يبقى دفء العائلة، هو الأعظم، ولمتها هي الأمان الأبقى، وبغيابها نعيش في غربة وحزن ووحدة، فهي الموطن الدافئ الذي يحتوينا من قسوة الزمان، والملاذ الآمن لأرواحنا، فحافظوا على تجمعها ومحبة أفرادها، وازرعوا شجر الحب داخل جدرانها. تتغير الظروف وتتبدل الأحوال، وتتغير طباع البشر، ويداول الله الأيام بيننا، فنتجرع مُرها، ونستمتع بحلوها، لكن تبقى العائلة الملاذ الآمن في عالم لا يرحم، والجدار القوي المتين والآمن الذي لا يخون أبدًا، ففيه نبحث عن المأوى والظّل عندما نكون ضعفاء، فهي مصدر قوّتنا، وبها تزول مرارة العيش وقسوة الحياة. مرت سبع سنوات منذ ذلك الموقف...تغيرت حياة الجميع بسبب كذبة واحدة.. تدمرت أنفس كثيرة في لحظة.. عائلتان تدمرت حياتهم وأصبحت علاقتهم هشة وضعيفة. الألم يزداد في أنفس الجميع.. أصبحت الثقة معدومة. حدثت أشياء إيجابية مثل زواج نعمة من شاب تقدم لها وهو شاب من المنطقة وحيد والدته لأن والده متوفي ويعيش معها. تزوجت نعمة في غضون سنة بسبب لهفة والدة الشاب على إنجاب نجلها .. ليصبح لديها حفيد.. وهذه كانت أمنية حماتها. وافقت عليه نعمة حتى تثبت للجميع أن سعد لم يكُن في بالها. حملت نعمة وأجهضت مرتين.. كانت تصل إلى الشهر الخامس والجنين لا يكتمل، مما جعل حياتها بائسة.. تعيسة.. لا تخلو من شجارها مع حماتها بسبب الوريث، أقسمت حماتها إن لم تجلب لها الحفيد.. ستزوج ابنها وتجلب لنعمة زوجة ثانية. تسعى نعمة في تلك الفترة بأن تحمل للمرة الثالثة. أما عن هنا فأنهت دراستها بتقديرات مرتفعة.. فأصبحت معيدة في الجامعة. طوال السبعة سنوات الماضية كانت تكرس حياتها للدراسة والعلم فقط. يحاول الجميع إقناعها بالزواج، ولكن هي لم تفكر بهذا الموضوع إطلاقًا.تحسنت علاقتها بأختها نعمة بعد إجهاضها الطفل الأول؛ لأن نفسيتها كانت صعبة.. فحاول الجميع تصليح الأمر فوافقت هنا على مصالحتها بسبب ظروفها النفسية حينها. أصبحت هنا كئيبة.. لا تضحك من قلبها.. بل تكتفي بابتسامة باردة. لم يضغط عليها الحاج صالح في شيء.. بل سامحها الجميع أيضًا.. وقرروا أن يفتحوا صفحة جديدة خالية من سعد وسيرته. لم تنسى هنا حبها الأول، ولم تنسى ذلك الموقف المحفور في ذاكرتها.. تحلم بسعد كثيرًا، ولكن عاهدت نفسها بعدم السماح بالرجوع له بسبب وعدها لوالدها بأن تنسى سعد نهائيًا وهي تحاول. أما عن الحج صالح تدهورت صحته من بعد ما حدث، ولكنه تجاوز الأزمة ويبقى الأثر واضح. أصبح مروان في الجامعة الآن ويخطط لخطبة زميلته في الجامعة، ولكن بسبب ظروف نعمة أُجِلت هذه الخطوة حاليا. كانت نعمة تقيم هذه الفترة عند والدتها بسبب إجهاضها مؤخرًا -يلا بقى يا ست البنات عايزاكي تاكلي الأكل ده كله عشان تتقوي كده وجسمك يرد من تاني. ردت نعمة بوهن: -مش قادرة أكل حاجة يا ماما أنا خايفة أوي وقلقانة إن حماتي تقنع جوزي إنه يتجوز عليا.. وخصوصًا ان دا تاني طفل يسقط مني.. والدكتورة قالتلي مينفعش تخلفي تاني دلوقتي.. وفرصة الحمل ضعيفة.. وحماتي هتموت على حفيد. -سيبيها على الله يا حبيبتي.. إن شاء الله ربنا هيرزقك بالخلف الصالح قريب.. وهنروح لأكتر من دكتورة وربنا هيقف معانا يا بنتي. ردت نعمة بتفكير: -أنا حاسة يا ماما إني عملت حاجة في دنيتي وحشة علشان كده ربنا بيعاقبني عليها. ثم تذكرت ما حدث في الماضي وكذبها وخداعها وإفترائها على سعد وهنا، ولكن نفضت هذه الفكرة سريعًا وهي تقول في سرها: -دي كدبة صغيرة مستحيل اتعاقب العقاب الكبير ده علشان الكذبة الصغيرة دي. ردت عايدة بتأثر: -متقوليش كدا يا حبيبتي ده نصيب ونصيبك جاي إن شاء الله.. أنا مش عارفة بناتي الإتنين مالهم كدا.. دي أكيد عين ولازم أبخر البيت. دخل عليهم مروان وهو يحاول التخفيف عن نعمة قائلًا بمزاح: -يلا يا بنتي بقى بلاش دلع.. شدي حيلك ولا أنتِ وحشك دلع ماما.. من ساعة ما جيتي وأنتِ واخدة الدلع كله واهتمامها. ضحك الجميع وقالت نعمة بتعب: -سيبني أدلع شوية بقالي كتير أوي مدلعتش.. أنا عارفة يا مروان إنك عايز تتقدم لزميلتك وبسبب تعبي أجلت الخطوة دي.. بس أوعدك هكلم بابا وآخر الأسبوع هنروح كلنا نخطبهالك. قبّل مروان رأسها قائلًا بحنان: -أهم حاجة سلامتك عندنا، متشغليش بالك بأي حاجة وقومي بالسلامة عشان نفرح كلنا. ثم وجه سؤاله إلى والدته قائلًا بتساؤل: -اومال هنا فين؟ كل دا مجتش من الجامعة؟ -أيوة والله يا بني لسة مجتش.. هنا مموتة نفسها في الشغل ومش عايزة أي وقت فاضي بقيت أخاف عليها وعلى صحتها.. نفسي أفرح بيها هي كمان وأشوفها في بيت العدل. -سيبيها يا ماما.. متضغطيش عليها.. كفاية اللي حصلها.. مقدرش أنسى إن هنا كانت السبب أنكم توافقوا على خطوبتي؛ لأن بابا مكنش عايز اتخطب قبلها بس هي وقفت جنبي وأقنعته، بقول ياريت سعد ما دخلش حياتنا. -كله نصيب يا ابني ومكتوب.. محدش عارف الخير فين. أما الحال عند سعد فكان مختلفا في أول سنتين من السبعة سنوات الماضية، كان سعد ضائع.. شريد.. لا مسكن ولا عمل ولا أي شيء. كان معه نقود قليلة أجر بها شقة له ولوالدته، ظل يبحث عن عمل لأشهر عديدة حتى لجأت والدته إلى العمل في البيوت حتى تكسب قوت يومها. استمر الحال سنين هكذا عمل فيهم سعد أشياء كثيرة، من ضمن هذه الأشياء.. يغسل أطباق في الفنادق ويحمل أسمنت وطوب وأي شيء. فالمهم يرجع إلى والدته بمال حتى يستطيعا العيش. في يوم.. كان مفوض بحمل أدوات ديكور ومعداتها ونقلها إلى مكان سيصبح قاعة جديدة تقام فيها الأعراس وحفلات الزفاف عمل في ذلك الموقع لأشهر قليلة، حتى فتحت له فرصة عظيمة وهو اقتراحه على صاحب سلسلة القاعات تصميم معين يصلح للقاعة؛ فأعجب صاحب العمل بهذه الفكرة وطلب ضمه إلى فريق وساعده في إكمال دراسته وأصبح مهندس ديكور بعد دراسة ٤ سنوات. كان هذا الرجل صاحب الفضل على سعد وعائلته.. أصبح ذو عمل ثابت ولديه شهادة جامعية، ونقل هو ووالدته إلى شقة كبيرة في مكان قريب من عمله. وأصبح الذراع الأيمن لصاحب العمل. كانت والدته تتواصل مع عايدة من فترة وجيزة في الخفاء، ولكن عندما علم الحاج صالح بذلك ثارعليهم وانقطعت الاتصالات منذ خمس سنوات ولم يعرفوا عن بعضهم شيء. لم تنس لحظات القهر والحسرة التي مر بها ابنها. كان يبكي من الظلم وبُعده عن من كان يسميهم عائلته والبُعد عن حبيبته. كانت تحاول أن تهون عليه كثيرًا، ولكن هي كذلك كانت متأثرة، رجع لهم حقهم من الفيوم. حيث من سنة جاء لهم رجال من الفيوم من طرف عمه. كان يريده عمه وأقاربه لأنه أصبح في لحظاته الأخيرة وكان يريد أن يكفر عن ذنوبه. صحبها سعد إلى الفيوم لمقابلة عائلته. كانت حالة عمه سيئة للغاية، بعد أن انتشر السرطان في بدنه وقرر أن يرد الحق لأصحابه. فسامحه وأخذ ميراثه وأخذ عزاء عمه ورحل للأبد بلا عودة. لم ينسى سعد حبيبته أبدًا.. كان يذهب إلى جامعتها ويشاهدها هناك. يعرف الكثير عنها.. يعرف كل أخبارها وأنها أصبحت معيدة بالجامعة. يشاهدها من بعيد.. يراقبها.. ولكن لم يظهر لها أبدًا. أصبح لديه سيارة فاخرة وبيت واسع، ولكن الفرحة لم تدخل قلبه ولن تدخل إلا باكتمال عائلته.