أشرقت شمس يوم جديد على الجميع تحمل الخير للبعض والبعض الآخر يحمل لهم هذا اليوم مفاجآت صادمة قد تهدم كل شيء. استيقظت هدى متأخرة من النوم لتجد أبنائها وزوجها قد غادروا المنزل ووجدت ورقة معلقة على المرآة مكتوب بها (هدى لم أرد أن أزعجك باكرًا عندما وجدتكِ نائمة والإجهاد واضح على قسمات وجهك أعددت الإفطار لأبنائنا وذهبنا جميعًا حدثيني عندما تستيقظين). علت ثغرها ابتسامة سخرية فهذه هي المرة الأولى التي يصنع فيها حسام معروفًا معها، وأول مرة ينتبه للإجهاد البادي على قسمات وجهها. اغتسلت وتوضأت لتصلي فرضها وإذ برنين هاتفها يصدح بالمنزل عدت مرات نظرت لتعرف هوية المتصل فوجدته ماهر أغلقت صوت هاتفها لتنتهي من صلاتها ثم ستعاود الاتصال به من جديد لتنفذ قرارها. بدأت هدى صلاتها وشعور غريب يتملكها، شعور بالخزي وهي تقف أمام ربها وعلى عاتقها كل هذه الذنوب، بدأت تتذكر كل ما حدث مع ماهر، ومع كل آية كانت تقرأها كانت عينيها تذرف الدموع ندمًا على ما فعلت، ظلت تدعو ربها أن يغفر لها خطيئتها وأن يتقبل توبتها واعدةً إياه عز وجل أن لا تعود لما يغضبه مرةً أخرى. انتهت من صلاتها وكأن قلبها قد غُسِل، وكيف لا تشعر بهذا الشعور بعد لقائها مع ربها وحديثها معه "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". أمسكت هاتفها واتصلت بماهر لتتحدث معه وتخبره بقرارها ولتطلب منه الخروج من حياتها والابتعاد عنها. كان ماهر يقطع غرفته ذهابًا وإيابًا بغضبٍ شديد وهو يعتصر كفيه بغيظ من عدم ردها على مكالماته، وتجاهلها اتصالاته. وإذ برنين هاتفه يصدح في المكان معلنًا عن مكالمة من هدى فتنفس الصعداء وحاول أن يحافظ على ثباته أمامها وأجاب على اتصالها بلهفة زائفة: هدى حبيبتي أين أنتِ كل هذه الأيام، لمَ لا تجيبي على اتصالاتي وأين اختفيتِ؟ أجابته هدى باقتضابٍ قائلة: ماهر أريد أن ألتقي بك للأهمية الآن. تعجب ماهر من طريقتها بالحديث، ولكنه تجاهلها قائلًا: حسنًا لنلتقي في المكان.... بعد ساعة من الآن. أنهت هدى المكالمة وتنفست الصعداء ودعت ربها أن تنتهي هذه المسألة على خير. جلس ماهر يفكر في طريقة هدى معه، ولماذا طلبت هذه المرة مقابلته فهو دائمًا كان يترجاها بل ويُلِح عليها كل مرة كي توافق أن تلتقي به، وهداه تفكيره الشيطاني إلى فكرة قرر تنفيذها إذا ما تحققت شكوكه وفتح أحد الأدراج وأخذ منه ظرف أبيض ودسه بجيب معطفه. في إحدى الأماكن العامة الموجودة على النيل وصلت هدى وبحثت بعينيها على ماهر ولكنها لم تجده يبدو أنها وصلت مبكرًا عن موعدهما، فجلست تنتظره وهي تفكر من أين ستبدأ حديثها معه وكيف ستنهي هذا الأمر بحكمة شديدة كي لا يتهور ماهر ويتصرف أي تصرف يندما عليه هما الاثنان. وصل ماهر بعد وقتٍ ليس بالقليل فلقد تعمد التأخير عليها على الرغم من وصوله إلى المكان قبلها ولكنه قرر أن يراقبها من بعيد كي يمحي الشك الذي انتابه بعد مكالمتها، لكن وجه هدى لم ينبئ عما بداخلها فلقد كانت تنظر إلى النيل بشرود تفكر فيما ستخبره به. جلس أمامها كعادته في محاولة لرسم شوق زائف على ملامحه لها، ولكنها لم تعد تتأثر بهذا الشوق ولم تعد ترغب في سماع المزيد من هذا الكلام المعسول. لاحظ ماهر أن هدى الجالسة أمامه الآن ليست هدى التي كانت معه منذ أيام، فهدى الجالسة أمامه امرأة أخرى غيرها. قطعت هدى حبل أفكاره وتساؤلاته التي قرأتها في عينيه قائلة: ماهر لقد طلبت لقاؤك اليوم لأتحدث معك في أمر هام.. نظر ماهر إليها بترقب منتظر أن تكمل هدى حديثها، بينما كانت هدى تراقب لغة جسده في محاولة فاشلة منها لقراءة ما يدور بخلده، ولكنها لم تكترث لهذا الأمر كثيرًا وصممت أن تكمل ما بدأته فأكملت حديثها قائلة: ماهر لم أنكر أني كنت سعيدة جدًا بحديثنا معًا ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. رجع ماهر إلى الخلف قليلًا وجلس بأريحية تامة فلقد بدأت شكوكه تتأكد له وها قد حانت اللحظة الحاسمة التي سيحقق بها انتقامه منها ونظر لها نظرات ثاقبة. أكملت هدى حديثها معه قائلة: ماهر أنا امرأة متزوجة، وكذلك أنت أيضًا رجل متزوج، لكل منا حياته التي قدرها الله له ليعيشها بحلوها ومرها. ماهر أنا لن أستطيع لقاءك بعد الآن واليوم هو آخر لقاء بيننا. أنهت حديثها ولم تنتظر رده وهمت بالمغادرة إلا أن استوقفها صوت ماهر وهو يتحدث لها قائلًا: هدى اجلسي قليلًا لقد سمعت ما عندك وآن الأوان أن تنصتي لما عندي. جلست هدى أمامه بترقب فهذه هي المرة الأولى التي ترى فيها ماهر يتحدث بهذا الأسلوب. أخرج ماهر من جيب معطفه الظرف وألقاه أمامها على الطاولة بإهمال قائلًا: ما حدث بالماضي لا يمكن أن يتكرر الآن فرفضك لي بالسابق لن أسمح لكِ بتكراره اليوم، فلتلقي نظرة على هذا وأشار بسبابته على الظرف. مدت هدى يدها وهي لاتزال تحت تأثير الصدمة من حديثه معها بهذا الأسلوب والتقطت الظرف لتفتحه وتخرج ما به وهي لاتزال تنظر إليه ثم نظرت إلى ما يحتويه هذا الظرف لتشهق بعدها بصدمة شديدة وهي ترى الصور واحدة تلو الأخرى. تارة تنظر إليه وتارة تنظر إلى الصور أخذت تقلب في هذه الصور والصدمة مرسومة على ملامح وجهها، كيف ومتى صورها هذه الصور. لم تكن تلك الصور سوى صور التقطها ماهر لها أثناء حديثهما في مكالمات الفيديو التي كانت تظهر أمامه بملابسها الخاصة. لكن لفت نظرها تلك الصورة التي تظهر فيها وهي بين ذراعيه عندما سقطت عليه وهي تزوره بمنزل صديقه. أدارت الصورة إليه قائلة: ما هذه الصور هل كانت خدعة منك؟! أكنت تحيك لي مؤامرة لتدميري؟ معنى ذلك أن ما كنت تخبرني به من مشاعر كنت تشعر بها كانت مجرد خدعة؟ ضحك ماهر بشدة على منظرها وهي مصدومة فهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها منذ عدة سنوات, شعر بنشوة وبلذة انتصار فلقد حقق اليوم ما كان يتمناه طيلة هذه السنوات. كانت هدى تنظر إليه بدهشة وقد عقدت الصدمة لسانها، كيف انخدعت فيه إلى هذا الحد؟ كيف غرها كلامه المعسول حتى انجرفت خلفه في تلك النزوة التي ستدمر أبناءها بل وستعصف بحياتها كلها. كادت أن تتحدث ولكن استوقفها ماهر عندما بدأ يتحدث بعدما كشر عن أنيابه قائلًا: ما بكِ أراكِ مصدومة ولكن لمَ هذه الصدمة؟ هل كنتِ تعتقدين أن ماهر شخص ساذج لتخدعيه مرة أخرى، فلقد خدعتِني من قبل عدة مرات, مرة يوم سخرتِ من حبي لكِ وجعلتِني أضحوكة الجامعة لعام دراسي كامل، ومرة عندما ارتميت بسببك بأحضان عاهرة وتزوجتها ودمرتني بل وأفقدتني بعد ذلك القدرة على الإنجاب. ولم تكتفِ بهذا فقط بل تزوجتِ من رجل أعمال ناجح في عمله وتجارته، وأنجبتِ له ثلاثة أبناء، تحيي معه حياة هادئة وأنا لا زلت أدفع ثمن حبي لك حتى الآن، لكن كفى لهذا الحد, آن الأوان أن تدفعي ثمن أفعالك الآن، يجب أن تتدمر حياتك كما تدمرت حياتي، يجب أن تدفعي ثمن سخريتك مني ورفضي في الماضي ورفضك لوجودي الآن. كانت هدى تستمع لحديثه بصدمة أخرستها فعلًا فها هي ترى الآن نتيجة أفعالها ونزوتها، ها هي ستدفع ثمن حب زائف سرقته من الدنيا في لحظات محرمة ومن شخص محرم عليها، لم تدرك أن الدنيا لا تعطي كل شيء كما نتمناه نحن بل كما يريده الله، أدركت في هذه اللحظة خطورة ما فعلته، شعرت الآن بالخوف الشديد على بيتها وعلى زواجها تخشى أن يدمره ماهر لها، بعدما اتضح لها أنه شخص مريض نفسيًا فلا يمكن لإنسان عاقل ومتزن نفسيًا أن يفكر بهذه الطريقة. كان ماهر يشعر بالسعادة العارمة لرؤيتها بهذا المنظر والخوف مرسوم على ملامحها فتحدث ليزيد من توترها ويدمرها أكثر قائلًا: هل لا زلتِ تريدين الابتعاد عني الآن, أم ننسى كل هذا الهراء ونظل هكذا وتستمر علاقتنا معًا؟ كانت كلماته كفيلة بالإطاحة بثباتها الانفعالي الزائف لتخرجها من صمتها مفجرًا بداخلها ثورة عارمة لتتحدث بعصبية: الهراء الحقيقي هو أني سمحت لك من البداية باقتحام حياتي، الهراء الحقيقي هو ثقتي بك والتي لم تكن بمحلها، فكيف لي أن أثق بثعبان مثلك ولم أنتبه لأنيابه التي غرسها بي؟ نظر لها ماهر وهو لا يزال مبتسم ابتسامته الصفراء والتي تنذر بهبوب مالا يحمد عقباه قائلًا: ولا زال هذا الثعبان منتظر فريسته كي ينقض عليها ويدمرها، فأنتِ غير مدركة لخطط هذا الثعبان لذا عليكِ الحذر كل الحذر منه. تحدثت هدى بجمود أربك الأخير منها قائلة: هات ما بجعبتك أيها الثعبان فإذا حاولت تدميري لن أسمح لك بتدميري وسأقف أشاهد جمالك، بل بالعكس تمامًا سأدمرك معي. ضحك ماهر على جرأتها قائلًا: ولماذا هذه الشراسة يا قطتي؟ فأنا لا أريد سوى أن نبقى معًا، وأن تستمر علاقتنا معًا وما لم يكتبه القدر لنا نسرقه معًا ونستمتع ببعضنا البعض.... تحدثت هدى هذه المرة ولكن بغضب نجح أن يزلزل ماهر داخليًا قائلة: مستحيل أن تستمر علاقتنا بعد هذا اليوم، ولن أسمح لك من الاقتراب مني بعد الآن، حتى وإن دمرت حياتي فلن أكون لك يومًا من الأيام، حتى وإن كان معك صور أقذر من هذه فأنا الآن مع الله تُبت وندمت وعندي ثقة بالله كبيرة أنه سيقف معي وأنه سينتقم منك، ووقفت لتغادر المكان ولكنها توقفت للحظة والتفتت إليه ونادت عليه: ماهر! فالتفت الأخير ونظر إليها فقالت بتحدٍ واضح في صوتها وبمنتهى الكراهية نظرت إليه: رفضت بالماضي وكنت أشمئز منك، وإلى اليوم لا زلت أشعر بالاشمئزاز منك. لم تنتظر رد فعله على ما تفوهت به الآن وذهبت بسرعة قبل أن ينهار ثباتها الزائف أمامه ويستغل هذا الأمر لصالحه مرة أخرى. كان ماهر يشعر بالغضب جراء ما سمعه منها فعلى الرغم من أنه وضعها بموقف لا تحسد عليه إلا أنها لا زالت تتعامل معه بشموخ وتعالي كما كان في السابق، فهو أراد كسرها ولكنها سرعان ما أدركت ذلك وسلبته هذه الفرصة. لم يشعر ماهر بمدى غضبه إلا عندما تهشم الكأس بين يديه وجرح الزجاج يده؛ فانتبه وترك الزجاج بسرعة وغادر المكان على الفور وتوجه إلى منزله ليبدل ثيابه ويذهب بعدها لأحمد ليكمل معه باقي أجزاء خطته.