Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل الثانى عشر

*عودة* ظالم أم مظلوم أنا؟جانٍ أم ضحية أنا؟رُبما تلقين السؤال مُنتظرة مني إجابة شافيةرُبما تتوقعين مني اعترافات كافية..لا أدري سيدتي حقاً ما هي خطوتي التالية!أمامك.. هل أُدافع عن نفسي؟أمامك..هل أسوق مُبررات؟أو رُبما تشفقين على حالتي فتمنحيني عفواً لم أطلبه يوماً مِن سواك..."مرحباً رهف، كيف حالك يا ابنتي؟"حدَّقت رهف بها مليَّاً دون أي ردذاهلة..صامتة..لا تدري ما يجب عليها قوله!أتطلب منها أن تنصرف؟!أم ترد تحيتها وتتعامل معها بطريقة طبيعية؟أم تتجاوزها وتنصرف هي؟أنقذتها مَوَدَّة وهي تأتي من خلفها هاتفة بترحيب:_أهلاً وسهلاً، من تكونيــ..وبترت عبارتها فور أن تذكرت رؤيتها بالزفاف، نقلت نظراتها بين سوسن ورهف بدهشة وقلق فردت سوسن بهدوء:_أهلا بكِ ابنتي، أعتقد أنكِ تذكرتني بالفعل.صمت طويل للحظات مُعبَّأ بالحيرة وسوسن ورهف تحدقان لبعضهما، بينما احتارت مَوَدَّة في كيفية التصرف.. أما سوسن فقد شردت بعقلها في يوم فقدت فيه الزوج والحبيب وطفلين، ثم كادت أن تفقد ابنها الأكبر وسندها على يد مجرم واحد.. هو والد هذه الفتاة.وشردت رهف بعقلها في يوم آخر، كان من المفترض أنه أفضل أيام حياتها، عندما تم تمزيق قلبها على مرأى من الجميع، كل ذلك حدث على يد رجل واحد.. هو ابن هذه السيدة.حبيبها!سار"لا رهف إياكِ!" تدخلت مَوَدَّة قائلة بتهذيب:_تفضلي سيدة أم ساري. أغمضت رهف عينيها واسمه الذي حَرَّمَت حروفه على مسامعها ولسانها منذ أشهر يتخلل كيانها ليُذكِّرها بما اشتاقت إليه."إياكِ رهف إياكِ!اضطرت لاتباع مَوَدَّة وسوسن إلى غرفة الاستقبال وجلست بجانب زوجة أخيها صامتة، فما لبثت الأخيرة أن استقامت هاتفة:_استأذن منكِ أم ساري لحظات.مُجدداً مَوَدَّة؟!اسمه مُجدداً؟ _كيف حالك رهف؟والسؤال كان الافتتاحية اللازمة لأثقل حوار على قلبها، فما كان من رهف إلا أن ردَّت بوجوم: _بخير تماماً سيدة سوسن، شكراً.لحظات مرت ورهف تحدق بها بكل برود ولامبالاة، حتى وقفت المرأة ثم جلست على الأريكة بجوارها تماماً فنظرت لها رهف باستغراب، إلا أن سوسن أمسكت بكلتا يديها وهي تتحدث بهدوء:_اسمعيني جيداً رهف، لقد ظلت سارة تبحث عن عنوانك طيلة الأشهر الماضية ولم تحصل عليه سوى بالأمس فقط..سارة؟!تلك الفتاة الرقيقة خفيفة الظل التي تهيأت كي تكون أختاً لها بعدما نبذتها دينا لسنوات بإصرار؟تلك الفتاة التي كانت تخبرها مثرثرة بكل تفاصيل سا...."توقفي رهف!"لكن الله عوضها بمَوَدَّة ثم تغريد، يجب ألا تحزن إذن!سألتها رهف بلا تعبير:_ولماذا تبحث ابنتك عن عنواني؟"الطريق ليس سهلاً أبداً. هكذا فكَّرت سوسن وهي تنظر إلى ملامح الفتاة التي كانت يوماً مُحتاجة مُتوسلة، والآن صارت قوية واثقة، مجروحة وهذا واضح، لكنها تظل واثقة.زَفَرت سوسن بِتَعَب ثم قالت:_سأخبرك رهف، سأخبرك بكل شيء!هتفت رهف برفض قاطع:_أنا لا أريد أن أعرف أي شيء، لم يعد لديكم ما يخصني أو أهتم به على الإطلاق.لتدمع عينا المرأة بضعف وألم وهي تقول برجاء:_أرجوكِ رهف اسمعيني، أنا لا أطلب منكِ أي شيء، فقط بضعة دقائق لتسمعيني. ازدردت لُعابها وهي تنظر إلى دمعات المرأة ثم تلقائياً اجتذبت بضعة محارم ورقية من فوق الطاولة القريبة ومدَّت يدها إليها بدون كلام فأخذتهم المرأة بشكر خافت. بعد قليل تحدثت سوسن بإرهاق قائلة:_أنا هنا اليوم من أجل أمرين: الأول: اعتذار واجب مني على كلامي معك بالمرة الأولى التي قابلتك بها.ابتسمت رهف بسخرية مُعلِّقة:_أتقصدين تلك المرة حينما حذرتِني من تكدير حياة..ابنك؟ لا عليكِ! لا تهتمي! أظن أن الجميع بات يعلم حقيقة الوضع حالياً.تجاهلت سوسن سخريتها المُبطنة موقنة بأن لديها كل الحق فيما تقوله، ثم رددت بخفوت: _الأمر الثاني: هو التوضيح الذي لم يقدمه إليكِ أحد. همَّت رهف بالتحدث فأوقفتها سوسن بإشارة مُتوسلة من كفها مُتابعة:_أنا لن أطلب منك أبداً أن تسامحيه، إن حدث لسارة ما حدث لكِ بسبب ابني ربما كنت قتلت الجاني.والصدق بعيني المرأة أخرسها وجعلها تستسلم لكلماتها، حيث شردت بسنوات إلى الخلف وهي تتحدث بشجن:_كنت أحب صبري رحمه الله حُبا جماً منذ مراهقتي واعتقدت أنه لا يراني أبدا، إلا أنني فوجئت ذات يوم بأبي يخبرني بأنه يريد الزواج بي.صمتت سوسن قليلاً وهي تبتسم لتُدقق بها رهف بفضول حتى تابعت:_تزوجنا وعشنا أياماً جميلة سوياً ثم رزقنا الله بساري.تشنجت رهف مع ذكر اسمه وهي تُغمض عينيها وتستمع إلى حديث المرأة:_ظللنا لأعوام بعدها نحاول الإنجاب مرة أخرى ولم ننجح، وعندما أصبح ساري عمره 8 أعوام رزقنا الله بسارة و.. سامر.فتحت رهف عينيها فجأة بدهشة متسائلة:_من سامر؟ابتسمت المرأة بألم شديد:_توأم سارة، كلا منهما عانى شيئاً مختلفاً، فبينما تأخرت سارة في الكلام حتى ظننا أنها خرساء، سامر اكتشفنا ضرورة إجرائه جراحة عاجلة بالقلب وهو في عمر السادسة، حينما كنتُ أنا أتهيأ لوضعي طفلتي سلمى.شهقت رهف هاتفة بذهول:_سلمى؟!!ازداد هطول دمعات المرأة وهي تُعقِّب: _كان من المفترض أن يكون لدي زوج رائع مُحب، وأربعة أطفال، وفي يوم واحد فقدت زوجي، وابني، وطفلة لم أحملها إلا جثة.هبَّت رهف واقفة بصدمة وتسارع تنفسها وهي تسألها:_هل.. هل كان حادث ما؟ابتسمت المرأة من بين دمعاتها وهي تُجيب:_بل شيطان في هيئة إنسان، دخل بيتي وقتل الجنين، ومات ابني وزوجي بسببه."أتسألين عن قلبي؟!"وبالرغم من أن الإجابة بدأت تُعلن عن نفسها على استحياء إلا أنها سألتها بصوت مبحوح:_مَن هو؟ لتنظر لها سوسن بعذاب مغمغمة بخفوت شابه الحقد الصارخ:_شديد محمود الناجي!"أنا لا أملك واحداً، لقد دفنته في نفس القبر مع أبي وأخي وأختي الرضيعة." سقطت رهف على الأريكة والفَهم يغزوها بهدوء..هذا هو السبب؟!كان ينتقم من الرجل الذي يرفض إلحاق اسمها باسمه بعد أن دمَّر أسرته؟الآن فقط فهِمَت، الآن فقط وجدت الإجابة على سؤالها الوحيد:"لِمَ؟!" لكن سوسن تابعت بصوت متقطع:_ساري الذي كان هو عمود البيت مع أبيه لم يتحمَّل الصمت، فذهب إليه بمصنعه بين رجاله وهدده أنه سينتقم منه."أتسألين عن روحي؟!"صمتت المرأة فنظرت رهف إليها تتوسلها بعينيها المذعورتين بالتوقف عن الكلام عند ذلك الحد رفضاً لسماع القادم، لكنها خلافاً لذلك استحثتها تلقائياً بخفوت:_ثُمَّ؟ذهبت الابتسامة الساخرة ليحل ألم وحسرة وعذاب بعمر ثمانية عشر عاماً، فاستأنفت سوسن بصوت مُتكسِّر:_ثم اختطفه شديد إلى مكان مجهول، ولمدة ثمانية أيام لم أعلم شيئ عن ابني وسندي سوى أنه شُوهد للمرة الأخيره بمصنعه، فتوقعت أنني لن أراه أبداً ثانية. "هي لازالت هناك، حبيسة قبو مظلم، معلّقة بسوط ينهال على جسدي ليبعثر كرامتي ويمزق رجولتي!"تلهث..ودمعاتها تهطل؛وتلهث..وقلبها يدق؛وتلهث..وتبكي.. وتلهث.. وروحها تختنق؛"يا إلهي!"لكن المرأة التي أصبحت في زمان آخر ومكان آخر أردفت بصوت متحشرج:_أنا لم أعلم مُطلقاً ما الذي حدث لساري بذلك المكان الذي اقتاده المجرم إليه، فهو لم يعُد حتى الآن منه كي يخبرني، لكنني لَمَحت نبذة مم وقع له هناك على جسده ذات يوم صدفة!وضعت رهف كفها على شفتيها تكتم بكاءاً مُنفلتاً؛قلبها يصرخ.. لقد مات أخوه أمامه!لكن.. "رحبوا معي بشديد بك الناجي والد زوجتي والذي لا يريد الاعتراف بها."عقلها يصرخ.. لقد ماتت أخته الرضيعة أمامه!لكن.." أنا لا أستطيع تحمل نتائج أفعالك أنت."كل ما بها يصرخ..لقد مات أبوه أمامه ثم تم تعذيبه!لكن.. "أنتِ طالق!"يا إلهي!!!ما هذا العذاب الذي تعانيه؟!وما هذا العذاب الذي يعانيه؟! و"لِمَ؟!"وضعت رأسها بين كفيها لتنهار في بكاء مرير حتى شعرت بالمرأة تجتذبها إلى حضنها مُربتة عليها و. لحظة!هذا الحضن مُختلف ليس كحُضن عَمَّار أو مَوَدَّة، هو حقاً مُختلف، لم تذُقه يوماً والآن تُريد التشبع به! استسلمت تماماً لذراعي المرأة وهي تتنعم بأحضانها الدافئة الحنون بينما الأخيرة تعتذر لها:_سامحيني ابنتي! سامحيني أنني لم أكتشف نيته مُبكراً، سامحيني أنني لم أستطع إنقاذك.وبِمَ ترد؟.. لا رد!سوى الاستسلام لذراعيها.. وعند باب الغرفة وقفت مَوَدَّة مصدومة تشاركهما دمعاتهما وهي لا تتخيل أن الرجل الذي اعتبرته يوماً بمنزلة عمها يُخفي شراً وظلاماً وإجراماً هكذا."ولِمَاذا لم تصعدي إليها مع أمك؟"هتفت بها سما هاتفياً باستغراب لسارة الواقفة أسفل البناية التي صعدت أمها إليها منذ قليل، لترد سارة بضيق:_لا أعلم سما، خائفة ربما، مُحرجة، لا أدري.خاطبتها سما بنبرة هادئة:_لن يحدث شيء، هيا اصعدي واعتذري وكوني شجاعة، ربما أنتِ لم تؤذِها لكنكم جميعاً مدينون لها باعتذار.زفرت سارة بتعب وعيناها مُتعلقتان بمدخل البناية ثم سألتها كي تُغير الموضوع:_ماذا تفعلين في البيت في تلك الساعة؟ لِماذا لم تذهبي إلى العمل؟عم صمت قليل للحظات ثم أجابتها سما هامسة:_لقد تركت العمل!انتبهت إليها سارة قائلة على الفور:_حقاً؟! هكذا أفضل، لقد كان مديرك متعنتاً للغاية، لا أدري كيف صبرتِ عليه إلى الآن!لم ترد سما التي يبدو أنها شردت تماماً فتابعت سارة متسائلة:_إذن متى ستبدئي العمل معنا؟جاءها رد سما هادئاً حزيناً بعض الشيء:_أنا لن أعمل بشركتكم سارة، سأبحث عن عمل بمفردي.هتفت بها سارة بنزق:_أنتِ تعلمين أن خطيبك لديه نصيب بتلك الشركة أليس كذلك؟ردت سما ببطء: _أعلم سارة، أعلم جيداً، ولا يُشكِّل ذلك لديَّ أي فارق. خاطبتها سارة بإشفاق:_ماذا فعل بكِ ذلك الأخرق يا سما؟ لماذا هذا الحزن بصوتك؟ لو فقط تُخبريني سأجعله يكره أيامه ويندم أشد الندم.جاؤها صوت سما المرح بافتعال واضح:_وهل أنا سأبكي باستسلام إذا ضايقني، لا تنسِ أنني أستطيع الدفاع عن نفسي جيداً!ثم تابعت بسرعة كي تُنهي ذلك الحوار:_سأذهب إلى أمي سارة لأنها تناديني، تشجعي يا فتاة واصعدي إلى رهف.أنهت سما المكالمة بسرعة لتجلس على فراشها مُحدِّقة في اللاشيء..منذ أكثر من أسبوعين لم تره، ولم تتشاجر معه، لم يُبهرها بقُدرته الماهرة على استفزازها..منذ حوارها الأخير معه بالمطعم وانهيار حُلمها الوليد به وقد أصبحت...يائسة! نعم هي يائسة؛وغاضبة!غاضبة من نفسها أكثر منه، لم تفهم حتى الآن ما الذي حدث ليحتل تفكيرها ومشاعرها التي اكتشفت وجودها بسببه في الأصل!حياتها كلها كانت مُكثَّفة لرعاية أمها والعمل، حتى عندما خُطِبَت لشريف لم تشعر مُطلقاً بقلبها يدق من أجله، ولهذا سَلَّمت أنها ليست مثل مُعظم الفتيات..مشاعرها فاترة..قلبها يضخ الدم بعروقها فقط..ثم ظهر هو!عاصم عبد الرحمن.. عدُوَّها والخطر الذي يهدد بسرقة أمها منها!ما الذي حدث فجأة إذن؟!خطبة مزيفة؛ثم اكتشاف جوانب أخرى ليست سيئة تماماً بشخصيته؛فبصرف النظر عن غبائه الواضح كنور الشمس..حنون هو، ومُراعِ هو..لتجد نفسها كالبلهاء أصبحت تنتظر حضوره، ثم تحاول لَفت انتباهه، ثم يجد قلبها لنفسه وظيفة أخرى بخلاف ضخ دمها.يدق حين تسمع اسمه؛يدق أكثر حين تسمع صوته؛يدق أكثر وأكثر حين تراه؛يرقص بين أضلاعها حينما يبتسم لها!أحبته؟! لا بالطبع هي ليست مثل جميع الفتيــ...كفى هراء، بالطبع أحبته!لكن...يبدو أن قلبه لم يكن بنفس المكان معها، فهو مُتمسِّك بوظيفة ضخ دمائه فقط"اهدئي حبيبتي، سيُغشى عليكِ."رددتها مَوَدَّة دامعة العينين بخفوت وهي تحتضن جسد رهف الباكية بين ذراعيها على فراشها..رهف التي عادت أكثر من أربعة شهور ونصف إلى الخلف، حيث تلك الليلة المشئومة..زفاف..وطلاق؛واليوم صدمة!اليوم فقط تنهار تماماً، اليوم فقط حصلت على إجابة سؤالها،وحصلت أيضاً على تفسير لنظراته التي لم تفهمها قبل أن ينبذها أمام الجميع.اليوم فقط تريد الصراخ بأعلى صوتها دون أية وسادات تكتمه بها.والآن بالتحديد تريد أن تراه؛تريد أن تصفعه وتصفعه بعدد كل الكلمات والنظرات التي اغتالتها في تلك القاعة بسببه!ثم.. تريد أن تضُمُّه إلى قلبها وتُربِّت عليه وتُخفف عنه عذاب عمره!الآن هي مُمزقة؛مُشتتة؛ترغب بالشيء والنقيض منه تماماً؛ماذا تفعل؟!_ماذا أفعل مَوَدَّة؟! أخبريني ماذا أفعل؟ أنا لم أسامحه، لكن.. لكنني الآن أفهم، أفهم جزء من شعوره، لكنني لا أستطيع مسامحته، أموت مَوَدَّة، أنا أموت، ليتها لم تأتِ، ليتها لم تُخبرني، ليتها تركتني مُقتنعة أنه ظالم فقط، أنه مُخادع وكاذب، ليتها تركتني أكرهه. أحاطت مَوَدَّة وجهها بكفيها متسائلة:_وهل كرهتيه حقاً رهف؟أغمضت رهف عينيها تنشج ببكاء مُعذب صارخة: _أعشقه مَوَدَّة، أعشقه ولم أستطع التخلص من ذلك العشق مُطلقاً!اقتحم عَمَّار الغرفة وقد وصل لتوُّه من العمل بعد أن هاتفته مَوَدَّة تُخبره بما حدث، هاتفاً: _رهف! حبيبتي، ماذا بكِ؟احتضنها بحنان مُشِوِّب بالقلق فرفعت رأسها تنظر إليه مُتسائلة:_هل كنت تعلم عَمَّار؟ كنت تعلم ما فعله ذلك الرجل بـ.. بساري وأسرته؟ واسمه الذي انطلق على لسانها بعد خصام أربعة أشهر ونصف جعلها تشهق ببكاء..مُشتاق.. عاتب؛مُحتاج.. لائم! لكن نظرة عَمَّار النادمة أعطتها الإجابة دون أية كلمات لتغطي وجهها بكفيها لتجهش ببكائها المُعذَّب، حتى أخذ أخوها يُربت عليها بحنان ثم تحدَّث أخيراً بهدوء:_كان من المُفترض أن نُصبح أصدقاء.رفعت رأسها إليه باستفهام فتابع:_أصغر مني بعام واحد هو، كنت أراه في المصنع يومياً ينقل الأخشاب على سيارات التُجار مُقابل مبلغ زهيد، في البدء استغربت بشدة، كان يحمل ثلاثة من ألواح الخشب على إحدى كتفيه وتساءلت دوماً كيف يُمكنه حمل هذه الأثقال بمنتهى البساطة؟صمت ثم ابتسم مُتابعاً: _في إحدى المرات حاولت حمل لوح واحد في الخفاء فسقط على قدمي وأصابني بجرح.نظرت له المرأتان إحداهما بحنان والأخرى بقلق من القادم، فأكمل:_ظللت أراقبه لأيام متواصلة، ورغماً عني شعرت بالإعجاب بقُوته، كنت أرغب بالتقرب منه لكني خِفت من تعنيف أبـ.. شديد بك، حيث كان دائماً ما يمنعني من التحدث مع الأقل شأناً كما يقول.اجتذب نفساً طويلاً ثم عقَّب بحزن واضح: _ وفي أحد الأيام تجرأت وتسللت بعيداً عنه لأتحدث مع.. مع ساري.دمعتان تسللتا منها بصمت لم ينتبه هو إليهما وهو يستأنف حديثه:_كان اليوم الأخير باختباراتي واختباراته، وبينما كنت أنا أحتفل بالجهاز الإلكتروني الجديد الذي ابتاعه لي شديد بك، كان ساري يحتفل بحمل الأخشاب كي يكتسب بعض النقود الزهيدة. وابتسامة منه ساخرة أخرى وهو يتابع:_حاولت التقرب منه عن طريق طلب نصيحته بالعمل مثله ثم إغرائه بمشاركته اللعب على جهازي، ويبدو أنني نجحت، فقد رأيت الفضول بعينيه مُختلط بالانبهار وبعض لــ..الحرمان. شهقتها الباكية ودمعات زوجته المسترسلة لم توقفنه عن الحديث مبتسماً بحسرة:_أسدى لي بعض النصائح عن كيفية المُساومة حتى أستطيع جني مبلغ جيد.وبخفوت ساخر أردف:_لم يكن يعلم أن ذلك المبلغ الذي يراه هو أقصى طموحاته بنهاية كل يوم شاق، أحصل أنا عليه كل صباح قبل أن أخرج من فراشي!ارتسم الامتعاض فوراً على ملامح عَمَّار وهو يتابع:_وقبل أن أوطد علاقتي به تدخل شديد بك فوراً وأهاننا سوياً أمام العمال، بينما اضطر ساري إلى التخلَّي عن الجهاز كي يحصد بضعة جنيهات إضافية!لم يعد عَمَّار بالفعل يستمع للبكاء الأنثوي بجانبه وهو يتابع بقسوة:_ظللت فترة أذهب إلى المصنع معي جهازين إلكترونيين كي أشاركه اللعب لكنه لم يأتِ، وفي يوم ما رأيته، رأيت ساري ينطلق إلى باحة المصنع صارخاً وبيده سكيناً صغيرا يُهدد به شديد بك مُتهماً إياه بأنه قتل أبيه وأخته وأخيه.صمت قليلا يجتذب أنفاساً ثائرة وأولاهما ظهره ثم تابع بقهر:_وتكالبت عليه الوحوش فجأة يتملَّقون رئيسهم عن طريق ضرب فتى بعمر أبنائهم، لدقائق انهالوا عليه بضرب مُبرح بدون توقف.ودمعتان سقطتا من عَمَّار من عينين..شاردتين؛مُتألمتين؛مُحمَلَتين بالذنب!_كنت هناك، رأيتهم وهم يُهينونه ويسحقون كرامته تحت أحذيتهم، لكني حاولت.استدار إليهما بعينين نافيتين تهمة لم تُلصِقه أحدهما به:_والله رهف حاولت، والله مَوَدَّة حاولت، كنتُ في الخامسة عشر فقط ولم أكن قوياً بما يكفي كي أصدهم عنه سريعاً، وأخيراً نجحت، لكن..والدمعتين أصبحتا أربعة..ثم ستة؛ثم أنهاراً؛واستأنف بِحسرة:_تشوَّه وجهه بفعل قذارات أحذيتهم، تشوهت ملابسه بدمائه، لقد.. لقد تطلعت بعيني إلى دمعاته المقهورة الهاربة من جفونه المُغلَقة، فحمدت ربي أنه لم يفتحهما!بحثت رهف عن صوتها كي تطلب منه التوقف لأنها بدأت تشعر بالدوار فعلاً لكنه تابع بصياح:_ثم اختفى ساري، بمنتهى البساطة اختفى، وفي اليوم التالي رأيت أمه تصطحب أخته الصغيرة الخرساء المُتبقِّية لها وتتوسل عُمَّال المصنع باكية كي يخبرونها عن مكان ابنها فلم يهتم بها أحد.صمت آخر ثم متابعة: _وعلمت بعد أكثر من أسبوع أنه عاد، وعلمت بعد أكثر من أسبوع أنه اِختُطِف، وعلمت بعد أكثر من أسبوع أنني يوماً ما سأراه ثانية، ربما ليقتلني أنا أو ليقتله هو!بصوت مبحوح طلبت:_كفى عَمَّار، لا أريد سماع المزيد!هنا عاد عَمَّار إليها بهتاف غاضب:_كنت سأسامحه لو انتقم بأي طريقة رهف، أي طريقة حتى لو طلب مني أن أشهد ضد شديد بك، لم أكن لأتردد فهذا حقه، لكنني مُطلقاً لن أسامحه على ما فعله بكِ أنتِ، أنتِ لستِ مُذنِبَة.نظرت له رهف بضياع وبنفس بحة صوتها ردَّت:_بالفعل لستُ مُذنِبَة عَمَّار..صمتت قليلاً ودمعاتها تسيل بسخاء ثم تابعت:_لكن أخبرني ما ذنبه هو أيضاً؟ أخبرني ما شعوره وعائلته تتدمر أمامه بيوم واحد؟ أخبرني ما شعوره عندما يُهان أمام الجميع لأنه فقط طالب بالقصاص؟ كان لايزال صبياً!والكلمة الأخيرة خرجت بهمس باكِ فسألها بغضب: _هل سامحتِه رهف؟!هبت واقفة وهي تصرخ به: _لا! لم أسامحه! لقد خذلني، لقد حطَّم قلبي وأحلامي معه، أنا.. أنا لم أكن أفكر أصلا بالزواج يوماً، كنت راضية بوحدتي حتى ظهر هو ليمنحني الأمل والحب، ليجعلني أُجرب شعوراً بالسعادة والأمان والحياة.صمتت وتهدلت كتفيها بانهزام:_لكن.. أتعتقد أنه حصل على الأمل والحب يوماً؟ أتعتقد أنه جرَّب بحياته شعوراً بالسعادة أو الأمان أو الحياة؟صمت تام بين ثلاثتهم إلا من أصوات أنفاسهم الثائرة، لكن مَوَدَّة هي من أمسكت بزمام الحديث فجأة بصرامة:_تحبينه رهف، تحبين ساري، هو أيضاً يُحبك، لقد ظلمِك بأقسى الطرق، أنتِ الضحية هنا، لم تُسيئي إليه مُطلقاً.نظر لها الاثنان بترقب، أعطاها عَمَّار نظرة مؤازرة بينما ارتسم الحزن بعيني رهف، فاستكملت بنفس الصرامة:_هو ليس ملاكاً، وأنتِ لستِ ملاكاً، لا أحد منا ملاكاً، أتعتقدين أن عَمَّار لم يجرحني يوماً؟ أتعتقدين أنني لن أفعل أبداً؟عقد عَمَّار حاجبيه بتوجس بينما انتبهت لها رهف باهتمام فيما تابعت بِحزم:_كلنا نجرح رهف، ولا يملك جميعنا القدرة على المغفرة، لكن اعلمي أنكِ إن غفرتِ ربما تحظين ببعض السعادة يوماً مع من تمنيته. هب عَمَّار واقفاً هاتفاً بسخط:_أتشجعينها على مسامحته؟وقفت مَوَدَّة أمامه بنظرة لن يفهمها إلاهما: _هل تعترض على مبدأ المسامحة عَمَّار؟!نظر لها بغيظ واضح وهو يضغط أسنانه حتى كاد أن يحطمهن ثم صاح وهو يخرج من الغرفة بثورة:_افعلا ما تريدان لكنني لن أرحمه!عادت مَوَدَّة لتجلس بجوار رهف مخاطبة إياها بهدوء:_اسمعيني جيداً يا فتاة، أنتِ يجب أن تأخذي حقك منه بنفسك حتى تشعُري بالراحة.نظرت لها رهف بدهشة من بين دمعاتها هاتفة:_ألم تقولي للتو أن.... قاطعتها مَوَدَّة بنبرة ماكرة:_هذا لا يمنع ذاك يا ذكية. تُبدِّل قنوات التلفاز بملل شديد، شاردة في حالة أمها الحزينة منذ أن عادت من زيارتها اليوم صباحاً لرهف وكأنها عادت ثمانية عشر عاماً بالماضي!حائرة.. أيجب عليها الاستماع لنصيحة سما بالذهاب إليها أم تَظل على جُبنِها! دق رنين هاتفها فتطلعت إلى الرقم المجهول بلا اهتمام وأشاحت بوجهها بعيداً حتى صمت، لا ترغب بأي حديث في العمل الآن.ومرة أخرى!يا للإصرار!يا للإلحاح!اختطفت الهاتف وبكل غضبها المكبوت صرخت:"نعم؟!"ليقابلها صمت للحظة ثم إنهاء المكالمة!ضغطت أسنانها بغيظ هاتفة:"أهذا وقت مضايقات أيضاً؟!"وعلى الطرف الآخر كان هو يُحدِّق في هاتفه بدهشة، من ردة فعله هو أكثر من فعله نفسه!لِمَ هاتفها؟!ولِمَ صرخت به؟!ولِمَ لم يرد وأنهى المكالمة؟!لا يدري!!ولِمَ يُعيد الاتصال بها الآن ثانية؟!أيضاً لا يدري!!رفعت عينيها إلى سقف الغرفة بملل واضح وهي تستعيد بعقلها شتائم مناسبة سيتلقاها الآن ذلك الكائن الذي يُصر على جلب الإهانة لنفسه تلك اللحظة. _هل أنت تافه ومتفرغ إلى تلك الدرجة؟! أليس لديك شيئاً آخر يُشغلك؟ و هل أنت أبله يا هذا؟! ألا تزال المعاكسات الهاتفية دارجة؟! أليس لديك أي رغبة بالتجديد؟! هكذا صرخت فور ان استقبلت المكالمة ليأتيها صوت منافِ تماماً لما توقعته بخيالها من خُبث:_كيف كنتِ حقاً خرساء ؟!اتسعت عيناها بدهشة وهي تحاول تذكُّر هوية صاحب تلك النبرة المُميزة متسائلة:_عفواً؟!ليعيد سؤاله بأقصى درجات الهدوء:_أعني.. هل ذلك اللسان امتنع عن العمل يوماً؟لحظات صامتة مرَّت بينهما، تحاول هي تعرُّفه ويحاول هو إيجاد مبررا سريعاً لاتصاله بها..منذ الأمس وهو يستعيد حوارهما بمكتبها كفيلم سينمائي لا يمل تكراره..وخلال الفيلم هناك عينان خضراوتان دامعتان تُحدِّقان به بألم وبعض المرح الذي أدرك تماماً أنه مجرد.. سِتار! ليجد نفسه يبحث عن رقمِها بسجلات المشفى حيث تركته هناك عندما جاءته أول مرة...هل حقاً ظل يبحث في السجلات لأكثر من أربعة شهور فائتة كي يصل إلى رقمها؟! نعم!ولِماذا؟!لا يعلم!وما هدفه من اتصاله بها الآن؟بالطبع لا يعلم!_دكتور حمزة؟!هتفت بها حينما ضرب الإدراك عقلها أخيراً فحمحم ناهراً شروده:_كيف حالك آنسة سارة؟جاءته إجابتها الخجِلة:_بخير، آسفة على الــ.... وبترت عبارتها حيث لم تدرِ تتمتها فأردف هو بنبرة باسمة: _على الاستقبال الهاتفي الحافل؟! لا عليكِ!ابتسمت بخجل وصمت هو متوتراً حينما قفز السؤال داخل عقله فجأة فتشبث به فوراً ثم ألقاه على لسانه:_كيف حال عينيك الآن؟"أقصد كيف حال عينيك الجميلتين جداً الآن؟""أقصد كيف حال عينيك الخضراوتين الجميلتين جداً الآن؟نفض رأسه مُسرعاً وهو يهب من جلسته على فراشه ويحُك مؤخرة عُنُقه بتوتر هاتفاً بخشونة قبل أن تسنح لها الفرصة للإجابة:_هل تُداومين على القطرات؟ ليأتيه صوتها الهادىء تلك اللحظة:_نعم، وأشكرك بالمناسبة، لقد قلَّ الالتهاب بالفعل."سؤال آخر من فضلك!""حُجة أخرى من فضلك توسل عقله كي يُشتت ذلك الصمت المُربك فلم يرُدُّه:_هل ذلك الالتهاب عارض أم أنكِ مُعتادة على التعرض له؟هتف به بنبرة حاول اصطناع المِهنية بها فأجابته بسلاسة:_عندما تنتشر الأتربة في الجو فقط.أومأ برأسه إيجاباً كأنها تراه ثم أدرك حماقته فأهدى نفسه نظرة امتعاض؛ثم..صمت متوتر آخر لا يدري كيف يقطعه حتى. _أنا لم أذهب إلى رهف!قطعته هي فشكرها بداخله مُعلِّقاً بسرعة:_لقد كنت أهاتفك كي أسألك عن ذلك الأمر في الأساس!عقدت حاجبيها بدهشة ثم عقَّبت: _لقد ظننت أنك هاتفتني كي تطمئن على حالة عيني! "الخضراوتان اصمت حمزة!"الجميلتان؟اخرس حمزة!بحمحمة خشنة رد:_ومن أجل ذلك بالطبع أيضاً! _لم أستطع فِعلها!وصوتها الحزين جعله يتناسى مراهقته الغريبة المتأخرة ويسألها باهتمام صادق:_لماذا؟ لقد كنتِ مُتحمسة جداً للتواصل معها!رَدَّت بصوتها الخافت: _ لقد ذهبت إليها أمي، بينما انتظرت أنا أمام البناية لا أجرؤ على فعل المثل، خِفت!فَرَد بصوت هادىء:_رهف طيبة ولن تُقاطعك بسبب خطأ اقترفه غيرك.وعاد صوتها الخافت:_لا أعلم.ولم تساعده تلك المرة أيضاً في قطع الصمت، لذا.."يجب أن يرتجل!"_أتُحبين أن أكون معِك وأنتِ تقابلينها؟!ما إن أنهى اقتراحه حتى تأفف بندم دون صوت لاعناً تسرعه.."ليته ما ارتجل!"لكنها هتفت بِلا تصديق:_أنت لا تمزح أليس كذلك؟اتسعت عيناه بدهشة.. لم تنزعج إذن!"خيراً فعل عندما ارتجل! ابتسم وتابع بِحماس أشد:_بالطبع، ما رأيك أن تذهبي إليها بعملها؟قفزت واقفة لتهتف بصوتها الفرِح:_موافقة جداً، لكن.. لكن أنت ستكون موجود هناك في نفس الوقت، لن تتركني وحدي معها عند المواجهة، أليس كذلك؟!"وهل أنا إلى تلك الدرجة أحمق؟!"_لن أتركك!"مع رهف فقط بالطبع ولا مجال لأي معنى آخر!"هتفت بحماس شديد: _أشكرك جداً دكتور حمزة، أنت أفضل دكتور رمد قابلته بحياتي، تصبح على خير!وعلى الفور أنهت المكالمة! لثوانِ يحدق في هاتفه بعدم استيعاب ثم بالتدريج.. اتسعت ابتسامته..ابتسامة سعيدة؛ابتسامة واثقة؛ ابتسامة فخورة؛ابتسامة بلهاء؛وبمنتهى الحماقة المزهُوَّة بصوته ردد:_أنا أفضل دكتور رمد قابلته بحياتها! "أريد التحدث معِك قليلاً رهف"قالها عَمَّار بابتسامة مرتجفة لأخته التي تورَّمَت عيناها بكاءاً منذ الصباح، ثم أشار إليها لتجلس إلى جواره على الأريكة، ففعلت.. نظر لها بابتسامة مترددة ثم سألها فجأة:_ما رأيك بإقامة دعوى إثبات نسب وإجراء تحليل حمض نووي؟وقبل أن تستوعب عاجلها:_لقد تحدثت مع أحد المحامين بذلك الشأن، فما رأيك؟فغرت فاهها وسألته بدهشة:_ماذا تقول عَمَّار؟ لماذا؟رمقها باستهجان ثم قال:_حتى نتخلص من تلك القصة تماماً، حتى يدرك الجميع أنكِ لست.. بتر عبارته وهو يتهرب بعينيه منها فأكملت هي بهدوء: _لست ابنة خطيئة عَمَّار، قلها، فأنا اعتدتها منذ سنوات. هَزَّ رأسه رافضاً ثم خاطبها بحنان:_حبيبتي أنا أريد كتم كل الأفواه التي تخوض بنسبك.ترددت لثوانِ ثم سألته بقلق: _هل.. هل وصل الضرر إليك؟ أو إلى عملك؟ هل عَلِم أحد زملاؤك أننـ...هتف بها بغضب للمرة الأولى:_توقفي رهف! ثم زفر بضيق متابعاً برفق، مُشدداً على كلماته: _أنتِ أختي، وصغيرتي، ومن لا يقتنع أو يصدق ذلك فليحترق لا أهتم.وأضاف بحنان:_اقتراحي من أجلك أنتِ، من أجل إثبات نسبك.هَزَّت رأسها رفضاً على الفور قائلة: _لا أريد عَمَّار.نظر لها بدهشة فتابعت بألم:_لن أكذب وأخبرك أنني لا أتمنى إثبات نسبي، لن أخفي أن أشد ما أريده للأسف هو اسم ذلك الرجل بعد اسمي.وترقرقت عيناها بالدموع وهي تستدرك:_لكن.. لكن ليس عن طريق تعريضك لفضائح أكثر، أو مخاطر من أي نوع.ثم طأطأت رأسها أرضاً وأردفت بِوَجَل:_هذا الرجل رَضى بأن تُلقَى ابنته في بيت آخر وأنكر أبوته لها، هذا الرجل ضرب خالها أمامها وهددها..صمتت للحظات ثم تابعت بألم: _هذا الرجل تسبب في موت ثلاثة أشخاص ولم يجفل، ثم اختطف.. ثم اختطف عائلهم الوحيد دون أن تنتابه شفقة أو رحمة.وفجأة أمسكت يده بقوة متابعة بخوف واضح مُطأطأة رأسها أرضاً:_ هذا الرجل بإمكانه إيذائك أنت ومَوَدَّة وإياد نفسه، وأنا لن أقامر بأحدكم، أنتم عائلتي التي توقفت عن الحُلم بالحصول عليها، لا أتخيل أن أُحرم من أحدكم عَمَّار.ثم رَفَعَت رأسها مخاطبة إياه بتوسل: _انس الأمر عَمَّار، طالما عقد الزواج ليس بحوزتي فسأبقى للأبد رهف وفقط.هَبَّ واقفاً وهو يصيح بغضب: _أنا متأكد أن الحقيرة ابنة خالك لاتزال تمتلك ذلك العقد وتكذب بشأن ضياعه.أومأت برأسها إيجاباً واتجهت إليه قائلة بخفوت:_أعلم، لكن دعك منها عَمَّار، دينا ستتمسك بأي سبب يكدر معيشتي، لا تهتم!والغضب بعينيه زاد أكثر فتابعت برقة:_لا تشغل بالك، أنا قد تَقَبَّلت منذ زمن أنني لن أستطيع الحصول على اسمه، وحمداً لله قد صارت لديّ عائلة، لا تبتئس!لكنه قد استسلم لشروده تماماً، فلم يُعلِّق على عباراتها التي حاولت بها التخفيف من حِدة غيظه، ولم يشعر بِقبلتها على وجنته قبل أن تعود إلى غرفتها. باليوم التالي:"مرحباً، هل سيدة مَوَدَّة موجودة؟" رَفَعَت رهف رأسها عن طابعة الحاسب الآلي التي تأبى تحرير الورقة، ثم تطلعت إلى ذلك الشاب المبتسم والذي يبدو عليه الذوق والتهذيب وردَّت:_نعم، هي بمكتبها لكن لديها مكالمة هاتفية هامة.ثم استدركت:_هل لدى حضرتك موعد معها؟اتسعت ابتسامته وهو يُجيبها:_في الواقع لا، لكنني كنت قد أخبرتها أنني سأزورها من أجل بعض الإرشادات الدعائية، لِذا جئت أعرض مساعدتي. حدَّقت رهف بوجهه وهي تُحاول تذكُّر هل اتفقت مع مَوَدَّة على الإعلان عن طلب مسئولين دعاية من قبل؟ ربما!لا تدري!فما حدث بالأمس محا عن عقلها أي معلومة بشأن أي شيء سوى ساري!"مهلاً يا فتاة! أيتلفظ عقلك باسمه بمنتهى البساطة هكذا؟""طالما لا يتلفظ به لساني ما الضرر؟"ابتسمت له بتهذيب وهي تشير إلى أحد المقاعد قائلة:_تفضل بالجلوس حتى تنتهي السيدة مَوَدَّة. جلس يتطلع إلى المكان بفضول بينما عادت هي إلى الطابعة اللعينة تحاول استخراج الورقة بغضب منها؛ومن نفسها؛ ومن ساري؛"توقفي!"_خالد؟! يا لها من مفاجأة! متى جئت؟صاحت بها مَوَدَّة ببشاشة عندما خرجت من مكتبها ووجدته جالساً بصالة الاستقبال، وقف على الفور وهو يرد بابتسامته المعهودة:أشارت مَوَدَّة إلى غرفة جانبية قائلة: _تفضل خالد بمكتبي كي تُخبرني ماذا أفعل في قصة الدعاية تلك.ثم التفتت إلى رهف الغارقة تماماً بغضبها من الطابعة قائلة:_رهف، لو سمحتِ أخبري السيدة نادية أن تُحضر بعض العصير، واتركي تلك الطابعة حتى يأتي المُصلح.أومأت رهف برأسها حينما هتف خالد بابتسامة مهتمة:_رهف؟! هل أنتِ أخت عَمَّار؟نقلت نظراتها بينه وبين مَوَدَّة التي استدركت بانتباه:_يا لعقلي الضائع! لقد نسيت أن أقدمكما، خالد هو ابن عمي الذي عاد مؤخراً من السفر.ابتسمت رهف بمجاملة:_أهلا وسهلا. ليُعلق خالد بنفس الابتسامة:_أهلاً رهف، أنتِ جميلة جداً!فغرت فاهها دهشة وفعلت مَوَدَّة المثل، لكن الأخيرة كانت الأسرع في التخلص من دهشتها وهي تخاطب خالد: _تفضل خالد إلى المكتب، سألحق بك.أومأ خالد برأسه وتحرك بينما التفتت مَوَدَّة إليها هامسة:_اعذريني أنا رهف، لقد عاش عُمره بالخارج وتعبيره عن جمال فتاة لا يعرفها بمثابة سلوك مهذب منه، أرجوكِ لا تُخبري عَمَّار كي لا يهشم عنقي.ضحكت رهف برقة مُجيبة إياها بنفس الهمس:_لا تخافي، هذا أحد أسرارنا، لكن أخبريه عن الفارق بين ما يحدث هنا وما يحدث في الخارج، كي لا تضطروا يوماً إلى استلامه من قسم الشرطة!ضحكت مَوَدَّة وهي تتجه إلى مكتبها فعادت إلى الطابعة تصب جام غضبها عليها لبعض الوقت، حتى:"مرحباً رهف!"التفتت تجاه الباب ثم انفرجت ملامحها بابتسامة واسعة، وهي تهتف: _أهلاً حمزة!_كيف حالك سيادة المُترجمة؟ تقدم منها مبتسماً فأشارت إليه بالجلوس على أحد المقاعد المُقابلة وهي ترد:_أنا بخير، كيف حال أستاذ جمال وكيف حال والدتك؟رد حمزة بهدوء:_بخير.ثم تابع بقلق: _أنا لم آتِ وحدي رهف، هناك شخصاً ما بصُحبتي يود مُقابلتك.ضيقت عينيها بتساؤل:_مَن؟نظر بساعته بتوتر قائلاً:_ستعرفين الآن.لماذا تأخرَت وهل تأخرَت أصلاً؟! لقد أرسل إليها العنوان والموعد بالأمس في رسالة نصية بعدما انتهت مكالمتهما القصيرة ذات الأثر الطويل في نفسه، ليعاني نوم مُتقطع ثم استيقاظ نشِط بالصباح الباكر ليسبقها إلى هنا، وها هي قد تأخرت..دقيقتين!ربما ثلاثة! _السلام عليكم.التفت برأسه بسرعة تجاه الباب يحدِّق بها و.."لقد اشتقت إليها يا حمزة!"أتمزح يا رجل؟!" في حين لم يرد أحدهما سلامها، فالأول شارد بصدمة اكتشافه شوق لا يفهم له سبب، والأخرى تحدق بها مُستعيدة صور لم تشهدها حقاأب؛أخ توأم؛أخت مولودة جثة؛أخ سند؛وخَرَس!وعندما هَمَّت سارة أن تستدير لتغادر بيأس وحرج قبل أن تطردها هي، كانت رهف تنطلق إليها بالفعل جاذبة إياها إلى أحضانها، مُتشبثة بها؛بقوة، باحتياج، بمؤازرة!لحظات صمت إلا من أصوات بكائهما سوياً.._إذن أنتِ فعلاً سلمى!هتفت بها سارة دامعة وهي مُستندة بجبهتها على إحدى كتفيها لتُجيبها بابتسامة دامعة أيضاً:_أنا سأكون لكِ كما تريدين سارة، صديقة وأخت كما تُحبين وأكثر.يجلس بالقرب منهما في صالة الاستقبال بالمكتب، متظاهراً بمطالعة أحد المقالات الطبية على هاتفه، لكنه في الواقع للمرة الأولى بحياته.. يتلصص! الطبيب الوقور الهادىء المتأني يُرهف السمع لأحاديث جوفاء بين فتاتين، أو في الواقع لحديث إحداهن تحديداً! وعقله؛ينهره ويُحذره..وقلبه؛متيقظ بطريقة غريبة.وعيناه؛ تهربان إليها رغماً عنه!"يا دكتور حمزة، الشاي!"انتبه أخيراً إلى السيدة نادية التي أدرك أنها تقف أمامه منذ فترة ليست بالقليلة، حمحم بخشونة وابتسم لها باعتذار وهو يتناول الكوب الزجاجي منها شاكراً إياها بخفوت، بينما رمقته بابتسامة ماكرة بعدما كَشَفَت مرمى نظراته وسبب شروده.._هل هي صديقة الآنسة رهف؟سألته بخفوت فاتسعت عيناه بتوتر وتظاهر بعدم الفهم قائلاً: _من تقصدين؟ضَيَّقت السيدة عيناها ثم قالت بلهجة ذات مغزى:_كتلة الحيوية والمرح تلك.احتبست الكلمات في حلق حمزة فتابعت المرأة بضحكة مستمتعة:_أتعلم يا دكتور؟ أنا أحب العيون الخضراء كثيراً، ألا تشاركني رأيي؟ عَبَس حمزة بشدة ثم قال بخشونة:_أنا أحب جميع العيون سيدة نادية، فهم مصدر رزقي في كل الأحوال!وقبل أن تتفوه بكلمة ارتشف حمزة السائل الساخن دفعة واحدة متجاهلاً الاحتراق الذي شعر به في حلقه وأمعائه، بينما شهقت هي بدهشة هاتفة:_ستحترق يا ولدي، حاذر! لكنه لم يأبه وأعطاها الكوب الفارغ بابتسامة صفراء قائلاً:_شكراً سيدة نادية! لو سمحتِ أنا كنت أطالع مقالاً هاماً، هلا تركتني الآن؟!أمعنت السيدة النظر به بمكر ثم أولته ظهرها وانصرفت متمتمة:"ما أجمل بدايات قصص الحب!"اتسعت عيناه أكثر والتفت بسرعة إلى سارة ورهف ليزفر نفساً مرتاحاً وهو يتأكد أن إحداهما لم تسمعها! "شكراً خالد، لقد أفدتني حقاً"هتفت بها مَوَدَّة بامتنان فتقدمها خالد إلى خارج المكتب لتتبعه، لكنها ما لبثت أن توقفت بدهشة وهي تطالع الضيفين الموجودين مع رهف، أحدهما تعرفه بالطبع بسبب صداقته القريبة مع عَمَّار، والأخرى._سارة صديقتي يا مَوَدَّة.ثم التفتت إليها قائلة: _وهذه مَوَدَّة، زوجة عَمَّار وأخت لي!اتسعت عينا مَوَدَّة بدهشة وهي تتعرفها، فقد رأتها أيضاً بذلك اليوم المشئوم، تقدمت منها الفتاة بتوجس فطردت دهشتها فوراً مبتسمة: _أهلا بكِ سارة، أنرتِ مكتبنا.ارتاحت ملامح سارة فوراً وهمت بالرد حينما ارتفع صوت خالد من خلفها:_هل كل الفتيات هنا على هذه الدرجة من الحُسْن يا مَوَدَّة؟ والدهشة حلّت على ملامح رهف وسارة، بينما ودَّت مَوَدَّة لو تلكزه في معدته..وبخلافهن فقد نظر إليه حمزة بهدوء مُريب عابساً بوضوح، متسائلاً بوجوم:_من هذا؟ حمحمت مَوَدَّة بحرج وهي تجيب:_إنه خالد، ابن عمي. ثم استدركت بسرعة:_لقد عاش عمره كله في الخارج وللتو عاد.وكأن ذلك التوضيح وافِ، لكن ملامح حمزة المتجهمة لم تنشرح وهو يُعقِّب بامتعاض صارخ:_أهلاً!ثم التفت فوراً إلى سارة قائلاً بنزق لاإرادياً:_سارة! ألم تخبريني أنكِ لا تملكين سِوى ساعة واحدة للاستراحة؟! ها قد انتهت، هيا إلى عملك!نظرت له كلا من مَوَدَّة ورهف بدهشة، لكن سارة تطلعت إلى ساعتها بقلق ثم هتفت:_يا إلهي! أنت محق دكتور حمزة، لقد تأخرت كثيراً عن العمل، سيقتلني عاصم!ارتدت حقيبتها واتجهت إلى مَوَدَّة مُقبِّلة إياها ببساطة؛ثم فعلت المثل مع رهف؛ثم.."ألن يحين دوري؟! نفض رأسه مُتسع العينين بذعر.."لقد جنِنت حمزة!"_إلى اللقاء دكتور حمزة، شكراً جداً.وبنفس ابتسامتها البسيطة انصرفت فتخشب مكانه لوهلة مُحدِّقاً في إِثرِها حتى أن رهف ومَوَدَّة لاحظتا ذلك.."لماذا يدُق قلبك بهذه السرعة حمزة؟!ألقت دينا هاتفها فوق الفراش بغضب بعد أن أنهى تامر المكالمة فجأة تلك المرة أيضاً..لقد أصبح وضعها هنا لا يُطاق، الجميع لا يتعامل معها، وإن تعاملوا لقت الغرور والعجرفة وإشعارها دائماً أنها لم تكن تحلم بالوصول إلى هنا..وهل هذا غير حقيقي؟!لا! بالفعل هي لم تكن تتخيل أن تقطُن مكان بذلك الفخامة، ولا تعيش بمستوى بتلك الرفاهية، بعدما ذاقت حياة عادية ببيتها ثم ببيت حمزة.. حمزة؟!لم يكن يتعامل معها بطريقة فوقية مُطلقاً بالرغم من أنها من كانت تفعل ذلك عبثاً، لكنه كان يتجاهل فورات غضبها بصبر شديد.الآن هي لا تدري ما الذي تفعلُه ليتسبب بِغضب تامر منها طوال الوقت..اتسعت عيناها فجأة وهي تهتف:"أمه!"بالتأكيد هي من تتسبب في ذلك، فهي لا تترك فرصة إلا وأخبرتها دون كلمات واضحة بمدى كراهيتها وعدم موافقتها على تلك الزيجة، والآن ربما ستدفعه إلى تطليقها؟ ربما هذا ما حدث مع زوجتيه السابقتين أيضاً؟!وهل ستترك لها الفرصة؟! هي، من كافحت طويلاً كي تصل لحياة مثل هذه تتخلَّى عنها بتلك البساطة؟!"أنتِ لا تعرفينني إذن سيدة هدى، أنا لا أستسلم أبداً!"ماذا تفعل إذن؟أتنفذ نصيحة أمها وتُسارع بالإنجاب منه؟لكنها.. لكنها لا تريد الأطفال الآن وليست مستعدة لتربيتهم وتحمُّل عنائهم وضوضائهم..أمها نفسها لا تعلم السبب الرئيسي في انفصالها عن حمزة وتظن أنه بخصوص ابنة عمتهادق هاتفها فانطلقت إليه مُسرعة هاربة من أفكارها معتقدة أنه تامر، يبدو أنه أدرك خطأه وسيطلب رضاها الآن..رقم غير مُسجل!ربما!"مرحباً!" صمت للحظات ثم:_مرحباً سيدة دينا، مُبارك زيجتك الجديدة.عقدت حاجبيها باستغراب مُجيبة:_شكراً، من تكون أنت؟صمت آخر أثار التوجس في نفسها، والذي تحول إلى رعب حقيقي عندما جاءتها إجابته الهادئة بصوت رخيم على النقيض تماماً من المعاني الواضحة بها: _أنا_يا سيدة دينا_ من سيُحيل حياتك إلى جحيم حارق، أنا من سيُخلص الحق منكِ، ولنبدأ بحق ابنة عمتِك. صمت هو ولم تجد رداً تتغلب به على رُعبها فتابع بنفس الهدوء:_هل ستُخبريني بكل أدب أين هو عقد الزواج العرفي الذي يخص والدتها، أم سأضطر لطلب تدخُّل تامر بِك؟! عندئذٍ شهقت وشحب وجهها وهي تسأله بصوت مبحوح: _من أنت؟ وكيف تعلم كل ذلك عني؟ضحكة بطيئة رنَّت بأذنها، ضحكة أكدت لها أن ذلك الشخص على الطرف الآخر لا يُهددها جُزافاً:_أنتِ تريدين لقاءاً بيننا إذن! في بيتك أنتِ، أقصد في فيلا تامر بك وأهله بالطبع!صرخت به بغضب:_أنت تُهددني شديد بك؟ ألا تعلم أنني بإمكاني أن أعرض ذلك العقد على مواقع التواصل لتكتمل فضيحتك التي بدأها عريس ابنتك؟تنفس ثائر بصمت تام جعلها تدرك أنها تسرَّعت، لكن على العكس تماماً جاء رده هادئاً:_أولاً: أنا لم أذكر أنني شديد بك، ثانيا: افعليها سيدة دينا كي أكون أكثر من سعيد وأنا أعرض على تامر بك بعضاً من محاسن زوجته، ثالثاً: ساعدي زوجك في اختيار ملابسه قليلاً، تلك السُترة البُنية تبدو بشِعَة عليه للغاية. لَطَمت خدها وهي تسأله بصوت متحشرج:_هل تُراقبه؟ فيُجيبها ببساطة:_أنا لا أحيد عن أهدافي سيدة دينا، ولا أترك من يتسبب لي بضرر!ثم بنبرة مُبتسمة بالرغم من أنها لا تراه أردف:_والآن سأُرسل لكِ عُنواناً، أريد العقد به غداً صباحاً، فإن لم يتم ذلك أرجو أن تُضيفوا فرداً على قائمة عشائكم!وانتهت المكالمة!!لتقف هي مكانها مُتشبثة بالهاتف بلا إرادة، شاحبة الوجه، ويدوي قلبها بذُعر!خرجت من المكتب تاركة السيدة نادية التي تهتم بالترتيب في انتظار مُصلِح الطابعة قبل بدء الدورات التدريبية بالغد، وهبطت إلى الأسفل مُنشغلة العقل بما حدث بالأمس، ظهور سارة في ذلك الوقت بالذات هدَّأ قليلاً من ثورة أفكارها بعد علمها بنبذة عن ماضي ساري!"أحقاً عُدتِ للفظ اسمه بعقلك بمنتهى البساطة؟!"زفرت بحنق وهي تتطلع إلى الشارع الرئيسي بحثاً عن سيارة الأجرة التي طلبتها عن طريق تطبيق الهاتف، لكن يبدو أنه لا يزال هناك بضعة دقائق على وصولها، استندت إلى أقرب سيارة في ترقُّب وهي تتظاهر بالتطلع إلى واجهة المحل المُقابلة كي تطرد احتلاله لأفكارها، وبجوار الواجهة تماماً، على السيارة السوداء يستند!هو؟نعم هو؟ساري!المخادع؟..الحبيب!الغادر؟..المغدور! الظالم؟..المظلوم!على الطرف الآخر تفصل الأمتار بين جسديهما وتتحد عيونهما كالحديد بالمغناطيس.. لا هو يحيد بنظره عنها؛ولا هي تفعل..لا هي تتحرك قيد أنملة؛ولا هو يفعل..لا هو يرفرف مرة بأهدابه؛ولا هي تفعل..لكنه لم يكن ليترك تلك المنحة تضيع هباءً... تقدَّم خطوة.. فخطوة، ببطء يتحرك..ليُسرع خطوة.. فخطوة، بِتَعَجُّل يمشي..ليُهروِل خطوات..فخطوات، لينطلق تجاهها..وتوقف أمامها!يلهث وتلهث على الرغم من سكونها؛يمتص ملامحها بعينيه وكذلك تفعل هي؛ترتعش شفتيه فتتراجع دقات قلبها واهية!ثم."رهف!"وأسدلت جفنيها.هل يُعقَل أنه يستطيع تقبيل حروف اسمها؟ طبعاً لا! لِمَ تشعر بذلك إذن؟هل يُعقل أنه يتنفس حروف اسمها؟طبعاً لا! فلِمَ تشعر بذلك إذن؟وثانية.."رهف!" وحررت عينيها..صدره يعلو ويهبط بسرعة حتى شعرت أنه سينفجر؛يداه ترتعشان بطريقة واضحة حتى شعرت بالرغبة في تمسيدهما بحنان تصرخ خلجاته مطالبة به؛ والآن..أتصفعه؟أم تضمه؟ولازالت مشتتة!وثالثة.."رهف!" _ماذا تريد؟!ويبدو أن عقلها قد استيقظ أخيراً فقرر حل الموقف بطريقته، ثم كررت بِحِقد:_ماذا تريد مني؟ وإجابته كانت عن سؤال لم تسأله..رفع كفه التي لاتزال تحمل الحلقة الفضية ليتلمس الهواء بجانب وجهها، وبخفوت رد:_لم أستطع رهف!ثم اجتذب نفساً مرتجفاً وهو يُجيب:_لم أستطع الابتعاد!شهيقاً آخر وهو يُزيد: _أموت كل لحظة!وإضافة أخيرة:_أستحق كل ما أعانيه بمنتهى العدل رهف!واحتكمت للبرود فور أن شعرت بقلبها الخائن يعدو نحو الاستسلام، فاجتذبت بسمة ساخرة وسألته:_ألم تمل مراقبتي؟ليقترب خطوة.. خطوة واحدة أشعرتها فعلاً بالخطر والضعف وهو يُجيب:_أنا أستطيع مراقبتك طوال الوقت، طوال اليوم، طوال العمر، وأستقبل تلك الهبة شاكراً."إياكِ والضعف يا حمقاء!" _لكن أنا لا أهتم، وإن رأيتك تراقبني مرة أخرى سأقوم بتبليغ الشرطة!ومرة أخرى فاجأها وهو يسألها بتوسل: _هل سيجعلك ذلك تُعطيني فرصة أخرى؟حدقت به بدهشة متجاهلة الذبذبات التي تطلقها عيناه تجاهها وسألته بدهشة:_ماذا تعني؟ وبخفوت وضَّح:_أعني إن أنا ذهبت بنفسي إلى الشرطة وقمت بالتبليغ عن نفسي لأي سبب ما، هل ستُعطيني فرصة أخرى؟تلجلجت وقد أفلتت دقات قلبها بالفعل: _فرصة لِمَ؟وبهمس أجاب:_لأعتذر لكِ، فقط أريد الاعتذار، أنا لا أستحق تلك الفرصة، فهل إن فعلت أياً ما ستطلبينه مني ستمنحينني إياها؟ورابعة.."رهف!" ومن بين أسنانها هتفت:_توقف عن مناداتي!وبعناد رد: _لا أستطيع!وبعشق واضح أضاف:_أنا أتنفسه، أتنفس اسمك، كيف تطلبين مني كتم أنفاسي بيدي؟!كيف يفعلها؟!بالله عليه كيف يفعلها؟!"حمقاء رهف لا تضعفي! ورسمت برود مُفتعل، وابتسامة مستفزة، وصوت هادىء: _لا يهمني حقاً إن توقفت أنفاسك، لا يهمنى إن اشتعلت بك النيران أمامي أو دعستك شاحنة ما يا ساري، سأكون سعيدة للغاية، وشامتة للغاية، وأنت بالأصل تستحق أكثر!وأغمض عينيه مُستمتعاً بابتسامة آلمت وجهه الذي افتقدها لشهور، لقد نادته! لقد خرج اسمه هو من بين شفتيها هي، بصرف النظر عن بشاعة الجزء الآخر من الكلمات، ليجد نفسه يفتح عينيه ويتجول بهما على كل ذرة بوجهها قائلاً بابتسامة مشتاقة:_لقد استطال لسانك كما استطالت أهدابك يا مُشعثة!والصمت تسيَّد الموقف.. نظرات عتاب.. تقابلها نظرات ندم نظرات ألم .. تقابلها نظرات أسف نظرات حيرة.. تقابلها نظرات توسل ثم: "رهف الجميلة! كيف حالك؟"والذهول تسيَّد الموقف! التفت الاثنان تجاه صاحب العبارة؛تطلعت رهف إلى خالد..بشوش الملامح، المُهَذَّب، اللامبالي؛وتطلع ساري إلى خالد..المستفز، السخيف، المائع!توقف خالد أمامهما وهو يوجه حديثه إلى رهف المُتخشبة مكانها متسائلاً ببراءة: _هل أغلقتِ المكتب؟ أنا أتيت من أجل تصليح الطابعة، ألم تُخبرك مَوَدَّة؟!حمحمت رهف وهي لاتزال تُجمِّع كلمات لا تعرف ماهيتها:_لقد.. لقد تركت السيدة نادية بالأعلى، هي ستكون معك، و..لا ، لم تخبرني مَوَدَّة أنك أنت من ستقوم بإصلاحها.وابتسامة مرتجفة منها انمحت فور انطلاق العبارة الخشنة العدائية من الآخر وهو يمسك بتلابيب خالد الذي انتابه ذعر مفاجىء بينما يستمع للأسئلة المتلاحقة :_من تكون أنت؟وكيف تعرفها؟ وكيف تناديها بالجميلة؟ ولِمَ تضحك بلا سبب مُقنع بهذا الشكل؟!"يالمصيبتك رهف!شهقت بخوف وَهَمَّت بالتحدث، لكنها ابتلعت كلماتها وهي تطالع الغضب يُعربِد بحُرِّية على ملامح وجهه الثائرة، ورغماً عنها التزمت الصمت وتوترها يتزايد بسرعة..على عكس خالد الذي يبدو مُسالماً بشدة برغم ذهوله، أو ربما مُتبلِّد الإحساس!_أنا خالد، ابن عم مَوَدَّة زوجة أخ رهف.وبسرعة أضافت هي رغبةً بمنع حلول شجار بمنتصف الشارع وأمام مكان عملها:_لقد عاش عمره بالخارج ولا يعــني.ونظرته المُرعبة لها جعلتها تبتُر عبارتها والقلق تحول إلى خوف..خوف لم يصل إلى خالد الذي تساءل بفضول دونما مراعاة لوضعه المُهَدَّد: _وحضرتك تكون؟"يا ليومك الذي سينتهي بفضيحة أخرى رهف!"وانتقلت نظرته المرعبة منها إلى الآخر الذي استفزه بكل خلجة به قبل حتى أن يفتح فمه..ثم ارتخت كفيه وهو يتركه على مضض، بينما أهداه نظرة قاتلة، حارقة، تنطلق السهام المسمومة منها لتخترق عينيه الوديعتين، وأخيراً شدد ببطء قائلاً:_أنا المهندس ساري صبري رشوان، أكون زوج رهف، ولا أسمح لأي رجل أن يناديها بالجميلة سواي!"يا لحُفرتك السوداء التي وقعتِ فيها يا رهف!"وقبل أن تهُم بنفي ذلك الجنون الذي تفوه به لتوه؛وقبل أن يستكمل هو الشجار مع خالد الذي يشبه أحد الارانب المذعورة بالقصص المُصورة؛ارتفع رنين هاتفها مُعلناً عن وصول قائد السيارة، وبمنتهى البساطة انسلَّت من بينهما إليها دون أن تلقي نظرة واحدة عليهما.. حَدَّق خالد في إثرها بدهشة ثم نظر إلى ساري الذي اختفى تهذيبه وأناقته ووسامته تماماً خلف ملامح مُخيفة تُنذِر بالكثير، وتُذكره بأفراد العصابات الذين كان يتحاشى المرور من الحي الذي يسيطرون عليه عندما كان يعيش بالخارج؛ليبتسم بتوتر قائلاً:_عُذراً، لم أعلم بأنها متزوجة، لم أرَ بيدها أي اقترب ساري منه مُتمهلاً مرة أخرى يسأله بصوت خفيض على النقيض تماماً مم يظهر على وجهه من غضب:_ولِمَ تنظر ليدها بالأساس؟! هل أنت طبيب أمراض جلدية؟!!ظهر عدم الفهم على وجه خالد فقال بارتباك: _أنا...وبنفس النبرة قاطعه:_اسمع جيداً، انس أمر الهندسة التي أخبرتك عنها لِتوي تماماً واعتبرني من أرباب الشوارع، وإن تطلعت إلى رهف مرة أخرى لا تلُمني على رد فِعلي!هَزَّ خالد رأسه قائلاً بدفاعية:_لا أفهم، أنا لم أعنِ شيئاً، لقد كنت أعبر عن إعجابي بـجمالـــ...لكنه بَتَر عبارته بنفسه هذه المرة عندما ارتفع حاجبا ساري إلى أعلى جبهته واتسعت عيناه بطريقة مثيرة للقلق قبل أن يضرب إحدى كفيه بالأخرى، ثم يهتف به ذاهلاً:_هل أنت مُختل يا بُني؟! تراجع خالد إلى الخلف بِتوجُّس وقد بدأ بعض المارين يلاحظون ما يحدث فتوقفوا للمشاهدة وتحفزوا للتدخل في حال احتدمت الأمور..وساري الذي أخذ صدره يرتفع وينخفض بصورة غريبة قال له بعد ثوانِ من بين أسنانه: _اسمع يا هذا! ربما أنت لا تفقه عاداتنا هنا، لكنني أحذرك من مجرد النظر إلى زوجتي كي لا تُجلِب لنفسك المصائب! وقبل أن يرد خالد تابع ساري مُشدداً:_وأعني بالمصائب ما لا يخطر على تفكيرك مطلقاً!ابتسم خالد ببساطة قائلاً: _أعتذر منك، هل حُلَّت المشكلة الآن؟ نحن بهذه الصورة نرتبط بِصِلَة قرابة بعيدة في آخر الأمر!عَضَّ ساري على شفتيه بِغيظ فاضت نظراته به بِغزارة شديدة قبل أن يتراجع إلى الخلف لينصرف دون توديع مُغمغماً بمنتهى الامتعاض:_يا للميوعة

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514