في صباح إحدى أيام فصل الشتاء قررت الذهاب لشراء بعض الأغراض المنزلية؛ حيث كانت السماء الملبدة بالغيوم تنذر بهبوب عاصفةٍ ما، سيتبعها فيما بعد هطول الأمطار, فكانت رائحة المطر تفوح في الأجواء لكنها لم تكن مجرد أمطارًا عادية، بعض قطرات ستهطل وينتهي الأمر، بل كانت أمطارًا ستعصف بسكون حياتها لتزيح الستار عن أعينها لتريها الحقيقة، حقيقة الوهم الذي كانت تظنه حبًا، لتجد أن أجمل أيامها وسنواتها قد ذهبت أدراج الرياح. ذهبت لأحد الأسواق لشراء احتياجاتها المنزلية من الطعام وبعض الأغراض، وهناك كانت تسير وهي تتفقد القائمة التي أعدتها سابقًا كي لا تنسى شيئًا، فاصطدمت بأحدهم واعتذرت منه دون أن تنظر له، وهمت بالذهاب إلا أن استوقفها صوته عندما نادى عليها باسمها "هدى". تجمدت في مكانها واعتلت الدهشة ملامح وجهها المجهد عندما تذكرت صوته، وعاد الزمن بها إلي الوراء عدت سنوات مرت أمام عينيها كفيلم سينمائي ترى مقتطفات من ذكرياتها، ولقطات متتابعة واحدة تلو الأخرى. فقالت لنفسها بشك مستحيل أن يكون هو, هل عاد إلى مصر؟ أسئلة كثيرة كانت تدور برأسها؛ فالتفتت تنظر إليه بتردد لتتحول شكوكها إلى يقين، لتجد أول من نبض له القلب بالحب يقف أمامها كما رأته آخر مرة منذ سنوات لم يغير الزمن من وسامته شيئًا بل زادته تلك الخصلة البيضاء التي ظهرت في رأسه وسامة على وسامته، تبادلا النظرات فيما بينهما بين نظرات اشتياق ونظرات لوم. أخذتهم تلك اللحظة إلى الماضي، الى قصة حب لم تكتمل، لم يدركا حينها كم مر من الوقت عليهما، قد توقف الزمن عند تلك اللحظة لحظة لقائهما معًا جال بخاطرهما مشاعر متضاربة. انتبه الاثنان على صوت إحدى السيدات التي استأذنتهما ليفسحا لها الطريق كي يتسنى لها المرور لتكمل تسوقها، انتبهت "هدى" لما يحدث فاستعادت ثباتها الخارجي، وهمت بالانصراف من أمامه إلا أنه منعها ممسكًا بيدها قائلا: كيف حالك يا هدى؟ لقد اشتقت إليكِ كثيرًا، كنت أتذكرك في كل لحظة مرت في هذه السنوات، لازلتِ جميلة، وكأن تلك السنوات لم تمر عليكِ. -خلصت يدها من قبضته بوجهٍ خالٍ من أي تعبيرات قائلةً بجدية: مرحبًا أستاذ ماهر، وكادت أن تغادر لكنه استوقفها مجددًا قائلاً: هل من الممكن أن نحتسي معًا فنجانًا من القهوة؟. كادت أن ترفض، فأعاد عليها الطلب، ولكن تلك المرة برجاء واعدًا إياها بعدم التأخير قائلًا: أرجو ألا ترفضي طلبي، أعدك لن تتأخري في عودتك للمنزل، فأنا أريد أن أتحدث معك قليلًا. وافقت على مضض، و ذهبا إلى إحدى المقاهي "كافي شوب" الموجودة بالجوار، وجلسا على إحدى الطاولات ثم طلب ماهر من النادل أن يحضر لهما فنجانين من القهوة، وانتظر قليلًا يتابع ابتعاد النادل عن طاولتهما ومن ثم بدأ يتحدث معها قائلًا: كيف حالك يا هدى؟ أين أنتِ لقد انقطعت أخبارك عني منذ سفر صديقينا بعد زواجهما للخارج، وأنا لم أعد أعرف عنكِ شيئًا. بدأ يتحدث معها عن حياته، ويسرد معاناته مع زوجته ويشكو لها إهمالها له ولواجباتها تجاهه، قص عليها حكايته (كانت هناك غاية من كل ذلك). كانت هدى تستمع له، وهي تشعر بعدم ارتياح فقبل أن يحضر النادل القهوة لهما استجابت لحدسها، وهبت واقفة قائلة: عذرًا فحضوري هنا خطأ من البداية، ثم أكملت حديثها وهي تنظر في عينيه بقوة وثبات زائفين لم ينتبه لهما ماهر: أستاذ ماهر ليس من شأنك معرفة أخباري, وتفاصيل حياتي، وأنا غير مهتمة لمعرفة كيف تعاني في حياتك، فكل منّا قد أسس حياته الخاصة به منذ سنوات. -صمتت عندما رأت النادل قد وصل ووضع القهوة على الطاولة أمامهما، وغادر بعدها لتكمل هي حديثها الذي كان كقنبلة موقوتة بداخلها طيلة هذه السنوات، وقد حان وقت انفجارها: أنتِ من شغلت نفسك بمعرفة أخباري ممن كنت أعتقد أنهم أصدقائي، لكن للأسف حتى أصدقائي خانوا ثقتي بهم، وغادرت المكان تحت أعين ماهر المذهولة من رد فعلها. - لم يتوقع ماهر أن تتحول تلك الفراشة الرقيقة إلى قطة شرسة بعد كل هذه السنوات, فلقد اعتقد أن يجدها مشتاقةً لرؤيته وأنها بمجرد أن تراه ستهرب من واقعها المرير إلى أحضانه. (فهو لم يكن يعرف أخبارها حتى وقت قريب، بعدما عثر على حسابها الشخصي على الفيس بوك مصادفةً، وبدأ في متابعة أخبارها، ولكنه أرجأ البوح لها بهذا الأمر في وقت آخر, فلقد زاده ما حدث إصرارًا على الوصول إلى غايته المنشودة، وخاصة بعدما تأكد أنها تحيا مع زوجها وشريك حياتها حياة الحرمان). ابتسم بمكر وهو يتابع اختفائها بهدوء فها هو قد انتهى من الخطوة الأولى في تلك اللعبة القذرة وقف، وأخرج بعض النقود من جيبه ووضعها على الطاولة تحت فنجان قهوته، وأخذ مفاتيحه وغادر المكان سريعًا ليستعد للخطوة الثانية، والتي ستكون بمثابة المفتاح الذهبي الذي سيفتح له الأبواب المغلقة للوصول إلى هدى سريعًا. -قادت هدى سيارتها بسرعة وهي تشعر بالغضب من نفسها فهي لأول مرة ترتكب مثل تلك الحماقة, ضربت مقود السيارة أمامها بعنف، وهي تردد كلمة واحدة: أنا غبية.. غبية. كيف تصرفت هكذا؟ كيف وافقته، و ذهبت معه، وظلت تضرب مقود السيارة ونيران الندم تحرقها(ولكن هل ستظل تلك النيران مشتعلة؟). -وصلت هدى إلى منزلها، و بدأت بترتيب الأغراض التي اشترتها في محاولة منها لنسيان ما حدث اليوم، و لكن هيهات فلقد جعل هذا الموقف ذكريات الماضي تقفز إلى عقلها كسيل جارف اجتاحت كيانها. انتهت هدى من ترتيب الأغراض، ومن أعمالها المنزلية الروتينية، وجلست تنتظر عودة أبنائها من المدرسة. فهدى أمًا لثلاثة أبناء ولدين وبنت، الابن الأكبر كان طالبًا بالمرحلة الثانوية، والابنة في المرحلة الاعدادية، والصغير كان بالمرحلة الابتدائية. عاد الجميع من المدرسة، والتفوا حول طاولة الطعام يتناولون وجبة الغداء معها كعادتهم اليومية، ويتجاذبون أطراف الحديث مع والدتهم التي كانت تجلس شاردة عما دار خلال اليوم معهم. انتبه الابن الأكبر لحالة والدته فسألها عن سبب تلك الحالة فلم تجبه هدى بسبب مقنع، وبررت حالة الشرود بأنهم هم كل ما يشغل تفكيرها, كانت تؤكد تلك المعلومة لابنها، لكنها في حقيقة الأمر كانت تؤكدها لنفسها كي تتوقف عن التفكير فيما حدث اليوم. * في المساء عاد زوجها من عمله متأخرًا كعادته بعدما استسلم أبنائه إلى النوم, فهو منهمك في تجارته لا يعود إلى المنزل سوي لينال قسطًا من الراحة ليعاود الكرةِ في اليوم التالي غير آبهٍ لزوجته، أو احتياجاتها. فنظرته لزوجته لا تتعدى كونها آلة حديدية ترعى منزلها، وأبنائها. ألقى على عاتقها المسئولية كاملةً، وتفرغ لإدارة أعماله نسي تمامًا أن هناك زوجة، وأولاد جميعهم في أشد الاحتياج لما هو أهم وأغلى من المال؛ فهُم يحتاجون إليه هو شخصيًا، لم يكن يدرك أن هناك دور أسمى وأهم من انشغاله بجمع المال و زيادة ثروته, ألا وهو دوره كأب، كان يجب أن يكون له دور فعال في حياتهم، وكذلك زوجته التي نسيّ تمامًا أنها بشر من لحم ودم تشعر وتتألم، لها رغبات ومتطلبات كان يجب عليه أن يلبيها لها، ولكنه أهملها حتى تحول قلبها إلى بستان هجرته أزهاره. تناول طعامه بهدوء فعقله مشغول بالمشاكل التي تواجهه في عمله كالعادة، وكانت هدى تجلس أمامه تراقبه في صمت عله يتحدث معها حتى وإن كان حديثهم سيكون عن أحداث اليوم عله يشبع اشتياقها لحديثه معها ولكن للأسف لم يتحدث قط وظل الصمت هو سيد الموقف. انتهى من تناول الطعام، وحمد ربه ثم توجه إلى غرفة نومهما ليذهب بعدها في سبات عميق، أما هي فذهبت تضع الطعام بالثلاجة وأعادت ترتيب المكان كما كان ثم توجهت بعد ذلك إلى الغرفة كي تستسلم للنوم، لكن هجر النوم عينيها تلك الليلة فلقد هاجمتها أحداث اليوم مرة أخرى، وظلت تتذكرها. كان عقلها يرفض تلك الذكريات ويهاجمها لكن قلبها كان يأبى هذا الرفض، ظلت هكذا حتى اقترب وقت الفجر كانت تنظر إلى زوجها النائم بجوارها تتأمل ملامح وجهه وهي تسأل نفسها: أما آن الأوان لتشعر بوجودي؟ تُرى سيأتي يومٌ نتشارك فيه السعادة ونستمتع بالحياة معًا؟. ظلت هكذا إلى أن سمعت صوت الآذان يصدح في الأجواء استغفرت ربها، وقامت تتوضأ كي تصلي الفجر. أثناء صلاتها أخذت تناجي ربها كعادتها أن يحفظ أبنائها وزوجها وأن يرده لها زوجًا حنونًا محبًا, ثم أخذت تدعو الله أن يهدي قلبها إلى الخير، وذهبت بعدها في نوم عميق فكيف لها ألا تخلد في سبات عميق بعد أن أدت صلاة الفجر؛ فصلاة الفجر لها مفعول السحر على مؤديها تنزل في القلوب الطمأنينة، و الراحة، وهذا ما شعرت به هدى بعدما انتهت من صلاتها.