Cairo , Egypt +01508281514 darr@elsayad121216.com

الفصل السابع عشر

*نيران الانتقام* قبل ساعات:"ك..كيف؟!!"وبكل ثقة جلس أمامها مبتسماً ببساطة قبل أن يسألها بلا اكتراث لذهولها الواضح: _كيف حالك سيدة دينا؟!ومُستغلاً خرسها تابع: _أكل هذا الإرهاق من أجل مقابلة واحدة معك؟! ثم مال مستنداً بساعديه على الطاولة قائلاً بسخرية: _أكان يجب عليّ إرسال هديتي إلى تامر بك كي تقابلينني؟! عندئذٍ احتدت ملامحها بكراهية صارخة وهي تخاطبه من بين أسنانها:_أتعلم أن ذلك المقطع الذي أرسلته إلى تامر كاد أن يُنهي حياتي الزوجية كلها؟نظر إليها بوجوم ثم مط شِفتيه بأسف مغمغماً:_الذوق والتهذيب يُحتمان عليّ أن أظهر ندماً أو أسفاً أو تعاطفاً بسبب تعريضي إياكِ إلى هذا الخطر المحدق.وباللحظة التالية انفرجت ملامحه بابتسامة مسرورة وهو يستطرد مستفزاً إياها:_لكن أعتذر سيدة دينا، أنا لا أشعر بأيٍ منهم، وإني _للأمانة_ فخور بفعلتي وأعدها إنجازاً أستحق الثناء عليه! وحرب نظرات دارت؛باردة.. مُستمتعة.. مُتوعدة؛ حاقدة.. كارهة.. نافرة؛_لماذا؟وتابعت بِسؤال ثانِ: _لماذا تتمسك بها بشدة كما فعل أبي لأعوام؟والسؤال الذي سألته مشحوناً بنظراتها التي حَلَّت الدهشة ضيفة عليها لِتُزاحِم ضغينة صارخة، أتبعته بثالث على الفور: _لماذا تكبدت كل ذلك العناء من أجلها هي؟ لماذا تلاحقها بهذا الإصرار بعدما نبذتها بنفسك؟ لماذا لا تفكر بسواها ذات نسب شريف لا يلتصق العار به؟وأسئلة أخرى بنبرة كتمتها شدة الغيظ:_ألم يؤذِك أبوها؟ ألم يلحق الضرر بأسرتك كلها؟ ألا يعلم الجميع بالأصل أنها لا أب لها؟ ألا تعلم أنت كم مرة أُطلِق عليها أنها "ابنة حر..."وعندما أدركت أنها تجاوزت الحدود بترت كلمتها؛وحينما احتدت عيناه بقتامة أرعبتها بترت كلمتها؛ولمَّا شعرت أن هناك خنجر سينطلق من نظراته رأساً إلى لسانها، بترت كلمتها؛ ثم _بخفوت مثير للرهبة_ أمرها دون حاجة حقيقية لأن يفعل:_ابتلعي كلمتك وإلا حشرتها في حلقك بنفسي! وتراجع إلى ظهر مقعده قائلاً بهدوء: _أولاً: رهف الآن زوجتي، وأنا مستعد لأي شيء في سبيل الدفاع عنها ضد أي حقير أو حقيرة مثلك. ثم أضاف بامتعاض:_ثانياً: رهف التي تحقدين عليها وتكرهينها كالموت أفضل بكثير من امرأة ذات نسب شريف لكنها دنيئة النفس، جشعة، حقودة. ثم أشار بكفه إليها مُردفاً:_ومن الواضح أنني أعنيكِ أنتِ تحديداً بهذا!وزفر مُضيفاً:_ثالثاً: هذا العقد الذي تتمسكين به أنا أعلم بوجوده لديكِ منذ شهور، لكنني ظننت أن الدكتور عَمَّار حينما تَعَرَّف إليكِ سيحصل عليه، فتركت له الساحة حتى ينصرها بنفسه وتعثر هي على أخ يُحبها أخيراً.ولم يأبه بالذهول الذي عاد إلى وجهها بأشد صوره وهو يتابع بأسف:_لكن عَمَّار كما كان دوماً، متسامح ويأخذ الطرق المباشرة، ربما أخبرتِه أنتِ أنه ليس معك فصدقك، أو توقف عن الطلب حينما تزوجتِ وحصل هو على رهف. وعادت ابتسامته الصفراء قائلاً ببرود:_لكنني على العكس منه، صبور، ومثابر، لا أحيد عن أهدافي كما أخبرتك من قبل. ثم تنهد ببطء قبل أن يضيف:_وكي أكون أكثر صراحة، لا أهتم إن انتهت حياتك الزوجية أو بُليتِ بمصيبة أكبر.وارتفع أحد حاجبيه وحذرتها عيناه مُشدداً: _لِذا توقفي عن مراوغتي، لأن هذا العقد سيكون بين يدي الليلة، أو ستكون بين يديكِ أنتِ وثيقة طلاقك من تامر بك عزمي!ثم أردف متظاهراً بالتفكير:_تُرى كيف ستكون حياتك إن حدث هذا؟وشاركته التفكير بِجِدية، لترتجفأطرافها ويصرخ عقلها رفضاً، فازدردت لعابها وهي تسأله بلا تصديق:_هل.. هل كنت على اتفاق مع أخيها لابتزازي؟هز رأسه ببطء نافياً ثم أجابها:_لا للأسف، عَمَّار لا يعلم حتى اليوم أنني أسعى خلف العقد، لكنني من الممكن أن أخبر تامر بك إن أحببتِ.وتركت نظراتها تُعبر عن شعورها؛لم يحشرها شخص يوماً في الزاوية؛لطالما اتسمت بذكائها؛ولطالما كانت لديها خطط بديلة؛وللأسف على ما يبدو أنها للمرة الأولى هُزِمَت.. وأيضاً بسبب ابنة عمتها التي لم تبغض شخصاً بقدرها!_العقد سيدة دينا! الليلة زفافي كما تعلمين بالتأكيد ولديّ موعد مع المزين لا أود التخلُّف عنه!هبطت بنظراتها إلى كفه الممتدة تجاهها مُطالِبة بِثقة.. وبكل انهزامها فتحت حقيبتها لتلتقط كنزها الدفين..وبينما كانت تودعه بعينيها اختطفه منها بلهفة ناقضت بروده الذي يتلبسه منذ بداية اللقاء..والآن ينظر إلى العقد وكأنه جائزته الأثمن على الإطلاق!أكل هذا من أجلها؟!ألهذه الدرجة يحبها؟!ولماذا لم يحبها هي تامر إلى الآن؟!ولماذا لم يحبها حمزة مطلقاً؟!بالرغم من أنها لم تهتم بذلك الشعور يوماً فإنها الآن تريده بشدة..أن يحارب أحدهم من أجلها؛ أن يصر أحدهم عليها؛ربما وسيلتها الوحيدة هو هذا الوحيد الذي يقبع في رحمها؛ربما حانت فرصتها كي تحصل على سعادة هائلة.. وأكثر من رهف!ووقف أخيراً ببطء ثم قال بألم:_أتعلمين؟! أنا وأنتِ لسنا معصومين من الخطأ، ولقد ظلمنا رهف، ربما سامحتك هي، ربما منحتك فرص كثيرة فرفضتِها.وأكد واعداً:_لكنني لن أفعل، سأتشبث بفرصتي معها بأقصى طاقتي، وسأعوضها عن كل ألم سببته لها أنتِ، أو أمك، أو أنا، أو شريكك الحقير. ثم قال بتهكم:_أشكرك سيدة دينا، وأتمنى أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي أراكِ بها!وقبل أن ينصرف تمعنت نظراته بها بِحنق قبل أن يسألها باستغراب:_سؤال وحيد يقض مضجعي ولا أجد له إجابة مُقنعة، كيف تحمل الأخ حمزة حقدك وكراهيتك لثلاثة أعوام متواصلين، بينما أنا الآن أشعر بأن ارتشاف مُستخلَص سُم الفئران لَهو فكرة أفضل من لقائي بكِ لدقائق معدودة فقط؟! عودة إلى الوقت الحالي: ومثلما كان هو يركض لسنوات كي يصل إلى يوم الزفاف الأول فيجد راحة..كانت هي تركُض طوال الشهور الفائتة لهذا اليوم كي تجد نفس الراحة!"أنا_للأسف_ رهف شديد الناجي أُعلن أمامكم أنني أريد الطلاق من ساري صبري رشوان!"وعادت الهمسات بصوت أوضح وتبادل الجميع النظرات المندهشة، وكل من كان بالقاعة حلَّت عليه الصدمة..باستثنائه هو!فرد فعله كان الأغرب على الإطلاق..حيث زفر براحة شديدةثم ابتسم هامساً: "والآن تعادَلنا يا مُشعثَة!" صمت تام إلا من بعض الهمسات المندهِشَة..الساخرة؛تتحداه هي بعينيها أن يعترض؛تدفعه بعينيها لأن يتخلَّى عنها الآن بعد فعلتها؛ بعدما جرحته أمام الجميع؛بعدما عبَّرت عن رفضها له أمام نفس الحضور؛ولو لم تكن بالفعل زوجته لكانت تركته أمام الشيخ قبل أن يمتلك اسمها..تلك كانت خطتها الأساسية قبل أن يُفاجئها هو بعقد القران مبكراً! لكن لا بأس!النظرات الساخرة التي تُحيط بهما الآن تُشعِرها_للغرابة_ بالراحة!تُشعرها أنها لم تعُد رهف الضعيفة؛لم تعُد رهف التي ستتقبل إيذاء الآخرين ساكنة؛حتى عندما سيثأر لكرامته الآن منها سيكفيها أنها دافعت عن نفسها.ها هو الثأر قادم؛ها هو انتقامه يسبقه! وكما المرة الأولى هبَّ واقفاً مُغلِقاً أزرار سترته السوداء، وبخطوات متمهلة كالطَرْق على قلبها اقترب؛ وأمام عينيها تماماً توقف؛وامتدت يده تجاهها فأجفلت؛ليلتقط مُكبِّر الصوت منها لامساً بأنامله ظاهر كفها بتعمُّد واضح....مهلاً!لم يحدث هذا بالمرة الأولى! والتفت مواجهاً الجميع..نظر عَمَّار لمَوَدَّة هاتفاً بحنق: _هل هذه إحدى خططكما العبقرية؟أسرعت مَوَدَّة بالرد: _أقسم أبداً عَمَّار! لم أُفكِّر مُطلقا بمثل هذا، لم أتخيل أصلاً أنها قد تفعلها!وأشاح بوجهه عائداً إلى العروسين المتواجهين؛ألم بألم..عشق بعشق..ثأر بانتقام..مُتمتماً: _لكنه هو كان يعلم، بل كان يعتمد على ذلك!"رهف شديد الناجي!"واسمها الكامل الذي صاح به بصوته الرخيم من خلال مُكبِّر الصوت أشعرها بالرفض؛أشعرها بالسخرية التي يرميها بها الجميع؛فمنذ شهور وبنفس المكان أعلن رجل الأعمال ذائع الصيت الذي يحاول الآن إلصاقها به كذَّب ذلك الادعاء..الرجل وقف وأمام الجميع صرخ بأعلى صوته بأنها ليست ابنته، وبأنها لقيطة!والآن.. نظرت إليه مُستسلمة بكل هدوءالآن سينطق بها.. الآن سينبُذها من حياته للمرة الثانية حِفاظاً على ما تبقى من مظهره تلك المرة.._منذ أشهر كنا هنا جميعاً في نفس المكان، بنفس الحدث، وأمام نفس الحضور.ونظر إليها بأسف متابعاً:_عندما قمت أنا بأكثر أخطائي شناعة، والذي سأظل حتى نهايتي نادماً على ارتكابه. وبحسرة أضاف:_هنا جرحتك، خذلتك، حاسبتك أنتِ على جُرم لم يكن لكِ به ذنب.تسارعت أنفاسها وهي تناظره بدهشة، بينما استطرد بقوة:_لن أتنصل من فِعلتي، وأمامهم جميعاً أعتذر.وكرر بتأكيد شعرت_وحدها_ الرجاء بين طياته: _ أنا آسف لكِ رهف، سامحيني!أطرقت برأسها أرضاً وانفعالها الداخلي يتصاعد..لا تفهم ما يحدث؛ ألم يستمع إلى اعترافها بالرغبة بهجره أمام الجميع؟! ألم ينتبه إلى الجرح الذي أودعته إياه لتوها؟!ألم.... "أريد منكم أن تتطلعوا جميعاً معي إلى شاشة العرض!" رَفَعت رأسها مجفلة..وعقدت حاجبيها بدهشة كما الجميع؛واتسعت عيناها بصدمة كما الجميع؛ وانعقد لسانها بحلقها كما الجميع؛وهي تتطلع عبر الشاشة_كما الجميع_ إلى وثيقة زواج السيدة عايدة من شديد محمود الناجي!!والصمت ساد القاعة من الحضور والعاملين الذين يحضرون ثان زفاف غريب بعد السابق منذ شهور ولنفس العروسين!هبَّ عَمَّار واقفاً بصياح فَرِح لم يصل إلى أحد:_كيف استطعت الحصول عليه؟! ليتابع العريس بقوة خلال مُكبر الصوت:_كما يرى الجميع هنا، زوجتي السيدة رهف هي ابنة تاجر الأخشاب الشهير شديد محمود الناجي، ونصف شقيقة للطبيب عَمَّار شديد الناجي...وبنبرة تحذيرية أردف مُشدداً:_ليست لقيطة كما يدعي البعض، ليست معدومة النسب كما يدعي البعض، وأنا المُهندس ساري صبري رشوان لا أقبل ولا أتهاون في أي كلمة من شأنها أن تُسيء إليها!فاغِرة شفتيها بذهول تنقل نظراتها بين الشاشة وبين الجميع وبين أخيها الذي أخذ يُصفق بلا شعور..وبينه!دمعات تسربت من عينيها وهي تعود لِتُثَبِّت بصرها على شاشة العرض التي تُثبِت أخيراً براءة فقدت الأمل بها منذ سنوات، ثم على الرجل الـ...لا تعلم..الحبيب؟!لا تعلم! الزوج؟!الزوج الذي سيُطلقها الآن وستنكسِر فرحتها بالحصول على انتقامها وستنكسر فرحتها بظهور براءة اسمها!حينما حدَّق هو بها بكل حب العالم؛بكل لهفة العالم؛بكل إصرار العالم؛وأمام كل العالم أردف بِعِشق:_رهف شديد الناجي، أنتِ زوجتي حتى آخر رمق، وأنا لن أتركك مُطلقاً!وعندما أخفض مُكبر الصوت لأسفل هَمَسَت بذهول:_أكنت تعلم أنني سأفعلها؟ أعطاها ابتسامة آسفة وردَّ بنفس الهمس:_كنت أتمنى أن تفعليها!أغمضت عينيها تمنع دمعات تتسابق للهرب: _ألهذا عقدت القران مُبكراً؟وإجابته جاءت بوعد عاشق: _لم أكن لأجازف بكونِك لي ثانية رهف!وجذب كفها برفق ليُزين خنصرها بِحلقة زواج ذهبية لتنتابها قشعريرة ارتجف لها جسدها بأكمله مع استشعارها ملمسه البارد، ثم كان توسله واضحاً:_ أريد بداية جديدة معِك، أريد نهاية سعيدة معِك رهف.دارت عيناها بين الوجوه المصدومة، الساخرة، الفَرِحة، و..الحاقدة!وبكل دهشة العالم؛ وبكل تخبط العالم؛تراجعت بضع خطوات مُلَملِمة أطراف فستانها.. وإلى باب القاعة انطلقت!لتتركه هو..بنفس المكان كما المرة الأولى؛وبنفس الهزيمة كما المرة الأولى؛ وبنفس الحسرة كما المرة الأولى؛مُدركاً أنها لم تُسامِحُه! هب شديد من مقعده مُتمسِّكاً بهاتفه بقوة صارخاً: _ما الذي تهذين به؟ كيف؟فأجابته بحِقد واضح: _هي الحقيقة شديد بِك، لقد تلاعب بي وبك لفترة طويلة، كان يُراقبنا ويسخر منا ونحن نتخبط باحثين عنه. ارتسم حقد أكبر على ملامحه وهو يحاول تخطَّي صدمته؛ ربما هو لم يُعطِه حق قدره فعلاً..وربما يجب تصفية حساباته مع كل من تحداه بأسرع وقت!والتفت إلى أنور الذي استمع إلى مكالمته الهاتفية مع دينا آمراً:_الآن أنور، أريد أن اعرف مكان كلاً منهما الآن، أريد أن أعرف إلى أين سيذهبان بمجرد انتهاء الحفل.نظر له أنور باستغراب ولم يُعقِّب فتابع بابتسامة خبيثة:_أريد أن أُهنئهما بنفسي! وانطلق رنين هاتف مُساعِدُه فانتحى جانباً كي يتلقى المُكالمة.بينما حدَّق شديد أمامه بشرود مُستعيداً عباراتها التي أخبرته أنه "شديد محمود الناجي" كان مُجرد لُعبة في يد طفل دعسه يوماً بحذائه!"ساري صبري رشوان هو من يهددني ويهددك شديد بِك!""ساري صبري رشوان هو من تلاعب بي وبك يا بِك!""ساري صبري رشوان كان يراقبني ويراقبك شديد بك!"الحقير!ابن العامل!ألم يكفه أنه قام بالتشهير به منذ بضعة أشهر على مرأى ومسمع من الجميع في ذلك الزفاف اللعين ليتسلل كالأفعى ويقتنص الشيء الوحيد الذي يُدينه ولم يستطع هو الحصول عليه لسنوات؟!ألم يكفِه إلصاق تلك اللقيطة به؟الآن هو متأكد أنه من تسبب في تدهور عمله..والآن هو من سيتسلَّم دَفَّة الانتقام!"لقد حدثت كارثة شديد بِك!"التفت جانباً لينظر باستفهام إلى أنور الذي هتف فجأة بتلك العبارة فعاجله الأخير بعرض مقطع مُصَوَّر على هاتفه.." كما يرى الجميع هنا، زوجتي السيدة رهف هي ابنة تاجر الأخشاب الشهيرشديد محمود الناجي، ونصف شقيقة للطبيب عَمَّار شديد الناجي...ليست لقيطة كما يدعي البعض، ليست معدومة النسب كما يدعي البعض، وأنا المُهندس ساري صبري رشوان لا أقبل ولا أتهاون في أي كلمة من شأنها أن تُسيء إليها!"لثوانِ ظل مُحدِّقاً بشاشة الهاتف رغم انتهاء المقطع ثم أعاد تشغيله مرة..وثانية..وثالثة..ظل صوت ساري يتردد بغرفة مكتب شديد بك حتى استوعب الأخير مِقدار الكارثة التي حلَّت عليه..فالتأخُّر في الانتقام يجعل الضربة أشد قساوة!وعدُوُه قد أدرك ذلك جيداً وأعد له ببراعة!الضربة القاضية هي..؛فليرُدَّها بكل قوته إذن! وللمرة الثانية يقاطع أنور أفكاره قائلاً:"لقد تركت العروس الحفل.. وحدها!"وعادت الابتسامة الشيطانية أشد وهو يهتف:_ربما حان الوقت لألتقي بابنتي! اندفع مع عَمَّار سابقين الجميع إلى شقة الأخير الذي أخذ يُناديها بصوت عال:_رهف! هل أنتِ هُنا؟ولمَّا جاوبهما الصمت صاح ساري بحنق:_إلى أين ذَهَبَت؟ وأين هو هاتفها؟جاءتهما الإجابة من مَوَدَّة التي دلفت للتو: _هاتفها معي أنا، لقد تركته بحوزتي قبل بدء الــ..زفاف. جذب ساري شعره بغيظ وهو يصرخ:_كيف سأعرف أين هي الآن إذن؟ كيف سأعرف حالتها؟تحدث عاصم بهدوء: _التزموا الهدوء حتى نستطيع التفكير جيداً، ربما هي لدى إحدى صديقاتها. ردَّت مَوَدَّة ببوادر بكاء: _ليس لها أصدقاء على الإطلاق، ليس لها إلا الموجودين هنا!هتف حمزة وهو يُنهي مُكالمته:_لقد أبلغت المشافي وإن_لا قدر الله_ وَصلت إلى أي واحدة سنعرف.اندفع ساري إلى الخارج مُتخلياً عن سُترته ورابطة عُنُقه هاتفاً:_أنا لن أظل هنا، سأبحث عنها بكل مكان.أمسك عاصم بذراعه صائحاً:_أين ستبحث ساري، الفتاة لا تعرف سوى الموجودين هنا، سارة وسما ببيوتهما وإن التجأت إلى إحداهما سنعرف، خالها يسأل في حيهم وسيوافينا بالأخبار، ربما فَضَّلَت البقاء وحدها بعدما تسببت المفاجأة في تشوش عقلها وستعود ما إن تهدأ، ما حدث كان وقعه شديد عليها الليلة.نزع ساري ذراعه وهو يصرخ:_سأبحث في الشوارع، سأبحث بنفسي في حيها القديم، سأبحث في الحي الذي عاشت به وحدها، لن أظل هنا مكتوف الأيدي وأنا لا أستطيع الاطمئنان عليها، بالتأكيد شديد علِم ما حدث بالحفل، وهو ليس بذلك التسامُح ولن يُفلِت تلك الفرصة.أنهى صياحه واتجه للخارج ثم عاد إلى عَمَّار هاتفاً:_أقسم لك عَمَّار أنا لم أمسك ذلك العقد بيدي سوى اليوم صباحاً، وقد أردت أن أرد اعتبارها أمام نفس الأشخاص، لكنني لم أتوقع أنها ستغضب بذلك الشكل!أومأ عَمَّار برأسه مُتمتماً: _أعلم ساري، أنا حتى قد اعتقدت أن حمزة هو من يقوم بتهديد ابنة خالها، لكنني أتفَهَّم موقِفَك تماماً. ثم استدار إلى مَوَدَّة هاتفاً:_سأذهب للبحث عنها، ما إن تعلمي شيء أخبريني!هزت مَوَدَّة رأسها بطاعة بينما انطلق عَمَّار إلى الخارج يصحُبه كلا من حمزة وعاصم الذي انطلق خلف صديقه.أغلقت باب الشقة التي تحولَت إلى مكتباً للترجمة وجرَّت قدميها بتخاذُل حتى ارتمت إلى أقرب أريكة، حيث أغمضت عينيها وأراحت عُنُقها .. تحاول تحديد شعورها فلا تستطيع صدمة.. وراحة؛ ألم.. وارتخاء؛ذهول.. وفرحة؛وبخفوت تمتمت:_"رهف شديد الناجي!"وهطلت دمعتان..ثم بنبرة أعلى كررت: _"رهف شديد الناجي!"وتزايدت دمعاتها..ثم بصرخة عالية هتفت:_"رهف شديد الناجي!"وتدفقت شلالات دمعاتها..ألم..غضب..رفض..حسرة..حقد..ضياع.. كراهية!لدقائق متواصلة تحتضن جسدها بذراعها اليمنى بعدما أبدت اليسرى رغبة في عدم العمل! تبكي أم.. تبكي أب.. تبكي طفولة.. تبكي لقباً حاولت لسنوات التهرُّب منه فلم تنجح والليلة....؛فقط الليلة تمتعت بنظرات الصدمة على وجه الجميع عندما أدركوا أنها ليست كاذبة.. ليست لقيطة.. ليست معدومة النسب! الآن هي ليست معدومة النسب!هي رهف شديد الناجي وتخلَّصت بالفعل من لفظة لقيطة؛والفضل يعود لــ.. ساري!حبيبها وزوجها ورفيق روحها!تحسست حلقتها الذهبية بِحُب هائل، ثم ابتسمت من بين دمعاتها وهي تستعيد ملامحه الواثقة وهو يُعلن أنها زوجته أمام الجميع، بل ويُحذِّر إن أساء إليها أي شخص بكلمة! ساري.. هو من أنقذ اسمها؛ساري.. هو من أنقذ كرامتها؛ ساري.. هو من أهداها مُستقبلاً خالياً من أي عار؛ ساري هو من شَبَّك أصابعه بأصابعها بقوة فَحرر طيور روحها المُقيدة؛ساري هو من_حمداً لله_ لا يزال زوجها! والابتسامة اتسعت لتشمل وجهها كلهابتسامة عشق..حنين.. احتياج..والآن هي ستزيل الشهور الخمس من ذاكرتها وستغُض الطرف عن أي ترصد أو نوايا انتقام؛ لقد جرحها وجرحته..لقد خدعها و"بعلمٍ منه"خدعته! لقد انتقم فيها وانتقمت منه..لتبدأ منذ البداية إذن! ستعود إلى ساري الذي عشِقته منذ رأته للمرة الاولى.. ستعود إلى ساري الذي أهداها لوح من الشوكولاتة لم تتذوق منه قطعة حتى اليوم..ستعود إلى ساري الذي ألقى عليها يوماً أربعة أسئلة فتهرَّبت من إجابتهم خائفة ستعود إليه الآن وتمنحه إجاباتها كلها.."أدركت أنني التقيت رفيق روحي عندما تطلعت إلى عينيك ساري!" "ارتبطت خيالاتي ومُخططاتي كلها بِك منذ اليوم الأول!" "شعورك مُتبادل ساري!"وأردفت مُبتسمة بعشق: "أحبك ساري، أحبك أكثر مما تظُن!"هَبَّت واقفة بنشاط مفاجىء واتجهت إلى المرحاض المُلحق بالمكتب لتغسل وجهها وتُعدِّل من مظهرها.بعد دقائق خرجت تعلو وجهها ابتسامة عاشقة؛الليلة زفافهما ونهاية لكل الآلام؛لكل العذاب والحقد والانتقام؛الليلة سيصبح زوجها لها وحدها؛ستنجب منه أطفال كثيرين؛بعيون خضراء وأهداب مُشعثة؛وإن كان هَرَبها من الزفاف قد أغضبه ستُصالحه بين أحضانها؛ها هي خطواته على الدرجات تصعد؛ها هي خطواته منها تقترب؛ها هي طرقاته على باب قلبها تتعالى؛مهلاً!إنه ليس.. حبيبها؛بل.. الوجه القاسي! "والآن مُبارك الزواج والنسب..يا ابنتي!"مَسَحت مَوَدَّة دمعاتها وهي تلتقط هاتفها بلهفة لينعقد حاجباها وتتأفف هاتفة:"هل هذا وقت مُناسب سيدة نادية؟!"ثم فضَّلت أن ترد عليها كي لا تتسبب في إشغال الخط وقتاً أطول فَرَحَّبَت بها باقتضاب وسألتها المرأة بقلق واضح:_كيف حال الآنسة رهف الآن؟"هل انتشرت الأخبار بتلك السرعة؟!" أجابتها مَوَدَّة باختصار:_لازلنا لا نعلم سيدة نادية، إذا حلَّ جديد سأخبرك.لتُعلِّق المرأة باستغراب:_هل لازالت بالمكتب؟سألتها مَوَدَّة بترقب:_أي مكتب؟فأجابتها المرأة بسرعة:_مكتب الترجمة، لقد أتتني منذ ساعة حالتها سيئة للغاية، وجهها مُلَطَّخ وباكية وطلبت مني مُفتاح المكتب كي تـ... ولم تستطع المرأة إتمام عبارتها حيث أنهت مَوَدَّة المكالمة وهي تهاتف زوجها هاتفة ما إن رد:_عَمَّار! رهف بمكتب الترجمة!بيد مُرتجفة مال ساري ليلتقط الجزء الإضافي من حجاب زفافها المُلقى أرضاً وهو يُحدِّق به بوجه شاحب ذاهل، ثم أخذ يُقَلِّبه بين يديه بلا استيعاب وهو ينقل نظراته بينه وبين مُرافقيه الثلاثة بضياع مُنتظِراً تأكيداً قد صار لديه بالفعل..كانت هنا!حبيبته كانت هنا! زوجته الغاضبة كانت هنا وهو لم يُفكر بالبحث عنها هنا! انطلق صوت عاصم بنزق:_سأقوم بإبلاغ الشرطة! ليُسرِع حمزة هاتفاً:_إياك! أولاً لن تفعل الشرطة لنا شيئاً طالما لم يمُر أربع وعشرون ساعة على إختفائها، وثانياً إن اتهمناه لن يصدقنا أحد، فهو الآن أمام الجميع والدها! وبينما أخذ عاصم وحمزة يتناقشان في طريقة للتصرف تبادل ساري وعَمَّار نظرة واحدة علِما من خلالها خطوتهما القادمة!اقتحم عَمَّار وساري يتبعهما عاصم وحمزة فيلا شديد محمود الناجي فتعالت صيحات الخدم المستنكرة، لكنها لم تعلو على صياحات ساري الثائرة:_شديد الناجي أيها اللص القاتل!والزمن يكرر نفسه.._أين أنت أيها المجرم؟!ويدور بعينيه في المكان بجنون.._أين هي زوجتي؟ كان يركُل كل ما تطاله قدماه ويداه بلا تركيز وأصوات التحطم من حوله لا يستمع إليها على الإطلاق بينما يُحاول حمزة تهدئته، أما عَمَّار فقد انطلق إلى غُرف الفيلا يتبعه عاصم يصيحان بجنون مناديين اسمها.. عندئذٍ ظهرت نهال من إحدى الغرف هاتفة بِذعر: _ما هذه الفوضى؟ ماذا يحدث؟ سأبَلِّغ الشرطة حالاً! قفز ساري تجاهها فأجفلت لكن حمزة حاول جذبه بلا جدوى، بينما صرخ هو بوجهها بهياج:_أين زوجك؟ أين شديد القذر ذاك؟صرخت به نهال مُحاوِلة إخفاء هلعها: _لا أعلم، هو ليس هنا، من أنت؟وحقاً لو لم يقف حمزة حائلاً بينه وبينها لكان فقد صوابه تماماً وهو يصيح بها: _أنا زوج ابنته التي اختطفها الحقير الليلة، وأقسم أن أجعله يندم إن وضع يده عليها!وصل عَمَّار أخيراً واضعاً جسده بجوار حمزة حائلاً بين ساري وأمه وهو يتوسلها: _أرجوكِ أمي، أرجوكِ إن كنتِ تعلمين أي شيء عن مكان أبي أو مكان أختي أخبريني.ظهر العِناد على وجه أمه وهي تبتسم ببرود قائلة:_أنا لا أعلم شيء عن أبيك عَمَّار، ربما لديه بعض العمل، أما أختك تغريد فهي مع زوجتك ببيتك على ما أظن، ولا أعترف بأخت أخرى لك.هنا فقد عاصم_الذي خرج من غرفة مكتب شديد للتو_ أعصابه هاتفاً:_وهل هذا وقت ذلك الهراء يا امرأة؟!ضغط عَمَّار أسنانه بغيظ وهو يتوعد أمامها:_أقسم أمي إن مس أبي رهف بأي سوء سوف أشهد بنفسي ضده، أخبريه بذلك لأنني فاض كيلي معه.وانطلق عَمَّار إلى الخارج بينما أخذ حمزة وعاصم يتعاونان على جذب ساري المُثَبَت أرضاً كالوتد في مواجهة السيدة قائلاً بِوعيد:_لم تُحاسبيه على خيانته لكِ ثم ساعدتِه على التنصُّل من زوجته الأخرى وابنته؟! أنتِ امرأة حقيرة وتليقين به تماماً، أحب أن أخبرك أنه إن حدث شيء لرهف سأبيد الأخضر واليابس اقتصاصاً من كل من شارك في ظُلمها وسأبدأ بكِ أنتِ تحديداً!وانطلق مُسرعاً إلى الخارج ليقفز مع الباقين في السيارة الزرقاء يدورون بالشوارع بلا هدف! رؤية مُشوشة؛وعي ضعيف للغاية؛رأس ثقيل؛خدر عام منتشر بجميع أنحاء جسدها..تحاملت على نفسها حتى استطاعت الجلوس أرضاً مُستندة على العمود الأسمنتي خلف ظهرها، دارت عيناها في المكان تحاول اقتناص رؤية واضحة بالتدريج، لتستشعر الغرفة الواسعة الخالية من كل شيء وأي شيء، ضوء ضعيف يتسلل من أسفل شق الباب الذي لا تعلم ما يوجد خلفه، استندت على كفها الأيمن ووقفت ببطء مُترنِّحة وهي تحاول استرجاع ما حدث كي تصل إلى ذلك المكان، تحسست نفسها لتصطدم بفستان الزفاف الذي فقد رونقه تماماً، تذكرت الزفاف، ثم عقد الزواج، ثم:"أنتِ زوجتي حتى آخر رمق، وأنا لن أتركك مُطلقاً! "ثم هربها إلى مكتب الترجمة.. ثم رغبتها بالعودة إلى حبيبها..ثم...تذكرت وجهه! شديد الناجي أتاها بمكتب الترجمة وقبل أن تعي أي شيء كان يحقنها بسائل ما لم تجد الفرصة لتفاديه و...ها هي هنا! مُختطفة من قِبَل... أبيها!أين هي؟.. لا تعلم!ماذا يُريد منها؟.. لا تعلم!أو ربما تعلم..عجلة الانتقام التي تدور بجنون بلا توقف لِتدهس كل من يقف بطريقها.. وها هو دورها! اتجهت بذعر إلى الباب المُواجه لها وبدأت تدُّق بضعف في بادىء الأمر هامسة: _افتحوا الباب!ولمَّا لم تجد استجابة تحول الضعف إلى إصرار هاتفة:_افتحوا الباب!وعندما كان الصمت هو الإجابة الوحيدة تحول الإصرار إلى هيستيريا بينما صرخت ببكاء:_افتحوا الباب!دقائق متواصلة لم تستطع إحصائها وهي تطرق الباب بشدة تخاذلت بالتدريج مع إعيائها، لكن بُكائها كان صامداً وبقوة وهي تنطق بالاسم الوحيد الذي تتمنى رؤيته تلك اللحظة:_ساري!وساري بدوره كان يدُق باب بيت خالها الذي فتح له الباب بوجه شاحب وعينين زائغتين مُبادراً بذعر:_لقد سألت عنها لدى كل معارفي، بلا جدوى! فصاح ساري به:_أين هي زوجتك؟ ربما تعرف شيئاً! صاح صلاح بازدراء: _لا أعلم عنها أي شيء، لقد طلقتها منذ أيام ولم أرها، ولا أعتقد أنها تعرف شيئاً. وقبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه من ساري الذي بدا وكأنه فقد كل اتزانه تدخَّل حمزة هاتفاً:_أرجوك عم صلاح، بعض التركيز فقط، ربما زوجتك.. أقصد طليقتك على اتصال بشديد وتعرف شيئاً، حاول التواصل معها. طأطأ صلاح رأسه بحسرة:_أقسم لكم لا أعلم عنها أي شيء، لقد طردتها هي وابنتها خارج حياتي تماماً.هنا صاح ساري:_إذن هي ابنتك عم صلاح، ابنتك هي من بدأت برغم تحذيري لها ولن أرحمها!ليتراجع مُهرولاً على درجات السلم فيلحقه حمزة إلى الأسفل حيث عاصم وعَمَّار الذين يهاتفان أُسرتيهما بقلق، وعندما همَّ بالقفز داخل سيارة الأخير استوقفته عبارة صاحب المحل المُجاور الخافتة: _أعوذ بالله! الفضائح والمصائب تُلاحقنا بسببها حتى بعد تخلُّصنا منها، ستر الله أعراض نساءنــ.....والكلمة الأخيرة بترها الرجل رغماً عنه عندما توجهت قبضة ساري إلى فكُّه فارتد إلى الخلف وسقط أرضاً تعلو ملامحه الذهول، وعلى غير العادة لم يتدخل أحد من رفاق الأول لِمنعه فانطلقت عبارة أنثوية من أقرب شُرفة تقف صاحبتها كما الآخرون تُشاهد ما يحدث باستمتاع حتى قررت أن تدلي بدلوها صائحة بصوت عال: _لِمَ تضربه؟، هو مُحق، كنا قد ظننا أننا استرحنا من تلك اللقيطة وأصبح الحي نظيفاً من أمثالها، لماذا تعود سيرتها الآن كالوباء الذي لا نجد منه شفاءً؟! متى سنتخلص تماماً من تلك اللعنة؟!عندئذٍ صرخ ساري بأعلى صوته وهو يتوسط ساحة الحي دائراً بعينيه بين المُشاهدين بثورة:_رهف ليست لعنة! رهف أطهر منكم جميعاً، اللعنة أنتم، والوباء أنتم، والظُلم أنتم، والعار أنتم! مجموعة من المنافقين السُفهاء تتركون الجاني وتُحاسِبون الضحية!ثم نظر إلى المرأة بطريقة أرعبتها صائحاً بها:_أخبريني أيتها السيدة، هل اخترتِ الطريقة التي أتيتِ بها إلى تلك الحياة؟ هل اخترتِ أبويك؟ هل تعمدتِ أن تُولدي في أسرة طبيعية بين أب وأم مُتزوجين شرعياً ويعلم الجميع بشأنهما؟ وهل كنتِ تستطيعين التحكم في عدم حدوث العكس؟!ثم نظر إلى الرجل الذي لايزال ساقطاً أرضاً يحاول مسح الدماء التي تنبثق من فمه صارخاً:_وأنت! ماذا ستفعل إن تزوجت إحدى نساء عائلتك سراً وأسفر ذلك عن إنجاب طفل؟ هل ستعاقبه هو؟ هل ستترك الظالم وتُحاسب المظلوم؟!ولم يكن ينتظر حقاً إجابة وهو يعود ليدور حول نفسه صارخاً بالجميع بصوت جهوري: _أنتم ظالمين! أنتم مجانين! فـــ يا من تتشدقون بالطهارة، حاسبوا أنفسكم أولا!فغر عَمَّار فاهه دهشة وهو ينقل أنظاره بين ساري الثائر والعبارة المنقوشة خلفه على باب المحل المُجاور لبناية خالها!!ليعود بذاكرته إلى بضعة شهور للخلف عندما كان يراقب رهف أثناء خروجها مُنهارة من منزل خالها ليُهينها صاحب المحل، وبعدما تلقت مكالمة هاتفية ظلَّت مكانها قليلاً ثم رحلت فتبِعها وهو يُلاحظ من خلال مرآة سيارته الجانبية رجلاً يخفي رأسه بغطاء صوفي فلم ير ملامحه يطبع تلك العبارة على باب المحل، حينها لم يعتقد مُطلقاً أنها من أجلها.. من أجل رهف! ولم يتخيل مُطلقاً بعد ذلك أنه هو من فعل ذلك.. ساري! لقد.. لقد كان دائماً هناك من أجلها، منذ البداية!وبنفس الوقت اقترب ساري من الرجل المُلقى أرضاً مُحدِّقاً به بكل الازدراء هاتفاً من بين أسنانه:_أنت أيها الحقير قد تعمدت إهانة زوجتي أكثر من مرة، أليس كذلك؟!وقبل أن يبحث الرجل عن رد كتم ساري أفكاره بلكمة أشد جعلت رأسه يصطدم بالأرض ثانية موشكاً على فقد وعيه في التو.. وما انتزع الجميع من أفكارهم على اختلافها صيحته المُتوعِّدة:_إن علِمت أن أحداً ما قد واتته الجرأة ليخوض في سيرة زوجتي سأحرقه حياً!وانطلق إلى سيارة عَمَّار يستقل المِقعد المُجاور، وعندما قفز كلا من عاصم وحمزة بالمقعد الخلفي هتف _إلى أين سنذهب الآن؟اقترح عاصم بسُرعة:_هل من الممكن أنها قد تواصلت مع أحد زملائها بالمعهد القديم؟ سأتصل بمريم وأسألها إن كانت قد لاحظت صداقتها مع أحدٍ ما هناك. جاؤه رد عَمَّار المُتحسر:_لم تكن لديها أي صداقات، لم يكن لديها أي مُقربين، ولا أعلم إلى أين سنذهب الآن.والنظرة على وجه ساري كانت مُخيفة.. لكن نبرته كانت أكثر إخافة وهو يرد بهدوء غريب: _أنا أعلم، هيا عَمَّار، اذهب بنا إلى فيلا تامر عزمي! خطوات ثقيلة تقترب؛شيئاً فشيئاً تقترب؛ببطء شديد تقترب؛ثم صمت..!وبمنتهى التوجس زحفت رهف مبتعدة عن الباب الذي تستند عليه، وعلى الضوء الضعيف تعلَّقت عيناها بالمقبض الذي يدور ببطء مثل خطوات من خلفه، ازدردت لعابها بخوف وهي تحاول السيطرة على ارتجاف جسدها المُتزايد هامسة:_يارب انجدني! وعندما فُتح الباب عم الضوء أنحاء الغرفة الواسعة.. أسدلت جفنيها رغماً عنها عندما آلمها الضوء المُفاجىء ثم تكيفت معه بالتدريج ففتحهما لتكتشف أنها ليست غرفة وأنها ليست خالية!بعض ألواح الأخشاب التي يبدو أنها فاسدة لا منفعة منها مُلقاة بكل مكان بلا تنظيم؛ اختطفها أبوها بأحد مخازنه الشهيرة إذن!رفعت عينيها إلى خاطفها لتطالع..قوي البنية؛عريض المنكبين؛فارع الطول؛ قاس الملامح مُظلِم العينين؛لكنه يبتسم!وليته ما ابتسم! هل يمكن أن يمتلك إنسان ما ابتسامة بشِعة؟ كريهة؟ حقودة؟ شيطانية؟!نعم.. ابتسامة شيطانية تلك التي يمتلكها.. أبوها!_كيف تشعرين الآن رهف بعدما حققتِ هدفك أخيراً؟وسؤاله الساخر كان ما ردَّها إلى واقعها مُلقياً عنها تأملاتها في معنى ابتسامته ومُنبِهاً إياها إلى خطورة وضعها الحالي، ولمَّا ظلت تُحدِّق به بذعر واضح أردف وهو يجذبها من ذراعها المُتيبسة بعنف لم تشعر به فعلياً وأوقفها أمامه مُستدرِكاً:_الآن وقد أصبحتِ رسمياً رهف شديد الناجي هل أنتِ مُستعدة لتسلُّم إرثك؟ وأنفاسها المُتسارعة كانت أقوى دليل على هلعها الذي تنطق به كل خلية من خلاياها، ليتابع هو ماحياً ابتسامته مُكتفياً بنظراته المُرعبة:_أخبريني يا ابنتي العزيزة، متى اتفقتِ مع ابن العامل على هدم ما قُمت ببنائه طوال سنوات؟ أخبريني أين التقيتِ به؟ أخبريني هل الزفاف الأول كان ضمن خطتكما سوياً لفضحي أم أنه تلاعب بكِ؟ وأخبريني كيف عُدتِ له ثانية لتقوما بفضحي ثانية أمام الجميع ولتتسببا في انهيار تجارتي وأعمالي؟ أخبريني! والأمر الأخير كان صارخاً، وكأنه كان يحتاج إلى صراخه بوجهها كي يُزيد من ذعرها!_لقد علِمت منذ زمن أن عايدة ستُسبب لي المشاكل، حامت حولي كاللصة حتى تزوجتها سراً، لكنها كانت جشِعة، اِعْتَقَدَت أنني من الممكن أن أتخلَّى عن مكانتي التي ساهم بها والد زوجتي بعلاقاته وأقوم بترقيتها من مكانة نزوة إلى مكانة زوجة حقيقية. ودمعاتها بدأت تنحدر، والذعر أفسح مكاناً للاشمئزاز كي يشاركه ارتقاء وجهها، بينما تابع هو:_لقد اشترطت عليها عدم الإنجاب، لقد حذرتها أنها إن فعلتها لن أعترف بابنها، لكنها اعتقدت نفسها أذكى مني وقررت أن تضعني أمام واقع الأمر وظنت أنني سأضطر إلى إصلاح خطأي وتقبُّل نتيجته.والاشمئزاز بعينيها أزاح الذعر تماماً ودمعاتها تهطُل بلا توقف، وهو يردف:_أمرتها أن تقوم بالإجهاض وأنا سأتحمل مصاريف العملية لكنها كانت غبية!ثم ابتسم بسخرية مُستدرِكاً:_لقد تناست أنني شديد محمود الناجي، لا أُجبر على شيء مُطلقاً، ومن يتحداني أسحقه. واتسعت ابتسامته وهو يُتابع بفخر:_لقد سبقني الموت، كنت أنوي قتلها على أي حال إن أظهرتك أمام زوجتي وابني، وما أخرني أنني علمت أنها فقدت عقد الزواج.ثم مال برأسه مقترباً:_أتتسائلين كيف علمت بذلك؟ لقد سرقتها زوجة أخيها وابتزتني بالأموال، لكنني رأيت أن أرضخ لها فهي كانت أقل الخسائر في ذلك الوقت، وطالما ذلك العقد مخفي.. أنا بأمان.ثم صاح غاضباً: _لكنها كانت أيضاً غبيه وفقدته، لتمر السنوات وتعود مع ابنتها تُشهرانه بوجهي ابتزازاً مرة أخرى، وعندما اعتقدت أنهما يريدان الأموال فوجئت بأنهما لا يرجوان سوى إزاحتك أنتِ من طريقهما.والحقد صرخ بنبرته وهو يُردف: _لكن غباؤهما أوقع العقد في يد ابن العامل كي يُحطم كل ما أملك اليوم!لحظات صمت مُحمَلة بالكراهية والاشمئزاز والألم والحسرة..عندما قطعتها هي أخيراً بسؤال مُرتجِف: _بِمَ شعرت عندما رأيتني للمرة الأولى؟نظر لها بدهشة امتزج بها الغضب، فتابعت بصوت أكثر ارتجافاً: _بِمَ شعرت عندما رأيتني طفلة مع أمي عند باب بيتك تتوسلك الاعتراف بي، وبِمَ شعرت عندما رأيتني بعد سنوات عندما اعتديت على خالي يا شديد بك؟ والارتجافة بدأت تضعف بالتدريج يُزاحمها تماسُك مُستَجد وهي تستكمل:_هل فكرت بي يوما؟ هل انتابتك أي مشاعر أبوة تجاهي؟والاستهجان الذي طلَّ من عينيه لم يُوقفها والتماسك يصعد بنبرة صوتها إلى الأعلى هاتفة: _عندما كنت تبتاع ملابس لعَمَّار وتغريد هل فكرت بكيفية حصولي على ملابسي؟ عندما كنت تبتاع لهما الحلوى هل فكَّرت بكيفية حصولي على مثلها؟ عندما كنت تأخذهم في رحلة إلى مدينة الألعاب هل فكرت بإمكانية زيارتي يوماً لها؟ والسؤال الأخير كان صارخاً بقهر فتابعت بنبرة أضعف: _عندما كنت تضمهما بين أحضانك هل فكرت مُطلقاً باحتياجي لحضن أبوي مثلهما؟وملامحه كانت مُصمتة تماماً وهي تُردِف بألم:_كنت يتيمة، قضيت عمري كله يتيمة وأنت على قيد الحياة، قضيت عمري كله أتلمس حنانك في نظرات الغير فلم أجد.ومسحت دمعاتها وهي تُحِّدِق بعينيه بحقد هائل حتى باتت للمرة الأولى.. تشبهه! _أتعتقد أنني كنت أحارب من أجل الحصول على اسمك أنت؟ أو إرثك أنت؟ أو شُهرتك أنت؟ابتسمت ببطء مُتابعة هازَّة رأسها نفياً:_لم أرغب سوى بالحصول على اسم يلي اسمي كي يقيني احتقار الجميع، لكن_لأكون صريحة معك_ اسمك هذا لا يعنيني بشيء، إرثك ومكانتك وشهرتك لا يعنوني بشيء، وبعدما علمت أي ظالم قاتل أنت أصبحت أُشفِق على عَمَّار وتغريد بسبب كُنيتك التي التصقت بهم! والشرَّ عربد بملامحه وهو يصرخ:_أنتِ فعلاً عديمة التربية! لتضحك باستهزاء مُتحدِّية قائلة:_عُذراً فقد قضيت سنوات عُمري كلها..لقيطة!والنظرة التي ألقاها تجاهها كانت كفيلة باستعادة ذُعرها مرة أخرى وهو يُردد بخفوت: _لو لم تكوني مُجرد طُعم لكنت أنهيت حياتك حالاً عقاباً لكِ على ما قلتِ، لكن_وحتى أصل إلى مُرادي_ سأتركك تتنفسين!وانسحب مُغلقاً الباب بقوة لتستعيد عبارته مِراراً وتِكراراً..طُعم؟عن أي طُعم يتحدث؟! ألم يختطفها انتقاماً منها هي؟!وعندما ضرب الفهم عقلها اتسعت عيناها فجأة شاهقة بخفوت:_ساري!!وساري كان يطرُق البوابة الداخلية لفيلا تامر عزمي حتى فتحت مُدبرة المنزل بخوف ليندفع مُسرعاً وهو يهتف بأعلى صوت: _سيدة دينا!ووصلتها الصيحة بالطابق العلوي فانتفضت بذُعر بينما قفز زوجها من فراشه إلى الخارج مُهروِلاً.. وفي الأسفل وقف شقيق تامر متسائلاً بغضب:_من أنتم؟ وكيف تقتحمون الفيلا بذلك الشكل؟ليرد عَمَّار بحنق: _اعذرنا يا سيد، نحن نريد التحدُّث مع السيدة دينا لا أكثر."من أنت؟ وكيف لك أن تعرف زوجتي؟"صاح بها تامر وهو يهبط الدرجات بسرعة وزوجته خلفه تلطم وجنتيها الشاحبتين وقلبها أوشك على التوقف.تقدَّم ساري من تامر مُحدِّقاً به بقوة صائحاً:_في الواقع أنا لا يُشرفني أن أعرف هذه المرأة، لكنها أذت زوجتي وتسببت باختطافها وأنا هنا لأحصل على كل المعلومات التي تساعدني في العُثور عليها. عقد تامر حاجبيه بغضب هاتفاً:_من هي زوجتك؟ وما علاقة زوجتي بها؟فأجابه ساري بقوة:_زوجتي رهف شديد الناجي ابنة عمة زوجتك، والتي تعاونت مع شديد الناجي كي يجعلها تترك منزلهم، وحدث هذا منذ أشهر حينما كانت السيدة دينا لاتزال مُتزوِجة من الدكتور حمزة_والذي هو حاضر معنا بالمناسبة إن أردت التأكد منه_، ولم تتوقف عند ذلك الحد فسرقت ورقة هامة تخص زوجتي كي تبتز شديد الناجي بها وقد زارته قبل عدة أيام ببيته. وصمت مُتظاهراً بالاستغراب ثم استدرك:_أنت تعرف ذلك الجزء بالطبع، فقد حرصت بنفسي على إرسال مقطع مُصَور إليك تظهر به وهي تخرج من عنده.فغر تامر فاهه بدهشة ثم قال بخفوت:_إذن كنت أنت؟!ليبتسم ساري بتهكم مُعلقاً:_على الرحب والسِعة!وانمحت ابتسامته فوراً وهو يضيف:_لكن زوجتك يبدو أنها لم تتعلم من خطأها ولم تتوقف عن التواصل مع شديد الناجي، واليوم أيضاً تواصلت معه وتسببت في اختطافه لزوجتي!صمت عمَّ أرجاء الفيلا وتامر يُحدِّق بذهول في ساري الذي يُعربِد الحقد بملامحه، حينما انطلقت عبارة السيدة هدى بغضب:_أهذه هي من أدخلتها بيتنا؟ أهذه هي من جعلتها تحمل اسمك تامر؟ أتيت لنا بمُجرمة تُحيك المَكائد؟ كنت أعلم أنها ستجلِب لنا المشاكل!ويتبعها صيحة شقيقه: _ما هذا الهراء؟! شيطانة تعيش بيننا؟ غداً ستتسبب لنا بالمصائب تامر.ونزع ساري عينيه عن عيني تامر ليتجاوزه إلى دينا الواقفة خلفه يرمقها بتحدي مع عودة نفس الابتسامة الساخرة وهو يلاحظ أنها ستفقد وعيها من شدة الرُعب، وبدون أن يبتعد بنظره عنها تحدث بصوت سمِعَه الجميع:_لقد أحببت أن أنصحك وأثير انتباهك إلى نوعية المرأة التي تعيش معها، الله قد أنقذ دكتور حمزة منها، فلُيعينك على ما ابتلاك!وحينها التفت تامر إلى الخلف يصفعها بلا تردد فلم يتحرك أحد من الحاضرين.. لا أصحاب البيت عنها يُدافعون؛ولا الوافدون إلى بحثِهِم ينصرِفون!_كنت أعلم أنكِ جشِعة دنيئة، لكنني لم أعلم أن حِقدِك بلغ هذا الحد!وعندما همَّ بتكرار صفعاته صرخت وهي تحمي وجهها:_انتظر تامر أرجوك، أنا حامل! شهقات متفرقة انطلقت من أفواه أهل تامر وهمَّ حمزة بالتدخل دفاعاً عنها عندما جذبه عاصم للخلف قائلاً بخفوت:_اتركها!أما ساري فقد شعر بالندم يغزوه لوهلة لكنه ما لبث أن تذكَّر حبيبته المفقودة فاكتنفه حِقده مُجدداً.وبوجه شاحب وبصوت مبحوح سألها تامر:_حامل؟! كيف؟ومن بين دمعاتها هتفت :_حامل تامر، أحمل طِفلَك، أشعر بجميع الأعراض منذ مدة، وغداً سأُجري التحليل لأتأكد.هنا أرخى يده وهو يضحك عالياً حتى نظر له الجميع بدهشة، وعندما انتهى مال على إحدى ركبتيه مُحدِّقاً بعينيها وبصوت واضح قال:_أنتِ لا يُمكن أن تكوني حامل مُطلقاً دينا إلا في حالة أنك قد خُنتني! وكان أول من فهم هو ساري الذي رفع حاجبيه دهشة بينما سألت دينا زوجها باستغراب:_لماذا؟ لِمَ تقول ذلك؟ أنا شبه متأكدة من أنني حامل تامر، دعنا نبدأ من جديد مع هذا الطفل و...وأسكتها بإشارة من يده فابتلعت كلِماتها بينما ابتسم هو ببرود قائلاً:_أنا لم أخبرك مُطلقاً بسبب طلاقي بالمرتين السابقتين، وأنتِ اكتفيتِ بالأموال الكثيرة والمصوغات الباهظة ولم تسألي.اتسعت عيناها الدامعتان بتوجس وهو يُردِف بلا اهتمام بشهادة الأغراب الموجودين لأدق خُصوصياته:_أنتِ لن تكوني حامل يوماً مني دينا لأنني لا أستطيع الإنجاب!وتلك المرة شهِقت هي بصدمة وهي تعي أن آخر أحلامها قد طار بعيداً وبلا عودة؛ ومن خلف ظهره رأت بوضوح ابتسامة حمزة التي كانت_وللمرة الأولى_ شامتة!!لا تعلم متى توقفت عن البكاء، ولا تعلم متى استسلمت لذلك الظلام المُحيط بها، لساعات وهي جالسة بمكانها بلا حركة تحاول تخمين قصد كلماته الأخيرة فلا تصل إلا لنتيجة واحدة..هو يُريد ساري.. هو اختطفها من أجل اجتذاب ساري إليه..هو يريد الانتقام من ساري بعدما قام بفضح سره أمام الجميع..والآن لا تود لساري أن يجدها؛لا تود له أن يواجه ذلك الشر مرة أخرى؛ لا تود له أن يسقط في دوامة الانتقام ثانية وهو من استطاع للتو النجاة منها بصعوبة؛فهل ستظل مُحتجزة للأبد ببركان الخطر ولا تستطيع تصوُّر طريقة لإنقاذها بدون تضرر حبيبها؟خطوات ثقيلة ثانية؛تقترب ببطء ثانية؛ تثير الرعب بدقات قلبها مرة أخرى؛وتسبب ارتجافة مذعورة بجسدها مرة أخرى؛ويدور المقبض فتزدرد لُعابها مُحاوِلة إخفاء ذُعرها مُتحفزة لنفس الوجه القاسي؛ لكن لا!إنه ليس هو!وجه آخر ليس بنفس القسوة لكن أكثر..خُبثاً!انكمشت على نفسها بقلق وهي تتهرب بعينيها من تلك النظرات المُريبة التي يرميها الرجل المجهول بها. "مرحباً يا عروس!"ولم تُكلِّف نفسها عناء الرد أو النظر بينما تابع هو: _هل أنتِ جائعة؟!ثم تابع بعد لحظات صمت:_لا تخافي مني، أنا لن أؤذيكِ على الإطلاق، أُدعى أنور بالمناسبة.وعندما أيقن أنها لن تتعاون معه جاءت نبرته الخبيثة مُحذِّرة:_اسمعيني جيداً آنسة رهف، يجب أن تكوني ذكية وتُدركي مقدار قوتك ومقدار قوة خِصمك، لا أنتِ ولا عريسك تستطيعا مُجابهة شديد بك الناجي، يجب عليكِ النجاة بنفسك واختيار جانبك من تلك الحرب، وهو الجانب الذي يحفظ لكِ حياتِك بالتأكيد.رفعت رأسها إليه غير قادرة على محو نظرات الاشمئزاز المُنبَثِقة من عينيها فتابع:_لِذا من التعقُّل أن تتخذي جانب والدك وتُساعديه. ثم أردف متمهلاً:_أعتقد أنني بإمكاني السماح لكِ بمهاتفة زوجك، لكنك ستطلبين منه أن يأتي بالعنوان الذي سأخبرك عنه، وبحوزته المبلغ الذي سيطلبه والدك، وليأتِ بمفرده بالطبع!نظرت إليه بِتمعُّن ثم ردَّت بسخرية:_والد! أي والد؟! أنا ليس لديَّ واحداً.ثم تابعت بابتسامة أكثر سخرية:_رباني خالي صلاح، وضمَّني عَمَّار أخي برعايته، ودافع عني ساري زوجي بكل قوته وأظهر براءتي من التهمة التي ألصقها بي سيدك!واحتل الغيظ ملامح أنور فأكملت: _لِذا اذهب إلى سيدك وأخبره أنه إذا نشبت الحرب بينهما سأتخذ جانب زوجي بلا لحظة تردد واحدة، ويجب عليه توفير اللعبة التي يحاول آداءها معي، فأنا لن أخون ساري مُطلقاً.هنا ظهر على حقيقته وهو يرمُقها بحقد هاتفاً: _لتجتمعا في قبر واحد إذن! وتذكَّري أنه أعطاكِ الفرصة وأنتِ من رفضتِها.ابتعد للخلف بضعة خطوات ثم صاح بأعلى صوته:_شديد بِك!ومرة ثانية بغيظ أشد:_شديد بِك!وعاد الترقب؛وعاد الذعر؛وعادت التخيلات السيئة؛ ثم عاد الوجه القاسي؛هتف أنور بضحكة ساخرة وهو يسحب زجاجة تحوي سائلاً لم تدرِ كُنهه من أحد الأركان لم ترها سوى الآن بسبب الظلام :_يبدو أن شُعلة الحب مُتقدة عن آخرها يا بِك!وبينما بدأ أنور في سكْب السائل عشوائياً بجميع الأنحاء لتتسلل رائحته النفاذة إلى أنفها ابتسم شديد بكل غِل العالم:_إذن لنزيد من جُذوتها يا أنور!اتسعت عيناها برعب؛تسارعت ضربات قلبها في وجل؛ وهبت واقفة بكل الذعر؛ومن جيب سُترته أخرج يده التي كانت تحمل عُلبة ثقاب كبيرة، ثم سحب عوداً منها.. وأشعله..!وفي أطراف المدينة وفوق مُقدمة السيارة الزرقاء كان جالساً واضعاً رأسه بين كفيه مُحاولاً إخفاء دمعات القهر والعجز عن الثلاثة الآخرين الذين أدركوا بالفعل ما يتعرَّض له فانتحوا جانباً كي لا يزيدوا من ضغط موقفه.. قال عاصم بخفوت:_لقد عينت أحد الرجال كي يراقب فيلا شديد وسيُخبرنا بمُجرد عودته.فردَّ عَمَّار بغيظ: _شديد بِك ذكي عاصم، هو لا يُقدِم على خطوة بدون الترتيب لها جيداً، وأشك في ظهوره الآن من الأصل. فيُعلِّق حمزة بعصبية:_لندفعه خارج جُحره إذن ولنقوم بإبلاغ الشرطة.ليعترض عَمَّار بنزق:_وماذا إن انتقم فيها حينها وآذاها؟ أنت قلت هذا بنفسك!فيرد حمزة مغتاظاً: _لا أفهم ماذا سيستفيد من أذيتها بالأصل!ليصيح عَمَّار رغماً عنه:_ربما هو لا يبحث عن استفادة بقدر رد الصاع صاعين يا حمزة، أو.. يتلاعب بأعصابنا، من المحتمل أنه سيطلب المال تعويضاً لخساراته المتتالية.أخرجهم صوت رنين عاصم من جِدالهم فردَّ بضيق:"نعم سارة؟.. لا.. لا توجد أية أخبار.. لا أعرف سارة.. كيف تعتقدين أنه سيكون؟! بالطبع مُنهار! صدقيني إن علِمت شيء سأهاتفك فوراً.. إلى اللقاء!"ولم يستطع حمزة منع نظرات الضيق التي اعتلت عينيه وهو يسأله:_أنت لستُ ابن خالتها حقاً، أليس كذلك؟!ضيق عاصم عينيه بدهشة مُتسائلاً:_من تقصد؟.. سارة؟ لا ليست بيننا صلة دماء لكنني أعتبرها مثل مريم تماماً.والجُملة الأخيرة خرجت من عاصم بتعمُّد وهو يُدرك الغيرة الصارخة بعينيه حينما شاح حمزة بوجهه بلا اقتناع يحاول التركيز في الكارثة الحالية.أما هو فكان يُعاني ؛بصمت يُعاني؛بعجز يُعاني؛ لقد أوشك الفجر على الحلول وهو لا يدري مكانها ولا حالتها..بعدما كانت منذ بضع ساعات فقط أمامه.. كانت بين يديه؛والآن هي في غياهب المجهول بين يدي أحقر انسان بالعالم؛بين يدي قاتل!"يا إلهي! اشتقتُ إليكِ رهف! عسى الله أن يحفظك ويرُدِّك لي!"والدعاء الخافت ظل يتردد بين شفتيه عدة مرات بلا إحصاء حتى توقف فجأة وهو ينزع هاتفه من جيب بنطاله ويعبث أزراره بتوتر فانتبه إليه الباقون وتقدموا منه بقلق، بينما صدح صوته مُخاطباً الطرف الآخر:"ألم تصِلكِ أي معلومة؟.. من قابل اليوم؟.. أخبريني بأي حرف تتذكرينه أرجوكِ!"وأنهى المكالمة ليعود لحالة جموده لدقائق، ثم اعتدل فجأة صائحاً:_عَمَّار! أخبرني بكل مخازن أبيك خارج المدينة! اعتصر عَمَّار عقله وهو يحاول تذكُّر ما يستطيع من مخازن أبيه ثم هتف بحماس مفاجىء:_هناك ثلاثة مخازن أحدهم بأطراف المدينة وهو مُهمَل منذ شهور، حتى أنني سمِعت أمي يوماً تنصحه بضرورة بيعه لكنه رفض.قفز عاصم في السيارة هاتفاً:_هيا بنا إذن، ربما يحتجِزها هناك.وفي السيارة أعاد الاتصال بالرقم الأخير صائحاً: _اسمعيني جيداً، أريدك أن تخبريني بكل المخازن التي امتلكها شديد بأي يوم من الأيام، حتى وإن كان قد باعها، أريد أن أعلم أي مكان يمتلكه حتى وإن كان غرفة حقيرة فوق سطح أي بنايه، حتى وإن كان قبراً ما، هل فهمتِني جيداً؟ولمَّا أنهى المُكالمة سأله عَمَّار بفضول:_مع من تتحدث ساري؟ليرد ساري بحقد:_إحدى ضحايا شديد بِك يا عَمَّار! عندئذٍ لم يرغب عَمَّار بمعرفة المزيد!تسللت ببطء وهدوء إلى غرفة المكتب وأخذت تبحث في الأوراق المُتنَاثرة هنا وهُناك وهي تنقل أبصارها بين الباب والمكتب، ثم استلَّت من جيب ملابسها مُفتاحاً للجارور المُغلق دائماً بعد أن قامت باستخراج نسخة أخرى منه، عندئذٍ وجدت ملفات مُنّظَّمة بِدِقَة داخل الجارور الخشبي فبدأت بمُطالعة بعضها باهتمام شديد ومع كل سطر تتسع عيناها بدهشة تتحول إلى ذهول ثم إلى صدمة..فبين يديها الآن ما يُثبِت أن شديد الناجي لم يكن ظالماً لابنته ولأمها فقط..لم يكن ظالماً لأسرة كاملة منذ سنوات فقط..لم يكن ظالماً لزوجها هي فقط.لقد كان غشَّاشاً!بالمعنى الحرفي للكلمة!فعلى مدار السنوات يبدو أنه اكتسب شُهرة مزيفة كتاجر لأفضل الأخشاب في البلد..والآن فقط ستُثبت أنه كما دلَّس أبوته للفتاة ثم اختطفها فإنه دلَّس أخشابه التي يتباهى بها بين الجميع!يقود عَمَّار سيارته بأقصى سُرعة..ويتناقش حمزة مع عاصم في الأماكن الأخرى المُحتَمَل وجودها بها..وينهب هو الطريق نهباً بقلبه قبل عينيه..سيجدها!سيجد حبيبته! والآن سيأخذها بين ذراعيه..الليلة زفافهما ونهاية لكل الآلام؛لكل العذاب والحقد والانتقام؛الليلة ستُصبح زوجته له وحده؛سيُنجب منها أطفال كثيرين؛بعيون خضراء وأهداب مُشعثة؛الليلة لن يسمح لها بأي ابتعاد آخر؛وإن كانت لاتزال منه غاضبة سيُصالحها بين أحضانه؛ها هو الضوء من بعيد قادم..أهو ضوء الفجر؟ أهو ضوء عشقها؟أهو ضوء اجتماعهما الوشيك؟مهلاً! إنه ضوء.. نيران!نيران..نيران..نيران!بكل مكان ترتفع ألسنة اللهب إلى السماءوبشكلٍ ما أدرك أن حبيبته هنا!وقبل أن يتوقف عَمَّار المصدوم بسيارته كان هو يقفز منها مُتعثراً ويصرخ مُنادياً باسمها بلا جدوى.._رهـــف!لا إجابة!وصراخ أعلى:_رهـــف!أيضاً لا إجابة..!وعلى بُعد بضعة أمتار لَمَحه وتعرَّفه، أكثر التماعاً بفضل وهج النيران، فقد كان هديته لها مع الفستان!لينطلق إليه ساقطاً أرضاً وهو يتحسسه بصدمة مُتشبثة بدمعات لاإرادية..السندريلا خاصته عانت مع زوجة الخال وابنتها حتى هربت منهما؛ السندريلا خاصته تركت الأمير وهربت من الحفل قبل الرقصة الأولى؛السندريلا خاصته تُعاقبه الآن بأقوى عقاب؛فراق أبدي رُبما..!ولا يزال مُتشبِثاً بِحذاءها اللامع صارخاً بكل قهر العالم، وكل حسرة العالم، وكل عجز العالم:_رهـــف!

Get In Touch

Cairo , Egypt

darr@elsayad121216.com

+01508281514