ضحية أَم...؟!* قبل ثمانية سنوات: شَبَّكَت أصابعها ببعضهم بتوتر شديد ووهي تختلس النظرات المنبهرة الخجِلَة إليه، لا تُصدِّق ما يحدث بالأصل حتى الآن. أحقًا هو هنا طالبًا الزواج بها؟ أحقًا هو يريدها أيضًا؟ وبالرغم من صمته وعبوسه منذ حضوره مع خالتها وزوجها وتغريد إلا أنها تكاد تطير فرحًا لفكرة رغبته بالاقتران بها، أيُعقل أن الرجل الوحيد الذي لطالما أحبته يبادلها شعورها منذ سنوات كما تُقسم خالتها؟ تباطأت دقات قلبها للحظة عندما رفع عينيه إليها، أغاضب هو أم مرتبك؟ ابتعدت عيناه عنها فأطلقت زفيرًا قلقًا مُضطربًا، يحق له الارتباك بالطبع فالوضع أصبح غريبًا فجأة، حتى الأمس فقط كان مجرد ابن الخالة الصديق المهتم الحنون، اليوم هو خاطبها! ربما هو خَجِل ليس أكثر. وهو.. أنفاسه ثائرة ودقات قلبه تدوي بعنف، هل يشعر فقط بالغضب والنفور؟ أم بالامتعاض والاستنكار؟ كيف وصل إلى هنا وارتضى المشاركة في تلك المهزلة؟ كيف سمح لنفسه أن يُصبح بذلك الضعف والخنوع؟ لقد اعتاد على طأطأة رأسه لوالديه في اختيار ملابسه وطعامه وأصدقائه.. حتى دراسته لم يخترها! يتذكر جيدًا يوم اجتيازه لمرحلة الثانوية العامة حينما ذهب إلى والديه قائلاً بِحماسة زائدة: -أبي، أنا لا أريد دراسة الطب، أريد أن أصبح مُعلمًا، أنا أحب التدريس. ليستنكر والده: -هل تمزح؟! أتريد أن تصبح مجرد معلم بذلك المجموع الذي يتمناه الآلاف؟، انسَ هذا الهراء تمامًا، أنت ستصبح طبيبًا شئت أم أبيت. وتتوسل والدته: -عَمَّار حبيبي، أنت لا تريد لهالة صديقتي أن تشمت بي أليس كذلك؟ ابنها التحق بكلية الطب بالعام الماضي، وهو ليس أفضل منك. فيرد بتخاذل:-ولكنني... ولكنه وجد نفسه طبيبًا رغم أنفه وأحلامه، ولم يتوقع أبدًا أن يمتد انتهاكهم لخصوصياته وتسييرهما لحياته إلى تزويجه من ابنة خالته التي يراها كأخته الصغيرة، هي فقط تكبره بعدة سنوات، لكن مشاعره تجاهها لا تختلف، وما يغيظه ويحيره حقًا تلك الابتسامة المتوردة التي ترتسم على محياها الجميل، والنظرات المختلسة التي ترمقه بها بعسليتيها ظنًا منها أنه لا يلاحظها... عندئذٍ شرد في حُلم آخر حرمه منه أبواه قريبًا ولن ينساه يومًا: -أبي، أنا أريد التقدم لخِطبة رضوى. ليهب والده صارخًا: -هل جننت؟! أتريد مني أن أُصاهر تاجر يبيع الملابس بمنطقة شعبية؟ وتضرب والدته فوق فخذيها بكفيها: -يا ويلتي في ابني! أترضى بجلب ابنة البائع إلى بيتنا؟ فيدافع بعناد: -لكني أحبها، هي طبيبة مجتهدة وعلى خلق، أبوها تاجر وليس لِصًا! ليشدد أبوه بلهجة حازمة: -انسَ هذا الهراء تمامًا، صديقي مصطفى لديه ابنة رائعة الجمال، أبوها رجل أعمال وأخوها أيضًا صاحب شركة ضخمة، سنذهب لخطبتها. وتسارع أمه بلهفة: -وما بها مَوَدَّة ابنة أختي؟! من أجمل منها؟! كما أننا نعرفها تمام المعرفة وهي تحبك يا عَمَّار، لن ترهقني أو تسبب المشاكل، ولن نضطر لجلب كنَّة لا نعلم عنها شيئًا إلى بيتنا. فتتسع عيناه بذهول مستنكرًا: -مَوَدَّة!! هي مثل تغريد تمامًا!! ولأنه دومًا ما كان سريع الاستسلام قدرته على الاعتراض محدوده وخنوعه يجد به سلامًا آمنًا! ها هو يجلس مع والديه وشقيقته في مواجهة أسرة خالته ليستمع - بذهول- إلى قصة غرامه بابنة خالته واضطراره إلى كتمان عشقه منذ سنوات حتى لم يعُد يقوَ على الانتظار أكثر! عودة إلى الوقت الحالي: خرجت من عملها تسير شاردة بعد أن باءت كل محاولاتها مع صاحب العقار بالفشل، لا يريد اللئيم أن يعيد إليها حتى مقدم شهر واحد مستغلًا حاجتها الواضحة للمأوى والمال، وهي الآن تشعر برغبة عارمة في الصراخ أو البكاء. ما يضيرها إن بكت الآن؟! الظلام حل على أي حال ولن يلاحظ أي شخص! انحدرت دمعة اختنقت بسبب شدة تقييدها فمدت أناملها تمحوها بسرعة ولم تنتبه إلى الدراجة النارية القادمة من خلفها ولا بالراكب خلف السائق الذي اختطف حقيبتها وانطلق! تخشبت مكانها للحظة لا تفهم ما حدث ثم صرخت وهي تعدو خلف الدراجة التي اختفت براكبيها: -انتظر أرجوك! انتظر بالله عليك! هاتفي! كتبي!! وحينما أدركت أن ما تفعله بلا طائل سقطت أرضًا مكانها وهي تنهار باكيةً كما لم تفعل يومًا.. بكت يتمها بكت الظلم الملازم لها بكت كراهية الأقربين لها بكت وحدتها وخوفها بكت سرقتها وهاتفها وكتبها! تربيتة حنونة على إحدى كتفيها جعلتها ترفع عينيها لتطالع سيدة مسنة تنظر لها بقلق: -ما بكِ ابنتي؟ لِمَ تجلسين هكذا؟ لِمَ تبكين؟ وكطفلة صغيرة تائهة أشارت بسبابتها إثر الدراجة الراحلة وهتفت ببكاء: -اللصوص! لقد سرقوني، هاتفي وحقيبتي! فجأة اتسعت عيناها بذعر وهي تتابع: -الأنذال! لقد سرقوا دفتر الملاحظات خاصتي!! أين سأكتب ملاحظاتي الآن؟! انهارت في بكاء عنيف والمرأة تنظر إليها بتوجس، لكنها ما لبثت أن أمسكت بذراعها وهي تساعدها على الوقوف، خفتت شهقاتها وهي تنفض الغبار عن ملابسها متمتمةً بشكر ضعيف للسيدة التي بادرتها متسائلة باهتمام: -كيف ستعودين إلى منزلك؟هل تملكين أية نقود ابنتي؟ فَتَّشَت رهف جيوبها بذعر ثم زفرت بارتياح وهي تخرج ورقة من فئة العشرة جنيهات تنظر لها وكأنها أغلى كنوز العالم مُرددةً بابتسامة بدت دخيلة على حالتها المزرية: -دائمًا ما نصحني خالي بألا أضع نقودي كلها في مكان واحد حين أخرج. ثم وضعت الورقة على شفتيها مقبلة إياها بامتنان مُبالَغ به! "حسنًا، إنها مجنونة!" هكذا فكرت المرأة وهي تبتعد عنها خطوة إلى الخلف مُتوجسة، لكن رهف سرعان ما استأنفت بكاءها شاكية: -اللصوص الأوغاد! ماذا سأفعل الآن في الكتب؟! لقد كانت باهظة الثمن! ودفتر ملاحظاتي، منكم لله! عسى الله أن ينتقم منكم قريبًا! تمتمت المرأة بارتباكٍ: -أشعر أنكِ حزينة على ضياع الكتب ودفتر الملاحظات أكثر من خسارتكِ للهاتف! شهقت رهف بحسرة: - إنها الكتب التي تساعدني في عملي، كيف سأذهب إلى المركز الآن؟! ظل سؤالها بلا إجابة حتى زفرت بيأس والمرأة تتململ في وقفتها فافتعلت ابتسامة مخاطبةً إياها بخفوت: -أشكركِ على مساعدتي، لا تقلقي عليّ! أنا سأستقل الحافلة من الموقف القريب. انتهزت المرأة الفرصة وهي تومىء برأسها وتطلق ساقيها للريح ابتعادًا عن غريبة الأطوار تلك، زفرت رهف بإرهاق وهي تجُر خطواتها جرًا بعيدًا عن أعين المارة الفضولية من حولها، وعندما وصلت إلى البيت ظلَّت تُقسم لِصاحبه أن حقيبتها تمت سرقتها ولا تملك أية مفاتيح ليوافق على إعطائها النسخة الإضافية. في اليوم التالي: كانت تتناول طعام إفطارها في مطعم الشركة البسيط عندما لمحته آتيًا، تظاهرت باللامبالاة وهي تشيح بوجهها بعيدًا فجلس بمقابلتها مبتسمًا بإغاظة وسألها: -لِمَ أنتِ غاضبة مني؟ إنه قرار أخيكِ، ما ذنبي أنا؟ نظرت له بغضب هاتفة: -أنتما الاثنان تريدان كتم أنفاسي ثم إزهاق روحي، لقد مللت من تحكمكما الزائد بي ولا يمنعني عن أخذ حقي سوى أمي. ضحك باستمتاعٍ شديد فازداد الغضب على محياها لتتابع بتحدي: -أتعلم عاصم؟ يومًا ما سأتخلص من سطوتكما علي، سيُبتلى كل منكما بمصيبة يستحقها وسأراقبكما بتشفٍ. توقف عن الضحك وهو يعبس بافتعال: -أنتِ حقا تكرهيننا! كل ذلك لأننا نخاف عليك؟ السفر إلى هناك سيضجرك لأننا سننشغل طوال الوقت، ثم يجب أن تفرحي، فأخوكِ قد قرر أن يسافر وحده وسأظل أمامك طوال الأسبوع القادم. أشاحت بوجهها بامتعاض متمتمةً: -فليكن الله في عوني! استأنف ضحكه وهو يمنع نفسه عن إخراج لسانه لها كالأطفال ثم خاطبها: -هيا سارة! لا تكوني ظالمة! أنا لست سيئًا إلى ذلك الحد. مالت وجهها تتحدث من بين أسنانها بِغِل: -بل أنت... أنت...... لم يسعفها لسانها بالرد المناسب فتوقفت عن البحث عن واحد وهي تلمح الشابة الجميلة ضئيلة القامة نوعًا ما التي توقفت أمامهما، نظرت لها بتساؤلٍ بينما التفت عاصم إليها باستغراب فبادرت: -أعتذر! هل حضرتك تكون مهندس عاصم؟ استقام بهدوء وهو ينظر اليها بابتسامة مهذبة: -نعم أنا، وحضرتك تكونين...؟ اجتاح ملامحها توتر جلي وهي تنقل نظراتهما بينهما بارتباكٍ: -أنا سما محسن. ضيق عاصم عينيه وهو ينظر إلى سارة بتساؤل فأجابته بهزة من كتفيها مُعلِنة جهلها، فالتفت مرة أخرى إلى الفتاة قائلاً بتهذيب:-إن كنتِ هنا من أجل مقابلة عمل فاصعدي إلى الدور الثاني لـ.... قاطعته الفتاة بنفاد صبر: -لا، لست هنا من أجل ذلك، أنا أريد التحدث معك بموضوع شخصي. عقد حاجبيه بدهشة: -تفضلي بالحديث، إنها مهندسة سارة، ابنة خالتي. اتسعت عينا الفتاة بدهشة حقيقية هاتفة: -كيف تكون هي ابنة خالتك؟ وقفت سارة مبتسمة باستفزاز: -بمعنى أن والدتينا شقيقتان، إنها الكلمة التي تطلق على ذلك النوع من صلة القرابة إن كنتِ لا تعلمين! فغرت الفتاة شفتيها وهي تنقل نظراتها بينهما كأنهما معتوهين ثم قالت بدهشة: -ولكن.. ولكن والدتك ليست لديها أية شقيقات! هنا فقد عاصم هدوءه وهو يهتف بها: -بِمَ تهذين أنتِ؟! ومن أين تعرفين أفراد عائلتي؟ واجهته الفتاة بصرامة حانقة: -إن كنت لم تلتقط الاسم.. أنا سما محسن حجاج، ووالدتك السيدة صفاء تكون زوجة أبي وأنا متأكدة من عدم وجود شقيقات لها! حدق الاثنان في وجهها بذهول كانت سارة أول من تخلص منه، بابتسامة مرتجفة تقدمت منها قائلة: -تفضلي آنسة سما. جلست سما على المقعد المجاور بترقب فلحقتها سارة وهي تحاول التصرف بطبيعية: -ماذا تفضلين أن تشربي؟ همت الفتاة بالرد حينما أجفلتها حركة عاصم وهو يندفع منصرفًا بغضب هائل، فنظرت لها سارة باعتذار وهي تبتسم بمجاملة: -اعذريه، ذلك الأمر على الأخص يغضبه. أومأت سما لها فبدأت الأخرى باجتذاب الحديث معها حتى يعود ذلك الغاضب. قبل سبع سنوات: دلف إلى غرفته وهو يلقي مفاتيحه وهاتفه على أقرب مقعد، ثم تخلص من سترته واتجه إلى الخزانة ليلتقط بعض الملابس المنزلية، أخذ يقلب بها بنزق ثم صاح بغضب: -مَوَدَّة! مَوَدَّة!! اندفعت إلى داخل الغرفة بخوف ثم ما لبثت أن زفرت بارتياح وهي تجده واقفا أمام الخزانة، لكنها عقدت حاجبيها بحنق وهي تجيبه: -ماذا بك عَمَّار؟ لِمَ تصرخ بذلك الشكل؟ التفت إليها حانقًا: -أين قميصي القطني الأزرق؟ لقد كان هنا في الصباح، ألا حد لإهمالك؟ أغمضت عينيها بألم وهي تجيبه بضعف: -أنا مُهملة عَمَّار؟! منذ متى أهملت بشيء يخصك؟ لقد مرت ثلاثة أشهر على زواجنا، هل سبق وضاع شيء منك؟ دفع الخزانة بغضب مبالغ به وهو يهتف به: -الآن أهملتِ يا هانم، أين ذلك القميص؟ زفرت بتوجس وهي ترد: -إنه قديم جدًا، لقد .. لقد بهت لونه بشدة وذاب القماش في بضعة مواضع به. اتجه إليها ببطء رامقًا إياها بتحفز: -ثم..؟ تقهقرت خطوتين إلى الخلف وهي تنظر في كل الاتجاهات بعيدًا عنه، وبنبرة ضعيفة أجابته: -ثم ارتأيت أن أتخلص منه. توقفت أنفاسها وهي تتطلع إلى النظرة المصدومة بعينيه قبل أن يجيبها بخفوتٍ منذر: -ارتأيتِ أن تتخلصي منه؟! بلهفة حماسية عاجلته: -لا تقلق! لقد ابتعت لك واحدًا آخر اليوم. تجاوزته حتى وصلت إلى الخزانة فالتفت ينظر إليها بصدمة، انتقت شيئًا من فوق الرف الخشبي ورفعته أمام وجهه مبتسمة بتشوق هاتفة: -انظر! إنه باللون النبيذي، لقد لاحظت أن معظم ملابسك باللون الرمادي وتدعو إلى الكآبة، لكن ذلك اللون سيكون رائعًا عليك، سيجعلك أكثر وسامة. لم يحرك مقلتيه عن عينيها العسليتين ولم يهتم حتى بالنظر إلى هديتها وهو يعاود سؤالها بهدوءٍ مريب: -مَوَدَّة لآخر مرة أسألك، أين هو قميصي الأزرق الآن؟ ازدردت لعابها وهي تخفض كفها بالقميص الجديد ثم أجابته بِوَجل: -ألقيته بالقمامة. تخلل شعره بيديه مغمضًا عينيه ثم فتحهما رامقًا إياها بنظرة ميتة: -ألقيتِه بالقمامة؟! عَمَّ الصمت وانتشر التوتر، بينما تابع هو بجمود مريب: -الشيء الوحيد الذي أحبه واخترته في ذلك السجن ألقيتِه بالقمامة؟! نظرت له بدهشة حذرة سرعان ما تحولت لانتفاضة وهو يجتازها ليصل إلى خزانته ثم يصرخ وهو يلقي قطع ملابسه منها بثورة صارخًا: -لِمَ لم تلقي تلك الملابس بدلًا منه؟ أنا لم أختر أيًا منها، لم أختر أي شيء، لم أختر ذلك البنطال، لم أختر تلك السترة، لم أختر رابطة العنق الخانقة تلك! بدأ جسدها بالارتجاف رعبًا وهي ترى الغرفة قد تحولت إلى ما ينتج عن اجتياح إعصار بينما اتجه هو إليها بسرعة واختطف منها القميص الذي تتمسك به ثم أمسك ذراعيها بشدة هاتفًا بِغِل: -أنا لم أختر ذلك القميص الذي أحضرتِه إليّ، أتعلمين؟! أنا لم أخترك أنتِ أيضًا!! ارتجفت شفتاها في بوادر بكاء وعيناها تتسعان بذعر مشوب بالخيبة، حدقت بعينيه لترى الألم يصرخ بهما متوسلًا فلم تجد رَدَّاً إلا: -آسفة عَمَّار! ارتسمت نظرة متحسرة بعينيه وهو يجيبها بأسئلة متألمة: -علام تأسفين؟! هل تعتقدين أن عذابي يمحوه أي أسف؟ هل تعتقدين أن كلمة واحدة قد تنسيني ألمًا يقض مضجعي كل ليلة وأنا أدرك أن الإنسانة التي أعلنت برغبتي بها اضطررت لخطبة غيرها باليوم التالي؟! توقف الزمن بهما وكلماته التي طالما سيطر على انفلاتها انطلقت على حين غفلة منه لتمزق قلبها بلا رحمة. ألهذا السبب هو بعيد؟! بعيد جدًا؟! امرأة أخرى؟! وهي من حالت بينهما وفرقتهما لتحقق أحلامها فوق أنقاض قلبين آخرين؟! أهي فعلا أنانية إلى ذلك الحد؟ لكن..! لكن هي لم تكن تعلم، هو من جاء إليها، بينما قد نجحت لسنواتٍ في كتمان حبها والتظاهر بأخوة كاذبة، لِمَ يحاول جعلها المذنبة الآن؟ في حين أنه هو المسئول عن تحطيم ثلاثة قلوب بصمته وخضوعه! بقوة تخلصت من ذراعيه وهي تتراجع إلى الخلف مُرددة بِصوتٍ مُتقطع: -لا عَمَّار، أنا لست آسفة من أجلك فأنا لم أجبرك على الزواج مني، وقد استمرت خطبتنا بضعة أشهر كنت تستطيع إخباري خلالها بكراهيتك لي، وأنا لايزال لدي مقدار من عزة النفس ما يجعلني أتركك حفاظًا على كرامتي حتى وإن كنت أذوب بك عشقًا.حَلَّت نظرات الدهشة الصامتة بِعينيه رَدَّاً على اعترافها البسيط بينما تابعت هي ودمعاتها تتساقط: -نعم عَمَّار، أنا أحبك منذ سنوات ولقد صدقت القصة التي ألقتها عليَّ خالتي عن غرامك بي خاصة وأنك لم تخبرني بالعكس. وبحسرة تمتمت: -لقد صدقت لأني تمنيت وهذا لا يغفر خطأي. ثم استأنفت حديثها بابتسامةٍ ساخرة: -ولذا أنا آسفة لأجلي بسبب تفريطي بكرامتي معك وبقلبي لك، وأيضًا.. وأيضًا آسفة لطفلي الذي سيكون ذنبه الوحيد أن أباه يكره أمه. فغر فاهه بصدمة وهو يستوعب كلماتها، وبصوت متحشرج سألها: -هل أنتِ.. هل أنتِ .... قاطعته بضحكةٍ ساخرة: - نعم عَمَّار، أنا حامل، مبارك! وبمنتهى البساطة أولته ظهرها وخرجت من الغرفة تاركة إياه يبتلع صدمته، بينما اتجهت هي إلى أقرب غرفة لتنهمر في بكاءٍ متحسرٍ على حالها وحال طفلها القادم. ظلت تبحث في الصندوق المليء بالأغراض القديمة حانقة، هي متأكدة من إحضاره معها من بيت خالها لكن أين هو الآن؟ زفرت بضيق وهي تستسلم بتعب مفكرة: "وماذا إن وجدتيه؟ بم ستستفيدين؟ بالتأكيد اللص لن ينبُت له ضمير فجأة ويعيد إليكِ أغراضك!" بدأت في إعادة كل شيء إلى الصندوق وهي تستغفر وتدعو بالصبر، وفجأة وجدته أمامها فاختطفته بلهفة، قلبته بين يديها بتفحص وهي تحمد ربها أنها لم تتخلص منه، هبت واقفة لتقوم بتوصيله بالشاحن الكهربائي وانتظرت بضعة دقائق حتى وجدت شاشته الصغيرة تضيء أخيرًا، زفرت بارتياح ثم بدأت تطلب رقم هاتفها المسروق بتركيز وهي تتضرع أن يجيب السارق، ولخيبة أملها انطلقت الرسالة الرتيبة في أذنها: "الهاتف الذي طلبته ربما يكون مغلقًا، من فضلك عاود الاتصال في وقتٍ لاحق!" ماذا توقعت إذن؟! بضيق وضعت الهاتف على المنضدة الصغيرة المجاورة لفراشها وهي تلعن حظها الذي يزداد سوءً كل يوم! استغفرت مرة أخرى وهي تحمد ربها على سلامتها الشخصية، ثم جلست تبحث عن حل لمشكلة الكتب التي سرقت منها. "هل أنهيتِ مذاكرتك قبل أن تفتحي ذلك التلفاز؟" هتف بها عاصم بعصبية فاستدارت مريم إليه بابتسامة مغيظة: -نعم أنهيتها كلها، ولا تحاول إفراغ غضبك-الذي لا أعلم سببه-بي! جزَّ على أسنانه وهو ينظر لها بغيظ ثم انطلق إلى غرفته صافعًا بابها بقوة، أمسك هاتفه وكتب عدة كلمات برسالة نصية إلى صديقه ليطمئنه على أحوال العمل في غيابه، ثم أطفأ الأضواء وتأهب للنوم، لكن رنين الهاتف ارتفع فَهَبَّ من فراشه وهو يشعل الأضواء مرة ثانية مُتمتمًا بضيق: "لقد أرسلت إليك تفاصيل التفاصيل، ماذا تريد مني بعد؟! ألا أستحق نومًا هانئًا مبكرًا؟!" لكنه عندما تناول هاتفه لم يجد اسم صديقه كما اعتقد، بل وجد رقما غير مسجلًا، أجاب مسرعًا بنزق كي يعود إلى نومه: -مرحبًا، من معي؟ أجفلتها نبرته العالية فتنحنحت وهمت بالتحدث لكنه بادرها بصوت أكثر حنقًا: -من أنت؟ هل اتصلت لتسمعني صمتك؟ انطق من أنتــ...... -قليل من الصبر لو سمحت! أعطني فرصة اولًا كي أتحدث! عقد حاجبيه بدهشة والصراخ الأنثوي الحاد يلسع أذنه: -من أنتِ؟! -أنا سما! بتوجس أجابته، فأخذ يبحث في عقله عن صاحبة ذلك الاسم فلم يجد ثم تحدث برسمية: -عذرًا آنسة، يبدو أنكِ مخطئة في الرقم. تمكن منها نفاد الصبر وهي تجيبه بغيظٍ واضح: -لا أنا لست مخطئة، أنت مهندس عاصم وأنا أريد أن أتحدث معك شخصيًا، بالمناسبة أنا سما محسن حجاج، وقد تقابلنا بالأمس فورًا قبل أن تتركني وتنصرف بمنتهى قلة الذوق. وبرغم إدراكه هويتها واشتعال غضبه لذلك السبب إلا أن عبارتها الأخيرة أثارت حنقه ليتساءل بدهشة: -أنا قليل الذوق؟! ببرود شديد أجابته مؤكدة: -وتفتقر لأدنى قواعد "الإتيكيت" أيضًا. علا صوته حتى اضطرت لإبعاد الهاتف عن أذنها مغمضة عينيها بامتعاض: -هل أنتِ معتوهة؟! أتصفينني أنا بقلة الذوق؟! اسمعيني جيدا آنسة "شبر ونصف" أنا لا أريد منكِ الاتصال بي مرة أخرى، ولا أود أن أستمع لاسم تلك السيدة ما حييت، اذهبي إليها وأخبريها أنني لا أطيق سماع اسمها ولا أريد أي صلة بها، هل تفهمينني جيدًا أم لا؟ وبدون سلام!! أنهى الاتصال فورًا وهو يستشيط غضبًا، لكنه يشعر أنه لم يكتفِ! كان لابد له من إهانتها أكثر، كان لابد له من إخباره برأيه بها وبمن أرسلتها بمنتهى الصراحة، وعندما استغرق في أفكاره الحقودة شعر بِحركة خلفه فالتفت ليجد مريم واقفة بإطار الباب تحدق به ببلاهة ليصيح بها: -ماذا تفعلين هنا؟ أجابته بنبرة دهشة متوترة: -لقد أرسلني أبي لأخبرك أن طعام العشاء جاهز. -لن أتسمم! صاح بها بغضب ففغرت فاهها ثم قلبت شفتيها بإزدراء وهي تخاطبه بتحدي: -ربما معها بعض الحق، أنت بالفعل قليل الذوق!! ثم هرولت جريًا قبل أن تصلها وسادته التي ألقاها تجاهها بغيظ. وعلى الجانب الآخر كانت سما تضغط هاتفها بين يدها بغيظ وهي تلقي قاموسًا متكاملًا من الشتائم وتصب اللعنات على رأس ذلك الوقح، لكنها خرجت من غرفتها لتواجه المرأة التي ترتكز على عصا وتتحسس الجدران بجوارها فانطلقت إليها مسرعةً لتستند عليها باطمئنان متسائلة بضعف: -ماذا قال لكِ؟ هل سيأتي؟ عَوَجت سما شِفتيها بامتعاض ثم رَسَمت ابتسامة واهية حتى يخرج صوتها طبيعيًا: -نعم أم عاصم، إن شاء الله سيأتي قريبًا. ابتسمت المرأة بفرحة وهي تحمد ربها وتترقب سماع صوت ابنها الوحيد في أقرب فرصة. "أين كنتِ دينا؟! لقد سأل أبوكِ عنكِ أكثر من مرة." ألقت شروق سؤالها على ابنتها ما إن ولجت إلى داخل الشقة، فعقدت الأخيرة حاجبيها بضيق وهي تواجهها مجيبة: -لقد أخبرتكِ أمي أنني سأقضي اليوم لدى صديقتي، هل انتهى العالم؟ اقتربت أمها منها قائلة: -لا حبيبتي، لكني شعرت بالقلق، كما أن هاتفك مغلق طوال الوقت. -لقد انتهى شحنه. أجابتها بلا اكتراث ثم التفتت لتتجه إلى غرفتها فاستوقفتها أمها هاتفة بتوتر: -انتظري دينا! أريد التحدث معك قبل أن يأتي أبوكِ ويقيم الدنيا ويقعدها. علمت أنها استطاعت جذب انتباه ابنتها تمامًا حينما ألقت حقيبتها وجلست على الأريكة ببطء وهي تنظر لها متسائلة بترقب:-ماذا حدث أمي؟، وإياكِ أن تقولي لي أنكِ تفكرين في موافقة أبي على إعادة تلك الحقيرة، والله سأترك البيت وقتها، أنا لن أتحملها ساعة أخرى. جلست أمها بجوارها وهي تحدثها باهتمام: -لا تقلقي، أبوكِ أصلا لا يفكر بإعادتها، لكن الموضوع يخصك أنتِ. نظرت لها بقلق ثم حَثَّتها: -تكلمي أمي! ماذا حدث؟ رمقتها أمها بِتردد ثم سألتها: -أخبريني أولًا! ألم يحاول حمزة التواصل معك؟ مطت دينا شفتيها باعتراضٍ قائلة: -ما دخل حمزة الآن؟ لقد تخلصت منه ومن معيشته الخانقة، وإذا حاول الرجوع لن أقبل، وارتاحي أمي هو أصلًا لا يريد العودة، ما كان بيننا مجرد ثلاث سنوات من النكد والشجار ليس أكثر. زفرت شروق باستسلام ثم قالت: -حمدًا لله أنكما لم تُنجبا أطفالًا. توترت عينا دينا وهي تتهرب من أمها ثم غيرت الحوار هاتفة بفضول: -ما هو الموضوع أمي؟ -هناك.. هناك عريس يريد التقدم للزواج منكِ. ألقت شروق عبارتها مرة واحدة لتتسع عينا دينا بدهشة: -عريس لي أنا؟ بتلك السرعة؟ مطت أمها شفتيها بلا تعبير وهي ترد: -لا أعلم إن كان يجب علينا أن نفرح أم نحزن! -ماذا تقصدين أمي؟ من هو؟ وماذا يعمل؟ نظرت لها بتوجس تجيبها: -إنه.. إنه ليس بغريب، نحن نعرفه تمام المعرفة، هو يكون أخ السيدة منال. رمقتها دينا باستنكارٍ وهي تهتف بها: -هل تمزحين أمي؟! إنه أصغر مني بستة سنوات! عوجت الأم فمها ثم أجابتها بتوتر: -لم أقصد هشام يا دينا، قصدت شقيقه الأكبر، طارق! انتظرت هجومًا من ابنتها مصحوبًا بتوبيخ تستحقه الفكرة لكن دينا نظرت لها بدهشة تحولت لاهتمام مباغت وهي تسألها: -طارق! الذي يملك سيارة رُباعية فاخرة؟ دارت عينا شروق على وجه ابنتها ثم أجابتها: -نعم، وهو أيضًا يمتلك عقارًا بوسط المدينة ومنزلًا صيفيًا بالساحل الشمالي. عم الصوت وشروق تحاول سبر أغوار ابنتها بينما بدت دينا وكأنها شاردة بعالم آخر، لم تقوَ شروق على الانتظار أكثر وهي تهتف بها بترقب: -لكنه أكبر منك بعشرين عام ولدية أربعة أولاد. ردت دينا بشرود: -لكنه يهتم بنفسه وبصحته ومظهره، من لا يعرفه يعتقد أن عمره لا يتعدى الأربعين، كما أن أصغر أولاده عمره اثني عشر عامَا، أي أنه لا يحتاج لاهتمام خاص، بالإضافة إلى أني علمت منذ مدة أن أخته ترعى أولاده بحكم سكنهما بمنزل واحد. سألتها أمها بترقب: -دينا! هل أنتِ موافقة؟ نظرت لها دينا مليًا ثم هزت كتفيها بلا مُبالاة وهي تجيبها: -أنا أفكر أمي، يجب أن أفكر جيدًا قبل أن أوافق أو أرفض، لا أريد تكرار خيبتي الأولى. منذ ست سنوات ونصف: استند على أقرب جذع شجرة كي لا ينهار مكانه وهو يراقب موكب العروسين الذي وصل لتوه إلى قاعة الزفاف، راقبها وهي تتأبط ذراع عريسها بابتسامة سعيدة.. أهي حقًا سعيدة؟هل نسته تمامًا؟! هل استبدلته بآخر بعد شهور فقط؟ولِمَ الدهشة وعلامَ الاستغراب؟! لقد بدأ هو بالتخلي عندما خضع لوالديه واقترن بغيرها تاركًا إياها خلفه بقلبٍ محطم وما ذنبها سوى أنها لم تكن رفيعة المستوى من وجهة نظر والديه، والآن يفكر بلومها؟ وهو من تنتظره في البيت يوميًا زوجة لا يشعر تجاهها سوى بالذنب؟! من ينتظره طفلًا بعد شهرين لا يشعر تجاهه بأي شيء؟! هو حتى لا يهتم بقدومه أو عدمه! تقهقر منهزمًا وهو يجر نفسه جرا ليسير على قدميه إلى فيلا والديه حيث صمما على الاستقرار بينهما، وصل إلى الفيلا يشعر بألم شديد، وصعد إلى جناح الزوجية المظلم كالمعتاد، فمنذ ذلك اليوم الذي أخبرته زوجته بخبر حملها وقد سرى بينهما اتفاق غير معلن على انفصالًا نفسيًا، لا تنتظره ولا تكلمه، لا ينظر إليها ولا يطلب منها شيء، يشعر هو براحة بسبب ذلك الوضع، أما هي فتتألم كل ليلة وهي تتمنى حتى عودته شقيقًا يحنو عليها ويهتم بها، لكنها أخذت على نفسها ميثاق صبر لن ينفصم، ستنتظر وتنتظر حتى يفيق من سَكرة شعوره بالاضطهاد، وحينها سيدرك أنه مطلقًا لن يجد من تعشقه بقدرها، وسيحين ذلك اليوم قريبًا، أليس كذلك؟! لكن من الواضح أنها نقضت عهدها اليوم، فالجناح مضاء وهي جالسة أمام الباب تنتظره بلهفة فشلت في إخفائها فشلًا ذريعًا، فما أن دفع نفسه بتثاقل الى الداخل حتى انتفضت على قدر ما تسمح به حركتها الثقيلة ببطنها المتكورة وهي تهتف: -عَمَّار! هل أنت بخير؟! لِمَ تأخرت حتى الآن؟! حدَّق بها لثوان بعدم فهم ثم رفع معصمه ونظر إلى ساعته، لتتسع عيناه بدهشة: إنها الثالثة صباحًا! هل ظل يمشي لأربع ساعات متواصلة بدون أن ينتبه؟ أما هي فقد التقطت ضياعه فورًا، ضربها ذلك التيه بعينيه في مقتل، لتمتد ذراعيها بدون إرادة منها وتجتذبه لأحضانها بانهزامٍ مُرَبتًة عليه بحنو، وبدمعاتٍ متكسرة وبصوتٍ مذبوح سألته: -علام تحتد حبيبي؟ ليجيبها بهمسٍ ضائع: -لقد تَزَوجَّت! لا تعلم هل شعر باهتزاز صدرها تحت رأسه أم لا، لا تعلم هل استمع لصراخ روحها الصامت أم لا.. أيجب عليها أن تعاتبه؟! أيُجاهِر بِحُزنه لِفقدان أخرى أمامها؟! أيشكو لها ضياع غريمتها؟! أحقًا عَمَّار أنت بتلك القسوة؟! ستصمت الآن، ستساعده وتطبب جروحه، وبعدها لكل حادث حديث.وهوتسلل إليه دفء غريب لا يدري ما هو مصدره لا يدري إن كان حقيقيًا بالأصل أم أنه يتوهم! أمِن شِدة توقه إليه شعر به دون وجوده..أَم...! طرقات عنيفة على باب جناحِهما حرمتها من ذلك القرب النادر وأخرجته من ذلك الشرود ليرفع رأسه وهو ينظر لها بدهشة انتزعته منها إعادة الطرقات بصوت أعلى، اتجه الى الباب وفتحه ليجد أبيه يندفع تلاحقه أمه شاحبة الوجه ثم:صفعة! صفعة على وجهه من أبيه! صفعة على وجهه أمام أمه! صفعة أمام زوجته التي صرخت باسمه هَلِعَة! صفعة يوم ضياع آخر أحلامه! وصياح غاضب من أبيه كما العادة: -أذهبت إلى زفاف ابنة البائع؟! أتريد إلحاق العار بي؟ لقد علمت أنك ستكون سبب نكبتي يومًا، ماذا تريد أكثر؟! مهنة مرموقة، فيلا فخمة، أحدث سيارة، زوجة أصيلة النسب والمقام وطفل بعد شهرين قادم، أتعلم أي نوع من الحياة وفرت لك أنا؟ وكان الرد الهادئ على النقيض مما يوقظ تلك اللحظة بأعماقه بعد طول غياب: -سجن! عقد والده حاجبيه بدهشة: -ماذا قلت؟! أعاد كلمته الوحيدة برتابة: -سجن!! ثم أضاف بابتسامة ساخرة بدأت تظهر على استحياء: - وفرت لي سجن رفيع المستوى، عظيم المقام، جميل الهيئة من الخارج، ذي عيشة رغدة وطلبات تُلبى بلحظة. ثم هَزَّ كتفيه مُتابعًا بِتَهَكُّمٍ: - لكنه يظل مجرد سجن! لطمت أمه على وجنتها بذعر بينما فغر أبوه فاهه بصدمة هاتفًا: -هل تتواقح عليّ يا ولد؟! أتعترض على رَغَد عيشك الذي أمنته أنا لك؟! والابتسامة تحولت لضحكة، والضحكة تعالت وتعالت حتى دمعت عيناه، ثم بصعوبة توقف وهو يخاطب أبيه: -أعترض؟! ماذا تعني تلك الكلمة يا أبي؟ وهل أنا أمتلك مثل تلك القوة الخارقة؟! وانمحت الابتسامة تمامًا ليحل محلها تعبير حاقد كاره وكأنه لتوه تم تشكيله على وجهه، تراجع أبوه للخلف خطوة واحدة وهو يحدق في ذلك الكائن الذي يراه للمرة الأولى ويتوقع الآن منه تصرف عشوائي لم يعتده من قبل، هو يعلم متى يفقد زمام أحد عبيده ويبدو أنه قد فعل الآن، فلم يخذل عَمَّار توقعه عندما زأر بأعلى صوته: -متى اعترضت أبي؟ وعلام اعترضت طوال حياتي؟ ارتدي تلك السترة عَمَّار، حاضر! لا تتباسط مع ابن الموظف الذي يعمل لَدَيّ عَمَّار، حاضر! سيارة زرقاء عَمَّار؟! ما هذا الذوق المقرف؟!، خذ الرمادية، حاضر! لا تأكل في ذلك المطعم الشعبي عَمَّار، حاضر! ستصبح طبيبًا وانس أمر التدريس تمامًا، حاضر! أتريد أن تتزوج ابنة البائع وتحرجني أمام معارفي؟ ستتزوج ابنة خالتك بالطبع، حاضر!حاضر! حااااااااضر!!! صمت عم بين أربعتهم إلا من شهقات مَوَدَّة الباكية وهي تتمسك ببطنها بألم، الابن يواجه أبيه للمرة الأولى بحياته وهما لا يشعران بما حولهما، ليتقدم عَمَّار تجاهه الخطوة التي تقهقر الآخر بها وهو يحدق بعينيه بابتسامة حاقدة، وبنبرة خافتة قاتلة تحدث: -أتعلم أبي؟! لطالما سمعت من أصدقائي عن شعورهم عندما بُشِّروا بانتظار أطفالهم ودهشت كثيرًا، لأظل طوال الشهور الفائتة أتساءل لِمَ لا أشعر مثلهم؟ لِمَ لا أتلهف لحضور ابني إلى هذه الدنيا؟ لِمَ لا أتخيل ماذا سأفعل معه عندما أحمله بين يدي وألاعبه وألاطفه، هل انعدم شعوري أخيرًا؟ هل تبلدت أحاسيسي بالأبوة تمامًا؟، ودومًا ما هَرِبَت مني الإجابة، والآن فقط أدركتها بأم عيني وأنا أنظر إليك.. سَكَت يجتذب شهيقًا عميقًا ثم أردف بِتشديد: -ببساطة أنا لا أريد أن يأتي ابني حتى لا أكن له أبًا مثلك أنت! والصفعة الثانية انطلقت من أبيه لكنها لم تصل لهدفها عندما قفزت مَوَدَّة صارخة باسمه تفتديه بجسدها لتصبح من نصيب إحدى كتفيها، فسقطت أرضًا شاحبة الوجه بينما انتفضت خالتها إليها تصرخ بلهفة، دارت عينا أبيه بين ثلاثتهم بجنون غاضب وتركزت على مَوَدَّة والذعر- للمرة الأولى منذ سنوات- يتملكه، ثم انطلق خارج الفيلا بأكملها، أما عَمَّار فقد حدق في الماء الذي ينهمر أسفل جسد زوجته التي تطلعت إليه بصدمة، سَقَط بِجانبها على رُكبتيه وملامحه تصرخ بالذعر ممسكًا إحدى كفيها، ثم مَدَّ إحدى يديه أسفل عنقها والأخرى أسفل ركبتيها وانطلق بها إلى الأسفل وقلبه يرتجف بين أضلعه شاعرًا برُعب لم يكتنفه يومًا، فمن الواضح أن ابنه لن يصبح خاضعًا مثله، حيث قد قرر عصيانه والخروج إلى الدنيا قبل موعده بشهرين!! عودة إلى الوقت الحالي: "الهاتف الذي طلبته غير متاح حاليًا، من فضلك حاول الاتصال في وقتٍ لاحق!" تأففت بضيق وهي تلقي بهاتفها القديم على الطاولة الممتدة أمامها بعد أن استمعت لنفس الرسالة عشرات المرات، جالسة في أحد أركان غرفة الاستراحة بالمعهد تتناول شطيرتها بهدوء وهي تحاول تدبُر طريقة تحصل بها على بدائل للكتب التي سُرقت منها، لقد مر أسبوع منذ وقعت السرقة والوضع خلال الحصص أصبح فوضوي للغاية، لكنها لن تكون متشائمة، فقد رُزِقت بنعمتين خلال تلك الأيام، أولهما أن تلك الذراع ذات المزاج المتقلب عادت وحدها للعمل بشكل كامل، وثانيهما أنها لم ترَ مُلاحِقها، صحيح هي لا تعلم إن كان يتصل بها على الرقم القديم أم لا لكنها لم تره عند مسكنها أو مكان عملها، وهذا بحد ذاته إنجاز هام، كي تكتفي الآن بالتفكير في حل لمشكلة وسائل عملها الضائعة. رنين ضعيف من هاتفها شديد الصغر جعلها تضع شطيرتها جانبًا وهي تتناوله بملل،"بالتأكيد هي رسالة من شركة الاتصالات تعرض عليها الاشتراك في خدمةٍ ما!" هكذا فكرت وهي تفتح الرسالة لتتسع عيناها بذهول، بالفعل هي رسالة من شركة الاتصالات، لكن النص مختلف!: "الرقم الذي حاولت الاتصال به أصبح متاحًا الآن!" قفزت واقفة تتلفت حولها بلا هدف ثم انتبهت إلى حماقتها، بأنامل مرتبكة طلبت رقمها القديم لتتسع عيناها بترقب فَرِح وهي تسمع صوت الجرس الرتيب على الطرف الآخر يشدو في أذنها كسيمفونية عذبة! "أجب! أرجوك أيها اللص أجب!" ظلت تهمس بتضرع حتى انقطع الاتصال فلم تيأس لتعيده مرة ثانية، ثم ثالثة، وفي الرابعة انفتح الخط! -انتظر أرجوك لا تغلق! بادرته بلهفة ثم تابعت بتوسل: -اسمع! لا أريد النقود التي كانت بحقيبتي، وأعلم أيضًا أنك لن تعطيني الهاتف بالطبع، لكن أرجوك أعطني الكتب! نبرة رجولية هادئة أجابتها: -أي كتب؟ ازداد التوسل في لهجتها وهي تجيبه: -الحقيبة كانت تحتوي على كتب تخص عملي، ودفتر ملاحظات هام بالنسبة لي للغاية، لا أريد سواهم. ببطء ونبرة أيقنت أنها باسمة جاء الرد: _نعم.. الكتب ودفتر الملاحظات، ماذا تريدين أيضًا يا آنسة؟ ضيقت عينيها وَرَدَّت بحذر: _إن كنت ستعطيني بطاقتي الشخصية سأكون أكثر من راضية. أجابها بتأكيد: -طبعًا! طبعًا! وماذا عن نصف لوح الشوكولاتة؟ ألا تريدينه أيضًا؟ بدهشة سألته: -هل لا يزال هناك؟! ثم استدركت بصرامة مصطنعة: -اسمع! أنا لا أسمح لك بالسخرية مني، أخبرتك أني سأترك لك الهاتف والنقود، أريد الكتب فقط. رد بضيق شعرت أنه مفتعل: -هل تعلمين أن شاشة هاتفك كانت محطمة؟! وأنها كلفتني مبلغًا وقدره كي أبدلها وأستطيع تشغيله؟ هتفت به بحنق: -أعتذر من سيادتك أيها اللص، سأدفع ثمنها لك، انتظر لحظة! أنت بالفعل معك كل نقودي، تستطيع أن تخصم منهم ما تشاء. ضحكة رائقة طالت للحظات تبعتها حمحمة ثم عبارة خافتة: -لِمَ لا تنفكِين تسألين عن الكتب؟ هل أنتِ طالبة؟ بارتباك أجابته: -إنها مهمة لعملي، أنا مُعلمة. عم صمت قصير استطاعت من خلاله سماع صوت تقليب صفحات، لتتيقن أنها كتبها، ثم تحدث هو بهدوء: -"قواعد اللغة الإنجليزية"، "مفردات شائعة باللغة الإنجليزية"، "نساء صغيرات"!! هل يدرُسون تلك الرواية المملة؟! إنها منذ أيام جدي، ألا يتطورون؟! اتسعت عيناها بدهشة حقيقية وهي تسمعه يقرأ عناوين كتبها بلكنة أجنبية طليقة.. لص مثقف إذن! أمن الممكن لحظها أن يصبح أكثر غرابة؟!! -إنها خاصة بي أنا! هتفت بحزم ليرد هو بنبرة متحرجة بعد بضعة لحظات: -آسف، إنها رواية رائعة بالطبع لمن يُقدِّر فنون الأدب. نفضت رأسها تفتعل جدية هاربة ثم هتفت بِنفاذ صبر: -والآن ماذا؟! هل ستعطيني كتبي؟ تظاهر بالتفكير ثم رد بعتاب: -أتطلبين مني أن أوافق على تسليمك كتبك حتى تقومي بإبلاغ الشرطة عني وأقضي سنوات شبابي في السجن أليس كذلك؟! أتعتقدين أنني بتلك السذاجة؟! ردت بلهفة متوسلة: -أقسم لك أنني لن أبلغ الشرطة أبدًا، أنا لا أريد التورط مع أمثالك، فقط اترك لي كتبي بأي مكان ولن تسمع عني مرة أخرى. عقب بدهشة: -لا تريدين التورط مع أمثالي؟! شكرًا لكِ آنسة، شكرًا جزيلًا، ألا يندرج قولك هذا تحت بند التنمُر؟ أهذا ما تعلمونه للجيل الصاعد؟! ضغطت أسنانها بغضب وهي تدق على رأسها بكفها لاعنة تهور لسانها:-آسفة جدًا يا أستاذ، أرجوك أنا أحتاج تلك الكتب بشدة ولا أستطيع الحصول على بدائل لها. والضحكة الرائقة عادت أقوى وأطول وعاد معها ارتباكها وهي تنتظر انتهاءه بأدب: -أتعلمين؟! - ولا أتعمد ازعاجك- اسمحي لي أن أقل لك أنكِ ضحية لقطة! عقدت حاجبيها بدهشة ولم ترد فتابع هو بصرامة هادئة: -أنتِ في موقف الحق، لا يجب عليك أن تتوسلي، أملي شروطك ولا تخضعي لأحد حتى وإن كانت أحلامك كلها متعلقة به.عم الصمت مرة أخرى ليستدرك بنبرة مرحة: -والآن كيف ستتسلمين حقيبتك بما فيها؟ سألته بِترقب: -هل تعني أنك ستعطيني الحقيبة مع الكتب والـ.... قاطعها بلهجة باسمة: - والنقود والهاتف ودفتر الملاحظات، لكنني سأعتبر نصف لوح الشوكولاتة هو تعويضي عن إصرارك على اتهامي بالسرقة! بنبرة دهشة مرتبكة أجابته: -أتعني أنك لست لصًا؟! استطاعت سماع زفيره الحانق الذي سبق تحدثه بنفاد صبر: -أقسم لكِ يا آنسة رهف أنا لست لص، بل أنا مهندس محترم ولدي نصيب بشركة مرموقة. تسللت ابتسامة رقيقة رغمًا عنها إلى شفتيها وهي تجيبه باستفسار أحمق: -كيف عرفت اسمي؟! لتتسع تلك الابتسامة أكثر وهو يحدثها بلهجة خافتة أثارت بها قشعريرة غريبة: -بطاقة هويتك الشخصية بين يدي الآن آنسة رهف! ساد صمت غريب قطعه هو بحمحمة متوترة: -إذن كيف ستتسلمين أغراضك؟ وقبل أن تفكر بادرها: -هل آتي إلى العنوان المدون على البطاقة؟ وبذعر نهته مُسرِعة: -لا لا، أنا لم أعد أقطن بذلك العنوان، ولا أريد أن أرهقك معي، أخبرني بأقرب مكان إليك، أستطيع أن أحضر إلى مكان عملك، إن لم أكن سأتسبب في تعطيلك بالطبع. أجابها بتهذيب: -أنتِ لن تعطليني عن شيء، سأنتظرك غدًا بالعنوان الذي سأرسله إليكِ على هذا الرقم، اتفقنا؟ بانقياد تام أجابته: -اتفقنا! شارد الذهن منذ دقائق يجلس بِمكتبه ولا يستطيع تحليل ماهية مشاعره، وفجأة فُتِح الباب دون استئذان وانطلق هتافها المُصمم على الفور وهي تدلف: -يجب أن أتحدث معك! ألقى القلم الذي يمسك به بطول ذراعه ليصطدم بالجدار البعيد وهو يحدق بها بغضب ويهب واقفًا هادرًا بها: -من سمح لكِ بالدخول إلى مكتبي؟! أين هي تلك السكرتيرة الـ... قاطعته سارة التي دخلت لتوها تنظر إليه شزرًا: -أنا من أدخلتها عاصم، ويفضل أن تخفض صوتك قليلًا كي لا يستمع الموظفون. ثم أضافت بنبرة خافتة سمعها الاثنان: -يا خسارة تربية سوسن بك! استشاط غضبًا وتحرك من خلف مكتبه متجهًا إليهما فتخصرت سما وهي تقف أمامه رافعة ذقنها بتحدي ثم هتفت: -ماذا ستفعل؟ هيا أرني! لقد حصلت على الحزام الأسود في الكاراتيه منذ سنوات ولم تسنح لي الفرصة للاستفادة به بعد، ولكم أتشوق للتجربة، خاصة إن كانت على وجهك المستفز. لم تستطع سارة كتمان ضحكتها أكثر وهي تتطلع الى ملامح الصدمة على وجه عاصم بينما هو يطالع قامة مواجهته الضئيلة وصاحبتها تناظره بتحدي صارخ، حتى استطاع أخيرًا الرد بصوت متحشرج: -أنتِ.. أنتِ فعلا مجنونة! لتبتسم ببرود وهي تهتف: -وأنت قليل الذوق، عديم "الإتيكيت". تدخلت سارة بشماتة: -الفتاة كشفتك منذ اللقاء الأول، حتى تعلم كم تحملت أنا لسنوات! جذب شعره بغيظ وهو يحاول التمسك بالهدوء مرددًا: -ماذا تريدين مني؟ ببرود أجابت: -أريد التحدث معك، وبشأن والدتك التي أنجبتك، السيدة صفاء، وليكن في معلوماتك أنني لن أتزحزح اليوم من هذا المكان إلا بعد أن أنفذ ما جئت لأجله، حتى وإن اضطررت إلى جلب الشرطة لي! وضعت سارة يدها على كتفي سما برقة ثم نظرت إليه قائلة:-لن يضيرك شيء إن استمعت إلى ما لديها عاصم، فقط اهدأ واجلس. زفر بغيظ وهو ينظر إليها بكراهية بادلته إياها بكل كرَم، فدفعتها سارة برفق لتجلس فوق أقرب مقعد، وعاد هو أيضًا إلى المقعد خلف مكتبه، همت سارة بالخروج حتى أوقفها عاصم بحزم: -إلى أين تذهبين سارة؟ التفتت إليه بدهشة قائلة: -أنا أعمل في هذا المكان إن كنت لا تعلم! شدد على حروفه ببرود وهو يرد على سارة لكن نظراته محدقة بسما: -أنتِ لن تخرجي وتتركيني معها! لم تحِد سما بعينيها عنه وهي تبتسم بتحدي قائلة: -أنا لن آكلك، لا تخف! مسح وجهه بكفيه وهو يزفر نيرانًا من صدره بينما ردد بِغيظ: -يا الله يا ولي الصابرين!! ارتمت سارة على المقعد المواجه لهما وهي تنظر لسما بتوسل، فارتخت ملامح الأخيرة وهي تنظر إليه بجدية قبل أن تقول: -استمع إلي مهندس عاصم، أنا لا أعلم سبب القطيعة بينك وبين والدتك، لكنني أعلم أنها تتمنى...تتمنى أن تتواصل معها، تتمنى أن تزورها، هي لم تنجب غيرك وتحتاج الآن إلى وجودك معها، وأعتقد أنك لن تتحمل ذنب كقطع رحم أمك وعقوقها. هب واقفًا بغضب: -ما خصك أنتِ بما بيني وبينها؟ ثم أنني..... هبت واقفة تصرخ به: -أنت لا تخصني بشيء، هي من تخصني، هي من تتعذب، هي من تصرخ ليلًا باسمك وكلما ارتفع رنين جرس الباب نادتك بلهفة، كيف تتحمل كونك قاسيًا هكذا؟ أمك مريضة مهندس عاصم، مريضة جدًا وتحتاجك بشدة، لا تظلمها أنت أيضًا، تناقش معها ربما لديها ما تحتاج إليه، لِمَ اكتفيت بالسماع من طرف واحد فقط؟!لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟ عم الصمت المكان والثلاثة ينظرون لبعضهم بِوجل ودهشة وغضب، كانت سارة أول من تعقل بينهم وهي تنظر له بابتسامة حنونة وتخاطبه بِتشجيع: -فكر بكلامها عاصم، مهما كان ما حدث بالماضي ستظل هي والدتك وستظل أنت ابنها الوحيد، اذهب إليها وتحدث معها.التقطت سما طرف الحديث بهدوء: -أنت لن تخسر شيئًا، زيارة عابرة لن تأخذ من وقتك الكثير، ستريحها وسترضي شوقها إليك. ابتسم ساخرًا وهو يردد بألم:-شوقها إلي؟ السيدة صفاء تشتاق إلي؟ بعد كل تلك السنوات تذكرت وجودي أخيرًا؟ أين كانت من قبل؟لم تجد رَدًا مع نظرة التحسُّر بعينيه فَتَابَع هو: -آسف آنسة سما، تستطيعين إخبارها أن ابنها الذي اكتشفت وجوده فجأة لم يعد بحاجتها ولا ينتظرها، وأن الله قد عوضه بزوجة أب وبأختها فكانتا له التعويض الكافي عن نبذها إياه. تَعَلَّقت عيناها به بينما نَضَبَت كلماتها بِعجز، تستطيع أن تعاند تستطيع أن تتحداه تستطيع استخدام حدة لسانها ومجادلته حتى الساعات الأولى من الصباح لكن ذلك الصراخ الذي تهتف به عيناه يمنعها، ذلك الخذلان الذي يعانيه يجبرها على احترام رغبته، يجب عليها أن تفكر في حل لمهمتها الصعبة بعيدًا عنه، يجب عليها ألا تضغط على جرحه أكثر من ذلك. تقهقرت للخلف وهي تومىء برأسها إيجابًا، وعند الباب التفتت تنظر له بهدوء: -أعتذر مهندس عاصم، لن أزعجك أو أعترض طريقك مرة أخرى، لكن إن..إن غيرت رأيك تستطيع أن تهاتفني بأي وقت وسأخبرها أنك تريد رؤيتها، رقمي لدى الآنسة سارة، إلى اللقاء. خرجت مسرعة وهي تشعر بأنفاسها تضيق بصدرها، أما هو فقد طأطأ رأسه وصدره يتعالى ويهبط في تنفس سريع، وبخفوت صارم تفوه: -أريد أن أظل بمفردي سارة. زفرت بحزن وهي تتطلع إلى حالته السيئة، ثم بهدوء خرجت وأغلقت الباب، أما هو فقد جلس مكانه سارحًا بعقله في ذكرياتٍ بعيدة... منذ عدة أعوام: وقف يحدق في وجه والده بصدمة وهو يحاول استيعاب ما أخبره به للتو: "والدتك لم تعد زوجتي منذ مدة!" "والدتك لن تعيش معنا ثانية!" "والدتك ستتزوج بآخر!" مشاهد متلاحقة وأحداث صادمة، أمه تحتضنه باكية وهي تودعه معتذرة، أبوه يقف رامقًا إياها ببرود، خزانة ملابسها أصبحت فارغة، أدوات زينتها لم تعد موجودة، رائحة عطرها لم تداعب أنفه منذ فترة، أدوات طهيها، حكايات ما قبل النوم، حضنها الدافىء، قُبلتها الحنونة على جبهته، كلهم ذهبوا بلا عودة.ثم سنوات مرت وهو بانتظار عودتها إلى أن بدأ بالتدريج يفقد الأمل.ثم.امرأة أخرى!! أثاث جديد، ملابس جديدة بخزانة أمه، أدوات زينة جديدة، عطر جديد، أدوات طهي جديدة.. ومحاولة للتقرب.. تفشل! لبعض المشاركات في المذاكرة.. تفشل! لقُبُلات على الجبهة.. تفشل! وتفشل! ثم رضيعة صغيرة تصرخ بصوتٍ حاد!! أبوه: "احملها عاصم إنها أختك!" -لا أريد! زوجة أبيه: "ما رأيك إن سميتها أنت؟!" -لا أهتم! أبوه: "كان يقول دائمًا إنه إن رُزِق بأخت ستكون مريم." زوجة أبيه: "إذن هي مريم!" وعندما أصبحت تلك الرضيعة بعمر الثالثة اضطر أبوه وزوجته للسفر لآداء واجب العزاء في أحد الأيام.. الصغيرة شقية كالعفاريت! تقفز هنا وهناك ولا تترك شيئًا بمكانه! لا تطيعه ولا تسمح له بالتركيز في دروسه، جرى خلفها فهربت إلى المرحاض، أمرها بفتح الباب فعاندته، لينتقم منها ويوصد الباب! طرقات ضعيفة متتالية وهو يبتسم من خلف الباب بتشفٍ، ثم صوت ارتطام!! تسمَّر بمكانه لثوان يحاول تخمين ماهية الصوت الى أن ضربت الفكرة عقله في مقتل.. المغطس المليء بالمياه حرصًا منهم على الاحتياط منه في حالة انقطاعها.. وبلهفة فتح الباب وهو يجد أخته تنازع للحصول على بعض الأنفاس! تسمر مرة أخرى مكانه محدقًا بها... هل أصبح قاتلًا؟! هل قتل أخته؟! وانفتح باب الشقة.. وصراخ من زوجة أبيه وأبوه يدفعه ليحمل طفلته التي لا تأتِ بأية حركة، ولِثوانِ أخذ ينعشها باستماتة وعندما سعلت أخيرًا استدار إليه ليصفعه. طأطأ رأسه راضيًا بالمزيد فجذبته زوجة أبيه من أمامه تحتضنه رغمًا عنه وهي تمسد على ذراعه بحنان، وتوبخ أبيه بغضب! ومنذ ذلك اليوم.. لم يعد عطرها يضايقه! أصبح هو من يبادر باحتضانها وتقبيلها وطلب الاستماع إلى حكاياتها! إلى أن فقدها وهو في عمر الرابعة والعشرين بعد صراع مرض غادر أهلكها ثم اختطفها تاركة بعدها طفلة، وتاركة إياه يتيمًا للمرة الثانية! لتتسلم القيادة الأمومية من بعدها أختها الخالة سوسن، نعم هي ليست خالته بالمعنى الحرفي لكنها أخت حبيبته التي رحلت.. عودة إلى الوقت الحالي: -هل جننتِ يا شروق؟! هتف بها صلاح ثم خرج من غرفته مناديًا ابنته التي جاءته خائفة: -نعم أبي؟ نظر لها بغضب هاتفًا: -هل سمعتِ بالهراء الذي تتفوه به أمك؟ تريد أن تعرض عليك عريس وعدتك لم تنتهِ بعد! نقلت دينا نظراتها بين أبيها وأمها التي تقف خلفه بترقب ثم قالت بتردد: _نحن لم نقل أنني سأتزوج غدًا أبي، هو مجرد تعارف بسيط.تحدثت شروق بحنق: -أخبريه دينا، لقد جعلني أشعر أني أصطحب المأذون في يدي!فغر أباها فاهه دهشة وهو ينظر إليهما بالتبادل ثم صاح:-أنتِ موافقة إذن على ذلك السخف؟! وبالطبع تعلمين أن عريس الغفلة يصغرني أنا ببضعة أعوام، ولديه أربعة أولاد أكبرهم يقارب سنك! وعندما طأطأت كلتاهما رأسها أخذ يضرب كفيه ببعضهما وهو يحوقل ويستغفر ثم حدثها بمهادنة: -لله الأمر من قبل ومن بعد، أتريدين فعل ذلك بنفسك ابنتي؟ لِمَ التعجل؟ انتظري قليلا عسى الله أن يرزقكِ بشابٍ في مثل سنك.انتفضت دينا صائحة: -لقد تزوجت من قبل بمن هو في مثل سني أبي، وماذا كانت النتيجة؟ صاح بها أبوها: -ماذا كانت النتيجة دينا، أخبريني! أريد أن أعرف ماذا حدث، أعلم أن هناك ما تخبئينه عني خوفًا لأنكِ تعلمين أنكِ مخطئة، حمزة أيضًا لم يشأ إخباري مُصِرَّا على عدم التحدث في أسرار تخصكما، هل هذا هو من تندمين على زواجك به؟ أليس هو نفسه من كدت تطيرين فرحًا يوم تقدمه لخطبتك؟ _-هتفت دينا بغضب: -لقد أخطأت! نعم أخطأت حينما اعتقدت أن عمله كطبيب يُدر عليه العديد من الأموال واكتشفت أن مستواه مماثل لنا تمامًا، لن يضيف إليّ شيء، وليزيد الطين بلة علمت أنه يعطي أموالًا لوالده وما خفي كان أعظم، وأنا لم أتزوج كي أعيش بنفس الظروف المادية الخانقة، أريد أن أتمتع بشبابي وبجمالي مع من أسعد معه. نظر لها صلاح بخيبة أمل مشوبة بازدراء: -ماذا به مستوانا دينا؟ هل قصَّرت معك بشيء؟ هل قصَّر حمزة معك بشيء؟ لقد كنت أرى بنفسي مدى كرمه وطيب أصله وإيثاره إياكِ على نفسه، ثم ماذا إن كان ينفق على أهله؟ ما خصكِ أنتِ؟! هل كنتِ تريدين الزواج من أحد العاقين الذين يتنكرون لأهلهم؟! كيف ومتى أصبحتِ طماعة وحقودة بذلك الشكل ابنتي؟ تدخلت شروق بغضب: -من حقها صلاح أن تعيش مرفهة، وان كان هو يـ..... صاح صلاح بها بثورة: -اخرسي أنتِ! ألا تملين؟! ألا تتعبين من تلك السموم التي تسكن جلدك؟ ألا تريدين أن ننعم براحة وسلام مطلقًا؟! كفي عن بث أحقادك في أذني ابنتك وإلا أقسم أنني لن أهتم لِسِنِّك وسأجعلك تكرهين حياتك. ثم التفت إلى ابنته صائحًا بصرامة: -وأنتِ! لا تفكير في زواج آخر إلا بعد انقضاء عدتك، لعلك تكونين قد تعقلتِ حتى ذلك الوقت. ثم دخل إلى غرفته صافعًا بابها بقوة أتبعها بصوت دوران المفتاح لإيصاده تمامًا في رسالة صامتة بأن تقضي شروق ليلتها على الأريكة. منذ ست سنوات ونصف: وقف أمام غرفة العمليات مُتسمرًا بِخوف وهو يولي أمه وأخته وخالته ظهره، وعلى الجانب الآخر يقف والده بعد أن هاتفته أمه صارخة به بغضب ومهددةً إياه إن حدث شيء لمَوَدَّة بسببه. مَوَدَّة!! آآآآه يا مَوَدَّة! ماذا فعلت بكِ أنا؟ ولِمَ تصبرين على ذلك الوضع؟ ما الذي أظهركِ بحياتي الآن وأنا أعاني من التشتت والضياع؟! ما ذنبك كي تتحملي ذلك الألم من أجلي؟ ما ذنبك أن تحبي وتتزوجي وتنجبي طفلًا من ضعيف مثلي؟ وعلى ذكر طفله ارتجف قلبه بقوة، لقد كان يتشدق منذ قليل بعدم اهتمامه به على الإطلاق، لِمَ يشعر الآن بأنه إن لم ينجُ بالداخل سيلحق به مُرَحِبًا؟! ابتهل هامسًا بتوسل: -لا يا رب، لا تؤذِني فيه، أريد ذلك الطفل، اجعله سالمًا مُعافى، واحفظ أمه يا رب. ثم خرج الطبيب معلنًا بإرهاق عن سلامة الطفل رغم ميلاده مبكرًا.. وبلهفة بادره: -وزوجتي؟ كيف حالها الآن؟ ليطمئنه الطبيب بسلامتها فيحمد ربه على استجابته. وبعد أن جرب للمرة الأولى حمل جزء من روحه بين يديه، اجتاحه حنان جارف ورغبة بالبكاء وهو يراقب خاطر خبيث يرحل مدحورًا... هو لن يكن مثل أبيه أبدًا! لن يظلم تلك العطية ما حيا، سيحبه وسيرعاه، لن يجعل منه صورة مصغرة من ضعفه وخضوعه واستسلامه، وعلى النقيض تمامًا سيجعل منه الأمان والعضد، هو القوة والتأييد والسند، نعم هو: إياد! نظر لها بندم بعد انفراده بها بغرفتها بالمشفى، راقبها تحدق بطفلهما بعينيها الجميلتين، تلاعبه وتُقَبِّله بحنانٍ دامع، صورة اكتشف تلك اللحظة أنه لن يمل من التطلع إليها أبدًا.. -مَوَدَّة! ازدردت لعابها وأجابته بدون أن تنظر إليه: -نعم عَمَّار؟ -أنا آسف. بابتسامة ساخرة طالعته: -علامَ تأسف عَمَّار؟!، إن كنت اليوم قد حطمت قلبي فقد أراد الله تعويضي في الحال، اذهب عَمَّار!، إن أردت الانفصال أنا ليس لدي ما يمنع، سأكتفي بولدي، سأربيه وسأعلمه ألا يخضع، ألا يظلم، ألا يكسر قلب غيره بحجة ضعفه. هز رأسه نافيًا بلهفة: -لا مَوَدَّة، أنا لا أريد الانفصال، أريد فقط فرصة كي أعتاد علـ.... وصمت لا يجد تعبيرًا لا يجرحها أكثر، لكنه فعل! فقد أكملت هي عنه بشرود: -كي تعتاد على كوني زوجتك، كي تعتاد على أن أم ابنك ليست هي حبيبتك، لا عَمَّار، أنا لا استحق تلك الإهانة، لقد دفعت ثمن خطأي تجاه نفسي بسبب لهفتي على الزواج بك وكدت أخسر الشيء الوحيد الذي حظيت به منك، لن أجازف مرة أخرى، لن أرتضي المذلة من أجلك ثانية، أنا زوجتك عَمَّار، إن شئت اتركني على حالي وإن شئت طلقني، أنا سأعيش من أجل ابني ولن أنتظرك يومًا آخر. رمقها مليًا بألم ثم وقف يناظرها بِشعور غريب، وبنبرة صارمة شدت انتباهها خاطبها: -أعلم أن ذنبي كبير مَوَدَّة، بحقك وبحق نفسي وبحق غيري، لكنني سئِمت، الآن لدي ما أحارب لأجله، سأحارب ضعفي وخنوعي قبل أن أحارب أبي، وأعدك مَوَدَّة، أعدك أن أتخلص من عَمَّار الذي عَرَّضك لتلك الحالة، لا أطلب منك الكثير، فقط عودي صديقتي وملاذي الآمن! بادلته التدقيق، ثم بصوت خافت ردت: -أنا لا أغفر الخيانة عَمَّار. ليؤكد بلهفة: -لم أخنك! بحسرة أجابته: -ستخون. مال عليها بتصميم: -أقسم ألا أفعل. دمعت عيناها خوفًا من أملٍ وليد: -لا تقسم بما لا تستطيع فعله عَمَّار! وبنبرة مشددة ووعد بعينيه كان رده: -أعدك ألا أخونك. لتسأله بعناد: -وإن فعلت؟ أجابها بنفاد صبر: -عندئذٍ يحق لكِ ما تريدين. ببطءٍ شددت على كل كلمة: -ستكون النهاية عَمَّار! وبلهجة منتصرة زفر بارتياح: _لكِ ذلك! وباليوم التالي انفرد بأبيه رغمًا عنه بمكتبه ليعتقد الأخير أنه جاء ليعتذر، فيفاجئه ابنه بلهجة صارمة باقتضاب: -أنت أبي لك مني كل احترام، لكنني بدءًا من اليوم لن أسمح لك بالتدخل في أي شيء يخصني أو يخص زوجتي أو ابني، وإن شعرت يومًا ما بعدم راحة هنا سآخذ زوجتي وابني وسأستقل بمسكني، فلم يعد بي طاقة كي أتحمل منك أكثر، الآن لدي ابن يحتاج إليّ بكامل قوتي. وبدون انتظار رد خرج تاركًا أبيه يغلي غضبًا وهو يتوعده بداخله إن نفذ تهديده ورحل. عودة إلى الوقت الحالي:"لِمَ اكتفيت بالسماع من طرف واحد فقط؟!" "لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟"العباراتين اللعينتين تأبيان تركه منذ غادرته صاحبتهما بالأمس، يحاول فهمهما، يحاول فك شفرتهما فلا يستطيع، ماذا قصدت؟ عن أي طرف كانت تتحدث؟"ماذا بكَ بني؟ بِمَ أنت شارد؟" التفت عاصم إلى أبيه مُقبِّلا جبهته بحنان ثم ساعده على الجلوس فوق الأريكة الموضوعة بالشرفة وهو يرد: -العمل والدي، أفكر بأشياء تخص العمل.ابتسم أبوه بضعف قائلًا: -لم تستطع الكذب علي من قبل عاصم، عيناك تُقران بالحقيقة دائمًا. "الحقيقة!" "لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟" مجددًا! حدق عاصم بعينيه مليًا ثم ازدرد لعابه قائلًا بخفوت: -وما هي الحقيقة أبي؟ أخبرني؟ نظر له والده بعدم فهم ثم سأله: -أي حقيقة بني؟ وانطلق السؤال بنبرة هادئة لكنها تشتعل: -لِمَ تركتني أمي؟ اتسعت عينا أبيه بصدمة فعاجله بسؤالٍ آخر: -لِمَ انفصلت عنها بالأصل؟ وعندما طالت دهشة أبيه أتبعه بالثالث: -لِمَ لم تزرني طوال تلك السنوات؟ هنا لم يستطع أبوه الصمت أكثر فهتف بغضب مرتبك: -لِمَ تسأل أنت في ذلك الشأن الآن؟ ألا ترى أنك تأخرت عدة سنوات لِتفعل؟ تسارعت دقات قلبه وهو ينتبه لِتهرُّب أبيه منه فازدادت نظرته ثم لهجته صرامة وهو يُخاطبه: -الآن أبي! الآن أريد الحقيقة، وأنت لن ترضى لي بالحيرة والشك أكثر. أجابه بنزق وهو يهب واقفًا عائدًا إلى الداخل: -لم نتفق، هذا يحدث للكثير. تعلق بذراعه بتوسل قبل أن يخرج هاتفًا: -ولِمَ لم تزرني مطلقًا؟ عندئذٍ نظر أبوه إليه نظرة صدمته وجعلت قلبه يرتعد، لتنتشر الارتعادة بجسده كاملًا وأبوه يجيبه ببرود: -لقد زارتك! سنوات مرت وهي تنتظر أن يدق قلبه لها ولم يفعل، تنتظر أن يجتاحه حنينه إليها ولم يفعل، حتى فقدت الأمل وأدركت أنها تتمنى شيئًا بعيد المنال، وأنه حتى إن كانت شخصيته قد تغيرت واستطاع فرضها على الجميع إلا أن قلبه لن تملكه مُطلقًا، هنيئًا لها! لكنها لن تطالبه بشيء، لن تتوقع حبه، ستعيش من أجل ابنها الحبيب، طالما عَمَّار لم يخنها لن تعرض ابنها لخطر التفكك الأُسَري ولن تتسبب بالنزاعات بين أمها وخالتها. لكن الحال فجأة انقلب، اختفاء بالساعات ثم مكالمة هاتفية هامسة، ليبدأ الشك بالنبش بقلبها، تفضي بقلقها لأمها فتنصحها بمراقبته، أو بتفتيش هاتفه، لتتجرأ وتقوم بالاثنتين. بمرور الوقت وبإحدى الليالي استطاعت الوصول لهاتفه، مقاطع مصورة لعمليات، أهداف لفريقه المفضل، صور حالات طبية، صور لابنهما في مراحل مختلفة.. وفتاة جميلة بريئة الملامح!صورة..تلو أخرى..تلو أخرى.. وكلها مُلتقطة لها في الشارع، فيبدو أنها يتم تصويرها بدون علمها، هل هي حبيبته السابقة؟! لا تعلم عنها سوى أنها كانت زميلته وتُدعَى رضوى، هل انفصلت عن زوجها؟ هل سيعود إليها؟وعلى جمرٍ متقلب قضت ليلتها، وفي الصباح الباكر كانت السيارة الرمادية هدفها حتى توقف صاحبها أمام أحد معاهد تدريس اللغات، لتختبىء داخل سيارتها بعيدًا عن مرمى رؤيته، حتى خرجت غريمتها يحدق بها زوجها بحبٍ لم تطُله عيناها يومًا.وباليوم التالي حزمت أمرها، تأكدت من وجوده بالمشفى واتجهت إلى مكان عمل طريدة زوجها ، انتظرت طويلًا حتى خرجت الفتاة أخيرًا تترنح بعض الشيء، فمشت باتجاهها متعمدة الاصطدام بها وتجاذبت معها حديثًا يبدو مُصادفة بينما تخفي نيرانًا داخل صدرها وهي تواجه غريمتها وتتظاهر باللامبالاة بينما الفتاة تتضح عليها البراءة بالفعل افتعلت خطة ما وتذرعت بحجة السؤال عن الدورات التي تدرس للأطفال بسن ابنها، وبينما تجيبها الفتاة بإتقان شردت هي بملامحها متفحصة، لن تنكر جمالها، لكن بِمَ كان يبحث عَمَّار ووجده بها هي بالتحديد ليتخلى عن إخلاصه غير المشروط منذ ستة سنوات؟ عمرها خمس وعشرون! اسمها رهف! ليست السابقة إذن! ماذا عَمَّار؟ هل مللت أخيرًا؟ هل وجدت أن ما لدينا لا يستحق؟ أستبحث بين كل النساء ما عداني إلى متى؟ وبعد أسبوع: لا تستطيع النوم، يجب أن تواجهه، لكنها تعلم أنها إن واجهته سينهار عالمها بأكمله... عذاب لا ينتهي! لقد عابته يومًا بضعفه وها هي تُبتلى بنفس العيب! الأضواء المُتَسَللة من غرفة نومه شدتها لتتسلل إليها بصمتٍ، فتراه مُولِيًا إياها ظهره ممسكًا بهاتفه مُطْلِقًا السكاكين إلى قلبها بلا رحمة:-أريدكِ! -أريدكِ رهف، أريد رؤيتكِ، أريد تعويضِك، أريدكِ معي دائمًا وبجانبي. -أنا لا أريد بكِ شرًا رهف، أنتِ غالية، لا تدركين كم أنتِ غالية! -يا إلهي أنتِ حقًا ممثلة فاشلة! -أنصتي جيدًا رهف، ذلك الوضع لن يستمر طويلًا، قريبًا ستكونين معي ولن يفرق بيننا أحد، وحتى ذلك الوقت اعتنِ بنفسكِ جيدًا، إلى اللقاء. ألجمتها الصدمة وهي تتشرب الكلمات التي لم تتمتع بها مُطلقًا، وعندما أنهى مزاحه مع ابنه واستدار، كانت دمعاتها تنهمر بلا إرادة منها، وتكسرت نبرتها كما تكسر قلبها وهي تبادره بصدمة: -أتخونني عَمَّار؟! عودة إلى الوقت الحالي: تطلعت إلى موظفة الاستقبال ببلاهة تحاول استيعاب سؤالها البسيط فاضطرت الأخرى لتكراره مرة ثانية: -أرجوكِ آنسة، أنا لست متفرغة. حمحمت بحرج وهي تعيد نفس العبارة: -لقد أخبرتك، أريد مقابلة صاحب هذه الشركة. لتزفر الموظفة بملل: -أي واحد منهما آنسة؟ تطلعت رهف حولها بضيق وهي تلعن غباءها وهاتفها الذي سُرق والآخر بحوزتها الذي لا يستمر شحنه عشرة دقائق كاملين، هي حتى لا تستطيع الآن الاتصال بالرجل، أما فكرت في سؤاله عن اسمه عندما هاتفها؟ خرقاء! وستظل خرقاء! عادت بنظراتها إلى الفتاة وأدركت أنها تمنع نفسها بصعوبة عن الصراخ بها، ثم هزت كتفيها بحيرة وهي تجيب بحرج: -أنا لا أعلم اسمه، اعذريني! همت الفتاة بنهرها بحنق فتدخلت زميلتها-التي تبدو أكثر حُلمًا- بسرعة متسائلة: -أتريدين مقابلة المهندس عاصم؟ لم يأتِ اليوم. كانت على وشك الرد بنفس الإجابة فقاطعها الصوت الذي تسلل إلى أذنيها هاتفيًا بالأمس من خلفها: -لا! الآنسة تريد مقابلتي أنا! وعندما التفتت للخلف اجتذبتها على الفور عينان خضراوتان تحدقان بها بابتسامة رائعة، ليتابع صاحبها بتهذيب: -مرحبًا آنسة رهف، أُعرِّفك بنفسي، مهندس ساري رشوان