طائرة إسعاف خاصة تقف في مطار شرم الشيخ، وبجوارها تقف شاهي لا تعلم من المصاب.. فقط هاتف أبلغها بسرعة الحضور إلى المطار.. وسيارة خاصة كانت في انتظارها لتقلها إلى هناك بأقصى سرعة.. وقفت لا تعلم ماذا حدث؟، فقط دقات قلبها المتلاحقة تنبأها بأن القادم لا يبشر بالخير.. انتظرت وعيناها متعلقة بالبوابة.. وبمجرد أن رأت السيارة تأتي منطلقة وبدون وعي رددت اسم حبيبها: وليد.. يا رب لا.. مش هو.. مش بعد ما لقيته، توجعني فيه . توقفت السيارة أمام الطائرة.. واستعد المسعفون بالنقالة الطبية.. لتشاهد زوجها يحمل بالأيدي ويوضع عليها.. ظلت في مكانها.. غير قادرة على الحركة أو حتى البكاء.. اقتربت منها شمس وقصي معها واحتضنتها وهي تقول ببكاء: حيبقى بخير.. متقلقيش . نظرت لهما شاهي بعينان جامدتان وقالت كلمة واحدة: لو جرى لوليد حاجة.. مش حأسامحكم عمري كله . ثم صعدت إلى الطائرة بجوار زوجها.. ووقف قصي وشمس في حالة من الدهشة والصدمة، ولكن أيضًا يستطيعا تفهم مشاعرها وما تمر به الآن، أحترم قصي مشاعرها ولَم يحاول أن يستقل الطائرة معها، بل قام بالإتصال بالمدير لحجز طائرة أخرى خاصة.. ليذهبا بها إلى القاهرة.. وفِي خلال نصف ساعة كانت شمس وقصي في السماء على متن الطائرة، جلست شمس صامتة وهي تبكي.. أحداث كثيرة حدثت لها اليوم.. أوجاع وأحزان من الصعب مداواتها.. خطفها.. صدمتها في شريف.. موته.. إصابة وليد الخطيرة.. ثم رد فعل شاهي.. الكثير والكثير الذي من الصعب احتماله مرة واحدة.. وفوق كل هذا شعور بالذنب الشديد وإحساسها بأنها السبب في كل هذا.. جلست تسترجع كل ما حدث ثم انفجرت باكية.. غير قادرة على التحمل.. ماذا ستخبر والدتها ووالدة شريف؟، كيف ستواجه شاهي لو حدث شيء لزوجها؟، كيف ستكمل حياتها مع هذا الشعور الذي يكبلها بالذنب ويجعلها غير قادرة على مواجهة الجميع؟ حدق بها قصي.. كان يشعر بأوجاعها وبما تمر به.. لم يستطع تمالك نفسه.. أن يراها هكذا بدون أن يحاول مواساتها.. اقترب منها وجثا أمامها على ركبتيه، وأمسك وجهها بكفيه ورفعه ليواجه عيناها الباكيتان.. لم يحتمل رؤيتها هكذا.. كانت كالطفلة الصغيرة التائهة لا تجد من يحتويها.. نظر في عيناها وقال لها: أهدي يا شمس.. عشان خاطري.. متعمليش في نفسك كده . أجابته وهي تكاد تختنق من البكاء: أهدى ازاي؟.. أنا السبب في كل اللي حصل.. شريف جه هنا بسببي.. عرف الملعونة دي بسببي.. وقع في شرها وجاله الإيذر ومات بسببي.. وليد بين الحياة والموت.. وصاحبتي الوحيدة بتكرهني ومش طايقة تشوفني عشان.. كل ده بسببي، وعايزني أهدى طب ازاي؟ بصوت يحمل الكثير من الحب قال: اه تهدي لأن مش أنتِ السبب.. شريف هو اللي اختار يعمل كده في نفسه، أنتِ ما اجبرتهوش، ووليد كان بيحاول ينقذنا، والموقف اللي حصلك أصلًا كله بسببي، بيضغطوا عليا بيكي عشان أتنازل عن الأرض ليهم.. اختاروا أهم حد في حياتي عشان يخوفوني بيه . تأملته شمس من خلف دموعها وقالت: أهم حد في حياتك؟! همس لها بحب وقال: اه أهم حد يا شمس.. أنتِ، أنا كنت حأموت وأنتِ بعيدة عني.. مكنتش قادر أتخيل لثانية واحدة أن ممكن يجرالك حاجة، مكانش قدامي حاجة غير أني ألاقيكي.. مكنتش حأقبل أي حل تاني، أنا بحبك يا شمس، وده مش نتيجة موقف ولا رد فعل للضغط اللي كنّا فيه.. أنا حبيتك من قبل ما أشوفك.. حبيتك من أول ما شفتك في الحلم، ومش ناوي أسيبك أو أبعد عنك مهما حصل . كانت شمس تنظر له في دهشة وتستمع لكلماته.. وهي لا تعلم هل يحق لها أن تشعر بالسعادة الآن؟، أم أنها ستكون مذنبة؟! لم ينتظر قصي إجابتها أو حتى ترك لها المجال للتفكير.. بل جذبها إلى صدره واحتضنها بقوة، كما لو كان يفرض سيطرته عليها ويقول: أنتِ ملكي . أما هي فلم تكن لديها القدرة حتى على الاعتراض.. كانت شاردة.. حزينة.. لم تعي سوى وهي تتشبث به وتطلق العنان لنفسها في البكاء، ولا تريد الابتعاد عنه . وصلت شاهي إلى المشفى مع زوجها ومعه طاقم من المسعفين وانتقل على الفور إلى غرفة العمليات.. ووقفت هي في انتظاره بالخارج.. وبعد حوالي ساعة لحقها قصي وشمس . لم تحاول شمس الاقتراب من صديقتها أو الحديث معها.. هي تعرفها جيدًا.. وتعرف أنها لن تتنازل أبدًا.. انتظرت في صمت.. الجميع كان يقف في انتظار الطبيب.. مرت عدة ساعات.. ثم فتح باب غرفة العمليات ليخرج الجميع ومعهم وليد ممددًا على السرير والممرضين يقومون بنقله إلى العناية المركزة. هرع الجميع نحو الطبيب الذي استقبلهم بوجه جامد لا تستطيع أن تستشف منه أي شيء.. وجه معتاد على تلك الحوادث التي جعلته لم يعد يتأثر أو يهتم، كان قصي أول الواصلين فقال بلهفة: ايه الاخبار يا دكتور؟ نظر الطبيب للجميع وقال: أنتم أهل المريض؟ فأجابته شاهي: أنا مراته . أجابها الطبيب قائلًا: المريض اتصاب برصاصتين واحدة لو كانت دخلت جسمه كان مات في ساعتها، بس ستر ربنا أن الرصاصة جت في السلسة اللي كان لابسها، واتسببت في خدش بسيط في صدره . تنفس الجميع الصعداء وابتسمت شاهي قائلة: الحمد لله.. طب والتانية؟ فأجابها الطبيب: التانية هي المشكلة أصابت منطقة حساسة في العمود الفقري.. وده للأسف حيتسبب في شلل ليه.. لكن مقدرش أحدد دلوقتي الشلل ده حيكون دائم ولا ممكن يتعالج، الوقت لسه بدري على تحديد الحالة بالضبط، احنا الحمد لله أنقذناه من الموت لكن بعد كده حنعمل أشعة عشان نحدد حجم الضرر وقف الجميع في حالة صمت وصدمة شديدة.. إلى أن تحدثت شاهي بذهول وقالت: شلل.. وليد اتشل!.. ازاي؟.. يعني وليد راح مني؟!.. طب ليه؟.. طب اتقابلنا تاني ليه؟، طالما حيحصل كده.. يعني أنا قابلته عشان أعمل فيه كده . ابتعد الطبيب بعد أن أنهى حديثه، وتركهم معًا، حاولت شمس وقصي تهدئتها وقالت: أهدي يا شاهي، إن شاء الله حيبقى كويس ويخف، الدكتور نفسه قال إن احتمال يبقى كويس، اصبري بس . ليضيف قصي: أحنا مش حنسكت، حيتنقل أحسن مستشفى بره مصر، وحنعمل كل حاجة عشان يقف تاني على رجليه . حدقت شاهي فيهما.. ورمقتهم بنظرات تحمل معاني كثيرة وقالت: أنتوا الاتنين السبب، أنتم اللي عملتوا فيه كده.. أنتم اللي حرمتوني منه.. وحرمتوه من سعادته.. أنا بكرهكم، مش عايزة أشوف وشكم تاني في حياتي.. ثم نظرت إلى شمس ووجهت لها كلامها وقالت: أنا مش عايزاكي تاني، مش عايزة أشوفك، ولا اسمع عنك أي حاجة، عمري ما حأسامحك يا شمس، مهما حصل.. كل ما حأشوف وشك حأفتكر اللي حصلي بسببك.. مش حأقدر اتعامل تاني معاكي.. أبدًا . وقفت شمس مصدومة من كلمات صديقتها القاسية، التي ألقتهم كالقذيفة عليها ثم رحلت مبتعدة، كانت الكلمات حادة كطعنات السكين في الجسد، لم تستطع أن تدافع عن نفسها، أو تحاول تهدئتها بل وقفت صامتة.. ظلت ساكنة تشاهدها وهي ترحل مبتعدة بعد أن غرست بكلماتها سكينًا في قلبها وفتحت جرحًا لن يشفى أبدًا . اقترب منها قصي بهدوء وقال: متزعليش يا شمس، أرجوكي متزعليش، هي مش حاسة هي بتقول ايه من الصدمة، لما تهدى حتفوق لنفسها وحترجع عن كلامها كله.. بس أنتِ متزعليش . رمقته بنظرة حزينة وقالت: حتهدى وترجع عن كلامها.. بعد كل اللي قالته . أمسك قصي بيدها وقبلها وقال: صدقيني ربنا ليه حكمة، لو كان عايز وليد يموت كان حيموت، لكن ربنا أنقذه من الموت وأنا متأكد كمان أنه حيخف ويمشي على رجليه، بس نصبر . صمتت قليلًا وهي تصارع العديد والعديد من الأفكار في رأسها ثم أخيرًا قالت: لو سمحت يا قصي، أبعد عني.. كلكم ابعدوا عني، أو أنا اللي حأخرج من حياتكم كلكم، محدش يحاول يكلمني، أو يتواصل معايا.. أي حاجة كانت ممكن تبقي بينا حتنتهي هنا.. علاقتي بيكم انتهت تمامًا، ومش عايزة أشوف حد فيكم تاني. أنهت جملتها ثم التفت لتبتعد عنه تمامًا وتغادر، ولكنه جذبها من ذراعها بقوة شديدة، ووقف في مواجهتها وقال: أنتِ بتقولي ايه؟.. أنتِ أتجننتي؟! أجابته بحدة: لا متجننتش.. بس خلاص أنا مش قادرة، مش قادرة أكمل اللعبة السخيفة دي، أنا تعبت خلاص، مش قادرة استحمل الإتهام اللي اتحطيت فيه، ومش حأقدر اتعامل معاك وأنا كل اللي حصل ليا كان بسببك، أنا خلاص مبقتش قادرة . صاح بها غير عابئ بالمكان ولا الزمان: بلاش هبل يا شمس، متضيعيش كل حاجة عشان قدر مالناش دخل فيه، أنا مش حأسمحلك تعملي كده، ومش موافق . فصرخت به في عناد وتحدي وقالت: وأنا مش بحبك وعمري ما حبيت حد إلا شريف، ومش ممكن أفكر في حد تاني خلاص، شريف مات.. وأنا قلبي مات معاه. حدق بها قصي بغضب شديد، وزاد من ضغطه على ذراعها حتى شعرت أنها ستسحق تحت وطأة قبضته ثم قال: لا ده أنتِ أتجننتي رسمي ومحتاجة تتعالجي، شريف مين اللي بتحبيه، فوقي لنفسك وبطلي كلام فاضي، متخلنيش اتعامل معاكي بغباء . وقفت أمامه وبحدة أشد قالت: حتعمل ايه يعني، ولا تقدر تعملي حاجة، وأخبط دماغك في الحيطة . اشتعلت عيناه بنار الغضب وانتفضت عظام فكيه وقال: أخبط دماغي في الحيطة!، ماشي يا شمس، أنا حأوريكي، ثم حملها على كتفه، كما يحمل الشوال.. ومضى بها مخترقًا طرقات المشفى وسط صراخها وضرباتها المتتالية على ظهره، لا يعبأ بنظرات الجميع الصادمة وهمساتهم.. شق طريقه نحو البوابة بدون أن يعترضه أحد.. كان الجميع يشاهد كما لو كان مشهد من فيلم يتم تصويره في المشفى، حتى أن البعض أخرج هواتفهم والتقطوا الصور والفيديوهات . انطلق للخارج، وألقى بها داخل السيارة ثم جلس بجوارها وأمر السائق بأن ينطلق إلى البيت . ماذا سيحدث؟ وهل سيستطيع قصي أن يجعلها تلين؟