-أمسك بعلبة السجائر التي كانت أمامه، ووضع واحدة في فمه وأشعلها، بينما عيناه تتابعاني في صمت، أغمض عينيه وهو يرجع رأسه للوراء، ثم قال بخفوت بعد فترة الصمت وهو يخرج عدة أوراق من درج مكتبه وبجانبها مبلغ من المال: أريد توقيعك هنا، هذا عمل لمدة عام واحد، وبعدها لك حق في التكملة أو الكتفاء. عندما لم يتلَقَ مني رًدً ا، طرق على سطح المكتب بعنف حتى كاد يكسر يده، ارتعش بدني بفزع وأنا أراقب عصبيته المفرطة دون سبب واضح. لم يحاول إخفاء نظراته المتفحصة، ولم يكن لد ي حق الرجوع ،عر ض وطلب، هذا هو كل ما في الأمر، كنت أحتاج إلى العمل فطلبت المساعدة، فقدموها لي بطريقتهم، وأنا قبلتها وتم التوقيع. العمل لم يقتصر فقط على المجيء لهنا، بل هناك ساعتين إضافي تين لي لًا. أجبرني على العودة والتركيز عندما ألقى جُملته الطويلة على مسامعي، واستنكرت حديثه، و أجُزم أنه ظهر على ملامح وجهي. كيف لي أن آتي إلى للعمل هنا ليلًا؟ قهقه عاليًا حتى أنني شعرت بمن بالخارج صوبوا أنظارهم علينا! ! -ل تقلقي هذا أون لين ،ل يتطلب حضورك المباشر. قطبت جبيني باستغراب وأنا أفكر، كيف سأفعلها تلك؟ أومأت برأسي دون كلام، فوجدته يشير بيده لرقبته قائلًا: فلنبدأ بي. لحظات حتى تمكنت من فهم ما يريده، وبعدها قلت بخفوت: ل أريد هذا القسم، أنا أجيد تصفيف الشعر أكثر . هذه المرة لم أتلَقَ منه أي بوادر لرد الفعل، ظل على جلسته، ينفث دخان سيجارة في وجهي، وقبل النفس الثاني له كانت "رجاء" تسحبني من يدي كالبهيمة وتدخلني غرفة أخرى، وأنا ل أعلم من أي ن أتت ول كيف ظهرت! * ************* -كانت غرفة ل تقل هيبة عن غرفة مكتب "هاشم"، اللون الأبيض طا غ عليها؛ وعلى جدرانها بعض الصور المُثيرة، لكنها فارغة، فقط سرير ومنضدة طويلة مسطحة، تعرفت عليها من الوهلة الأولى فهي لعمل المساچ . نظرت لها وهذه المرة رأيتها تنظر لي بحسرة، وكالعادة لم تتحدث. -ل أريد هذا القسم المساچ . -وقع ت العقد؟ -نعم. -لم تقرئيه أليس كذلك؟ -نعم. -كنت أعلم ذلك، إذن لم يعد ل ك حق الرجوع أبًدًا. عندما فتحت فمي للحديث مُجددً ا، حدجتني بنظرة أخرستني، نظرة مُفعمة بالحسرة والنكسار!، رغم كل ما رأيت ه عليها إل أنني شعرت بشيء تجاهها، هذا الوضع لم يكن طبيعياً على الإطلاق، هناك خطب ما. -اليوم تعارف فقط، أما العمل سيبدأ من الغد ،أين والداك؟ سؤال باغتتني به لم أكن أتوقعه، وعندما لم تتلَقَ منى رًدًا، باغتتني بغيره: لماذا لم تقرئي الشروط؟ ومن الذي رشحنا ل ك؟ ابتسم ت بحزن لمسني وأكملت: أغرتك كلمة أون لين؟ ل تعب ل مشقة، وغير ذلك ستتقاض ين الكثير من المال! ملتُ برأسي للشمال قليلًا وعين اي لم تتركا عينيها، ابتلعت ريقي بصعوب ة شديدة، حتى بدا اختناقي، ثم قلت بخفوت عندما وجدت صوتي: هل انتهيتُ ؟ -نعم؛ انتهي ت ، المصير مُعلن للجميع، حتى أنه كان بين يديك وأمام عيني ك لكنك لم تتطلعي إليه. تركتني وذه بت، وأنا واقفة بمكاني، جامد ة بلا حراك ،أنظر إلى اللا شيء دون تفكير. *************** -لحظة؛ هذا ما كنت أوده على الإطلاق ،الحرية والستقرار المادي، التخلص من الملل الذي كنت أعاني منه مع أسرتي البسيطة المفككة، الآن ل أريد أن ألقي باللوم على أي أحد، وانما أقول أنني مَن اخترت. *********** -السكون عم المكان واختفت الضوضاء والضجيج شيئاً فشي ئاً، إل أنهم ظلوا كل منهم واق فًا على وضعه ينظرون لي، وأنا أراقب تعبيرات وجوههم في صمت مطبق وكأن أصابني تبلد في الإحساس والمشاعر. إل أنه كان هناك سؤال يدور في ذهني عن هوية كل مَن بالمكان، وبين نظرتين كلُ منهما غير الأخرى وجدت الجميع يقهقهون عال يًا، وتغير الوضع بأكمله في لحظة دون سابق إنذار. تقدمت منى إحداهن ووضعت يدها على كتفي وهي تبتسم، كانت غريبة جدا، ملامحها مصبوغة بالكثير من أدوات التجميل، عيناها سوداوان قات متان، ولون شعرها الأحمر كان جديًدً ا بالنسبة لي، ترتدي شورت جينز من اللون الأسود وكنزة حمالت بين ك ، يبدو أن اليوم للعجائب والغرائب ،إلى الآن لم أعلم ما هي وظيفتي وما الذي سأفعله هنا في هذا المكان! -أنا عبير ، أتيت مُنذ خمسة أشهر، ل تقلقي ستتعلمين سريعًا. -ل أريد قسم المساچ . كأنني لم أتحدث وأخذت تلعق شفتيها بلسانها وهي تنقل نظراتها بيني وبين الجموع الموجودة، تحك مقدمة رأسها تارة وتلعب في أرنبة أنفها تارة أخرى. تثبتت نظراتها على إحداهن فنقلت نظري معها فوجدتها رجاء، تقدمت منها حتى صرت أمامها مباشرة وأنا أردد: أين العقد! أريد رؤيته. طرقت على الأرض بحذائها عدة مرات وهي تنظر للجميع، شعرت لوهلة أنهم ينعتونني بالغبية بينهم وبين أنفسهم، تغاضيت حين وجدتها تربت على ذراعي قائلة: دعك منه، هيا بنا الآن فأنا سأقلل ك لمنزلك في طريقي فعنوانك قريب مني. هوى قلبي في قدمي، سينكشف أمري، فالعنوان الذي أعطتهم إياه لم يكن حقيقيًا . يبدو أنها استنتجت ما أفكر به، فوجدتها تبتسم وهي تسحب حقيبتها السوداء وهاتفها الذي كان مُلقىً أمامها، وتدفعني بلطف أمامها. قطبت جبيني بعدم فهم حينما رأيتها تترك المصعد الكهربائي، وتتوجه عبر السلالم! فأجابتني دون أن أطرح عليها السؤال قائلة: فوبيا المرتفعات. أومأت برأسي واتبعتها في صمت. بالسيارة حين استقللنا وجدتها تسلك طريق بيتي الحقيقي، فنظرت لها ،فابتسمت بسخرية ويدها تقبض على موقد السيارة بقوة برزت عروق يدها قائلة: أنت غبية فجر مثلنا تمامًا، جئ ت هنا كي تشعري بالتحرر لكنك لم تعلمي أنها أول خطوات التقيد ،أغراك العالم الأزرق، لكنك ل تعلمين أنه كالبحر؛ غدار، يجذبك إليه في استمتاع حتى ترتخي وعلى حين غرة يسحق روحك، لست صغيرة أنت، لكنك غبية، تمرد ت على حياتك التي يتمناها الكثير غيرك، هل تعلمين ما فعل ت بنفسك؟ أم أنك ل تريدين التصديق بعد؟ تعلمين أنني كنت متعمدة أن أجعل ك تشاهدين الفيديو المقزز ذاك في الشات الجماعي؟ كان لدينا أمل بسيط في أل يجذبك البحر مثلنا؛ فترتخين فيأخذ روحك دون رجعة. نفيت برأسي عدة مرات غير قادرة على التصديق وتجمدت الكلمات على شفت ي. -اليوم سيهاتف ك هاشم بعد الثانية صباحًا، ل مجال للهرب، معلوماتك كاملة لدينا، لم يدخل أحد الصرح هذا إل إذا كان مكشو فً ا تمامً ا لنا جميعً ا، صد قًا ل ألومك ولكن جميعنا ضعفاء، مُقيدون بسلاسل صلبة من أعناقنا. -سأستنجد بالشرطة. ابتسمت شيئاً فش يئاً حتى صارت ضحكة مُجلجلة، نظرت خارج السيارة وبصقت، وعاودت النظر لي. قطبت جبيني من فعلتها، لكنها رفعت أحد حاجبيها قائلة: -نحن مثل هذه البصقة عند هاشم ل نسوي أي شيء، فقط كالنملة يدهسها تحت قدميه د ون أن يراها أو يلتف لها، تعقلي وغًدً ا نلتقي. صفت السيارة جان بًا وهي تنظر لي، وأنا بمكاني أنظر أمامي، فأرجفني وضع يدها على يدي وهي تقول: لقد وصلنا. نظرت لها كالتائهة وتعلقت أنظارنا، وكأنني كالغريق. -لن يجدي نفعً ا ما تفكرين به، فأنت لم تعلمي الشرط الجزائي بعد. ترجلت من السيارة بحال غير الذي ذهبت به، جررت أذيال َخَيبتي، ول أعلم كيف وصلت لفراشي، وبمجرد ما لمسته غططت في سبات عميق وكأنني ل أحمل همًا على عاتقي.