*جوانب أخرى!* إن كنتِ لستِ بالقوة لمواجهة نيران عاشق غيور.. فلا تفعلي!إن كنتِ لستِ بالقسوة لقمع ثورة قلبك وقلبي.. فلا تحاوِلي!وإن كنتِ تظنين أنني سأمَلّ، سأضجر، سأرحل مُسالِماً..عفواً حبيبتي.. جانبكِ الصواب!الرايات البيضاء لا تناسبني؛المُصطلحات الجوفاء نفسي تعافها؛اتفاقيات المُهادنات انتهت صلاحياتها؛وعلى طرقات نبضاتنا ستقرع دفوف اجتماعنا؛فَشِعاري في حُبِّك.. يا مرحباً بالجنون! اتجهت رهف إلى غرفة مكتبها تحمل بعض العُقود التي تسلَّمتها للتو من سما، ثم وضعت حقيبتها على المقعد وهمَّت بالجلوس عندما لَمَحت ذلك الشيء على سطح المكتب وبرفقته رسالة تعلم جيداً العبارتين المطبوعتين بها، مثل كل صباح، ومنذ أسبوع مضى!لتصيح بعصبية: _سيدة نادية!فتأتيها المرأة مُهروِلة قائلة بقلق:_ماذا بكِ آنسة رهف؟ لِماذا تصرخين بذلك الشكل؟التقطت رهف لوح الشوكولاتة الكبير ورفعته أمام عيني السيدة وهي تسألها بحنق:_من أحضر هذا إلى هنا؟أجابتها المرأة بتوجس:_نفس الشخص آنسة رهف، يومياً بمُجرد أن أفتح المكتب وأبدأ بالتنظيف يحضر هو ويطلب مني أن أضعها على مكتبك وينصرف.صرخت رهف:_ألم أقل لكِ لا تسمحي له بتركها؟ ألقِها في وجهه على الفور!عضت المرأة على شفتيها باعتراض وهي ترد:_أتظنين أنني قد أفعل ذلك آنسة رهف؟! أتريدين مني أن أتصرف بقلة ذوق مع الشخص المُهذب؟ لِمَ أنتِ غاضبة هكذا؟ ألا تعلمين كم فتاة تتمنى اهتمام شخص مثله؟! إنه طويل عريض وسيم عيناه خضرا.صاحت رهف تقاطعها بحنق:_سيدة نادية! أتتغزلين به؟شعرت المرأة بالحرج وهي ترد:_لا يا آنسة رهف بالطبع، إنه بعمر أولادي، لكنني لا أفهم كيف لكِ أن تغضبي منه بهذا الشكل مع أنه يبدو أنه يحبك كثيراً! ضغطت رهف أسنانها بغيظ وصمتت قليلاً، ثم تحدثت بهدوء كافحت من أجل الحصول عليه:_سيدة نادية، أرجو منك ألا تتقبلي منه أي شيء إن جاء ثانية، تفضلي بالذهاب إلى عملك.نظرت لها المرأة بغيظ ثم أولتها ظهرها مُتمتِمة بخفوت:"فتاة منحوسة!"لكن رهف سمِعتها واتسعت عيناها بذهول واضح ثم التقطت هاتفها فوراً... "هل سمعتني يا سارة؟! ماذا بكِ أنتِ أيضاً؟!هتف بها فانتفضت أخته فجأة تسأله بحنق:_لماذا تصيح بي هكذا؟ لقد أصبتني بالصمم!نظر لها بدهشة ثم خاطبها بهدوء: _هل أنتِ بخير؟ لماذا هذا الشرود منذ بداية اليوم؟ أنا أخاطبك منذ قليل وأنتِ غير منتبهة.ردت سارة بتوتر: _أنا فقط.. أشعر ببعض الإرهاق.استقام واتجه إليها والقلق يتزايد على ملامحه حتى وقف أمامها مُتسائلاً: _ماذا بكِ؟ بِمَ تشعرين؟ لقد لاحظت أنكِ منذ أسبوع تبدين مُختلفة، هيا نذهب إلى الطبيب.ردت بسرعة: _لا ساري أنا بخير لا تقلق.لكنه لم يفعل، ظل لحظات يحدِّق بها ملياً حتى ضحكت هي قائلة: _صدقني أنا بخير، لكن ربما سأعود للبيت الآن وسأنام للغد، لا أستطيع التركيز.ابتسم لها بحنان ثم ضمها للحظات مُربتاً عليها، وأفلتها قائلاً:_عودي إذن، واتركي لي الملفات التي بحوزتك أنا سأطلع عليها طالما أن عاصم بك يبدو في أوج غضبه هذه الأيام.ثم تابع بامتعاض: _بالرغم من أنني من أعاني أزمة عاطفية جادة، على عكس مباراة الحماقة التي فاز هو بها باكتساح.ابتسمت له بشُكر ثم اتجهت إلى الباب، وهناك توقفت ثم التفتت إليه قائلة: _ساري، أريد أن أسألك سؤال.نظر لها باهتمام ثم أومأ برأسه مُشجِعاً، فتابعت بتردد واضح:_كيف.. كيف علمت أنك تُحب رهف؟ أو أقصد متى علمت أنك أحببتها؟ أو.. أو ما الذي جعلك تتأكد من حُبك لها؟على الفور ارتسمت نظرة عاشقة بعينيه وهو يُجيبها:_منذ رأيتها أمامي للحظة الأولى علمت أنها حبيبتي، علمت أنها السبب الوحيد الذي جعلني لا أهتم بالارتباط طوال عُمري، علمت أنها لي ولن أسمح لها بالابتعاد عني أبداً.ثم حلَّت النظرة المُتألمة وجهه وهو يتابع بصوت حزين:_لكن.. لكن أحياناً عندما يعيش الإنسان عمره كله باحثاً عن الثأر والقصاص يتمسك بأي فرصة تأتيه، حتى لو كانت ستتسبب في قتله هو أولاً. واحتلت نظرة مُصممة ملامحه كلها وهو يستكمل: _لكن كل إنسان يحق له الوقوع في الخطأ مرة ثم يحاول بكل قوته إصلاح ما تسبب به، أليس كذلك سارة؟ والسؤال أطلق التمني بعينيه، ثم اقترب مُعيداً سؤاله بلهجة متوسلة:_هي ستسامحني أليس كذلك؟! رهف ستمنحني فرصة ثانية، وستصير زوجتي أنا مرة ثانية، صحيح؟ابتسمت سارة له بإشفاق واضح ثم تظاهرت بالتفكير وهي ترد:_دعنا نفكر.. لو كنتِ مكانها يا سارة ماذا ستفعلين؟!واللهفة واضحة بعينيه مُنتظراً إجابة يتشبث بها كالطفل فلم تستطع خذلانه وهي تتابع:_لو كنت مكانها سأُعذِّبك وأؤلمك مثلما آلمتني، سأنتقم منك بكل ما استطعت، وعندما أشعر أنني اكتفيت وأننا تعادلنا سأسامحك للأسف.زفر براحة شديدة وكأنه كان يتخيل صدق ما سيحدث ثم علَّق بخفوت:_موافق، كل ما تريده رهف أنا سأفعله دون تردد!دق جرس هاتفه فودعته سارة بابتسامة وانصرفت، عاد هو إلى مكتبه والتقط الهاتف لتتسع عيناه بدهشة وتتعالى دقات قلبه وهو يرد مبتسماً: _كنت أعلم أنكِ اشتقتِ إليَّ أيضاً آنسة رهف، هل أُحضر دفتري وقاموسي لألحق بالمحاضرة؟ليأتيه صوتها الصارخ: _ساري صبري رشوان، توقف عن ملاحقتي! توقف عن إحضار الشوكولاتة! وتوقف عن إرسال الرسائل إليِّ! فيرد بلهجته العابثة:_أولاً: أنا أراقبك من بعيد رهف لا ألاحقك، حتى أنني لا أحدثك بالشارع ولا تشعرين بوجودي، لأنني اشتاق إليك كثيراً بينما أنتِ قاسية القلب. وقبل أن تعلِّق تابع:_ثانياً: ذلك النوع من الشوكولاتة هو النوع الذي أنا متأكد من حبك له، إنه ما وجدته بحقيبتك في المرة الأولى، لذا وحتى أستطيع إطعامك إياها بيديَّ وأنتِ بين ذراعيَّ سأظل أُرسلها إليكِ.زفرت ببطء والضعف يكتنفها بينما استكمل هو بخفوت بصوته الرخيم: _ثالثاً: بالنسبة للرسائل فأنا لن أتوقف أبداً! سأظل أكتبها يومياً، سأظل أرسلها يومياً، سأظل أرددها على مسامعك حتى أستعيدك.لحظة صمت؛لحظة انتظار؛ثم:_أحبك رهف!وصمت آخر؛وانتظار آخر؛ثم:_تزوجيني رهف! أغمضت عينيها وقلبها الخائن يرقص فرحاً، وعَمَّ الصمت إلا من أصوات أنفاسهما، ثم توسلها هو:_عودي إليَّ رهف! فتحت عيناها تبحث عن صوتها ثم ردت بخفوت: _ساري، ما كان بيننا لم يعد له وجود، أرجوك توقف، أنت تُهدر وقتك.فأتاها صوته الواثق:_لا رهف، أخبرتك أنه لم ينته شيء، أنتِ ستصبحين زوجتي و.قاطعته فجأة بصوت مرتجف:_لكن أنا سأتزوج بآخر!جلس حمزة بغرفة الكشف عابس الوجه عصبي المزاج شارداً، فلم ينتبه لنداء زميله المتكرر إلا بعد قليل:_ماذا بك حمزة؟ لِمَ هذا الوجه الكئيب؟نظر له حمزة مُحاولاً البحث عن إجابة مناسبة ثم هتف فجأة:_أخبرني أحمد، إن كان لديَّك أخت لم يسبق لها الزواج، وهناك شخص يريد الزواج بها لكنه كان مُتزوجاً من قبل، هل ستوافق؟ظهرت ملامح التفكير على وجه صديقه ثم رد بلا اقتناع:_ربما أنا سأوافق إن تأكدت من أخلاقه و سبب انفصاله أولاً، لكن لا أعتقد أن والداي سيوافقان، الدارج أن تتزوج الفتاة ممن لم يسبق له الزواج، أنت تعلم طريقة التفكير لدى مُعظم الأهل. ويبدو أن إجابة أحمد أزعجته أكثر، فقد ازداد العبوس على وجهه وهو يسأله بضيق:_أيعني هذا أن الإنسان إذا انفصل لا يحق له الزواج من فتاة يحبها طالما لم تتزوج من قبل؟ ولِهذا يجب أن يُضيق دائرة بحثه عن زوجته المُستقبلية فيمن تعرضت لنفس ظروفه؟ أي منطق هذا؟ هز أحمد كتفيه بلا اكتراث وهو يرد:_منطق المجتمع الذي نعيش به حمزة!هنا ظهر الغضب واضحاً على وجه حمزة وهو يُخمن سبب تباعد سارة عنه..لقد كانت في البداية تعامله براحة وانطلاق وبدون تكلُّف، و استطاع تمييز أي إنسانة واضحة تلقائية وسلسة التفكير هي، لكن بمجرد أن وصلها اهتمامه المختلف بها أصبحت تبتعد عنه، وأيقن هو أنها تتهرب منه، الآن فقط استطاع أن يفهم..لا تستطيع تقبُّله كزوج، وإن فعلت فلن يتقبَّله أهلها!زواج؟!!عن أي زواج يتحدث؟!!ألم يتعلم من تجربته الوحيدة مع دينا؟!ألم يتخذ عهداً على نفسه بأن يبتعد ما استطاع عن النساء والزواج؟!ألم ينأى بنفسه عن ذلك الأمر الذي لم يكلّ والداه في التحدث بشأنه معه منذ تم الطلاق؟الآن بمنتهى البساطة يشعر بالغضب لأن هناك عقبة لم تكن بالحسبان ظهرت لتُعيقه عن الوصول إلى حبيبته؟! أي حبيبة؟!سارة!سارَّة هي؛الوحيدة هي؛والحبيبة هي! وإن تطلب الأمر أن يحارب أهلها ويحاربها هي شخصياً كي تكون زوجته سيفعل!"لكن أنا سأتزوج بآخر!"ساد صمت مُريب بعد العبارة التي أطلقتها لعدة ثوان، كانت هي تتنفس بعنف والقلق يكتنفها شيئاً فشيئاً، أما هو فكان بالفعل متسع العينين، مُصمَت الملامح، أنفاسه متوقفة، يستعيد الكلمتين مراراً وتكراراً، وعندما وجد صوته أخيراً علَّق بـ: _عفواً؟انتباتها شجاعة لم تدرِ مصدرها فكررت بهدوء مُفتعل:_كما سمعتني ساري، أنا سأتزوج.وكي لا يسألها مرة أخرى تابعت:_سأتزوج قريباً جداً!لحظات؛فثوان؛فدقائق؛ وأخيراً جاؤها صوته المُرعب رغم هدوئه:_هل هو خالد المائع ذاك؟اتسعت عيناها بدهشة لثانية، ثم ردت بتهور ورعونة:_نعم هو خالد نفسه، لِذا من فضلك توقف عن فعل تلك الأشياء كي لا ينزعج خطيبـ. وبترت عبارتها مع صوت انتهاء المكالمة لتتسمر عيناها على هاتفها بدهشة.. "هل أغلق الهاتف بوجهها للتو؟!"واندفعت إلى غرفة مكتب مَوَدَّة هاتفة:_لقد نفذت اقتراحك مَوَدَّة وأشعر باقتراب حلول مُصيبة!رفعت مَوَدَّة رأسها عن سطح المكتب بإرهاق واضح، مُتسائلة:_أي اقتراح؟! بان الحرج مختلطا بالتوتر على وجه رهف وهي ترد بنزق: _طلبت منه التوقف عن ملاحقتي، وأخبرته أنني سأتزوج قريباً.ابتسمت مَوَدَّة واستحثتها بفضول:_وماذا كان رد فِعله؟طأطأت رهف رأسها حرجاً وأجابت بخفوت: _لقد أنهى المكالمة بدون كلمة واحدة.تعالت ضحكات مَوَدَّة باستمتاع فصاحت بها رهف بحنق:_علام تضحكين مَوَدَّة؟ أنا مُرتعِبة، أنتِ لم تكوني حاضرة حينما قابل ابن عمك تلك المرة، لقد شعرت أنني أطالع مُجرماً نَفَّذ لتوه حكماً بالمؤبد، والآن لقد توقعت رد فعل يحتوي على الصراخ وبعض الصياح، لكن ذلك الصمت يُخيفني.مطت مَوَدَّة شفتيها ببطء قائلة:_أو ربما فقد الأمل واستسلم!نظرت لها رهف بحدة وهتفت:_بِمَ تهذين أنتِ؟! أتقصدين أنه سيتوقف عن مُلاحقتي وطلب السماح مني؟! ثم شهقت هامسة بصوت مسموع:_سيتوقف عن طلب استعادتي والزواج مني؟!ابتسمت لها مَوَدَّة بمكر: _أليس هذا ما طلبتِ منه؟ضغطت رهف أسنانها بغيظ وهي تدرك تلاعب مَوَدَّة بها ثم تركتها وانصرفت تُلاحقها ضحكات الأخرى المتسلية.وعند الباب التفتت إليها قائلة ببسمة متهكمة:_بالمناسبة.. لقد ظن أن"خطيبي المرتقب" هو خالد ابن عمك نفسه، وأنا لم أصحح له تخمينه! وتلاشت الابتسامة من على وجه مَوَدَّة على الفور وهي تستعيد ملامح الكراهية التي رافقت تحذير ساري لها شخصياً من قبل بسبب خالد!لتهمس بأسف: "أعتقد أنك ستتعلم أصول التقاليد هنا بالطريقة الصعبة يا خالد!"أنهت سما غسل الأطباق وانطلقت إلى الباب تُعدِّل من وضع وشاحها ثم فتحته بدهشة صارخة: _لماذا تدقون الجرس بتلك الـ..بترت عبارتها وهي تزدرد لُعابها ثم تظاهرت باللامبالاة:_أهلاً عاصم، كيف حالُك؟ دفع نفسه إلى الداخل بِهدوء فتراجعت:_بخير، كيف حالك أنتِ؟بابتسامة مستفزة أجابته:_سعيدة بشدة، فالعمل الجديد مُمتع ومرِن، ورهف ومَوَدَّة لطيفتان للغاية، كما أن الأستاذ خالد لا يبخل عليَّ بأية معلومات، أنا حقاً مُمتنة له كثيراً.كانت تلاحظ اتساع عينيه ما إن أتت على ذِكر اسم خالد متعمدة ولم تهتم، إن كان هو لم يدرك بعد أنه يحبها إذن لتدفعه داخل فُوهة الإدراك أو.. فُوهة بركان، أيهما أقرب!اقترب ببطء مُتسائلاً بتشديد:_هل أتى خالد هذا إلى المكتب ثانية؟وببراءة مُفتعلة أجابت:_إنه يأتي يومياً، أنت تعلم أنه عاش عمره بالخارج والإحساس بمسئولية العمل لدى من مثله عالية للغاية.وقبل أن تُصِبه ذبحة صدرية تابعت:_لماذا أتيت الآن؟ ألا تعلم أنه موعد قيلولة أمي؟ وهتف من بين أسنانه:_أعلم أنها نائمة، لكني أتيت من أجل أن أتحدث معِك أنتِ.رفرف قلبها بسعادة أخفتها جيداً مُتظاهرة بالدهشة:_لماذا؟ هل أتيت في استشارة تسويقية لشركتك؟ أستطيع أن أعطيك رقم الأستاذ خــــ.... مال عليها برأسه والشر يصرخ بعينيه:_إن أتيتِ على ذكر اسمه مرة ثانية سأكون سعيداً بشدة وأنا أفعل أخيراً ما تمنيت بالمرة الأولى التي رأيتك بها!اتسعت عيناها بدهشة وتخضبت وجنتاها بخجل، لكنها سألته بخفوت: _وماذا تمنيت حينها؟!وبامتعاض أجابها:_أن أقطع لسانك! أطبقت شفتيها بقوة مانعة سَبة يستحقها من الانفلات، ثم حدَّقت بعينيه مُتسائلة بهمس:_لِماذا؟وإجابته جاءت قاطعة بنفس الهمس:_لأنني أغار!التمعت عيناها بالصدمة بينما رقص قلبها في طرب، اجتذب هو نَفَسَاً عميقاً وهو يُعيدها على مسامعه قبل مسامعها هي: _أغار سما!وليؤكد أكثر أوضح:_أغار عليكِ سما!واكتفت هي من اعتراف بالغيرة أدركته قبل أن يُدركه صاحبه فتساءلت:_لِماذا تغار عليَّ عاصم؟صمت تام انتشر والتوسل بعينيها؛صمت تام عم والصراع بعينيه؛ أيفعلها؟!أُيُلقي بنفسه داخل الفخ بمليء إرادته؟! أينطلق إلى نفس الطريق الذي سبقه أبوه إليه ثم صديقه؟!وكانت الإجابه صادمة، لكن ممن مثله مُتوقَعة: _هكذا! بدون سبب! أغار عليكِ سما بدون سبب، أنتِ خطيبتي ومن حقي أن أفعل.نظرت له بشر أقلقه..أيعتقد أنه لا يزال لديه فرصة للتراجع؟أيعتقد أنها ستتركه يتنعم في فراش تعمُّده الغباء أكثر؟لن تكون سما إن فعلت إذن! لِذا فقد قررت اللعب بآخر أوراقها وابتسمت ببرود قائلة: _ألم تفتح الهدية التي أحضرتها إليك بنفسي بالشركة؟ ضيق عينيه بتوجس وهو يقول متظاهراً بالجهل:_فتحتها بالطبع، لكن ماذا كنتِ تعنين بها؟واتسعت الابتسامة وصاحبتها تردد بتشديد:_كنت أعني أن خطبتنا المزيفة الجوفاء انتهت يا عاصم!وظهر الحنق على وجهه على الفور مُصطحباً رفضاً قاطعاً:_لكنني غير موافق، أنتِ لازلتِ خطيبتي!وببرود نظرت إليه ثم قالت:_اثبِت! تسمَّر مكانه لا يدري ماذا يفعل بعدما أحرزت هدفاً بمرماه في وقتٍ قاتل، بينما استدارت تجاه غرفتها مُترقبة وهي تُظهر لامبالاة هي أبعد ما تكون عنها تلك اللحظة قائلة: _أمي ستصحو بعد نصف ساعة انتظرها عندك، أنا بغرفتي، بعد إذنك عاصم.وبعد طول انتظار جاءت أخيراً الصيحة:_أنا أُحِبِّك!توقفت؛فالتفتت؛وانطلق الرد السريع الحانق.. الغريب:_أخيراً يا بارد! أخيراً يا بطيء الإدراك! لقد كدت أن أصاب بشلل نصفي في انتظار اكتشاف سيادتك لذلك، لقد كبرت في تلك الأيام بمقدار سنوات عمري كلها وأنا أضع يدي تحت وجنتي منتظرة أن تتكرم وتفهم ثم تنطق، لقد.. لقد فكرت باقتلاع مُخك من رأسك لأكتشف سبب تعطله!ثم نظرة اشمئزاز؛يليها انطلاق إلى غرفتها؛فصفعة بابها في وجهه!وللحظات ظل مكانه واقفا لا يدري ماذا عليه أن يفعل..أيمشي أم ينتظر؟ وهل ستخرج ثانية أم ستنعزل بغرفتها؟ وسؤال واحد يلح على عقله:"أهذه هي المشاعر الجميلة المتبادلة؟!" إلى متى ستبقين غاضبة مني مَوَدَّتِي؟"ألقى السؤال عليها بحزن وهو يقف خلفها بالمطبخ فاستدارت له ترمقه بلامبالاة ثم تابعت غسل الصحون وهي ترد:_أنا لست غاضبة عَمَّار._لا مَوَدَّة أنتِ غاضبة وتخاصمينني وأنا لا أتحمل ذلك.تجاهلته تماماً وتابعت عملها تتظاهر بالانشغال بينما أسند هو كفيه على السطح الرخامي الذي تقف أمامه ليحيطها تماماً بين ذراعيه فيسجنها بدون حتى أن يمسها.توترت لكنها تظاهرت بالبرود هاتفة:_ابتعد عَمَّار! لا أستطيع التحرك.همس بجانب أذنها:_لا تتحركي إذن!أغمضت عينيها تحاول تهدئة ضربات قلبها التي تسارعت بسببه ثم انحنت فجأة لتمر من أسفل ذراعه وفَرَّت إلى خارج المطبخ، حدَّق في إثرها بغيظ شديد ثم خرج هاتفاً:_مَوَدَّة!رفع كلا من رهف وإياد المُنشغلين بالجهاز اللوحي رأسيهما ينظران إليه باستغراب فابتسم لهما بحرج وهو يتجه إلى غرفة النوم، فخاطبت رهف إياد:_تعال إياد معي إلى غرفتي نلعب هناك. وفي غرفة عَمَّار ومَوَدَّة:"الآن مَوَدَّة أريد أن أعرف متى ستنتهي تلك السخافة؟"هتف بها فالتفتت له غاضبة: _سخافة؟! هل ترى أنني أفكر بسخافة؟! أتُسمي شعوري بعدما رأيت حالتك المتوترة عندما قابلت حبيبتك سخافة؟! أتسمي عقابك لآخر على ذنب اقترفه بينما منحت نفسك العفو سخافة؟!وقبل أن يرد ارتفع رنين جرس الباب فعلَّق بغيظ:_يبدو أن ابن عمك وصل، ارتدي ملابسك وجهزا الطعام، وسننهي تلك المُشكلة الليلة مَوَدَّة! رمقته بعتاب شديد فتوقف للحظة حائراً، لكن إعادة الرنين جعلته ينصرف إلى الخارج.ضحكت رهف بمرح شديد وهي تستمع إلى الموقف المحرج الذي تعرض له خالد خلال إحدى مغامراته، ثم تابع هو:_لقد تشكَّلَت لديَّ عقدة ما بسبب السباحة منذ ذلك اليوم، بالرغم من أنني في الأصل سبَّاح ماهر.ثم اعتدل يخاطب مَوَدَّة: _أتتذكرين يا مَوَدَّة عندما كنا نسافر جميعاً بالعطلة؟، كنت تخافين نزول البحر بينما كنت أنا أقنعك كل مرة، فتتشبثين بظهري طوال الوقت.سعلت مَوَدَّة بافتعال بينما اتسعت عينا رهف وهي تختلس النظر إلى أخيها الذي اعتدل في مقعده ببطء وهو ينظر إلى خالد المبتسم ثم تساءل بتحفز:_تتشبث بظهرك؟!أسرع خالد بالرد بمرح: _كالعلَقة يا عَمَّار، منذ أن تلمس قدماي المياة وحتى نخرج وأنا أحملها فوق ظهري، مهما أطلب منها أن تتشجع وتسبح إلى جواري ترفض وتلتصق بي أكثر!ارتفع حاجبا عَمَّار لأعلى جبهته، وظلت رهف على وضعها القلِق، بينما اصطنعت مَوَدَّة ابتسامة مرتجفة وهي تعلق بدورها مشددة على كلماتها:_أتذكر بالطبع، كنا صغارا جدا، في الواقع كنت بالتاسعة أو العاشرة تقريبا، أليس كذلك؟! لكن خالد ارتفعت ضحكاته أكثر وهو يجيبها:_أعتقد ذلك، وكان لديك ثوب سباحة أصفر مميز للغاية!شهقت رهف بخفوت وهي تنقل نظراتها بين مَوَدَّة التي شحب وجهها وعَمَّار الذي فغر فاهه وخالد الذي لا يزال يبتسم بِبساطة، بينما مال عَمَّار بمقعده تجاه خالد وهو يسأله بتدقيق: _أنت تتذكر اللون بالرغم من أنه قد مر أكثر من عشرين عام؟! ذاكرتك جيدة للغاية ما شاء الله!تعالت ضحكات خالد للحظات ثم رد موضحا:_ليس بالضبط، لكنني لديَّ بعض الصور.لطمت رهف وجنتها بخفة بينما سبَّته مَوَدَّة سراً وهي تمنحه نظرة امتعاض لم يلاحظها، أما عَمَّار فقد توقفت الكلمات بحلقه لوهلة وبدا كمن على وشك الإصابة بنوبة قلبية ثم سأله بِتحفز:_أي صور؟!أجابه خالد بحماس:_صور قديمة تخص تجمعات عائلتينا منذ أعوام، وبالطبع من ضمنها صور رحلات البحر، هناك صورة التقطها أبي تظهر فيها مَوَدَّة على ظهري داخل البحر، سأطلعك عليها بالمرة المقبلة.مسح عَمَّار على فكه محاولاً إخفاء ضغطه على أسنانه ثم تحدث بحنق:_أتمنى فعلا أن تحضر تلك الصور.. أتعرف؟!صمت ثم ضرب بكفه بقوة شديدة على فخذ خالد متابعاً:_ربما أنا من سيمر عليك كي آخذها بنفسي..أومأ خالد برأسه، لكن عَمَّار هَبّ واقفاً فجأة مُضيفاً:_أتعرف؟ هيا بنا نذهب الآن إلى بيتك، لقد جعلتني أشعر بفضول كبير لرؤية هذه الصور ولن أستطيع الانتظار إلى الغد!أنهى عَمَّار عبارته وجذبه من ساعده بحماس مريب، وعنف غريب، فانمحت ابتسامة خالد بالتدريج ثم سأله:_أنت تمزح أليس كذلك؟!ضحك عَمَّار ضحكة عالية مبالغ بها بعض الشيء واتسعت عيناه بطريقة مُثيرة للقلق، وبدا أنه قد بدأ يفقد اتزانه فعلاً مُجيباً إياه بصرامة مُغايرة لملامحه المجنونة:_أنا لا أمزح إطلاقاً خالد، هيا بنا الآن!تبعه خالد مرغماً بدهشة بينما وقفت كلا من مَوَدَّة ورهف بتوتر فالتفت عَمَّار إلى مَوَدَّة هامساً من بين أسنانه بنبرة تحذيرية:_إياكِ أن تهربي إلى غرفة رهف الليلة، وإياكِ أن تنامي حتى أُجلب صور مغامرات سيادتك الشيقة مع ذلك الأبله وأعود. ثم هتف هامساً بأقصى غيظه: _ثوب سباحة أصفر يا مَوَدَّة؟! أنا لم أركِ بواحد مُطلقاً! وبينما هي تحدق به بذهول نظر لها شزراً وانطلق لاحقاً خالد، أما رهف فقد نظرت إليها بأسف مُعَقِّبَة:_ابن عمك هذا لن يهدأ حتى يُخرِّب بيوت الجميع هنا!ارتمت مَوَدَّة على المقعد مُرددة بقلق:_ماذا إن تشاجر معه عَمَّار وتهوَّر؟! ثم تابعت مرددة بحنق:_عسى أن يجده ذلك المجنون بكِ أولاً!"ومن غير شديد يستطيع الوصول إلى زوجك؟" سألت شروق، فأجابتها ابنتها بقلق:_ليس شديد يا أمي، إنه ابنه أنا متأكدة، لقد فعلها من قبل عندما قابلته بالخارج، وفعلها بمنزلنا، واعتقدت أنه صدَّق ضياعه مني، لكنه عاد يُهددني وأنا لا أعلم الآن ماذا أفعل.نظرت لها أمها بغيظ هاتفة:_ربما لو لم تسرقينه مني لما حدث ذلك في الأساس. صاحت دينا بغضب:_ليس هذا وقت اللوم يا أمي، أنا بمُصيبة كبيرة الآن، أنتِ لا تعلمي كيف مرت هذه الأيام، لقد أهانني تامر كثيراً، ولم يصدقني إلا عندما قصصت عليه حضور شديد إلى هنا من قبل وضربه لأبي كي أقنعه أنني كنت أحاول الآن إبعاده عنا بعدما عاد يُهددنا ثانية. عم صمت قليل تفكر خلاله كلتاهما في مخرج من تلك الورطة، حتى صاحت شروق فجأة:_أعطه العقد دينا! اتسعت عينا ابنتها بدهشة ثم ردت باستهجان:_أتمزحين؟! هل أنا تحملت كل ذلك لتظل معي الورقة الأكثر ربحاً على الإطلاق كي أتخلَّى عنها بسهولة الآن؟ ألا تعلمين أنني إذا احتدمت الأمور أستطيع ابتزاز شديد بها؟ ألا تتخيلين مدى رُعبه من ظهور شيء مثل هذا للعلن؟هبَّت أمها واقفة تصرخ بها:_وبِمَ يُفيدك ذلك عندما يتركك زوجك؟ صاحت دينا دون أن تشعر بوالدها الذي وصل لتوه: _لن يتركني أمي، تامر يحبني ولن يتركني، لقد علِم أنني ذهبت إلى فيلا شديد لكنه صدق أسبابي وسامحني، هي فترة صعبة وستمر، أتعلمين؟! ربما أنا سأعمل بنصيحتك وأُنجِب منه بالفعل حتى تتوقف أمه عن إزعاجي ويُنفذ هو مطالبي."اخرجي ولا تعودي إلى هنا ثانية!"التفتت كلتاهما تجاه باب الغرفة تحدقان بصلاح الذي يُطالعهما باشمئزاز مشوب بالغضب ثم تابع:_لقد صبرت على كلتيكما كثيراً لكنني لن أستطيع أكثر، لن أستطيع تحمُّل حقدكما. صاحت شروق:_ما الذي تقوله صلاح؟ رد ببرود:_لقد اعتقدت أن مُشكلتكما الأساسية هي رهف، بعض الغيرة، بعض الغل، وتوقعت أنه عندما انتقلت هي مع أخيها وتزوجت ابنتك بالثري ذي المستوى الرفيع سينتهي حقدكما وستتوقفان عن مخططاتكما القذرة، لكنكما لا تكتفيان، نفوسكما بالأصل مُلوثة.صاحت شروق بعصبية:_صلاح ماذاقاطعها عندما نظر إلى ابنته قائلاً:_لقد حاولت لسنوات تخليصك من تأثيرها لكنني فشلت للأسف، لِذا فلا أريد أن تطأ قدماك هذا المنزل مرة أخرى.هتفت دينا بعصبية:_هل تطردني من بيتي أبي؟وصرخت شروق:_يبدو أن الفضائح التي تحوم حول ابنة أخته جعلته يجن أخيراً، لا تستمعي لهذا الهراء، هذا بيتك دينا وتستطيعين المجيء هنا متى شئت نظرت شروق لصلاح بتحدي فابتسم وألقى رده الهادىء عليها: _سأترك لكِ البيت بضعة أيام كي تجمعي أغراضك، وعندما أعود لا أود أن أراكِ ثانية.انعقد حاجباها دهشة واحتل القلق ملامح ابنتها، حينما اتسعت ابتسامته أكثر قائلاً:_أنتِ طالق يا شروق!تركت مَوَدَّة بغرفتها تحاول التغلُّب على غيظها من عَمَّار وانطلقت حيث هاتفها الذي تستمع لرنينه منذ دقائق ، حدَّقت في الشاشة ورغماً عنها اتسعت ابتسامتها وهي تفكر:"لم يتوقف عن مُلاحقتي إذن! ثم نهرت نفسها وهي تفتعل الضيق وترد هاتفة:_نعم؟! ألم أطلب منك أن.قاطعها باقتضاب:_انزلي!اتسعت عيناها بعدم فهم وهي تسأله:_ماذا قلت؟ومن بين أسنانه رد ببطء:_انزلي رهف، أنا أسفل بنايتكم.اتسعت عيناها ثانية لكن بذعر تلك المرة وهي تسأله:_أي بناية؟ أنت لست بالأسفل، أنت لست جاداً بالتأكيد.ليأتيها صوته بهدوء مثير للخوف جداً:_معك خمسة دقائق رهف، إن لم أجدكِ أمامي سأثبت لكِ مدى جديتي بزيارتي لأخيكِ.. حالاً. همست به صارخة:_هل أنت مجنون ساري؟! ماذا إن رآك أحد ما؟ هل تنقصني المصائب؟ اسمع! ارحل الآن وسنتحدث هاتفياً فيما بعد.والرد البارد أشعل حنقها أكثر:_أربعة دقائق ونصف رهف.صرخت به بغضب: _أنت مخبول ساري، وأقسم أن أنتقم منك! ولما لم تجد رداً أغلقت الهاتف والتقطت حقيبتها حامدة ربها أنها لم تُبدِّل ملابسها بعد.وعند الباب هتفت لزوجة أخيها التي تجلس مُترقبة عودته بقلق:"مَوَدَّة سأجلب غرضاً وسأعود!"وانطلقت مُهرولة إلى الخارج! ... جالساً بسيارته مُحدِّقاً بمدخل بناية أخيهاغضب؛ ثورة؛هياج؛تتآكل خلايا جسده منذ ساعات بعدما تفوهت الحمقاء بذلك الهراءنيران...!يشعر بنيران لا يستطيع أي شيء إطفاءها.آخر؟!تفكر بالزواج من آخر؟! وواتتها الجرأة لتتفوه بها على مسامعه؟وتعتقد أنه سيسمح لها بذلك؟!تعتقد أنه سيهنئها وسيخبرها أنه يشعر بالرضا لأنها وجدت سعادتها أخيراً حتى لو مع آخر؟! أحقاً ظَنَّته بذلك السماح؟ليُنعِش معلوماتها إذن! وها هي قد وصلت الخرقاء التي لم تفهمه حتى الآن.. عديمة العقل والإحساس الحمقاء التي تتبجح بآخر أمامه؛ والحنونة الجميلة الرقيقة، نبض قلبه والتي أعطت لمرار حياته كل الحلا!تلفتت حولها جيداً كي تعبر الطريق بعد أن لمحته جالساً بسيارته ينتظرها، وما إن وصلت أمامه حتى أنزل زجاج نافذته ودون أن ينظر لها قائلاً:_اركبي! تخصرت وهي تتلمس عِناداً تنجو به تلك اللحظة هاتفة: _أنا لن أركب سيارتك، قل لي ماذا تريد الآن!وكان رده أن أوقف محرك السيارة هاتفاً بهدوء شابه التصميم واضحاً: _حسناً، لنتحدث ببيتكم.انتفضت وهي تلتف حول السيارة وفتحت الباب الجانبي ثم جلست على المقعد صافعة الباب بقوة متأكدة أنها آلمته هو وهي تهتف بغضب: _ركبت! ماذا تريد ساري؟ ماذا إن رآك أخي؟ أتريد التسبب بمصائب أخرى؟ أتريد._اخرسي!قاطعها بصياح أرعبها فحدقت به بصدمة مُرددة:_أخرس؟! أنا أخرس ساري؟! ليلتفت إليها في مقعده بحدة وتتطلع لملامح الإجرام التي تتراقص على وجهه وهو يصرخ بها:_ستتزوج الهانم بآخر؟! سيقترن اسمك وقلبك وجسدك بآخر؟! ستتابعين حياتك بمنتهى البساطة مع آخر وتنسينني تماماً؟!وبصيحة أشد أضاف:_يكون شريك حياتك آخر، ملاذك الآمن آخر، ملتقى روحك آخر، وربما.. ربما سيكون أيضاً والد أبنائــ... ويبدو أن التخيلات التي يطلقها عقله منذ ساعات صارت أشد صعوبة من النطق بها كاملة..همت بالرد فلم يُمهِلها وهو يعاود صراخه:_وتتوقعين مني أن أظهر سعادتي الشديدة لكِ، وربما ستدعونني إلى الزفاف فآتي مُهنئاً حاملاً باقة زهور قيمة وهدية للعروسين، أليس كذلك؟! انكمشت في مقعدها وهي تعي حالته الثائرة التي لم تتخيله بها من قبل وهو يُتابع بتشديد:_أنتِ لي أنا رهف، أنتِ لي ولن تكوني لسواي، ستصيرين زوجة ساري ثانية، ستقولينها ثانية، وإن اقترب منكِ أي آخر سأجعله يندم، أنا أمنحك بعض الوقت فقط كي تُنَفِّسِي عن غضبك مني، لكن بالطبع ليس عن طريق تفكيرك بآخر!عم صمت بالسيارة وكلاهما ينظر إلى الآخر..هو بغضب..هي بدهشة؛ هو بثورة..هي بخوف؛هو بأسف..هي بألم؛وأخيراً هي مَن تحدثت بخفوت:_ساعدني ساري! إذا استطعت ساعدني أنت!التزم الصمت وهو ينتظر كل ما ستجود به كلماتها الآن، رغم تأكده أنها لن تمنحه راحة فتابعت دامعة: _أنا أبحث منذ فترة كالتائهة، أبحث عن وسيلة أنتقم بها منك ولا أجد، أبحث عن أي شيء أُنَفِّس به عن غضبي فلا أجد، أبحث عما يمنحني بداية جديدة معك فلا أجد. ثم شخصت بنظراتها بعيداً ودمعاتها تهطل بلا شعور منها: _ما هي الطريقة التي من المُمكن أن تُعيد إليَّ كرامتي التي أهدرتها على مرأى ومسمع من الجميع؟ ما هي الطريقة التي تجعلني أنسى أنني كنت مُجرد هدف لتحقيق انتقامك؟ ما هي الطريقة التي تُعيد الحياة لقلبي الذي مزقته بيديك؟ ثم نظرت إليه مرة أخرى تبتسم من بين دمعاتها: _إن كانت لديك أية أفكار فكُلِّي آذانٌ صاغية!رفع كفه وتوقف بجوار وجنتها قائلاً بعذاب:_صدقيني رهف، إحساسي الآن وأنا لا يحق لي مسح دمعاتك على الرغم من وجودك على بُعد سنتيمترات مني لهو الانتقام بعينه!ضحكت بسخرية هاتفة:_أتعتقد أنه يكفي؟ هز رأسه نفياً ورد بضعف:_لا! لا يكفي أبداً!انمحت ابتسامتها وانتشر الألم على وجهها وهي تسأله بتوسل: _إذن كيف أجرحك ساري؟ أخبرني كيف أجرحك؟ كيف أستطيع إخراج عقلي من قاعة الزفاف التي يُلازمها حتى الآن؟ ما هي الطريقة التي لن تجعلني أكره نفسي إن أنا سامحتك مُستقبلاً؟ أفدني فخبرتك في الانتقام تتعدى خبرتي.تهرَّب من عينيها إلى النافذة الجانبية له كي لا ترى دمعاته التي تشي بضعفه، وبعد لحظات تحدث:_إبتعادك عني، إدراكي أنني تخلَّيت بإرادتي عن قلب كان لي ولم أتمن غيره، إدراكي كل ليلة قبل نومي أنكِ كنتِ ستكونين بين أحضاني لكنني أنا من حرَمت نفسي وحرمتك من ذلك الوصال يقتلني حياً.صمت فلم تتكلم، ثم عاد فتحدث بخفوت:_أنا لست بحي ولست بميت رهف. وزفر بحرارة ليتابع بخفوت أشد:_أنا الآن أتأرجح بين قبو هزيمة كرامتي، وقبور ثلاثة من أحبتي، وقاعة زفاف نَحَرت بها قلبي بيدي!وصلها ألمه؛وصلها تماماً..."سامحك الله يا ساري لا أستطيع احتضانك والتخفيف عنك الآن!" _افعلي ما تشائين رهف، لكن إياكِ والتفكير بآخر! ثم أردف آمراً:_انزلي!وبينما هو لايزال يوليها ظهره، مسحت وجهها وعدَّلت من وضع حقيبتها عندما جاؤها صوته المُتغيِّر قليلاً والمُنذِر بالشر.. كثيراً:_أليس هذا هو المائع من يُرافق أخيكِ؟رمقته باستفهام ثم اشرأبت بعنقها تنظر حيث يُحدق بذهول، لتجد خالد يهبط من سيارة أخيها المُتجهم أمام مدخل البناية ليلحقه الأخير.استدار لها ساري مُتسع العينين بتحفز فازدردت لعابها بتوجس بينما سألها هو ثانية بصوت يَبَّس أطرافها:_أليس هذا هو "عريس الغفلة"؟!شحب وجهها فصاح بها:_ماذا يفعل ببيتكم الآن؟بصوت مُتحشرج أجابته:_كان.. كان يتناول طعام الغداء معنا ثم ذهب معه عَمَّار كي بترت عبارتها وهي تُطالع علامات الصدمة على وجهه فأكمل هو متسائلاً: _هل كنتِ تجلسين معه؟أجابته بخفوت:_إنه ضيف ببيتنا و...فقاطعها بصياح والجنون يتراقص بملامحه: _أهي جلسة تعارف أو ما شابه؟!وعندما همَّت بالرد كان هو ينظر إليها بغيظ هائل ثم قام بتشغيل مُحرك السيارة بمنتهى العصبية فسألته بقلق:_انتظر حتى أنزل و.... وقاطعها أيضاً بحزم:_أنتِ لن تصعدي إلى البيت وذلك الشخص موجود، حتى إن اضطررت إلى إبقائك بالسيارة هذه الليلة.اتسعت عيناها بذهول وهي تخاطبه بِحَذَر: _تدرك أنك أصبحت مجنوناً، أليس كذلك؟!هنا أعطاها ابتسامة مُخيفة وهو يُدير عجلة القيادة مُعقِّباً:_أنتِ لم ترِ جُنوناً بعد!فتحت سما الباب لتُطالع رجلاً أشيباً أمامها فنظرت له باستفهام قائلة: _من تكون حضرتك؟ابتسم الرجل بحنان ثم رد: _إذن أنتِ سما!أمعنت النظر به بقلق ثم تحدثت: _من أنت؟ وماذا تريد؟ اسمع أنا..لينطلق الصوت المُحبب إليها من خلف الرجل:_هيا أبي لا تغُرَّنك ضآلة قامتها، فهي حاصلة على حزام أسود في الكاراتيه ولديها ميول عنيفة تفخر بها كثيراً!شهقت بخفوت والرجل يضحك أكثر ومن خلفه ظهر رأس عاصم مُبتسماً:_مرحباً سما يا "خطيبتي"! أفسحت جانباً تسمح بالمرور لهما ثم لمريم التي حيتها ببشاشة، وقفت مكانها بتوتر لا تدري ماذا عليها أن تفعل، إلا أنه مال على أذنها هامساً:_أخبري أمي أن أبي بالخارج، وارتدي شيئاً برَّاقاً.حدقت به بدهشة فأردف بزهو: _سوف أُبهِرِك!انتابها قلق شديد ورمقته بتوجس وهي تعوج شفتيها بلا اقتناع بينما تطالع وعده بعينيه، ثم اتجهت إلى غرفة أمها مُسرِعة، وعادت إلى غرفتها تبحث عن شيء.. برَّاق تطلع ساري إلى ملامح الغضب التي ينطق بها وجهها ثم اجتذب ابتسامة وهو يسألها:_ألا يعجِبِك المكان؟توقفت عن هز ساقيها بتوتر ثم هتفت به بغضب:_لا يعجبني ساري، لا يعجبني أياً مم تفعله، أنا لا أعلم ماذا سأُخبِر أخي إن هاتفني الآن.مال على الطاولة ينظر لها بعشق أثار الرجفة في قلبها:_أخبريه أنكِ معي، مع حبيبك، وإن وافقتِ سأذهب أنا إليه الآن مُطالباً بحقي فيكِ.أشاحت بنظرها بعيداً كي لا يكتشف ضعفها أمام تأثير كلماته ثم حضر لنادل فتعلقت عيناها بحماس بما يحمله حتى انصرف، فبادرها هو:_هيا رهف، أنتِ تُحبين تلك النكهة.نظرت له بدهشة مُتسائلة:_وكيف عرفت؟ابتسم لها بمكر: _أعرف كل شيء عنكِ رهف، بأدق التفاصيل.نظرت له بامتعاض واختطفت كأس المُثلجات وانشغلت به، أما هو فقد ظلَّ مُحدقاً بها بانشداه تام وهو يلتقط سكناتها وحركاتها، لاحظت هي ذلك فاجتاحها التوتر والخجل لتقول بخفوت:_كُف عن التحديق بي!أجابها مُبتسماً بنفس الخفوت:_لا أستطيع!أخفضت عينيها إلى كأسها وتجاهلته تماماً حتى قال هو فجأة:_أنا لم أذهب إلى مدينة الألعاب سوى مرتين بحياتي كلها!حدَّقت به بدهشة ليتابع شارداً بابتسامة متألمة:_المرة الأولى كانت تحت إصرار سامر، وقد وافقه أبي على الفور، كنا نعتقد أن سارة تتعمد عدم التحدث فأملنا أن تفقد رغبتها هناك وتصرخ كما تشاء. وانمحت الابتسامة ليزداد الألم حينما خفُت صوته قائلاً: _لكن للأسف لم تفعل، بل إننا ذلك اليوم اكتشفنا مرض سامر حينما ظهر عليه الإرهاق واضحاً بعد ركوبه أول لعبة!وضعت كأس المثلجات أمامها بهدوء؛تراقبه يسبح في ذكرى شوقه وفُقده؛تراقبه وترسم صورة لأخيه في عقلها؛ تراقبه وتتمنى لو تنسى للحظة ما فَعَل وتطلب منه أن يستفيض؛أن يتخلص من ذلك الماضي؛أن يصرخ.. يصيح.. يبكي لو أراد!نفض رأسه وعاد لينظر إليها فأمسكت بكأسها ثانية متظاهرة باللامبالاة، بينما تابع هو بابتسامة حنونة: _والمرة الثانية كانت منذ شهر فقط.لم تأبه بالرد عليه برغم دهشتها، فأضاف بحماس:_أريد اصطحابك إلى مدينة الألعاب!اختلج قلبها باشتياق أخفته خلف ستار الجمود مُعَلِّقة ببرود:_لا أريد.ابتسم هو يتأملها مستغلاً انشغالها ثم قال:_لكنكِ تستمتعين بركوب الألعاب كثيراً.رَفَعَت عينيها إليه عاقدة حاجبيها بدهشة وسألته:_وكيف تعلم ذلك؟اتسعت ابتسامته أكثر واحتل المكر عينيه فأدركت على الفور ثم هتفت:_يا إلهي! هل كنت تراقبني هناك أيضاً؟أومأ برأسه ببطء ثم رد بهدوء:_أنا أراقبك يومياً منذ ابتعدتِ عني رهف، ولا أجد ما يستدعي دهشتك في هذا الأمر.ثم مال مقترباً متابعاً:_إن كنت لم أتوقف عن فعلها حينما احتل الانتقام عقلي، كيف تتوقعين مني فعلها عندما امتلكتِ أنتِ زمام قلبي؟وقلبها هي من كان ينتفض الآن، إلا أنها قالت ساخرة:_من المفترض أن تخجل لذلك الأمر، لكنني أراك _ما شاء الله_ فخوراً بشدة بتلصصك عليّ!وبدلاً من الرد الساخر الذي انتظرته وجدت تلك النظرة التي تذيب غضبها بسهولة، ثم أضاف بخفوت: _لا تحكمي بالإدانة على اشتياق رجل مُتَيَّم بكِ، ولا تطيلي عقاب فؤاد يناجي صاحبته أن ترحمه وتحنو عليه، كوني قاتلتي حقاً! باقترانك بي ليس بانفصالك عني رهف! ازدردت لعابها وتوترت ملامحها أكثر، لكنها تشبثت بالعناد كي تدفع تلك الهالة الساحرة التي يحتجزها بها معه، بكلماته ونظراته وندمه وتوسله..وبلا مبالاة قالت:_لازلت لا أريد الذهاب معك إلى أي مكان، وليس إلى مدينة الألعاب فحسب.ارتد إلى الخلف مغتاظاً، ذلك الغيظ الذي عَبَّرت عنه كلماته صراحةً:_لماذا هذا التعنت معي أنا فقط؟! أنتِ تحبين ركوب الألعاب كثيراً، وكنتِ تضحكين كالبلهاء مع أخيكِ "الدكتووور" بينما يلتقط هو الصور لكما وحدكما سوياً كأنه سيطبع منها مئات الملصقات ليقوم بتوزيعها على عامَّة الشعب!جَزَّت على أسنانها بغيظ مماثل لكنها ابتسمت ببرود قائلة بفخر مُقَلدة لهجته الساخرة: _ لأنني أُفضل صُحبة أخي "الدكتووور" عن أي إنسان بالطبع، فهو يُضحكني ويُسعدني كثيراً.والحنق في عينيه جعلها تضيف متعمدة إثارة حنقه أكثر:_على عكس البعض.زفر بغضب ثم قال بإلحاح:_جربيني إذن، سأضحكك أكثر منه، وسألتقط لنا صوراً أجمل من صوركما معاً.هَزَّت كتفيها بلامبالاة مكررة:_لا أريد. وجاء رَدُّه مُصمماً، مُصِرَّاً:_سأحملك حملاً إلى مدينة الألعاب رهف، وسوف تضحكين معي رغماً عن أنفك حتى تختنقين سُعالاً، وسوف نلتقط الصور السعيدة معاً حتى وإن اضطررت لرسم الابتسامة على وجهك بقوة السلاح! "هل ينتظر منها شعوراً بالهيام جراء "توعده" لها بإسعادها؟!""وهل.. يغار من عَمَّار؟!نفضت رأسها باستخفاف وتابعت تناولها المُثلجات وتظاهرت بعدم اهتمامها به، حتى قاطعها فجأة:_هناك لطخة مُثلجات على شِفتيك!وحينما كان يتناول مَحرمة ورقية وجدها_بمنتهى البساطة_ تلعق شفتيها بلسانها!تسمرت يده على المحرمة كما تسمرت عيناه على شفتيها، وهي تُعيد لَعْقهما بمنتهى الخرق والبراءة!_توقفي رهف!وصيحته خرجت غاضبة رغماً عنه، بصوت مُتحشرِج قليلاً، بينما رمقته هي باستغراب:_أتريدني أن أتركه؟هز رأسه نفياً بتوتر وهو يشيح بوجهه عابساً:_لا! أعني توقفي عن.. عن فِعل هذا!واستغرابها ازداد وهي تسأله:_لماذا؟ هل تريدني أن أبدو كالطفلة البلهاء؟"أنتِ فعلاً طفلة بلهاء وأنا من ألقاني حظي العاثر أمامك!"رد بنفاد صبر هامس وهو يميل مُقترباً منها:_توقفي وإلا أنا لن أكون مسئولاً إن فقدت صبري الطويل وقُمْت بما لا يليق هنا وأمام كل الموجودين! والاستغراب تحول إلى قلق ثم خجل وهي تراه على تلك المسافة القصيرة مخاطباً إياها مُحدقاً بــ..شفتيها! تخلت عن كأس المُثلجات ببطء وتراجعت في مقعدها بينما مسح هو وجهه بكفيه وهو يُحمحم بخشونة:_هيا بنا رهف، أكاد أن أختنق هنا!استقام وتبعته هي بقلق واستقلت السيارة بجواره، انطلق في صمت تام وظل طوال الطريق عابساً يتأفف حانقاً دونما سبب، وعندما وصل إلى بناية أخيها أخيراً همَّت بالنزول فأوقفها بحزم قائلاً:_رهف، ستصعدين الآن إلى غرفتك رأساً، ولن تجلسي أبداً مع ذلك الشخص، لن تتحدثي معه، لن تبتسمي له، لن تتعاملي معه بأي طريقة كانت!ألقت التوتر بعيداً وهي تصيح به بغضب:_كل هذا ليس من شأنك، وأنا لن أهتم بتحذيراتك ساري!فتحت الباب وأخرجت قدمها اليمُنى عندما وجدت نفسها تنجذب للخلف من..ياقة سترتها! _أنتِ ستُنفذين كل ما قلته رهف، وإلا استعدي لحرب بيني وبينه، وبيني وبين أخيكِ، وبيني وبين كل من يقف حائلاً بطريقي إليكِ.حاولت التملص منه وهي تهتف:_لماذا تمسك بي كالمجرمين هكذا؟ اترك السُترة، إنها جديدة، ستُفسدها! تركها على مضض فانطلقت مُسرعة، وعندما دارت حول السيارة ناداها:_رهف!رفعت أنظارها للأعلى بغيظ ثم التفتت له هاتفة:_ماذا هناك؟!ابتسم لها بعشق ثم قال بنبرة موحية:_يوماً ما ستتناولين نفس المُثلجات بطريقتي الخاصة، ولن أُخبرك الآن بما سيحدث حينها!توردت وجنتاها على الفور واتسعت عيناها بصدمة وهي تهتف: _أنت عديم التربية بالمناسبة!تعالت ضحكته المُستمتعة وازداد خجلها وهو يرد بمكر:_وهذا جانب آخر لم ترِ شيئاً منه بعد!ثم أهداها غمزة وانطلق.وعندما اختفت هي داخل البناية استدار بالسيارة وأطفأ أضواءها.. وَانتظر..مُتربِصاً!"كيف حالك صفاء؟"ألقى عبد الرحمن السؤال على أم عاصم فابتسمت وهي تُجيبه:_بأفضل حال عبد الرحمن.تطلع إليها بحزن شديد وهو يعي حالتها الصحية المُتردية، فعندما أخبره ابنه من قبل عنها لم يكن يتخيل أنها أصبحت بهذا السوء. لقد كانت جميلة، كانت تنشر النور ببيته وبحياته، متى أظلمت حياتها هي بهذا الشكل؟هل بسبب حرمانها من نور عينيها، أم بسبب حرمانه هو لها من ابنها؟يقتله الندم ولا يجد لإرجاع الزمن وسيلة!أما هي فقد حاولت إلقاء اللوم والعتاب بعيداً، فما حدث قد حدث، وبالرغم من فُقدانها ابنها الوحيد بأهم سنوات حياته إلا أنه عاد إليها أخيراً مُشتاقاً ولحنانها طالباً!وعاصم كان ينقل نظراته بينهمابألم.. بندم.. بفرح! لم يتخيل أبداً أن يجتمعا سوياً بأي وقت من الأوقات، حتى عندما اجتمع بأمه اعتقد أنها لن تتحمل التواجد مع من ظلمها بمكانٍ واحد، لكن ها هما الاثنان يتحدثان بطريقة عادية وكأنه لم يكن هناك..فراق، ظلم، تجبُر!"لماذا تأخَرَت سما؟"انتزع سؤال مريم ثُلاثتهم من أفكارهم الغارقة في بئر الماضي فأجابتها صفاء:"ادخلي إليها مريم!"اتجهت الفتاة إلى غرفة سما بحماس شديد لكنها وجدتها قد خرجت بالفعل.وقف عاصم مُبتسماً بترقب لكن ابتسامته زالت فوراً ما إن تطلع إليها!سترة طويلة؛بنطال واسع؛حجاب عادي!_أين الشيء البرَّاق سما؟! وسؤاله انطلق أمام الجميع بلا تفكير فأجابته ببساطة وهي تشير إلى أسفل حجابها:_ها هو!حدَّق عاصم بال"دبوس" الفضي اللامع الذي تُزين به طرف وشاحها ثم عضَّ على شفته غيظاً لكنه تظاهر بالابتسام، واتخذت هي مقعدها بجوار أمه فتحدث عاصم بهدوء:_أمي! أنا اليوم جئت أطلب منكِ الزواج بسما.ثم أردف وهو ينظر إليها بحُب: _ابنتك!رفعت أنظارها إليه بدهشة ثم ابتسمت برقة فاجأته، بينما انطلق صوت أمه مرِحاً:_انصرف الآن وسنفكر ملياَّ ونُجيبك.انتقل عاصم بسرعة إلى أمه يُجاورها بالجهة الأخرى هاتفاً بتوسُل:_لا أمي! أنا لن أقبل بأي رد سوى المُوافقة، وفي التو.أشاحت سما بوجهها خجلاً فضحكت أمه بفرحة وهي تُعلِّق:_أستطيع أن أتخيَّل شكلها الآن!ليرد عاصم بخفوت:_لا أمي، لن تتخيلي أبداً، فأنا نفسي لا أصدق ذلك الجمال المشوب بالخجل!نهرته أمه بافتعال:_ألا تخجل عاصم؟ أتغازلها أمامي؟هب عاصم واقفاً وهو يهتف:_أنتِ مُحقة أمي، هيا سما أريد التحدث معك بمفردنا.نظرت له سما بدهشة ثم تطلعت للابتسامات الثلاث المُحيطة بها فاستقامت وتبِعته حيث الغرفة الأخرى.تململت بمقعدها وهي تعي تحديقه بها فهتفت به:_ماذا بك عاصم؟ ما الذي حدث لك؟ أنت تتصرف بطريقة غريبة اليوم!ليجيبها بهدوء:_أحببتك سما. توردت وجنتاها حرجاً فتابع هو:_أحببتك ربما منذ أشهرتِ سكينك بوجهي، كنت خائفاً أن يفشل حبي مثلما فشل حب أبي وقضى عمره ظالماً لنفسه ولاثنتين غيره، فآثرت العناد والابتعاد، فضلت أن أتظاهر بعدم اهتمامي بك رغم أني كنت أهتم، طوال الوقت كنت أهتم، لكنني لم أستطع التظاهر أكثر، وعندما شعرت أنني سأفقدك استسلمت سما، وأعلم أنني معك أنتِ فقط لن أندم على هذا الاستسلام.تعلقت عيناها بعينيه بحب ثم همست بدهشة اختلطت بالفرح:_أنت تحبني بالفعل عاصم؟أجابها بلهفة: _أحبك بكل روحي سما، أحبك كما لم ولن أفعل مُطلقاً! أشاحت بوجهها خجلاً وهي لا تصدق فرحتها..أخيراً حبيبها اعترف!لقد استغرقه اكتشافه وقتاً طويلاً لكنه أخيراً نجح! ليُعاجلها بخفوت:_هل تتزوجيني سما؟وعندما أخرج العلبة المخملية الحمراء نفسها من سُترته حدَّقت بها بفرحة عارمة،وحمداً لله لم تكن خالية! التقط الحلقة الذهبية ووضعها في إصبعها، ثم ابتسم بفخر قائلاً:_والآن حدثيني عن تلك المشاعر الجميلة المتبادلة!وبينما كانت دينا تفكر في حل لتلك المُصيبة التي وقعت على أمها جاؤها اتصاله فردت بذعر:_توقف عن تهديدي وإلاقاطعها ببروده:_وإلا ماذا ستفعلين دينا هانم؟ من سينقذك مني؟ أبوكِ؟، زوجِك؟ أم شديد بك؟ ولما لم تجد رداً استأنف بهدوء:_أنتِ لا تعلمين ما أنا مُستعد لفعله من أجل الحصول على ذلك العقد أليس كذلك؟صمتت بتوجس فجاءتها لهجته المُتوعدة: _سوف أهدم حياتك كلها سيدة دينا، سوف أجعلك تكرهين الساعة التي عاندتني فيها، هل تُحبين عقاباً سريعاً آخر؟وبسرعة ردَّت وهي تستعيد بعقلها شجارها الأخير مع تامر:_لا! لا تفعل! سأعطيك إياه.ثم استدركت بغيظ: _لكن.. لكن امنحني بعض الوقت حتى أحضره من المكان الذي احتفظ به فيه، ولن يكون ذلك قبل أسبوع على الأقل، فأنا_وبسببك_ لم أعد أستطيع الخروج كما يحلو لي.عم الصمت للحظات ثم سمعت صوته المُخيف هادئاً للغاية:_لا بأس! لقد انتظرت كثيراً بالفعل، لن يضيرني أسبوع آخر، لكنني سأتسلَّمه منكِ بنفسي!نظر خالد إلى عَمَّار الذي يتثاءب للمرة الرابعة خلال دقيقة واحدة فَشَعَر بوجوب انصرافه.._أنا سأرحل الآن عَمَّار، لَدَيّ بعض الأعمـ...بتر عبارته عندما هَبَّ عَمَّار بحماس مُناقِض تماماً للنعاس الذي كان لتوه يسيطر على ملامحه! _ولِمَ التعجُّل يا خالد؟! بإمكاننا مشاهدة فيلم آخر! تلك العبارة التي قالها وهو يدفعه برفق تجاه الباب بالفعل!وأمام الباب توقف خالد مُعَلِّقَاً بابتسامته اللطيفة:_لم أر كلا من مَوَدَّة ورهف منذ عدنا من بيتي، أين هما؟وباقتضاب أجابه:_تنامان بوقت مبكر. وعندما فتح عَمَّار الباب قال خالد:_ألن أودعهما قبل انصرافي؟!احتدت ملامح عَمَّار وصاح رغماً عنه:_أتريد مني أن أوقظ زوجتي وأختي حتى تودعهما أنت؟!انعقد حاجبا خالد بدهشة فزفر عَمَّار بغيظ ثم لانت لهجته وهو يقول: _خالد، أنت لم تعد بالخارج بعد، هناك قواعد وعادات وتقاليد هنا يجب عليك الاقتداء بها.وببراءة سأله: _مثل؟!حَكَّ عَمَّار جبهته بملل ثم قال:_فلتبدأ بعدم سؤال أي رجل عن أي امرأة تخصه.وأضاف:_ولا تُلقي بابتسامتك الدائمة هذه في وجهها!وتابع:_ولا تتحدث عن ذكرياتك معها!وأردف:_ولا تعبر عن جمال إحداهن أو براعتها أو رقتها!والدهشة على وجه خالد..تزداد؛والحنق على وجه عَمَّار.. يتصاعد؛ونفاد الصبر تَحَكَّم:_خالد! لا علاقة لك بأي امرأة على الإطلاق كي لا تتعرض يوماً إلى مصيبة من حيث لا تدري!ولا يعلم عَمَّار أن "المصيبة" كانت حقاً..في انتظاره!. خرج خالد من البناية مُتجهاً إلى سيارته وهو يُطلق صفيراً مُلحناً لإحدى الأغاني الأجنبية، ويستعيد نصائح عَمَّار المليئة بالتعقيدات التي لا داعِ لها!لقد علم من والده عن القيود التي يتربى عليها الأفراد في هذا المجتمع، لكنه ظن أن تلك الأمور أصبحت بالية!وفجأة انطلقت العبارة بجواره:"كيف حالك يا .. أستاذ خالد!" التفت باستغراب ثم اتسعت ابتسامته البشوشة وهو يمد يده مُصافحاً مُحاولاً تذكر الإسم:_أهلا مهندس قاطعه مُكملاً:_ساري!هز خالد رأسه مُدركاً وهو يقول:_اعذرني لم أرك سوى مرة واحدة ولا تتحدث رهف بشأنك أمامي مطلقاً.ضغط ساري أسنانه بعنف وهو يُعلِّق: _نعم نعم، في الواقع أرغب باستشارة تسويقية، ولقد علمت بخبرتك الواسعة في هذا المجال.علَّق خالد بدهشة: _استشارة! الآن؟ابتسم ساري ببرود وهو يرد:_نعم، إنها مُتعجلة بعض الشيء، هيا تفضل معي أستاذ خالد. وبدون انتظار لسماع رده اقتاده إلى سيارته ودفعه بِحِدة لا إرادية بالمقعد الجانبي ثم استدار وركب مُغلقاً الأبواب كلها من الداخل!وقبل أن يبدأ بالقيادة ابتسم لخالد ابتسامة لم يدرِ المسكين معناها، ثم أخرج هاتفه وعبث به قليلاً وانطلق! صفع عَمَّار باب الغرفة فأجفلت لكنها تمسكت بهدوء ظاهري، حتى عندما ألقى المُغلَّف الكبير بجوارها على الفراش وهو يهتف:_تفضلَّي مَوَدَّة هانم كل ذكرياتك المُصَوَّرة الرائعة مع ابن عمك الظريف هذا.نظرت له بتوجس ثم قفزت واقفة تصرخ:_هل تتشاجر معي بسبب صور لي وأنا طفلة؟ ماذا جرى لكَ عَمَّار؟احتلَّ الغيظ ملامحه وهو يصيح:_أنتِ لم تركبي على ظهري مُطلقاً مَوَدَّة! منعت ابتسامتها بصعوبة بالغة وهي تهتف:_هل أنت طفل عَمَّار؟ليصرخ بسرعة:_نعم مَوَدَّة، اعتبريها طفولة مني، أنا أيضاً ابن خالتك ولم تفعلي ذلك معي! أحترق غيظاً هنا كلما أدركت أنك كنتِ أمامي ثم زوجتي لسنوات وأنا لا أشعر بكِ، ليأتي ابن عمك الليلة ويزيد الطين بلَّة وهو يتشدق بذكرياتكما سوياً.وبصرخة أعلى أضاف: _بثوب سباحة أصفر وبمنتهى الوقاحة!تنازعتها رغبتان بالضحك والبكاء بوقتٍ واحد فاقتربت منه قائلة بخفوت: _أنت تغار من شيء عادي حدث وأنا طفلة، ماذا عني أنا زوجتك وأنت تجاهر أمامي بحب أخرى ثم تنتحب لأجل زواجها بعد شهور؟ولمعت الدموع بعينيها ثم تابعت:_ماذا عن إحساسي الدائم بأنني أخذتك منها، بأنني كنت عثرة في طريقكما معاً.واستطردت بصوت متقطع:_بأنني كنت.. خاطفة رجال!فغر فاهه دهشة وهو يهتف رغماً عنه: _ما هذا الهراء مَوَدَّة؟!ثم زفر بتعب قائلاً بصدق واضح: _حبيبتي لم أكن لأتزوجها حتى لو لم أتزوجك أنتِ، لم يكن شديد بك ليوافق بالأصل!واستدرك بنظرة نضح منها الحب:_وربما هذا هو الشيء الوحيد الذي أشعر بالامتنان له من أجله حتى اليوم!وعلى الرغم من خفقات قلبها الفَرِحة فإنها سألته بِعِتاب:_لماذا ارتبكت إذن كالمراهق أمامها!ليسارع مُدافعاً:_ارتبكت خوفاً من انزعاجك أنتِ مَوَدَّة، أنتِ فقط من أهتم لها ولِمشاعرها، لا أتحمل إن انتابكِ شك بِحُبي لكِ.ثم أحاط وجهها بكفيه نادماً:_آسف مَوَدَّة، آسف ، أنا كنت عديم الشعور ناقم على اختيار أُجبرت على التخلَّي عنه ليس أكثر.ثم أردف بخفوت: _لم أحبها هي مَوَدَّة، لقد أخبرتك من قبل أنني أحببت اختياري لها، أما عن قلبي فإنه لم يعشق سواكِ أنتِ! تطلعت إلى عينيه تبحث في صدق كلماته ثم قالت باستسلام:_وأنا أيضاً عَمَّار، لم أُحب سواك أبداً. وعندما هم بتقبيلها تراجعت مسرعة تطرق على الحديد وهو ساخن:_أيعني هذا أنك ستُعطي فرصة أخرى لساري؟ انقلبت ملامحه فوراً وهو يهتف بِغيظ:_لماذا تتحدثين عن تلك الفرصة بهذا الإصرار؟ هو أصلاً لم يطلبها مني حتى الآن.ابتسمت بمكر تُجيبه:_ربما سيطلبها منك أقرب مما تتصور، ماذا ستفعل عندها؟ هل ستحكم عليه بالنبذ للأبد من أجل الخطأ الذي ارتكبه، أم ستسامحه؟ ضغط عَمَّار أسنانه بِغِل وهو يدرك تلاعبها به ثم رد: _عندما أشعر أنها هي سامحته سأفعل.اقتربت منه مَوَدَّة بتمهُل وأحاطت عنقه بذراعيها مُبتسمة مُرددة: _ربما هي أيضاً ستفعل أقرب مما تتصور.ليضع كفيه فوق ذراعيها وهو يحدِّق بها:_أصبحتِ ماكرة مَوَدَّتِي!أطلقت ضحكة عالية ثم أجابته:_بعضاً مما عندكم دكتور عَمَّار، والآن أتريد أن تعرف عن ثوب السباحة الأصفر! ارتخت ملامحه فجأة بابتسامة مُنشِرحة وهو يُخاطبها بهمس:_بكل سرور وفي غرفتها كانت رهف مُحدقة بالسقف، تستعيد كل كلماته الليلة وعلى وجهها تبدو الحيرة مُقترنة بالألم.. والاشتياق، ولم يُخرجها من حالتها إلا صوت رسالة على هاتفها، فتحتها بسرعة لتتسع عيناها بصدمة.."الآن عريس الغفلة المائع بحوزتي، وسأجعله عِبرة لكل من تُسوِّل له نفسه بالاقتراب منكِ، إن أردتِ أن أتركه سالماً دون خدش واحد تزوجيني رهف