*البداية* تَطَلَّعت إلى أركان الشقة-إن جاز التعبير- باهتمام ظاهري، مُحاوِلَة إخفاء رجفة جسدها عن مُرافقها كي لا يستغل وضعها أكثر، جالت ببصرها على الجدران المُتسخة والبلاط العتيق، ثم انتقلت بعينيها إلى الطاولة التي تتوسط الغرفة الوحيدة بخشبها المتآكل وهي تلمح أحد أرجلها المائلة بوضوح، زفرت باستسلام واستدارت عائدة إلى الخارج مرة أخرى ترسم على وجهها لامبالاة وضيق مصطنعين متسائلة: -ألا ترى أن الإيجار الذي تطلبه كثيرًا يا حاج؟ إنها غرفة بسيطة بالطابق الأرضي. عقد الرجل حاجبيه وهتف بنزق: -ألا تعلمين يا آنسة كم ارتفعت أسعار إيجارات العقارات؟ ألا تدركين أن لتلك الغرفة يأتيني زبائن يتوسلونني يوميًا كي أوافق على تأجيرها لهم؟ إن ظللتِ تبحثين في المنطقة بأكملها لن تجدي مثل ذلك السعر الذي لا يعجبك. اقتربت منه خطوتين قائلة بأسف: -أعتذر يا حاج، لم أقصد أن أُقلل من قيمتها، لكن اعذرني، أنا لازلت ببداية حياتي ووحدي، كما أن عملي لا يـ..... قاطعها بصرامة: -ولهذا السبب بالتحديد يجب أن تشكرينني لأنني وافقت على تأجيرها لكِ في الأساس، فلن تجدي بسهولة من يسمح لفتاة وحيدة بالسكن في بناء سكني عائلي. ازدردت لُعابها وأشاحت ببصرها بعيدًا وتلميحه يصل إليها واضحًا، فقد رفض ثلاثة من أصحاب البناءات السكنية السماح لها بالتأجير لديهم بالفعل، فبمجرد أن يعلم المؤجِر أنها فتاة وحيدة يذهب ترحيبه بلا عودة. رَفَعت رأسها تنظر له باستسلام قائلة: -كما تريد، سأنتقل غدًا بإذن الله. تنحنح بخشونة قائلاً: -لا تنسِ دفع شهرين كمُقدم، كما أنني لا أسمح بتأخير الإيجار عن اليوم الثالث بالشهر. وافقته بإيماءة بسيطة من رأسها ثم حيته وتجاوزته إلى الخارج. أغلقت حقيبة ملابسها ثم وضعتها بجوار الأخرى التي تحوي كتبها، جلست على فراشها منهكة وهي تُحدق في كل جزء بغرفتها البسيطة مبتسمة بشجن، على ذلك المكتب كانت تقضي لياليها ساهرة تذاكر دروسها، أمام تلك النافذة انتظرت بالساعات من يأتي وينتشلها من مأساتها، داخل تلك الخزانة اختبأت من زوجة خالها وهي تسعى خلفها بالعصا الغليظة، ثم انتقلت ببصرها إلى الفراش الذي تجلس فوقه فشابت ابتسامتها المرارة وهي تستأنف تأملاتها، كم من مرة تم عقابها بالنوم أسفله-رغم خُلُو أعلاه- ليالٍ أخرى؟! مَسَّدت على ذراعيها ببطء تحث نفسها على درأ الحزن والخوف والتمسُّك بالتفاؤل بالمستقبل، يكفيها معاناة منذ أن بدأت تعي ما حولها، الآن هي لن تفكر إلا بكفاحها وبنجاحها وستعمل عليهما بكل جهدها، ولن تسمح لأحد بأن يُزعزع ثقتها الوليدة بنفسها. تعالت دقات على باب غرفتها فهتفت بترحيب: -ادخلّ! فُتح الباب ليطل خالها من خلفه قائلاً بحنان: -اعتقدتُ أنكِ نمتِ مُبكرًا، لكنني أردتُ الإطمئنان عليكِ. وقفت مبتسمة بحنان واتجهت إليه قائلة: -كنت أجمع أغراضي ولتوي انتهيت، تفضل بالدخول خالي! تقدم خالها إلى الداخل ببطء ثم جلس على أقرب مقعد وهو يتهرب من عينيها، أغلقت الباب ثم اقتربت منه وجلست أرضًا بجانبه كما تحب أن تفعل دومًا، امتدت يدها لتحيط بكفه وتُقبله بحنان، لتتساقط دمعاته تِباعًا مُرددًا بِحسرةٍ: -سامحيني ابنتي، لقد خذلتك. رَفَعَت أناملها لتمحو دمعاته التي تنهال على وجنتيه، فتابع هو: -أعلم أن ما سيحدث أمر غريب، أعلم أنه كان يجب علي التمسك بكِ والدفاع عنكِ، لكن أقسم أنني لم أعد أستطيع، كما أن ما حدث أيضًا يجعلني مُكبلًا أمام شروق وقاطعته بجدية: -خالي أنت لم تخذلني أبدًا، أنت الوحيد الذي رضيت بي وتقبلتني حينما نبذني الجميع، أنا ليس لي سواك، أنت أبي وأخي وصديقي وأماني، ولن يستطيع أحد زحزحة مكانتك لدي. نظر لها بألم متزايد فارتسمت ابتسامة مشاغبة على شفتيها وهي تقول: -ماذا بك يا صلاح؟ ما الغريب في الأمر؟ لو كنا نعيش بالخارج لكنت استقللت بمعيشتي عنكم منذ سنوات، ثم إنك لن تتخلص مني تمامًا، فسأحرص بكل جدية على استمرار نزهتي الشهرية معك لتبتاع لي المثلجات والشوكولاتة، وسأرهقك بطلباتي التي لن تنتهي. ابتسم لها من بين دمعاته وهو يدرك محاولاتها لتخفيف ذنبه الذي لن يُغتفر أبدًا، ثم رَبَّت على رأسها مُتحدِّثًا بألمٍ: -لطالما كنتِ ابنتي وحبيبتي وصديقتي، اعلمي أنني سأحاول إقناع شروق ودينا وسأجعلهما يطالبنكِ بالرجوع بأنفسهما. منعت ابتسامتها الساخرة بصعوبة وهي ترتفع بجذعها لتقبل رأسه بامتنان قائلة بِخفوت: -أشكرك خالي، أشكرك على كل ما فعلته من أجلي طوال تلك السنوات، أشكرك لتحمل ما لا يُطاق بسببي، أنت سندي دائمًا، ولن أرتضي الألم لك مجددًا. أتودعه؟! ابنته الحبيبة بالفعل ستبتعد! ألن يتمتع باهتمامها به؟! ألن ينام كل ليلة وهو مطمئن البال بأنها في أمان تحت سقف منزله؟ هبَّت واقفة بابتسامة مرتجفة وهي توليه ظهرها كي لا يرى دمعاتها وهتفت: -أنت جئت الآن خصيصًا كي تؤخرني عن موعد نومي، هيا خالي عد إلى غرفتك فيومي حافل بالغد. تظاهرت بالعبث في هاتفها حتى لا يكتشف قهرها وحسرتها، فلم تشعر إلا بقبلته المعتذرة فوق رأسها ثانية، ثم سمعت أصوات خطواته المغادرة، وبمجرد إغلاقه الباب سمحت لأنينها المكتوم بالتحرر أخيرًا. لملمت حقيبتها ودفاترها بِتمهُّل ثم اتجهت إلى خارج القاعة لتدرك فجأة أنها لم تتناول أي طعام منذ الصباح، أخذت تفكر في نوعية الطعام الذي يتم إعداده في غضون عشر دقائق على الأكثر لأنها لن تتحمل الانتظار أكثر من ذلك قبل الخلود للنوم، لايزال الوقت مبكرًا تعلم لكنها ستتخلى عن أي شيء كي تنعم ببضعة ساعات من الراحة بعد أسبوع مُرهِق تمامًا، وصلت إلى بوابة المبنى الخاص حيث تقوم بتدريس اللغة الإنجليزية لطلاب المرحلة المتوسطة منذ أربعة أشهر حينما سمعت ذلك الأنين الضعيف من مسافة قريبة، اقتربت بحذر حتى وصلت إلى مصدر الصوت لتتوقف فورًا وهي ترى تلك الفتاة الصغيرة تُكفكف دمعاتها وتشيح بوجهها بسرعة، فسألتها بقلق: -مريم! ماذا بك؟ لِمَ تبكين؟ مَسَحَت الفتاة وجهها بحرج وهي تتهرب بعينيها مُجيبة: -لا شيء، أنا متعبة قليلًا. جلست بجانبها بهدوء ثم قالت بحنان: -لا تخجلي أبدًا من البكاء، عبري عن حزنك ومشاعرك كما يحلو لكِ تمامًا. ما إن أنهت عبارتها حتى انفجرت الفتاة في بكاء متألم، أحاطت كتفيها بذراعيها مربتة عليها بحنان لتتشبث مريم بأحضانها، بعد عدة دقائق هدأت مريم بالتدريج وكَفَّت عن البكاء تمامًا، ابتعدت عن أحضانها ببطء فَرَفَعت ذقنها بإصبعها ترمقها بحنو مُخاطبةً إياها: -إن لم تريدي إخباري بما حدث لتبكي بذلك الشكل فلن ألح عليكِ. نظرت لها الفتاة بألمٍ قائلة: -لقد سَخِروا مني، مجددًا. عقدت حاجبيها بدهشة وهي تسألها: -من سخر منكِ؟! طأطأت رأسها أرضًا مرة أخرى ورددت بخفوت: -بعض من زملائي اعتادوا على السخرية مني بسبب تلك الشامة على وجنتي، كنت أراهم دائمًا وهم يدققون النظر بها ثم يتهامسون سويًا ويبتسمون. تطلعت إلى تلك الشامة الظاهرة على وجنتها بوضوح وسألتها بحنان: -وكيف يكون رد فعلك في ذلك الموقف؟ اجتذبت نفسًا عميقًا وهي تحاول التظاهر بالقوة وغمغمت: -كنت أتظاهر بعدم ملاحظتي، حتى عندما كانوا ينظرون لي بتحدي كنت أدعي عدم الاهتمام. -إذن ما الذي حدث اليوم لتنهاري بتلك الطريقة؟ عادت الدمعات إلى عيني الفتاة مع سؤال معلمتها فَمَحَتهن بيدها وتحشرج صوتها وهي تقول: -اليوم.. اليوم نعتوني أمام صديقتي الجديدة بالقبيحة، لقد نظرت لي مليًا ثم ابتسمت بسخرية ورحلت مسرعة، أنا ليس لدي أي أصدقاء، جميعهن لا يردن التقرب مني حتى لا يتعرضن للسخرية بسببي. استأنفت بكاءها المرير فلم تقاطعها تلك المرة، راقبتها مليًا بصبرٍ حتى انتهت بعد دقائق متسائلة بخفوت: -هل أنا قبيحة إلى تلك الدرجة؟ امتدت يديها لتتشبث بكتفي الفتاة بقوة فرفعت الأخيرة عينيها بترقب: -اسمعي مريم، أنتِ لا تحتاجين أن أكرر على مسامعك كم أنتِ جميلة وستزدادين جمالًا بمرور الأيام، لا تحتاجين لأن أخبرك كم أن تلك الشامة التي تكرهينها أراها أنا تميزك بشدة، لكن ما سأقوله يجب أن تنتبهي له جيدًا وتعملي به. تطلعت إليها الفتاة باهتمام لتتابع هي حديثها بصرامة مَشوُبَة بالحنان: -لا تسمحي لأي شخص بالتقليل من قيمتك، أو أن يؤثر على ثقتك بنفسك، الله عادل ورحيم بنا لا يظلم أحدًا، نحن فقط من نظلم، فلا تجعلي بعض قساة القلوب يتسللوا إلى إيمانك به أو بنفسك، ولا تضعي نفسك في أية مقارنة، اعلمي أيضًا أن من لا يسعى إليكِ لا يستحق صداقتك بالأساس. ازدردت لعابها وهي تومىء برأسها فتابعت: -واحرصي دائمًا على أن تبكي بمفردك، اطلقي العنان لدمعاتك وصرخاتك وشكواك وحيدةً، ثم اظهري أمام الجميع قوية واثقة. ابتسمت الفتاة بضعف ممتن فبادلتها ابتسامتها قائلة: -والآن ألن تعودي إلى منزلك؟ انطلق رنين هاتف الفتاة فوقفت مسرعة: -كنت أنتظر شقيقي ليَقِلني، ها هو قد وصل. -حسنًا، أراكِ بالأسبوع القادم إن شاء الله، إلى اللقاء. ما إن استدارت لتنصرف حتى عاجلتها الفتاة صائحة: -آنسة رهف! التفتت إليها مرة أخرى مبتسمة بتساؤل فتقدمت مريم لتقف أمامها تمامًا: -شكرًا لكِ. ابتسمت رهف بحنان ثم قبَّلت شامتها ولحِقتها بغمزة شقية لتتعالى ضحكات الفتاة، حتى انطلق الصوت الرجولي من خلفها: -هل أنتِ بلهاء؟! استدارت تنظر لشقيقها بملل وهي تحدثه بنظرة مستنكرة: -لقد أنهيت حصتي منذ ربع ساعة، أين كنت؟ ولِمَ تأخرت؟ نظر لها شقيقها بابتسامة ساخرة: -عذرًا سيدتي على تأخري بخدمة سيادتك، فأنا كما تعلمين لدي وظيفة أخرى سوى تنفيذ أوامرك والخضوع لدلالك. ضغطت أسنانها بغيظ: -هل تسخر مني عاصم؟ -حاشا لِّله وهل أتجرأ أنا على السخرية من الهانم؟! هيا إلى السيارة وتوقفي عن أفعال الأطفال فأنا مرهق للغاية ووالدك ينتظرنا لتناول الطعام. تقدمها إلى السيارة فتبِعته شاردة في كلمات معلمتها التي-ولا تدري كيف- أشعرتها بقوة غريبة وثقة مشجعة. أوصدت باب شقتها بالمفتاح ثم أحكمت غلق النافذة الوحيدة جيدًا، اتجهت بتثاقل إلى الفراش وارتمت بجسدها فوقه وهي تزفر بتعب، لقد كانت تتثاءب بمجرد إنهائها عملها لكنها الآن تتوسل النوم للحضور فلا تجده، أكُل ذلك بسبب وحدتها وشعورها بالغربة؟أم بالخوف؟ أم أن حديث مريم هو ما أثار شجنها؟ مهما حاولت التهرب من ذكرياتها المظلمة لا تستطيع، وكأنها تلاحقها متعمدةً كي تمعن في إيذائها، تنمُّر دارِج بين بضعة مراهقين أفسد عليها راحتها التي تشتاق إليها، هل ستظل دومًا على تلك الحال؟ هل ستبقى حبيسة ذنب لم ترتكبه طوال حياتها؟ سخِرت من نفسها بإزدراء: -أين كلماتك الحماسية التي أسمعتيها للفتاة؟! ألن تعملي أنتِ نفسك بمبادئ الخطبة العصماء التي تشدقتي بها اليوم؟! تطلعت إلى صورتها خلال المرآة تراقب ملامح القوة التي بدأت تختفي بالتدريج، ليحل محلها.. ضعف ألم احتياج وشعور بالذنب! أسبوع مر منذ إنهائها فصل حزين آخر بحياتها، هاتفها الها بضعة مرات لم يتحدث خلالهن كثيرًا، تعلم أن شعوره الضعف والذنب يقتلانه، تعلم أن ما بيده حيلة، ولا تنتظر منه أكثر، يكفيه ما تحمل من أجلها، يكفيه دفاعه عنها وإيوائه لها لسنوات، وستكون ظالمة إن طالبته بالمزيد، ما يؤلمها الآن أنها بالفعل وحيدة، لا أحد يؤنسها ولا يبادلها كلمة، هل من الطبيعي أنها الآن تشعر باشتياقها لأوامر زوجة خالها التي لا تنتهي؟ أو أنها لا تتضايق بشدة بسبب سخافات ابنة خالها وتنمُّرها الدائم؟ حتى الأمور التي نكرهها نُدرك أن لها بعض القيمة بعد زوالها!استسلمت أخيرًا تعي انتهاء مدة صلاحية اصطناعها اللامبالاة والبرود لهذا اليوم، فأطلقت العنان لنفسها كي تعبر بصمت عما يجيش بصدرها، لتنهمر دمعة.تلحقها أخرى وأخرى و. سيل ألمها انهار ولن يتواجد بجانبها امرئ تضطر لتواريه عنه، هي في الأصل لا تريد تواريه، يحق لها أن تكافئ صمودها بتسليم المقاليد لضعفها كي لا تنفجر في وقت لا يسمح لها بذلك، فلتستريح ببكائها الآن ثم تبدأ يومها غدًا متسلحة بعنفوانها. تداخل صوت رنين هاتفها مع أصوات حلمها، بنصف عين استيقظت ثم ظلت مكانها لثوانٍ قبل أن تتعرف على الرنين المُصِّر، تناولت هاتفها وحَدَّقت به مدركة بأنها نامت بعدما أُنهك جسدها بسبب بكائها الذي لم ينقطع لنصف ساعة، صمت الهاتف يأسًا فألقته جانبًا ثم استقامت بتعب،عاد صوت هاتفها للصراخ مرة أخرى فالتقطته وهي تحاول التعرف على الرقم غير المسجل ثم أجابت باستسلام: -مرحبًا! صمت تام على الجهة الأخرى جعلها تجلي حنجرتها ظنًا منها أن المتصل لم يسمعها، وكررت: -مرحبًا! من معي؟ مرة أخرى لا رد، عقدت حاجبيها بضيق، وانطلق صوتها الرقيق حانقًا: -إن لم ترد حالًا سأقوم بحظر رقمك. ضغطت أسنانها بغيظ وهمت بإنهاء المكالمة، لكن أصابعها تيبست على الهاتف وهي تستمع لتعليق محدثها: -إذن أنتِ رهف! تسلل تَرَقُّب غريب إليها بسبب النبرة الرجولية الخشِنة غير المألوفة، تمسكت بهاتفها أكثر ثم أجابت بتوجس: -نعم، أنا رهف، من تكون أنت؟ ضحكة ساخرة خافتة انطلقت من الطرف الآخر حولت توجسها إلى قلق فأتبعها بعبارته: -غريب! غريب! ألا تعرفين من أنا؟! وأنتِ أحق الناس بمعرفتي! اجتاحها خوف وهي تتلفت حولها متجهة إلى الباب لتتأكد من إغلاقه: -اسمع! إن كنت تريد التلهي قليلًا فلست أنا من تبحث عنها، أنا لست متفرغة لتلك المهاترات، لا تعاود الاتصال مرة أخرى وإلا سأ..... قاطعتها لهجته الساخرة بتحدي: -وإلا؟! ماذا ستفعلين؟ هل ستخبرين خالك؟ صمتت محاولة السيطرة على ارتجافة ذراعها اليسرى وهي تهبط بنظراتها إليها بخوف، لا! لن يحدث ذلك الآن! لن تخذلها في تلك اللحظة! همت بالرد حينما بادرها بضحكة ساخرة سرى بها-لدهشتها- بعض من الألم: -يا إلهي! أنا آسف، لقد نسيت أنه لم يعد هناك وجود لخالك بحياتك، وأنكِ الآن تعيشين بمفردك تمامًا بغرفة وضيعة، لا صحبة، لا أمان، لا أحد على الإطلاق! ثم أردف بسؤالٍ ساخر: - أتعتقدين أنكِ إن حاولتِ الرجوع إليه ستوافق كلًا من زوجته وابنته؟ اتسعت عيناها بذعر وهي تعاود الالتفات حولها بجنون، عم الصمت لحظات أخرى وكأن الطرف الآخر يمنحها الفرصة لتستوعب المأزق الواقعة به الآن، ثم بصوت متقطع أجابته: -من أنت؟! وكيف تعرف عني كل ذلك؟ أهي إحدى مكائد دينا لتكدير حياتي؟ لقد تركت لها المنزل بأكمله، لِمَ لا تدعني وشأني؟! أرعبتها الصيحة الغاضبة التي انطلقت منه: -وهل تعتقدين أن ابنة خالك الخبيثة تفكر بك بعدما رحلتِ عنها؟ اسمعي رهف! أنا لم أبحث عنكِ بأمرٍ من أحد ولا يستطيع شخص إثنائي عن ذلك، كما أنني ليس لي علاقة بخالك ولا بأسرته، ما يهمني هو أنتِ، وأنتِ فقط! بهمسةٍ مرتجفة أجابته وهي تحشر هاتفها بين أذنها وكتفها، ثم تمد يدها اليمنى لتُمسد ذراعها اليسرى بسرعة، تساقطت دمعاتها وهي تحاول كتمها بإصرار كي لا يدرك محدثها تأثير حديثه عليها: -ماذا تريد مني؟ تسمرت يدها على ذراعها وإجابته تصدمها ببساطتها: -لا أريد سوى الاطمئنان عليكِ. ثم أردف بغموض: -حتى الآن. اهتزت حدقتاها وتنفست ببطءٍ متسائلة: -ماذا تعني؟ وعندما أجابها، استطاعت أن تدرك ابتسامته برغم عدم رؤيته أو معرفتها بهويته من الأساس: -أعني أنكِ لستِ وحدك رهف، وأنا لن أترككِ مطلقًا. وبنفس البساطة أنهى مكالمته قبل أن يتسنى لها العثور على ردٍ مناسب، أمسكت هاتفها بيدها قبل أن يسقط أرضًا ودقات قلبها تتصارع وهي تحدق بيأسٍ في ذراعها اليسرى التي توقفت عن الحركة تمامًا.. مجددًا! دلف إلى مكتبه بعدما أنهى مكالمته الهاتفية مع شقيقته المزعجة بطلباتها التي لا تنتهي، صحيح هو يتظاهر بالضيق من كثرة مطالبها لكنه لا يخفي على نفسه استمتاعه بتدليلها برغم علمه بعدم استطاعته تعويضها عن غياب أمها في تلك السن المبكرة، دعا لها بالغفران والرحمة كما رحمته وأكرمته صغيرًا يتيم الأم برغم وجودها على قيد الحياة! كان يدندن بلحن شعبي أُجبر على سماعه في الآونة الأخيرة بكل مكان، حتى أنه لن يندهش إذا اقتحم أحد أحلامه، وعلى ذِكر الاقتحام فقد رفع عينيه بملل تزامنًا مع تلك العاصفة الهوجاء التي اندفعت من باب مكتبه صارخة: -استمع إلىَّ عاصم! أنا لن أسمح لكم بتنحيتي عن حضور تلك الاجتماعات المُهمة مرة أخرى، أنا أعلم جيدًا ماذا تحيكان أنت وصديقك في غيابي. أسند وجنته إلى كفه وهو يتصنع الصدمة: -يا للمصيبة! هل كشفتِ مخططاتنا كلها بالفعل؟! هنيئًا لك يا فتاة، أنتِ بارعة حقًا! ضيقت عينيها بتحذير وهي تقترب من مكتبه مُرددة ببطء: -اسخر مني كما شئت، لكنني بالفعل أعلم أنكما تتعمدان الانفراد بحضور تلك الاجتماعات حتى لا يُذاع صيتي وأُلفِت الانتباه بحذاقتي وذكائي. مط شفتيه بسخرية: -بالطبع! بالطبع! أخبريني متى استيقظتِ اليوم؟ عقدت حاجبيها بدهشة وهي تحدق به ببلاهة: -عفوًا؟! زفر بغيظٍ شديد وهو ينظر إليها بجدية مُشدِدًا على كل كلمة: -في أي ساعةٍ استيقظتِ اليوم آنسة سارة؟ تهربت بعينيها منه وهي تدور بهما في أنحاء غرفة المكتب بتوتر: - في التاسعة.ابتسم ببرود وهو يسترخي في مقعده: -مواعيد الحضور في الثامنة صباحًا، ولهذا يُخصم منك نصف يوم حتى تلتزمي بمواعيد الحضور. ضربت الأرض بإحدى قدميها عابسة: -هذا ليس عدلاً، لقد ظللت متيقظة حتى ساعةٍ متأخرة أُفكر في ذلك العرض الذي سنقدمه خلال الاجتماع. ازدادت ابتسامته الباردة اتساعًا وهو يُخاطِبها بلامبالاة: -إذن سجلي اعتراضك لَدى شقيقك، هو من يضع القوانين هنا. انتفضت وهي تميل تجاهه متوسلة: -لا لا، إلا هو، لقد أتيت إليك طامعةً في كرم أخلاقك أن تتوسط لي عنده، لكن للأسف أنت مثله تـ... قاطعها بتحذيرٍ: -للأسف أنا مثله كيف آنسة سارة؟ تابعي! حديثك شائق وأعتقد أنه سَيَسُره أيضًا. ضغطت أسنانها بغيظ وهي تُتمتم بشيء لم يسمعه لكنه تيقن أنها سَبة ما أو ربما دعوة عليه هو وشقيقها بأن ترتاح من تسلطهما، ابتسمت له بغيظ وهي تجبر نفسها على التحدث بهدوء: -وأين هو صديقك؟ لقد خرج مبكرًا جدًا قبل حتى موعد الاجتماع. ابتسم لها باستفزاز وهو يرفع حاجبيه في حركة مغيظة: -لا أعلم، أنا لست مُحققك الخاص، توقفي أنتِ والحاجة سوسن عن محاولة جعلي كذلك. تخصرت وهي ترد له ابتسامته بأكثر منها إغاظة: -إذن الحاجة سوسن تخبرك ألا تتناول طعام غداءك لدينا اليوم، والذي هو بالمناسبة يحتوي على الكثير والكثير من أنواع السمك. انتفض واقفا مُندفِعًا إليها بِحماسةٍ واضحة: -أخوكِ يحاول منذ فترة شراء منزل في أحد الأحياء لقديمة، واليوم فقط وصل إلى اتفاق مع صاحب العقار، أنتم لن تأكلوا الأسماك بدوني، أليس كذلك؟ رمقته بدهشة: -أي منزل؟! ثم تابعت بابتسامة فرحة: -هل سيتزوج؟! تهرب من عينيها بارتباكٍ جلي: -ليس لدي معلومات أكثر، الآن ماذا بشأن تلك الدعوة؟ ضيقت عينيها بشكٍ للحظة ثم أرخت ملامحها: -قائمة بالطبع باش مهندس عاصم، الآن سأذهب إلى عملي. خرجت من المكتب فزفر هو بحنق، لقد عبثت الفتاة به وسقط هو كغر ساذج ليفشي سر صديقه... لو لم تلوح له بورقة الأسماك! بعد ثلاثة أيام: اختتمت درسها بابتسامةٍ مرتجفة للطلاب الذين كانوا يتبادلون النظر بدهشة، ولِمَ لا يفعلون وقد كانت اليوم خرقاء أكثر مما يُسمح به؟! لقد تلعثمت وشردت ثم أسقطت أغراضها عدة مرات فلم تسعفها ذراعها السليمة الوحيدة في حفظ ماء وجهها لتتظاهر بعدها بعدم سماعها الضحكات الساخرة الخافتة من بعض هؤلاء المشاغبين، أحقًا مكالمة هاتفية غامضة تفعل بها ذلك؟! إنها حتى لم تتكرر! اندفعت إلى خارج القاعة تنهب الخطوات بحنق وهي تختلس النظر لذراعها تلومها بصمت، لا تعلم كيفية التصرف الآن، لقد ظنت أنها تخلصت من تلك المشكلة أخيرًا لتتيقن مؤخرًا أنها ربما ستظل إلى الأبد عليلة الجسد والروح. -آنسة رهف! التفتت لتجد مريم مقبلة إليها بابتسامة جميلة مُتسائلة: -هل أنتِ بخير؟ حاولت أن تبادلها ابتسامتها فظهرت النتيجة تعبير مرتجف متوتر تمامًا مُجيبةً إياها: -نعم مريم، أنا بخير، هل لديكِ أية أسئلة؟ -لا، لقد أردتُ فقط الاطمئنان عليكِ، لقد بدوتِ متضايقة بشدة اليوم. زفرت بتعب وهي تدنو منها لتربت عليها بحنو قائلة: -أنا بخير حبيبتي، أريد فقط قَسطًا من الراحة، أخبريني هل حدث ما يزعجك؟ هل أزعجكِ أحدهم؟ اتسعت ابتسامة الفتاة ورفعت إحدى كتفيها بغرورٍ مصطنع هاتفة: -ربما! لكنني لا أهتم، لن أسمح لأحد بالتأثير علي مرة أخرى. أطلقت ضحكة رائقة أخيرًا وهي تميل لتقبل شامة الفتاة مُرددة بِنبرة تشجيعية: -ممتاز! أنتِ فتاة قوية! نظرت لها مريم بامتنانٍ قائلة: -أنتِ السبب، لقد أخبرت أخي عن كلامك معي ذلك اليوم فَسَعِد بشدة، حتى أنه أكد عليّ أن أشكرك. قرنت مريم قولها بالفعل وهي تفتح حقيبتها ثم التقطت غرضًا وقدمته إلى رهف قائلة: -فكرت بإحضار وردة لكني خفت أن تذبل عند انتهاء الحصة، فنصحني عاصم بإهدائك شوكولاتة، تحبينها أليس كذلك؟ دمعت عيناها سعادة وهي تلتقط الشوكولاتة منها ثم أحاطتها بذراعها السليمة بحنان وهي تهمس لها: -بل أعشقها! شكرا لكِ مريم، لقد أسعدتني وَحَسَّنتِ مزاجي. ظهرت الفرحة جلية على وجه الفتاة وهمت بالرد عندما بدأت بالتحديق في نقطة ما خلف ظهر رهف ثم سألتها بفضول: -هل تعرفين ذلك الرجل؟ عقدت رهف حاجبيها بدهشة ثم التفتت لتلمح شابًا طويلًا على بعد مسافة منهما يوليهما ظهره ثم يستقل سيارة فاخرة رمادية اللون وينطلق بها مبتعدًا، حدقت في إثره بشرود ثم نظرت إلى مريم قائلة: -لم أستطع رؤيته، من هو؟ ظهر الاهتمام الأنثوي المبكر على وجه الفتاة وهي تخفض صوتها وتقترب من رهف هاتفة: -لقد رأيته بضعة مرات من قبل، واليوم هي المرة الثانية التي أشعر به يحدق بكِ أنتِ على الأخص، فظننت أنكِ ربما تعرفينه. هزت رهف رأسها بنفي ثم أجابتها ببساطة: -لا أعتقد أنه ينظر إليّ أنا، ربما يعمل هنا. ردت مريم بتصميم واثق: -لا أنا متأكدة، هو لا يعمل هنا، كما أنني لا أراه إلا في أيام حصصك فقط، حتى أنني رأيته اليوم أمام قاعتنا الدراسية وكان يحدق بكِ على وجه التحديد، فاعتقدت أنه ربما يكون شقيقك أو قريبك. ابتسمت رهف بحسرة قائلة: -أنا ليس لدي أشقاء أو شقيقات مريم، ومؤكد كل ذلك محض تخيلات من عقليتك التحقيقية المميزة. هزت مريم كتفيها بعدم اقتناع فتابعت رهف: -على أي حال، هيا عودي إلى منزلك، ولا تنسِ اختبار الحصة القادمة .غمزتها رهف وهي تلتفت بسرعة فكادت أن تصطدم بأحدٍ ما فبادرت بارتباك: -آسفة! ابتسم بود وهو ينظر إلى الفتاة التي تضحك خلفها: -لا تهتمي، أعرف تمامًا أن تلك الجنية تجعل من يرافقها يعدو هربًا عند أول فرصة. نظرت له بدهشة فاتسعت ابتسامته وهو يُحييها: -مهندس عاصم عبد الرحمن أخ تلك المزعجة، حضرتك بالتأكيد الآنسة رهف معلمتها. تنحنحت بتوتر وهي تومئ برأسها إيجابًا: -أهلًا وسهلًا. اتسعت ابتسامته وهو يمسك بيد أخته قائلاً: -مريم أخبرتني بما حدث، وودت لو أشكركِ بنفسي على النصائح التي أسديتِها لها. ابتسمت بصعوبة وهي تشيح بنظرها عنه قائلة: -لم أفعل شيئًا، مريم فتاة مميزة ومجتهدة، بارك الله لكم بها، أستأذنك الآن. لم تنتظر ردًا وهي تسرع بالانصراف، وصلت إلى موقف الحافلات واستقلت إحداهن، حمدت ربها أن وجدت مكانها المفضل لايزال خاليًا، المقعد الأخير بجوار النافذة، استندت بذراعها عليها وهي تشرد عامدة في أي شيء حتى تمتلئ الحافلة، وحينما أُغلق الباب وهَم السائق بالانطلاق شهقت بخفوت وهي تلمح السيارة الرمادية وصاحبها الذي لم تتبين ملامحه جيدًا يحدق بها بتصميم. كان على وشك الولوج إلى مدخل البناية التي يقطن بها عندما قابلته السيدة أم محمود التي تسكن بالدور الأرضي، أخفض بصره داعيًا ربه أن يمر بجوارها في سلام دون أن تعطله بثرثرتها التافهة، لكنه-مع الأسف- لم يكن محظوظًا إلى تلك الدرجة! -أستاذ صلاح! أغمض عينيه بتعب وهو يفكر في التظاهر بعدم سماع ندائها ولم يكد ينفذ أمنيته حتى وجدها أمامه تسُد عليه طريق الدَرَجات هاتفة: -أستاذ صلاح أناديك، ألم تسمعني؟ استطاع تدبير ابتسامة مفتعلة وهو يواجهها: -عذرًا أم محمود، فأنا لتوي قد عدت من العمل وأشعر بإرهاق شديد. ابتسمت المرأة بلامبالاة وهي تميل بالقرب منه قائلة: -أعلم ذلك أستاذ صلاح، أنا فقط أردت تحيتك والاطمئنان على أحوالكم جميعًا، كيف هي السيدة شروق؟ أغمض عينيه ممتنًا وهو يحافظ على ابتسامته خافضًا بصره بتهذيب علها تتركه يعبر ثم قال: -بكِ الخير أم محمود، هي بخير حمدًا لله، سأخبرها بسؤالك عنها، أتسمحين لي بالمرور؟ لم يبدُ عليها أنها سمعت طلبه فاستأنفت حديثها والحزن-الذي يدرك هو بأنه مفتعل- يقفز من عينيها: -لقد علمت بما حدث لدينا وحزنت كثيرًا من أجلها. أجابها بجدية وهو يثبت نظراته على الدرجات التي ستُخلِّصه من حديثها: -كل شيء نصيب أم محمود، حمدًا لله على كل حال. ارتسمت نظرة متعاطفة بعينيها وهي تتحدث: -ألا يوجد سبيل للرجوع؟ أتُحب أن أتدخل وأحاول الإصلاح بينها وبين طليقها؟ نظر لها بحنق وهو يجيبها مسرعًا: -لا, لا تفعلي أبدًا، لقد افترقا راضيين ولا يريد أحدهما العودة للآخر، شكرًا أم محمود على نيتك الطيبة. رَسَمت المرأة ملامح الحزن على وجهها وهي تقول بإشفاق: -أنت تعلم أستاذ صلاح أن السيدة شروق بمثابة شقيقتي، وأن دينا أعتبرها ابنتي. اعتلت ثغرة ابتسامة صفراء وهو يومئ برأسه إيجابًا مُرددًا: -أعلم أعلم، كلنا نعلم ذلك، شكرًا أم محمود، أستميحكِ عذرًا سأصعد إلى بيتي الآن لأ..... قاطعته بلهفة والفضول يتراقص بمقلتيها بعد أن كبتته طويلًا: -علمت أيضًا أن ابنة شقيقتك لم تعد تقطن معكم، خيرًا فعلتم والله فوجودها معكم كان لا يصح بتاتًا، حتى أنني أعتقد أنه ربما كان لها يد في طلاق دينا، لكن أين ذهبت يا ترى؟ أيعقل أنها ذهبت إلى...... حان دوره هو ليقاطعها هاتفًا بصرامة والغضب يندفع من ملامحه إليها: -أم محمود! أنا لا أسمح لأي شخص بأن يتحدث عن ابنة شقيقتي بما يسيئها، وبالرغم من أنه أمر خاص ولا يحق لأحد التدخل به إلا أنني سأخبرك أن رهف ليس لها أية علاقة بطلاق ابنتي، فأرجو منكِ أنتِ وصديقاتك الثرثارات ألا تذكرن اسمها على ألسنتكن، ومن الأفضل شغل أوقاتكن بما ينفع بدلًا من الخوض في حيوات الغير، افسحي الآن كي أصعد إلى بيتي فرأسي سينفجر حتمًا من الصداع. قفزت المرأة جانبًا محدقة به بذعر لينطلق هو صاعدًا بخطواتٍ غاضبة. أنهت طعامها وَصَلَّت فرضها ثم جلست تتابع أحد مواقع التواصل الاجتماعي بملل، بعد بضع دقائق ألقت الهاتف جانبًا وهي تقرر الخلود إلى النوم، أوصدت باب الغرفة جيدًا بالمفتاح والقفل الإضافي الذي قامت بتركيبه في اليوم السابق، سخرت مفكرة أنها إن كانت تمتن لزوجة خالها سيكون بسبب استغلالها في مختلف أنواع الأعمال، والآن تستطيع إتمام عدة مهام بدون الاضطرار للاستعانة بالعمال المُوَكلين بها. اتجهت إلى النافذة لتغلقها لكن اجتذبتها أصوات شجار على مقربةٍ منها بين إحدى المراهقات وطفل آخر يبدو أنه أخوها الأصغر لتجد نفسها-رغمًا عنها- تتابعهما بفضولٍ لم يكن يوما من شيمها.. -ألا تفهم؟ إن ابتعت لك تلك الفطيرة لن يتبقى معنا ثمن إفطار الغد. دق الطفل الأرض بقدميه وهو لا يبالي بنظرة أخته الصارمة: -أنا جائع مها، أتمنى أن أتذوق مثلها، لقد رأيت اليوم "أنس" يأكل واحدة منها هو وأخيه وأخبرني أن طعمها لذيذ للغاية، أرجوكِ مها أريد واحدة ولن آكلها كلها. ضغطت شقيقته أسنانها بغيظ وهي تنظر له شذرًا: -يا غبي افهم! أنس أبوه يعمل بوظيفة ثابتة، يستطيع أن يبتاع مثل تلك الفطائر كما يحلو له، لكن أنا أعمل بـ"اليومية" ويجب توفير مصاريف علاج أبيك، إن ابتعت لك ما تريد الآن كيف سيتناول أبوك وأمك وإخوتك عشاءهم؟ انطلق الطفل في بكاء عنيف فَهَمَّت رهف بالتدخل قبل أن تعنفه أخته لكنها صمتت بانبهار وهي تراقبها تجلس أرضًا على ركبتيها وتشد أخيها بين ذراعيها دامعة: -لا تبكِ! كفى! سأبتاعها لك، أرجوك توقف عن البكاء فارس، لكن لا تخبر أمي كي لا تتشاجر معي، سنجلس هنا وننتظر حتى تنهيها كلها، اتفقنا؟ مسح الطفل وجهه بكفيه وهو يومئ برأسه إيجابًا في لهفة واضحة بينما اتجهت أخته إلى المحل المتواضع وأحضرت له الفطيرة، ثم جلست بجانبه تمسح على شعره بحنان وهو يتناول طعامه بنهم. كانت تحدق بهما والدمعات تترقرق من عينيها وهي لا تستطيع حرمان نفسها من مراقبة ذلك الحنان المشع، لتغرق فجأة في ذكرى مريرة تعتبرها من أسوأ ذكرياتها على الإطلاق. قبل تسعة عشر عام: هرولت إلى داخل المنزل وهي تحاول الوصول بأقصى سرعتها إلى غرفتها، وعندما اعتقدت أنها نجحت فإذا بيدٍ غليظة قاسية تجذب جديلتها الطويلة بعنف لتتعالى صرخاتها: -إلى أين تذهبين أيتها الحقيرة؟ لم أتم عقابك بعد. التفتت رغمًا عنها بقوة الجذب وهي تحاول تخليص شعرها من يدها بلا جدوى: -أنا آسفة زوجة خالي، أرجوكِ اتركي شعري، لن أعيدها. صرخت المرأة بغلٍ شديد: -وهل تعتقدين أنني سآمن لك في بيتي بعد اليوم؟ ما أدراني أصلًا أنها المرة الأولى؟ ستعيدينها وربما تفعلين الأسوأ. استطاعت رهف الوصول إلى كف زوجة خالها الأخرى التي تضربها على ذراعها لتقبلها بتوسل عدة مرات متتالية صائحة: -أقسم لكِ أنها المرة الأولى والأخيرة، أنا فقط كنت جائعة بشدة، وأنتِ حرمتِني من تناول الطعام منذ الأمس. اهتاجت المرأة وهي تبعد كفها عن شفتي الفتاة بعد أن تساقطت دمعاتها فوقه لتمسحها في ملابسها بازدراء صارخة بها: -ولمَ عاقبتك أنا يا وضيعة؟ ألم تزعجي ابنتي؟ ألم تتسببي في بكائها وتعنيف المعلم لها؟ تقطع صوتها وهي تجيبها بضعف: -لم أقصد إزعاجها، لقد قلت لها أنني لا أستطيع كتابة فرضها المنزلي لأن هذا غش، ثم إنها أكبر مني بثلاث سنوات وحتما المعلم سيكتشف. هنا تدخلت ابنة خالها بِغِلّ هاتفة: -لم يكن ليكتشف أبدًا، فإن كان بكِ ميزة وحيدة هو حُسن خطك، كان يجب أن تطيعينني بلا نقاش، ألا يكفي أننا نتحملك في بيتنا؟ تحول بكائها إلى شهقات متقطعة من فرط ألمها وهي تتطلع إلى نظرات ابنة خالها الشامتة: -آسفة، سأكتب لها كل فروضها إن أردتما، لكن أرجوكِ اتركيني زوجة خالي. عاجلتها المرأة بضربة في بطنها وهي تصرخ بها: -وماذا عن السرقة؟ كيف ستعالجين تلك المصيبة؟ وماذا سرقت منا من قبل؟كان يجب أن أتوقع أن تفعلي ذلك، فنبتة خبيثة مثلك يجب أن تصبح لصة، هذا أمر يسري بدمائك، انطقي! هل سرقتِ منا أموالًا من قبل؟ استطاعت أخيرًا القفز بعيدا بعد أن خسرت عدة شعيرات في قبضة المرأة: -أقسم مرة أخرى لم آخذ إلا تلك الشطيرة، حتى أنني لم أستطع أكلها وتخلصت منها، لا أريد أن يعاقبني الله، لا أريد أن آكل حرامًا. بلهجة شيطانية مالت دينا على إحدى أذني أمها قائلة: -كاذبة أمي، أنا بنفسي رأيتها تعبث في حافظة نقود أبي بالأسبوع الماضي، والله أعلم مَن سَرَقَت أيضًا، من الممكن أن تفعلها خارج المنزل ونُفضَح بين الناس. فغرت رهف فاهها مصعوقة وهي تحدق بابنة خالها وتساءلت كيف يمكن لأحد الكذب بتلك السهولة والتجني على غيره؟ في حين أنها ظلت عدة ساعات تشعر بذعر شديد من عقاب الله لها بعدما أخذت تلك الشطيرة التي كانت ابنة خالها ستتخلص منها على أي حال، حتى أنها-برغم ألمها- تشعر باستحقاقها التام لأي عقابٍ توقعه عليها زوجة خالها. تحقق هدف دينا تمامًا وعيني أمها تتوحشان وهي تخلع خُفها المنزلي وتهجم على رهف لتضربها بدون كلل لدقائق متواصلة دون أن تهتز بها شعرة لصرخات الطفلة اليتيمة. مسحت دمعاتها وهي تراقب انصراف الطفل برضاء تام مع شقيقته فشعرت بغبطة من هالة الحنان المحيطة بهما، اجتذبت شهيقًا عميقًا وهَمَّت بإغلاق النافذة حينما تدلى فكها السفلي بذهول وهي تحدق بصاحب السيارة الرمادية الذي يستند على بابها الجانبي ويراقب-معها- الطفل وشقيقته، لا تعلم كم دقيقة مرت وهي على حالتها تلك، إلا أنها حينما التفت هو إليها توقفت أنفاسها في حلقها وهي تتطلع إلى الابتسامة البسيطة التي واجهها بها. بارتباكٍ وذعر أغلقت نافذتها ثم هرولت إلى الباب ودفعت المقعد الوحيد وأسندته خلفه، عادت مرة أخرى تتلفت حولها ودمعاتها تتجمع بعينيها ثم انطلقت إلى الطاولة-التي أصبحت بثلاثة أرجل فقط- ووضعتها فوق المقعد خلف الباب وهي تعلم في قرارة نفسها أنها ليست بالإضافة ذي القيمة، كانت تدور حول نفسها تحتضن ذراعها المتيبسة حينما انطلق صوت رنين هاتفها. ببطء ووجه شاحب اتجهت إليه وحينما التقطته ازداد عنف تنفسها رامقةً ذلك الرقم الذي هاتفها مرة واحدة من قبل، حاولت بأناملها المرتجفة أن تلغي الاتصال لكنه صمت فجأة، وبمجرد أن تنفست ببعض الراحة الظاهرية حتى عاد الاتصال أكثر إصرارًا، ظلت محدقة في الهاتف بلا رد فعل حقيقي حتى صمت مرة أخرى. دقيقة مرت.. دقيقتان.. ثلاثة.. ثم صوت رسالة نصية! تسمَّرت بموضعها وجسدها بأكمله يرتجف وهي ترمق الهاتف المضيئة شاشته دلالة على انتظار الرسالة لقراءتها، دفعت أناملها دفعًا حتى فتحتها وأصوات أنفاسها المرتعبة تعلو على أصوات الضوضاء بالخارج، تلك الأنفاس التي توقفت تمامًا لتحل محلها شهقة خافتة وهي تعيد قراءة الرسالة ذات الكلمة الواحدة مرارًا وتكرارًا: "سأعوضك!" ألقت الهاتف على الفراش وهي تنخرط في بكاءٍ مذعور رافقته ارتعادة عنيفة بجسدها، وبعد أن تظاهرت بالهدوء قليلا اتجهت إلى النافذة مرة أخرى، ثم تطلعت إلى الشارع من خلال أحد الشقوق في أخشابها، لكنها لم تجد السيارة الرمادية الفاخرة، ولا صاحبها! في اليوم التالي كانت تتلفت حولها بتوترٍ شديد، منذ خروجها صباحًا لم تترك أي شخص يمر بجوارها دون تدقيق النظر به، تشعر أن ذلك الرجل حولها طوال الوقت وفي كل مكان، صداع عنيف أخذ يطرق رأسها مصحوبًا بدوار بسبب عدم نومها منذ الأمس، خرجت من المعهد مُغمضة عينيها بتعب فلم تنتبه لذلك الجسد الذي اصطدمت به، بسرعة فتحت عينيها لتجد أمامها امرأة شابة جميلة بعينين عسليتين تنظران إليها بقلق فسارعت بالاعتذار: -آسفة جدا. ابتسمت المرأة قائلة: -لا عليكِ، لم يحدث شيء، هل أنت بخير؟ بادلتها رهف الابتسامة بضعف: -الحمد لله، شكرًا لكِ، مجرد دوار بسيط. بنبرة مهتمة خاطبتها المرأة: -هل تريدين الذهاب إلى مكان معين؟ أستطيع أن أقلك إن أردتِ. اتسعت ابتسامتها وهي تجيبها برقة: -شكرًا لكِ، سأستقل الحافلة من الموقف القريب، أستأذنك. ابتسمت لها المرأة برسمية فأولتها رهف ظهرها، وابتعدت خطوتين عندما أوقفها نداء المرأة: -لو سمحتِ! التفتت لها رهف بابتسامة متسائلة فأقبلت عليها مُتسائلة باهتمام: -هل تَدرُسين بذلك المعهد؟ أجابتها رهف: -لا أنا أقوم بالتدريس للطلاب هنا. ابتسمت المرأة بحرجٍ قائلة: -عذرًا اعتقدت أنك صغيرة بالسن. ثم بفضول أضافت متسائلة: -كم عمرك؟ وعلى النقيض من معظم النساء أجابت رهف ببشاشة: -خمسة وعشرون. ضحكت المرأة بحرج: -آسفة جدًا، أعلم أنه سؤال لا يليق. ردَّت رهف بابتسامة فتابعت المرأة: -طفلي عمره ستة سنوات وهو لا يحب اللغة الإنجليزية، ولي صديقة رشحت لي هذا المعهد، لهذا جئت أستفسر ربما يستطيع المعلمون جعله يحبها، هل يقبلون هنا بذلك السن؟ ظهر الاهتمام على وجه رهف أثناء قولها: -بالطبع، هناك دورات متخصصة في عمر ولدك، تستطيعين الحجز بالداخل، اذهبي إلى مكتب الاستقبال والموظفة ستخبرك بكل التفاصيل. ابتسمت المرأة بامتنانٍ وهي تمد يدها مصافحةً إياها: - شكرًا آنسة... مدت رهف يدها لتبادلها مصافحتها مبتسمة: -رهف، اسمي رهف. حدقت المرأة بعينيها بابتسامة جميلة: - جميل اسمك، شكرًا آنسة رهف. أومأت رهف برأسها ثم انصرفت مودعة، وبالرغم من بعض الاطمئنان الذي تسلل إليها بعد ذلك الحوار القصير، إلا أن الخوف عاد يكتنفها وهي تتلفت حولها، لكن لحسن حظها-أو لسوئه لا تعلم- يبدو أنه غير متواجد حولها اليوم. فتحت شروق باب المنزل بتجهم بعد الرنين المُلِح لتجد أمامها السيدة أم محمود بابتسامتها اللزجة وعينيها اللتين تسبقانها إلى أركان الشقة، رسمت ابتسامة مفتعلة قائلة: -أهلًا أم محمود، كيف حالك؟ دفعتها المرأة بخفة ودخلت بدون دعوة ثم جلست على أقرب أريكة: -بخير أم دينا، لقد اشتقت إليكِ بشدة، كيف حالك؟ وكيف حال دينا الآن؟ لقد حزنت بشدة من أجلها، أخبريني! ألم يحاول طليقها التواصل معكم مجددًا؟ أرجو ألا تردوه. تأففت شروق بدون صوت وهي تتجه إليها ثم جلست على المقعد المقابل لها وتكافح كي لا يظهر الضيق على وجهها: -دينا ابنتي يتمناها الأفضل، وبالفعل يأتي الكثير طالبين لها، لكن هي من لا تريد الارتباط الآن، لقد ضيق معيشتها وأصابها بالنكد ذلك البائس. نظرت لها المرأة بلوم أو ربما شماتة قائلة: -لقد حذرتكِ يا شروق، قلت لك إن ذلك الرجل لا يناسبها، ابنتك جميلة ومنطلقة وتحب الحياة، بينما يبدو هو وكأنه أفندي هارب من حقبة الخمسينيات، وقد كان من الواضح تعلقه الشديد بأمه، لكن هي من تشبثت به، هل ظنَّت حقًا أن كونه طبيبًا سيجعله ينزهها كل أسبوع في بلدٍ مختلف؟! كم كان راتبه على أية حال؟ رمقتها شروق بغيظ شديد وهي تجيبها: -لا أعلم أم محمود. ثم تابعت بضجر: -هو لم يخبرها في الأصل عن راتبه، لكنها أخبرتني أنها رأته يعطي والده بعض النقود أكثر من مرة. ضربت المرأة صدرها بكفها ثم هتفت بذهول: -يا لخيبة ابنتك يا شروق! كيف عاشت معه لثلاث سنوات كاملين ولم تعلم أبدًا مقدار راتبه؟! وكيف قبلت بإنفاقه على أهله وهي أولى بتلك النقود، ألا يتقاضى أبوه معاشًا ما؟! ردت شروق بنبرة حانقة: -بلى يتقاضى، لكنه أيضًا يتناول علاجًا باهظًا وأنتِ تعلمين حالة والدته أيضًا، وربما لا يكفيهما ذلك المعاش. عبست أم محمود هاتفة باعتراض: -وما ذنب دينا؟! هل يصح أن يأخذ بنات الناس من بيوتهن كي يرهقهن؟! هزت شروق كتفيها باستسلامٍ لا تجد ردًا فتابعت المرأة بنبرة هامسة: -اسمعي! لقد علمت اليوم أن شقيق السيدة منال يبحث عن عروس، ولأني أحب دينا وأعتبرها مثل بناتي فقد قفزت الفِكرة إلى رأسي الآن، عسى أن يكون عوضًا لها عمَّا عانته مع ذلك الرجل. اتسعت عينا المرأة بدهشة وهي تجيبها: -أخ السيدة منال؟!! من تقصدين؟ هشام؟! إنه أصغر من دينا! توترت عينا أم محمود ثم تنحنحت: -أعلم أن هشام أصغر من دينا، لكني لم أقصده هو. ضيقت شروق عينيها بعدم فهم ثم ما لبثت أن فتحتهما على اتساعهما وهي تفغر فاهها بصدمة: -أنتِ لا تقصدين طارق بالطبع، أليس كذلك؟ تهربت أم محمود بعينيها إلى الجدار المقابل ثم أجابتها بنبرةٍ ضعيفة: -وما به طارق؟! لديه ورشتين وعلمت أنه يسعى لافتتاح الثالثة، سيجعل معيشتها مزدهرة وسَيُلَبِّي كل طلباتها. هتفت شروق بها وهي تهب واقفة: -هل جننتِ يا امرأة؟! إنه أكبر منها بعشرين عامًا ولديه أربعة أولاد. جذبتها أم محمود لتجلسها بجانبها وهي تخاطبها بتمهل: -أنصتي جيدًا يا شروق! الرجل ثري وأرمل ويبحث عن زوجة، وأولاده بالفعل يتحملون مسئولية أنفسهم منذ وفاة والدتهم، ما يضيرها إن تنعمت هي بذلك الرغد؟ نظرت لها شروق بتمعنٍ فعاجلتها المرأة بنبرة حازمة خافتة: -لا ترفضي فورًا! فكري مليًا وربما يكون هو العوض بعد ذلك الفقر المدقع الذي عاشته مع ذلك المعقد. تابعت أم محمود عد مميزات ذلك العريس"اللقطة" بينما شردت شروق وهي تفكر في كلامها، وتتخيل مستقبل ابنتها إن استطاعت إقناعها، فقط بعد أن تقتنع هي أولًا، وربما قريبًا ستفعل!