، إنما أرجو أن تكون قد شاهدت فقرة مسرح العرائس التي فاتتك لدينا بالمكتب!ضحكت رهف وهي تنقل نظراتها بينهما ثم طرقت سما على الباب لتفتح سارة التي بدى عليها الحُزن الشديد! أحاط ساري شقيقته بحنان وهو يسألها بقلق:_ماذا بكِ حبيبتي؟ لماذا هذا العبوس؟أطرقت سارة رأسها أرضاً قائلة بخفوت:_منزعجة للغاية، أمي معترضة على حمزة بشدة ولا تتقبل حتى حضوره..."ويجب أن يكون هذا هو رأي الجميع أيضاً."التفت الأربعة إلى السيدة سوسن التي دخلت إلى غرفة سارة والحنق يصرخ بملامحها، ليمسك ساري بخيط الحديث متسائلاً بهدوء:_ماذا هناك أمي؟ ما وجه اعتراضك على الدكتور حمزة؟اتسعت عينا والدته بدهشة ثم هتفت باعتراض:_أتسألني حقاً؟وتابعت بلا انتظار إجابة:_لقد سبق له الزواج يا ساري، بينما أختك لم تفعل، لِمَ نوافق عليه حينما رفضت هي الأفضل منه عدة مرات؟تبادل ساري النظرات القلِقة مع رهف ثم وقف مواجهاً أمه بهدوء:_أولاً : أنا لا أرى أن زواجه السابق يُدينه بأي شكل، من الوارد جداً ألا يُوَفّق المرء في إحدى التجارب، هل نحكم عليه بالوحدة إلى الأبد؟! أو هل نجبره على تحديد اختياراته فيمن يريدها؟!وقبل أن ترد رَفع كفها إليه ليقبله، ثم قال بتهكم:_ثانياً: انظري ممن كان متزوجاً! وأردف بامتعاض:_يا أمي! شخص قام بتطليق امرأة مثلها يجب أن نرفع له القُبعة تحيةً، لا نلومه ونعاقبه! أنا شخصياً أغبطه على احتماله! الرجل بالفعل يستحق حفل تكريم مع استلام دِرع الصبر من الدرجة الأولى! اندفعت سما التي تراقب في صمت هاتفة:_أقسم أنك مُحق في هذا!ثم أضافت:_يا خالة، لقد علمت أهوالاً عنها، مكائد وضغائن ومؤامرات وكأنها كانت تعمل لصالح رؤساء "المافيا"، لا يجب أن يُعاقب دكتور حمزة، بل يجب أن يجد سعادته أخيراً، وسعادته مع ابنتك.وتدخلت رهف قائلة بحنان:_صدقيني حمزة شخص مهذب جداً، وأهله ذوي أصل وكرم، ستلاقي سارة منهم معاملة طيبة للغاية. بان التأثر على وجه سوسن فخاطبها ساري بِجِدية: _لقد سألت عنه جيداً، ثِقي بي أمي! ما علمته عنه يُشرِّف أي أسرة يقوم بمصاهرتها.وهمس لها في أذنها:_ثالثاً: سارة تميل إليه، وأنا لا أريد لها الألم، ولا أنتِ أيضاً تفعلي. ووضع يديه على كتفيها مُطالباً بِرِفق:_امنحيه فرصة أمي، ربما.. يكن لكِ تعويضاً أيضاً.تغضن وجهها بألم فحمحم هو مازحاً بسرعة:_رابعاً: المُثلجات ذابت تماماً وأنا أكاد أنصهر مثلها!انعقد حاجباها بدهشة وهي تسأله: _ هل ستتناول المثلجات على العشاء؟!وهتفت سما بتهكم: _أهو طقس اخترعته أنت يجب أن يعقب ركوب الألعاب؟! ابتسم مُختلساً النظر إلى رهف التي توردت وجنتاها وهي تشيح ببصرها بعيداً، لكن والدته قالت بسرعة: _اصعد أنت ورهف إلى شقتكما وأنا سأرسل لكما طعاماً سينال إعجابكما.لكنه قَبَّل كفها ثانية قائلاً بِتعب واضح: _لا أريد سوى المثلجات أمي، إلى اللقاء!وانتقل بنظراته إلى رهف قائلاً بجدية زائفة.. غامزاً:_هيا رهف.. ستنصهر المثلجات! بعد أيام:حاول حمزة السيطرة على ضيقه المُتصاعِد ونجح بصعوبة بالغة، بينما كان يتظاهر بتأمُّل هاتفه وهو ينتظر ابتعاد والدتها مع رهف، اقتربت سارة منه بوجه يشع خجلاً فتعالت دقات قلبه مع كل اقتراب._يبدو أن هناك ما يُضايق طبيب الرمد خاصتي!اجتذب ابتسامة بصعوبة وهو يتهرَّب من عينيها قائلاً:_على العكس، أنا سعيد اليوم للغاية، لم أكن أتوقع أن يوافق ساري على تحديد موعد زيارتنا بهذه السرعة، ظننت أن يتعلل بحداثة زواجه ويؤجل الأمر.حدَّقت هي بعينيه رغماً عنها مُشددة:_لا تحاول إقناعي أنه ليس هناك ما يُشغِلَك ويجعلك مُتجهم هكذا بعد أن كنت سعيداً للغاية منذ دقائق.استسلم أخيراً لنظراتها وهو يزفر بتعب..ماذا يُخبِرها؟ أيُخبِرها أنه حانق لأن والدتها لا تطيقه؟أيُخبرها أنه يعي نظرة البعض إليه وكأنه خدعها؟وكأنه لا يستحقها؟ أيُخبرها أنه يُدرك نظرات استكثارها عليه؟وكما عادتها فاجأته وهي تتحدث بهدوء قوي واثق:_اسمعني جيداً حمزة! أنا أعي تماماً ما تُفكِّر به، وأعلم ضيقك بسبب نظرات الغير لعلاقتنا المرتقبة، لكنني لا أهتم، أنا اخترتك بإرادتي وأعرف أنني لن أندم يوماً على اختياري. ثم أضافت بابتسامتها الرائعة:_كما أنك رأيت بنفسك أن ساري بصفك تماماً وهو من قام بإقناع أمي بالموافقة، أما بالنسبة لتعامُلها الرسمي معك فلا تبتئس ، أعدك أنها حينما تتقرب منك مثلما فعلت أنا وتعلم أي رجل رائع أنت مثلما فعلت أنا، ستحبك كثيراً.أعادت له ابتسامته بمنتهى البساطة فسألها بخفوت:_مثلما فعلت أنتِ؟تسمرت مكانها فشدد ببطء:_ستحبني مثلك سارة؟توردت وجنتاها بحرج وقبل أن تجد حُجة للهرب ككل مرة عاجلها:_أُحبك جميلة العينين.حمحمت بحياء ثم هتفت بمرح مُفتعل: _أشعر أحياناً كثيرة أن ما جذبك إلي هو عيناي فقط. فكان ردُّه وهو يُحدِّق بهما مُثبِتاً خطأ ظنونها:_عيناكِ مرآة لروحك سارة، روحك التي اختطفني على حين غرة، ارتميت بداخلهما بكل إرادتي لأجد سكناً لم أحلم بِرَوعَتُه يوماً. طأطأت برأسها خجلاً فتابع مازحاً:_أين كَرَم لسانك الآن سارة؟!ولم تمنحه رداً وهي تستدير عائدة حيث الجميع، تلحقها تنهيدته بعد بضعة أشهر:تشبث عَمَّار بكف رهف وهو يمنحها نظرة مُشجعة بينما اقتربت معه إلى ذلك المقعد في مواجهة..والدهما!شهور مَرَّت منذ أن دخل إلى هذا المكان ليؤكد جميع المحامون أنه لا فرصة لخروجه منه..حيَّاً على الأقل!شهور مَرَّت منذ أن استشعرت هي معنى الحُب والأمل والسعادة مع حبيبها وزوجها الذي يُغدِق عليها بحنان لم تحلم بالتمتع به يوماً؛شهور مَرَّت وهي تحب حياتها كل يوم أكثر؛ودلالها الذي يُشجعه هو كل يوم أكثر؛و...شهر واحد مَر منذ أن فازت بتلك القضية وأُعلِن بالدليل القاطع أنها.. رهف شديد الناجي!فإن كان عَمَّار قد عرض عليها رَفع قضية إثبات النسب يوماً وإجراء تحليلاً لا يترك مجلاً للشك، فلم توافق خوفاً على أحبائها؛ساري لم ينتظر رأيها! والآن.. في هذا المكان ها هي تواجه من بابتعاده عنهما ذاقا معنى الراحة!البنية القوية.. صارت هَزيلة؛المنكبان العريضان.. صارا مُتَهَدِّلَين؛صاحب الطول الفارع.. صارت رأسه مذلولة مُطرِقة؛قاسِ الملامح، مُظلم العينين.. لايزال كما هو!رَفَع شديد رأسه بِحِدَّة يحدق بهما بدهشة، فحينما أخبره العسكري أن ابنه وابنته جاءا من أجل الزيارة اعتقد أن تغريد هي من ترافق أخيها.. وليست الأخرى! الأخرى التي بسببها تم إجباره منذ شهر على إجراء تحليل حمض نووي، ثم إثبات نسب رسمي إليه!"كيف حالك شديد بك؟!"قالتها بثقة وهي تجلس على المقعد المقابل في مكتب الضابط، بينما وقف عَمَّار إلى جوارها مُسنداً كفه خلف ظهر مقعدها في إشارة واضحة..بالحماية!_لِمَ لا تقولين أبي؟! ألم تفوزي بالقضية وأثبتي نسبك إليّ في آخر الأمر؟!سألها بحقد فلم تُجِب، ليتابع بسخرية:_ألم تصيري رسمياً رهف شديد محمود الناجي؟ لماذا لا تُظهري شماتتك بي؟وملامحها الجامدة استفزته بينما قالت بهدوء: _لقد أخبرتك من قبل أنني لن أفعل.ليهتف من بين أسنانه: _لماذا جئتِ إلى هنا إذن؟وصعد بنظراته ثم بسؤاليه إلى عَمَّار الذي يقف مستعداً متأهباً وكأنه على أبواب حصون الأعداء:_لماذا أحضرتها إلى هنا؟! ماذا تريدان أن تُثبتا بزيارتي؟ولمَّا هَمَّ عَمَّار بالتحدث نَزِقَاً تَوَلَّت هي الحديث بِجِدية:_أردت أن أثبت أنني لست مثلك شديد بك! نظر إليها بلا فهم فتابعت بتردد:_سأكون صريحة معك.. وأطرقت برأسها أرضاً وهي تضيف:_أنا لا أشعر بأية فرحة أو راحة لرؤيتك بهذا الوضع مُطلقاً.انعقد حاجباه يناظرها بِحَذَر فأردفت:_لكنني أود إسداء نصيحة إليك كيلا أشعر أنني تقاعست عن آداء دوري ك.. كإبنة!والتردد سيطر على ملامحها وصوتها وهي تستطرد:_لقد.. لقد تعلمت أن المرء إن أخطأ يجب عليه التوبة، وطلب العفو من الرب ثم العبد، والعزم على عدم العودة إلى الخطأ مرة أخرى. ثم دققت النظر به قائلة برجاء رغماً عنها:_بإمكانك طلب الغُفران ممن ظلمتهم شديد بك.واستدركت بحسرة: _من لايزالوان على قيد الحياة بالطبع!ضاقت عيناه وهو يميل تجاهها برأسه متسائلاً:_هلا أوضحتِ لي قليلاً؟ جابهته بثقة قائلة بثبات لم تدرِ متى اكتسبته: _السيدة سوسن، السيدة سناء، سارة و..ساري، وخالي.. والثقة تعالت وهي توضح بحماس:_ماذا إن طلبت منهم الغفران؟ ماذا إن طلبت منهم منحك عفوهم، عَلَّك تحصل على بعض الراحة و...بترت عبارتها ثم استأنفتها برجاء: _عَلَّك تشعر بالتسامح!تهكم مُعلقاً:_تسامح؟!والحسرة بدأت تتسلل إليها وهي تقول بألم:_نعم.. التسامح، إنه ذلك الشيء الذي يجعل رجل يسعى بكل قوته كي يثبت نسب زوجته إلى اسم الرجل الذي دَمَّر أسرته.. متجاهلاً عذابه، مُتلمساً سعادتها ورضائها.والثقة اصطحبت الحماس هاربين تماماً عندما مالت شفته في ابتسامة ساخرة قبل أن يسألها باستنكار:_أتظنين أنني قد أعتذر لهؤلاء الأشخاص؟!وبدفاع أخير قالت:_لقد دمرت حيواتهم بطرق متعددة، ألا يستحقون منك اعتذاراً؟! اعتذار لن يُعيد إليهم ما فقدوه على الإطلاق، لكنك أنت من في حاجة ماسَّة إليه الآن.لكنه هَبَّ واقفاً هاتفاً بها:_أنا لست بحاجة إلى أي شيء، أو إلى أي شخص، وسأجد طريقة لأخرج من هذا المكان في أقرب وقت.تخلَّى عَمَّار عن صمته الذي توسلته إياه قبل أن يدخلا ليجذبها من يدها قائلاً:_هيا رهف، لقد أخبرتك أن فكرتك عبثية، وحضورنا هنا بلا فائدة.استسلمت ليده فوقفت أمام أبيها مرددة بخفوت: _لا عَمَّار، ليست عبثية.ثم حَدَّقت به لِثوان؛باحثة عن حنان.. حُب.. اشتياق؛لكنها لم تجد إلا قسوته المعهودة؛ وبالرغم من ذلك قالت ببطء:_أنا.. سامحتك.. أبي!والكلمة الأخيرة خرجت بصعوبة منها، وكأنها جَمَّعَت حروفها قسراً؛ وكأنها قيدت حروفها بسلاسل من حديد مُجبرة إياها على التشكل والخروج في صورة كلمة لم تجد فرصة يوماً للنداء بها!ومادامت قد بدأت فلتنتهي إذن!_لقد سامحتك، عسى أن يقل عذابك فيما بعد.وبينما يحدجها هو بنظرته القاتلة رددت بهدوء:_إلى اللقاء!ليلحق بها عَمَّار مُربتاً على كتفها مُشجعاً، فخوراً، ومن أجل أن يُلهيها عما حدث همس مازحاً:_أكاد أجزم أننا إن تأخرنا دقيقتين إضافيتين لاقتحم زوجك المجنون السجن منادياً إياكِ بلهفته المعهودة باحثاً عنكِ كطفل لا يستطيع الابتعاد عن أحضان أمه، ليقوموا بإلقاء القبض عليه فأستريح أنا منه ومن سماجته نهائياً!ثم توقف مكانه متابعاً بحماس: _أتعلمين؟! لقد راقت لي الفكرة كثيراً، هيا رهف لننتظر قليلاً بعد!حَلَّ العبوس عن وجهها بالتدريج لتبتسم قائلة: _توقف عَمَّار! لا أحب إزعاجك له!ليتابع سيره إلى جوارها متسائلاً بامتعاض:_وماذا عن إزعاجه هو لي؟ هَزَّت رأسها نفياً مُجيبة إياه:_لا أحبه أيضاً! ثم نظرت له قائلة بحزم مفتعل:_توقفا عن التصرف كما الأطفال، أشعر أنكما تعوضان فترة صداقتكما المفقودة عن طريق التظاهر بالغيرة عليّ، بينما أنا في الواقع بريئة من أفعالكما تماماً!وعندما وصلا إلى الطريق لمحاه يدور حول السيارة بتوتر فاضح فسخر عَمَّار قائلاً:_انظري! ها هو سيقتحم الأسوار.ثم أردف بحسرة مفتعلة:_لو كنا انتظرنا! يستند على مقدمة سيارته لثانية، ثم ما يلبث أن يجلس في مقعده بداخلها، وفي اللحظة التالية يخرج صافعاً بابها بحنق واضح ليركل بعض الحصى على الأرض بغيظ...سيحترق انتظاراً هنا؛ليته ما أذعن لطلبها!ليته فرض رأيه ودلف معهما بأية طريقة!ليته لم يستمع لهرائها عن عدم خوفها!أو ليته رفض حضورها بالأصل! ضربات قلبه تتعالى وذُعره وصل إلى ذروته ولم يفُت إلا نصف ساعة فقط؛أهو اختبار آخر لقيمتها لديه؟!أهو عقاب آخر لِفعلته الظالمة بحقها؟!و...ها هما يظهران لينطلق إليهما بكل خوفه هاتفاً بأخيها:_ماذا حدث؟ أخبرني عَمَّار ماذا قال لها؟وأحاط وجهها بكفيه متفحصاً إياه بلهفة وهو يسألها:_ماذا فعل حبيبتي؟! هل أزعجك؟! لماذا لا..ليقاطعه عَمَّار بنزق صائحاً:_يا رجل انتظر وامنحنا فرصة للتحدث أولاً!وبغيظ دفع أخته بكتفها تجاه ساري لتسقط على صدره بينما يصيح به:_ها هي زوجتك سالمة، ألا تثق بي؟!احتضنها ساري بجزع ماسحاً على رأسها، هاتفاً به بالمثل:_ما هذا العنف؟! لماذا تدفع بها هكذا؟!تأففت رهف بينهما فنظر إليها بقلق متسائلاً:_ماذا بكِ؟ لِمَ هذا الشحوب؟ هل كنتِ تبكين؟!هَزَّت رأسها نفياً ثم أجابته بإرهاق واضح:_أنا بخير ساري، الجو حار وخانق كثيراً وأرغب بالعودة إلى المنزل، هلا انصرفنا من هذا المكان؟ ولايزال يتفحص جبهتها ووجنتيها حتى هتف به عَمَّار بغيظ: _توقف عن تلمُسها كالنحاتين هكذا! لم ينقص منها شيئ! ودون انتظار رد منه يعلم أنه سيثير استفزازه تجاوزهما حانقاً إلى سيارته_ألن تقود السيارة؟سألته بدهشة حينما قبع في مقعده إلى جوارها في صمت لدقائق..ليستدير إليها بوجه قاتم، وبصوت مكتوم متردد سألها:_هل.. أهانك؟ انعقد حاجباها بدهشة دون رد فهتف من بين أسنانه بنزق: _أجيبيني رهف! هل قام بتوجيه أي إهانة إليكِ؟تخلصت من دهشتها سريعاً وهَزَّت رأسها نفياً قائلة:_لا.. لم يفعل، وحتى إن أراد لم يكن عَمَّار ليسمح بذلك.واحتل الألم عينيه وهو يسألها بتدافع:_ماذا إذن؟ ماذا اكتسبتِ بزيارته؟ لقد حصلتِ على وثيقة تثبت اسمك بأي حال، لِمَ تعرضين نفسك إلى عبء مقابلته؟شردت بملامحها بعيداً مرددة بخفوت:_كنت أمنحه فرصة.تأفف حانقاً مشيحاً بوجهه فتابعت باستدراك:_لا يهم ساري، كان لابد لي من زيارته حتى أتأكد أنه لن يؤثر على حياتنا ثانية.وعندما انتبهت إلى ضيقه قالت بدلال تعلم تأثيره عليه جيداً: _لا تعبس هكذا حبيبي! أنا أمامك سالمة تماماً لم يحدث لي شيء.لكنه لم يستجب متشبثاً بصلادة تعلم هي أنها_معها وحدها_ واهية!_أتعلم أن سعادتي بوثيقة زواجنا تفوق سعادتي بوثيقة القيد الجديدة هذه؟!وها قد فازت! التفت إليها مستسلماً قائلاً بغيظ:_سامحكِ الله يا رهف! لماذا تقولين مثل هذا الكلام هنا والآن؟!انعقد حاجباها بتساؤل فمنحها نظرة امتعاض متمتماً:_كيف باستطاعتي التوقف تحت شمس الظهيرة الحارقة بمنتصف الشارع لأحصل على درسي أنا؟!أشاحت سارة بوجهها بعيداً في خجل عن حمزة الذي يخلتس النظرات الفَرِحَة إليها بلا قيود، بينما يُردد العبارات التي يُمليها عليه الشيخ وهو يتمسك بِكف شقيقها أسفل المحرمة القماشية المُطرزة باسميهما، بعد أن فعل ساري المثل لِتوه..تتسابق ضربات قلبها وبصعوبة تمنع نفسها من إطلاق الزغاريد التي تتدافع على لسانها ترغب بالتحرر!ها هي بعد مماطلات من والدتها صارت زوجته؛والدتها التي اكتشفت بمرور الوقت أنه بالفعل شخص جيد ويُحترم؛والدتها التي أصبحت تشكو إليه منها أحياناً مُستغلة تأثيره الواضح عليها؛والدتها التي باتت تتعامل معه وكأنها عثرت على بديل عادل لفقيد لم تنسه يوماً!امتدت يدها لتوقع باسمها مُحررة ابتساماتها السعيدة بلا اهتمام، ليميل شقيقها على أذنها قائلاً بعبوس مفتعل:_لا تظهري فرحتك بهذا القدر سارة حتى لا يَغتَر "الأخ" بنفسه! تدللي قليلاً!رَفَعت عينيها إليه بامتنان هامسة:_أحبك ساري، أدامك الله لنا جميعاً!ليجذب رأسها إليه مُقبلاً إياها قائلاً بتأثر:_مبارك حبيبتي، رزقكما الله السعادة."هل أستطيع اصطحاب زوجتي إلى الخارج الآن؟!"هتف بها حمزة وهو يجذبها لتقف بالفعل، حينما أهداه ساري نظرة ممتعضة متمتماً:_خذها! ولا تعيدها بعد دقائق متلمساً الراحة بعد ثرثرتها التي لن تتوقف مُطلقاً! على سطح أحد الفنادق متوسطة المستوى في مطعم أنيق حيث قام بحجزه لهما، انفرد بها بعد انتهائهما من تناول طعام العشاء الذي لم تتناول منه شيئاً بسبب شدة ارتباكها، وبرغم محاولاتها الخرقاء لتناول مواضيع شتى لا رابط بينهم إلا أنها لم تبد في نظره أجمل يوماً! أحاط كتفيها بذراعه فتصلب جسدها في مفاجأة، لكنه مال على أذنها هامساً:_اهدئي سارة، لن آكلك!ثم أردف بصوت أجش:_بالرغم من أنني أتمنى لو أفعل!توترت أكثر وهي تحاول التخلص من ذراعه التي تكبلها إليه مرددة بضعف:_ابتعد قليلاً حمزة، هناك قاطعها قائلاً بخفوت: _لا يوجد سوانا هنا، لذا توقفي عن محاولة الابتعاد! وأضاف مبتسماً:_أخبرتك قبلاً أنني لن أسمح لكِ بالهرب مني.نظرت إليه فتابع بهمس، محدقاً بها:_يا إلهي! أنتِ أجمل من رأت عيناي سارَّة!أصبحت وجنتاها قانيتين واحتبست الكلمات على لسانها، فاستطرد بخفوت: _أتدركين بِمَ أشعر لمجرد النظر إليكِ؟هَزَّت رأسها نفياً ببطء متسائلة:_بِمَ تشعر حمزة؟ارتفعت أنامله تتحسس وجنتها بينما تابع بنفس النبرة:_أشعر وكأنني لا أجد غضاضة في الغرق بداخل عينيك إلى الأبد، أشعر وكأنني أجد راحة لم أحلم بالحصول عليها يوماً، أشعر أنني.. وعندما بتر كلماته فجأة وجَفَّ حلقها، استحثته بلهفة: _تابع!وتثبتت عيناه على عينيها قائلاً باشتياق واضح: _أريد طفلة مثلك سارَّة، ثرثارة، مندفعة، مجنونة، تشبهك تماماً، سأدللها، سأغدق عليها بالحنان، لن أدع أي شيء يتسبب بإيذائها، سأعمل على منحها ذكريات سعيدة، أريد سارة أخرى.. صغيرة...وأضاف بصدق نبع من كل حررف يتفوه به:_بلا أحزان، بلا احتياج، بلا فقدان، وبلا كوابيس! وبرغم دقات قلبها التي تتابعت تعلن عن اقتران رغبتها بخاصته، فإنها تصنعت عبوساً قائلة:_لقد بدأت أشعر بالغيرة منها!لتتسع ابتسامته قبل أن يهمس:_لكِ أنتِ دلال من نوع خاص سارَّة، دلال يليق بامرأة في مظهر فتاة رخت في وجهي يوماً فعاثت فساداً في رتابة حياتي وأجبرتني على التراجع عن قراري بالاكتفاء بذاتي إلى النهاية.ولمعة عينيها مع ارتجافة شفتيها أثارا بداخله توتراً وحنقاً ليقول معترضاً:_لماذا لم نقيم زفافنا الليلة؟! عقد القران هذا غير كافِ تماماً!ارتفع حاجباها دهشة ثم سألته مستنكرة: _ألست أنت من أصررت عليه حتى ننتهي من تأثيث الشقة؟ويبدو أنه لم يسمع سؤالها؛فلم يُجب؛ولم يتحرك؛ ولم يأتِ بأي رد فعل؛إلا أنه تمعن بمقلتيها أكثر!لتسأله مُتوجسة:_لماذا تنظر إليّ هكذا؟!وإجابته جاءت على هيئة سؤال:_لماذا عيناكِ ملتهبتان؟ضاقت عيناها دهشة، بينما التفت هو لينظر حوله ببطء، فقالت:_ليستا ملتهبتين، لا توجد أتربة في الجو بالأصل!وعاد بنظراته التي صارت غريبة إليها قائلاً بتمهُّل:_لا، إنهما ملتهبتان بشدة دعيني أتأكد!وقبل أن تتحرك.. سبقها هو؛وقبل أن تفهم.. اتخذ الخطوة هو؛وعندما أدركت ما يحدث.. كان بها يذوب هو! تشبثت يداه بيديها بحنان ليرتشف اسمه من بين شفتيها بلا ارتواء، إلى أن ابتعدت هي عنه بخجل، مشيحة بوجهها، هامسة بصوت متقطع:_ماذا تفعل حمزة؟! أين هدوءك ومراعاتك للمكان والــ...ليعيد وجهها إليه بأصابعه قائلاً بلهجة واعدة:_أي مراعاة يا بنت؟! أتعلمين سارة؟! لقد اتخذت قراري! سأوقع الكشوفات عليكِ من الآن وصاعداً بلا أسباب!عاد من العمل مُنهَك بعد أن تغيب عاصم وسارة هذا اليوم، الأول يلهث مع خطيبته خلف شراء ما يلزمهم من أجل تجهيز شقتهم ليتم زفافهما في موعده المرتقب..والأخرى تلهث مع أمه وحمزة خلف تأثيث شقتهما أيضاً!داعبت أذنيه دندناتها الرقيقة بإحدى أغنيات الأطفال التي تُسليهم بها في عملها، فاتجه على الفور إلى غرفتهما متحمساً، مشتاقاً، مبتسماً..وتوقفت الابتسامة وهو يُحدق بها تقف أمام المرآة تمسك بشيء أثار...رفضه وذعره!_ما هذا؟صاح بها فجأة فانتفضت تنظر له عابسة، محاولة التقاط أنفاسها، ثم نظرت إليه بغيظ هاتفة بِلَوم: _أهكذا تثير هلعي يا ساري؟!اقترب منها بخطوات متسارعة وعيناه متسمرتان باتساعهما على الزجاجة الصغيرة بيدها، ثم كرر بتشديد:_رهف أجيبيني! ما هذا؟! نقلت عينيها بين الزجاجة الصغيرة في يدها والتعبير الغريب على وجهه، ثم قالت بِتوجس:_إنه أحد الزيوت الطبيعية ابتعته اليوم، ماذا هناك؟!ازداد تعبير وجهه غرابة وهو يسألها بِتحفُّز:_وفيم ستسخدمينه؟!مطت شفتيها قائلة ببساطة:_سأستخدمه من أجل أهدابي.بوجوم سألها: _عفوا؟!ثم أردف بِنبرة تحذيرية:_ما بها أهدابك؟ هَزَّت كتفيها مُجيبة إياه ببراءة:_سأقوم بفردهم به.اندلع الجنون بعينيه دفعة واحدة وهو يختطف الزجاجة منها هاتفاً بدهشة:_بِمَ تهذين أنتِ؟ كيف تفكرين بفعل كهذا بالأصل؟!واتجه من فوره إلى نافذة الغرفة ليلقيها خارجاً دون تردد لتصيح هي به بذهول:_يا إلهي!، ماذا فعلت أنت، أتعلم كم كلفني من وقت كي أعثر عليها؟!، إنها واردة الخارج وقد وصلتني بعد شهرين كاملين منذ طلبتها!التفت إليها هاتفاً بِحزم:_لا أهتم، أهدابك ليس من حقك التصرف بها كما تشائين!اتسعت عيناها بدهشة فتابع بصرامة: _وأي اقتراح بفردهم غير مقبول!وقبل أن تجد رَدَّاً لائقاً عاجلها بِلهجة لا جدال بها:_وأي مستحضر يتضمن التعرض لها غير مسموح بوجوده ببيتنا!اقتربت منه ببطء رامقة إياه بِقلق ثم قالت:_هل تستمع إلى نفسك ساري؟، إنها أهدابي أنا، ملكي أنا!مط شفتيه قائلاً ببساطة: _وأنتِ بكليتك ملكي أنا، إذن هم أيضا ملكي، ما الذي يتعسر عليكِ استيعابه؟ لا أفهمك!عقدت حاجبيها بغيظ فلانت ملامحه قليلاً وهو يقول:_لا تنظرين إليّ بتلك الطريقة رهف كي لا أضطر لمصالحتك الآن.أشاحت بوجهها بعيداً عنه وكتفت ذراعيها فاقترب منها متسائلاً بخفوت: _ألا تريدينني أن أصالحك؟هَزَّت رأسها نفياً فقال بحنان: _لكنني أريد أن أصالحك.هَزَّت رأسها مرة أخرى وهي تقول ببرود:_لا أريد.اقترب أكثر وصارت نبرة صوته أكثر خطورة قائلاً بإغواء:_سأصطحبك إلى مدينة الألعاب ثانية.كبتت لهفتها وابتسامتها بصعوبة مشددة برقة:_لا أريد. وأمام وجهها ردد بتلاعب:_سأبتاع لكِ المثلجات التي تُحبينها أنتِ، وسأطعمك إياها بالطريقة التي أحبها أنا. اختلجت دقات قلبها وتوردت وجنتاها فقالت بحنق مصطنع:_لا أريد.وأوشك على مَس شفتيها هامساً:_ربما سأمنح نفسي إجازة بالغد لتقومي بتكثيف دروسي التي صارت لا تُشبِع فضولي للمعرفة.وعلى حافة استسلامها همست بالمثل بلا اقتناع:_لا أريد.زفر بضيق وهو يتراجع قائلاً بِنفاد صبر:_أصبحتِ نزقة رهف، ما بك؟تراجعت بالمثل صائحة بانفعال:_وأنت أصبحت متحكما مسيطرا مجنونا ساري، ومن المفترض أنني أنا من أعاني تقلب الهرمونات بسبب الحمل لا أنت!ارتفع حاجباه دهشة مُشيراً إلى صدره بسبابته صائحاً باستنكار:_أنا أصبحت متحكمـــ...وعندما راجع ذهنه بقية عبارتها توقفت الكلمات على لسانه..لثوانِ ظل محدقاً بها بينما تخلت هي عن افتعالها سامحة لملامح عشقها بالظهور على وجهها.. بينما اتجه هو إليها ذاهلاً ثم سألها بخفوت:_ماذا قلتِ؟! زَمَّت شفتيها ثم تمتمت بِغيظ:_هذا ما كنت أود إعداده لك كمفاجأة، لكنك رأيت زجاجة الزيت وكأنها حية ستلدغ عُنقك وجعلتني أنسى الأهم!ازدرد لعابه وسألها بصوت أكثر خشونة بعض الشيء:_رهف هل أنتِ حامل؟تطلعت إلى حالته غير المصدقة فرغبت بمشاكسته لتقول بصوت منخفض:_ربما!تسارعت أنفاسه وهو يسألها بِتوسُل أثار حنانها:_رهف هل هناك طفل مني ينمو بداخلك أنتِ لينتمي إلى كلينا معا؟أومأت برأسها إيجاباً بسرعة، لكنه لم يرض بها كَرَد، فسألها التأكيد هامساً:_رهف!هنا فتحت ذراعيها على أقصاهما واقتربت منه أكثر هاتفة بكل سعادتها دون تردد:_نعم ساري، أنا حامل.أغمض عينيه في صمت، ولدهشتها لم يحتضنها كما كانت تستعد. إنما تراجع إلى الفراش وارتمى عليه واضعاً كفيه فوق رأسه مُحدقاً في السقف قبل أن يغمض عينيه تماماً! أرخت ذراعيها إلى جانبيها ورمقته بدهشة، ثم اقتربت منه متسائلة:_ما هذا؟!، ألن تصرخ قائلا يا إلهي سأصير أباً؟! لم يصلها رَد منه فتابعت بإحباط:_ألن تحملني قائلا من اليوم ستستلقين طوال الوقت بالفراش ولن تتحركي مطلقاً؟!ولم يبد أنه سمعها بالأصل فَعَوجت شفتيها قائلة بتهكم:_ألن تتحسس بطني قائلا بحماقة هل تشعر بي يا ابني أنا أبوك و....الصرخة التي أكملت بها عبارتها تزامنت مع جذبه إياه لتسقط فوق صدره، بينما أحاط وجهها ليحدق بعينيها..وعيناه هو كانتا لامعتين، ذاهلتين، سعيدتين كما لم تتخيلهما يوماً!وقبل أن تتاح لها الفرصة للتفوه بأي شيء التقط شفتيها في قُبلة عاشقة، حنونة...مُمتنة!وعندما اضطرا للانفصال همس لها بكل ذهوله:_ستصيرين أم أبنائي أخيراً يا قاتلتي، أنتِ وحدك ستصيرين أمهم.وعندما اتسعت عيناها بابتسامة لامعة.. دامعة..، أردف هو آمراً:_قوليها!ولم تكن تحتاج لاستفسار عن مقصده، فداعبت وجنتيه بأناملها ودمعاتها هامسة: _سأصير أم أبنائك يا ساري! بعد خمسة أشهر:تأفف عاصم بغيظ وهو يدفع بِعربة التبضع بينما يسير خلف سما التي تتجول في ذلك المركز التجاري منبهرة بكل ما تراه مهما كان نوعه أو استخدامه.. منذ ساعتين كاملتين وهو يمشي خلفها مُكتفياً بتأمل كل ما تلقيه يدها داخل العربة التي يدفعها صاغراً..لكنها الآن تبدو عليها الحيرة وهي تتأمل المعروضات في القسم المخصص للأثاث، فللأسف العربة المليئة لن تتسع لإحداها بالطبع!_لقد آلمتني قدماي يا سما، هل باستطاعتنا الذهاب إلى الطابق الأرضي كي نبتاع سائل الاستحمام الذي أتينا من أجله بالأصل؟!أنهى عبارته وهبط بأنظاره إلى العربة التي تكدست بشتى أنواع المشتروات ثم زفر متابعاً:_لكن لنجلب عربة أخرى أولاً، أو ربما مقطورة!لم تلتفت إليه وهي تتفحص إحدى الطاولات صغيرة الحجم قائلة برجاء:_انتظر عاصم! لقد رغبت أن آتِ إلى هذا المركز منذ مدة لكن لم تسنح لي الفرصة. ابتسم بحنان وهو يراقب تلهفها كطفلة صغيرة.. يعلم أن ملازمتها لأمه منعتها من ممارسة الحياة الطبيعية لأي فتاة بعمرها؛لذا لا يستطيع معارضة أي طلب لها مهما كان بسيطاً مثل هذا.. وإن أرادت أكثر!وحتى موعد زفافهما الي تم تحديد موعده بعد شهر سيصطحبها لشراء كل طلباتها، مهما كانت قليلة أو كثيرة! _ما رأيك عاصم بهذه الخزانة؟!انتبه إلى صوتها المُتحمس وهو يراها تفتح إحدى خزانات الملابس الضخمة لتتطلع إلى الفراغ بداخلها باهتمام، فشعر برغبته بمشاكستها تسيطر عليه ليعلق متهكماً:_أليست مرتفعة بعض الشيء؟ ألا تحتاج إلى اختزال جزء منها؟وتابع بابتسامة واسعة:_النصف مثلاً؟! التفتت إليه واقتربت منه متسائلة بِتحفز:_إلام تُلمح بحديثك عاصم؟هَزَّ كتفيه بلا اكتراث قائلاً:_عندما نتزوج لن أكون متفرغاً طوال الوقت كي أجلب لكِ الأغراض التي ستضعينها في الجزء العلوي سما، لذا سنركز في اختياراتنا على الخزانات القصيرة.كَتَّفَت ذراعيها مواجهة إياه بابتسامة مماثلة قبل أن تقول ببطء:_ألم تر مطرقة أقراص اللحم الثقيلة التي أعجبتني بقسم أدوات المطبخ؟! انعقد حاجباه بتساؤل فتابعت:_لقد وضعتها في هذه العربة بالمناسبة!تلاشت ابتسامته على الفور ليحمحم بخشونة، تظاهر بالتفكير ثم ما لبث أن قال بحماس ظاهري:_بإمكاننا البحث عن سلم خشبي أيضاً كي تلصقي أغراضك بالسقف إن أحببتِ!زفرت ببطء ثم التقطت هاتفها من حقيبتها مغمغمة:_أشكرك، لكنني سألتقط صورة للخزانة كي أصفها لأمي في البيت أولاً.وما إن أمسكت بالهاتف حتى استمعت إلى رنينه فهتفت بحماس: _ها هي تتصل بي!لكن اسم سارة من توسط شاشته، وقبل أن ترحب بها عاجلتها سارة بالخبر المفاجىء، فسألتها سما بقلق:_بأي مشفى سارة؟وعندما أنهت المكالمة سألها عاصم بذعر:_ماذا هناك؟لتجيبه هي بتوتر:_إنها تلد الآن! جحظت عيناه بصدمة قبل أن يهتف بها بنزق:_أمي تلد؟ هل أنتِ مجنونة؟!عَضّت على شفتها السفلى بغيظ وودت لو تلكزه بصدره، ثم قالت بعصبية:_رباااااه! مَوَدَّة من تلد الآن يا عاصم، هيا بنا!وما إن استدارت حتى هتف بها مرتبكاً:_انتظري سما! وشحنة البضائع التي بحوزتنا هذه، ماذا نفعل بها؟نظرت إلى العربة المزدحمة بتفكير، فتابع هو:_إن انتظرنا حتى يحسبوا ثمنها ويعبئونها سنصل إلى مَوَدَّة وعَمَّار قبل أن تدخل طفلتهما مدرستها بيومها الأول! نفضت رأسها مرددة بحسم:_اسمع! اتركها هنا وسنعود من أجلها فيما بعد، أنا أحفظ كل ما بها وسأستعيده مهما حدث.وهَمَّت بالرحيل لكنها توقفت قائلة بلهجة حازمة: _لكن سنأخذ المطرقة، سأنتظرك بالسيارة حتى تدفع ثمنها، لن أعود إلى البيت بدونها! وفي المشفى: شاحبة الوجه تجلس فوق مقعد بأحد الأركان بينما صرخات مَوَدَّة المتألمة تترد في رأسها بإصرار.. تتلمس بطنها المُتكورة بقلق باحثة عن إحدى الركلات التي تصيب قلبها قبل رحمها فتمنحها بهجة لم تدرك معناها من قبل!"هل أنتِ هنا وأنا أدور بحثاً عنكِ بالأسفل يا رهف؟!"هتف بها زوجها منزعجاً وهو يجلس إلى جوارها، مُتحسساً بطنها بتلقائية، مُربتاً عليها بِحنان غامر، بينما لم تنطق بكلمة._ماذا بكِ؟ هل تشعرين بالتعب؟سألها بقلق فَهَزَّت رأسها نفياً قائلة بخفوت:_لا حبيبي، أنا بخير تماماً. تمسك بكفها بحنان مردداً بقوة:_لا تخافي رهف! مَوَدَّة ستكون بخير.أومأت برأسها فأردف بخفوت: _وأنتِ أيضاً.نظرت إليه بامتنان ليبادلها نظراتها بلا حديث؛يفهمها دون حاجة للسؤال؛يفهمها دون حاجة للشرح؛يفهمها بلا جهد مؤكداً لها يوماً بعد يوم أنها قطعه من روحه؛ولو يعلم أنه روحها بأكملها!_إنه شيء طبيعي، دائماً أسمع النساء يقلن أن المرأة تنسى هذا التعب ما إن تتطلع إلى صغيرها بين أحضانها.ابتسمت مع كلماته المُطمئنة فاستطرد بثقة:_ستكونين بخير حبيبتي، ابننا أو ابنتنا لن يتسبب بالتعب لكِ.مطت شفتيها باستخفاف ثم تساءلت:_وكيف تجزم بذلك؟ليهُز كتفيه بزهو قائلاً: _لأنني الأب يا رهف!انعقد حاجباها باستفهام فأجابها ببطء:_طفلي أو طفلتي سيكونون حنونين وطيبين مثلي، لكن مَوَدَّة للأسف حظها عاثر، من تتزوج مثل أخيكِ يجب أن تتعب بالتأكيد، أعانها الله!حاولت التظاهر بالعبوس لكن ضحكاتها أفلتت منها رغماً عنها، ليشاركها وهو يقتنص قبلة سريعة على وجنتها؛ثم..."كيف حالك مهندس ساري؟! كيف حالك سيدة زوجة مهندس ساري؟!"رَفَعت رهف رأسها بدهشة تتطلع إلى نقطة خلف ساري بينما تسَمَّر الأخير كالصنم؛بلا حركة؛بلا رفرفة أهداب؛بلا نَفَس! والصوت الذي يسبب الغيظ له عاد ثانية مؤكداً ما يرفضه هو:_لقد حفظت القواعد جيداً ولم أنطق اسمها أو أحدثها وهي وحدها، أليس كذلك؟!هَزَّ ساري رأسه رفضاً مُتمتماً بِحَذَر:_إنه أحد أسوأ كوابيسي بالتأكيد، هذا المائع لا يقف خلفي الآن، ربما رائحة المخدر المنتشرة أصابتني بالهذيان، أو ربما لأنني سخرت من عَمَّار للتو فأتلقى عقابي.ثم أردف بندم:_أتعهد بأنني سأعتذر! ولَمَّا طالت تمتماته وبدا أنه لن يرد تحيات الرجل ابتسمت رهف ببشاشة قائلة:_نحن بخير أستاذ خالد! وأمام الغرفة المُغلقة التي ترتاح بها موَدَّة بعد أن وضعت مولودتها، جلسوا كأربعة صور حَيَّة لِقوى الشر في الأفلام السينمائية، يصوبون أعينهم إلى هدف واحد فيغتالون بنظراتهم الشرسة خالد الذي يقف مع عمُّه على بُعد بضعة أمتار منهم يتحدث معه دون دراية بأنه محور حديثهم الهامس.. القانِط.. المتوعد!_لماذا أتى هذا الثرثار إلى هنا؟والسؤال الذي تمتم به حمزة بضيق تَوَلَّى ساري إجابته بنبرة مماثلة:_ أتى كي يُنهي مستقبلي تماماً، أتي كي يعكر صفاء حياتي الهادئة، أتى كي يصيبني بالشلل كما شعرت منذ رأيته للمرة الأولى، موقن أنا من ذلك! لِيُعقب عَمَّار زافراً بِغيظ:_لا أدري لِمَ يتواجد دائماً حيث بإمكانه إثارة أعصابي، لا أدري ماذا يفعل هنا؟ لماذا لا يعود إلى الخارج؟بينما رَدَّ عاصم وهو يحُك جبهته شارداً في أفكار عنيفة راقت له كثيراً:_أظن أن باستطاعتي إقناعه، ربما أضعه داخل تابوت خشبي وألقيه داخل بحيرة ما، فلا يقوى على الرفض.واستعاد عَمَّار دفة الحديث مُغمغماً بسخرية:_بالطبع ما إن نعود إلى البيت سوف يأتي للتهنئة، عزائم، ولائم، زيارات، وذكريات مُصَوَّرة صفراء مميزة للغاية ترفع من مستوى ضغط دمائي إلى أقصاه. والوعيد كان ما ساد لهجة حمزة حيث جز على أسنانه هامساً:_أقسم إن تحدث إلى سارة بمزاحه السخيف المتباسط لسوف أجعله يرى كيف أن هناك وجه سيء الأخلاق أسفل تهذيبي الذي أتشبث به بصعوبة أمامه. وساري الذي وضع كفه على ذقنه بِغِل لم يشعر به أضاف وهو يومىء برأسه تباعاً دون ملاحظة: _لقد حذرته كثيراً وألقيته بالصحراء بنفسي آملاً أن يقابل أحد حيوانات السلعوة الجائعة فيدرك مدى الخطر الذي عَرَّض نفسه له، لكن يبدو أنه يتظاهر بالغباء، أو أنه حقاً يتعمد دفعي إلى ارتكاب جريمة!ثم استرسل عاصم الذي انفصل عنهم تماماً غارقاً في عالم خيالي من طُرق القتل المتعددة بخفوت مُثير للقلق وهو يدق على ركبته بأنامله:_دفعة لاإرادية من فوق درجات هذا المشفى ليست بالفكرة السيئة على الإطلاق، وإن نظرنا إلى الجانب الإيجابي نجد أنه سيحصل على محاولة إسعاف عاجلة، وبالطبع الفشل وارد في جميع الأحوال!وارتفع حاجبا ساري منتبهاً إلى خاطر عبقري أعلن عنه على الفور:_أهناك احتمال أنه يعمل بالأصل لدى أحد منافسيني؟ لذا يظهر أمامي حتى في الأحلام! بالتأكيد هذا الإصرار المقيت الذي يتسم به مدفوع الأجر! وَحَلَّق عاصم بأفكاره في سماء عالمه الدموي رافعاً سبابته مبتسماً بانتصار ومردداً ببطء:_المطرقة! وعندما نظر له الثلاثة بِتوجُّس استدرك بِحماس:_معي بالسيارة مطرقة أقراص لحم ثقيلة تنتظرني لتجهز عليّ في المستقبل إن لم أنتبه لِما أتفوه به، لكن بإمكاني الاستفادة منها أولاً!عاد الثلاثة مرة أخرى بنظراتهم إلى هدفهم المشترك، ليضرب عَمَّار كفَّاً بالآخر متمتماً من بين أسنانه بقهر:_بالطبع لن أستطيع الرفض حتى لا تتهمني مَوَدَّة بانعدام اللياقة، وسيبقى ببيتي لِساعات يشاهد الأفلام بينما يلقي عليّ المحاضرات عن مدى التخلف الذي نعانيه هنا مقارنة بالحرية خارجاً!ومال عاصم برأسه جانباً مُستطرداً بهدوء حُلولاً ستُنهي مشكلته الوحيدة التي تتمثل في خالد:_ربما إن أسقطنا إحدى مطافىء الحريق هذه فوق رأسه ستتهشم فتتطاير أفكاره كلها كرذاذ سام ثقيل الظل فلا يزعج أحداً بها ثانية!وَهَزَّ حمزة رأسه هاتفاً وهو يقف مندفعاً:_لقد نفد صبري!ليتشبث ساري بذراعه مُحذراً من بين أسنانه:_انتظر حمزة! نحن بداخل مشفى يا رجل! عندئذٍ هتف عاصم فجأة بابتسامة واسعة:_العقاقير! وعندما نظروا له باستهجان تابع بحماس أكبر وهو يتوجه بالحديث إلى حمزة:_العقاقير ملقاه هنا وهناك، وأنت طبيب، نحصل على أحدهم وندفعه داخل فمه فنمحو ابتسامته المستفزة ويخرس لسانه المعسول إلى الأبد. انعقد حاجبا حمزة مغمغماً باستنكار:_لا أستطيع عاصم، لقد ألقيت قَسَمَاً.هَزَّ عاصم كتفيه بلامبالاة قائلاً:_أنا لم ألقِ أية أقسام!وتدخُّل السيدة سوسن التي استمعت لبعض همساتهم الإجرامية أنهى المؤامرات التي يُحيقونها خلف الشاب البرىء، لِتحيي عَمَّار ببشاشة قائلة: _مبارك يا عَمَّار، بارك الله لكما بها.ثم نظرت إلى حمزة متسائلة:_هل ستقلني إلى البيت حمزة؟ ساري لن يستطيع ترك رهف الآن.اندفع حمزة تجاهها متأبطاً ذراعها قائلاً بحنان:_نعم أمي، هيا بنا.ثم أدار رأسه إلى ساري بنظرة ذات معنى أن:"لا تدعه يتحدث مع سارة!"فيبادله ساري بنظرة ذات معنى أن:"لا تقلق! سأنتزع لسانه أولاً!""يا إلهي! ألا توجد معجزة ما تثبت أن ذلك الظريف ليس ابن عمك حقاً؟!"هتف بها عَمَّار بغيظ ما إن ولج إلى غرفة مَوَدَّة بعد أن تأكد من انصراف خالد من المشفى كلها.نظرت له مَوَدَّة وعلامات الإعياء على وجهها واضحة بِشدة، فاقترب منها ناظراً إليها بقلق انمحى بالتدريج ما إن تطلع إلى الرضيعة بين أحضانها.جلس إلى جوارها مُثبتاً عينيه على الجسد ضئيل الحجم..ابتسامة؛ فضحكة؛ فقهقهة دامعة!_إنها.. لم يجد تتمة يعبر بها عن شعوره لِوهلة، فنظرت له مَوَدَّة بحنان، ليتابع:_إنها رائعة!وبأحد أنامله تحسس البشرة الناعمة للرضيعة مُضيفاً:_إنها ناعمة!ثم مال عليها مُقبلاً يدها الدقيقة مُستطرداً:_رائحتها لا مثيل لها!لكنه لافع رأسه عنها واستكمل بقلق:_لِمَ هي أصغر حجماً من إياد عند مولده؟هَزَّت كتفيها بلا عِلم فتأمل ملامحها بحنان متسائلاً:_هل تألمتِ أكثر هذه المرة؟ابتسمت وهي تجيبة بِحَذَر:_لا.. على العكس، هذه المرة كان الأمر أكثر سهولة من مولد إياد.انعقد حاجباه باستغراب قبل أن يسألها: _لماذا كنتِ تصرخين طوال الطريق وحتى تم الوضع كأسرى الحرب إذن؟! لقد فقدت أعصابي رُعباً!توردت وجنتاها وأشاحت بوجهها بعيداً ثم رددت بخفوت:_كنت.. كنت أود رؤية مقدار خوفك وقلقك عليّ عَمَّار.انحبست الكلمات بحلقه لِثوانِ، قبل أن يقول بدهشة:_لقد طار عقلك تماماً حبيبتي، رهف كانت ترتجف ذعراً بالخارج، والسيدة سوسن ظلت تصلي وتدعو لكِ، بينما سارة وسما تبكيان بلا انقطاع..وأضاف مستنكراً:_كل ذلك لأنكِ أردتِ رؤية خوفي عليكِ؟!اكتنفها الخجل والتزمت الصمت لبعض الوقت..ليضمها إليه هامساً:_ألازلتِ لا تدركين كم أحبك؟! أخفت وجهها في صدره هامسة بالمثل:_أنا متأكدة من حبك لي عَمَّار، لكن.. لكن أحياناً أرغب بـ...بترت عبارتها لا تدري كيف تتمها ففعل عِوضاً عنها:_ترغبين بتعويض ما فاتنا من قبل؟أومأت برأسها إيجاباً بصمت، ليزفر هو بحرارة ثم يقول واعداً:_سأعوضك مَوَدَّتي، سأقضي عُمري كله أعوضك، وسنعيش بسعادة، أنا، وإياد، ومَوَدَّة، و.... صمت قليلاً فرفعت رأسها تنظر إليه بتساؤل..مَسَّ شفتيها بِرِقة ثم ردد بخفوت:_ورَحمة!شَعَّ وجهها بابتسامة مندهشة ثم سألته:_أسنسميها رحمة؟ليومىء برأسه مؤكداً:_هي إثبات أقوى على عشقي لكِ، هي هدية منحني الله إياها بعد أن سامحتِني، هي رحمة منه بعدما أدركت قيمتك لديّ.وانتقلت الابتسامة إلى وجهه هو متابعاً بتصميم:_إذن هي رحمة!ضمها إليه أكثر ثم قال فجأة:_أتعلمين؟! ما إن تستعيدي صحتك سآخذك أنتِ وإياد ورحمة إلى البحر، فتتشبثين بظهري طوال الوقت! ثم أردف بحسرة:_لكن بالطبع لا إمكانية لاصطحاب ثوب السباحة الأصفر المميز للغاية معنا