انطلق قصي يقود بأقصى سرعة وهو يضع سماعات البلوتوث على أذنه ويستمع لكل ما يدور بينهم، قلبه كان يدق بشدة خوفًا من أمرين أن يحدث لها شيء أو أن يميل قلبها مرة أخرى لهذا المدعو شريف، كان يستمع لحقارتهما وهو يتمنى بداخله.. أن لا تجزع ولا تستمع لهما.. فهي ملك له هو وحده، وهو الوحيد القادر على أن يمحو كل تلك الأحزان.. قادر على جعلها سعيدة مرة أخرى، ظل يدعو أن لا تنصاع لكلمات شريف وأن يمحى حبه من داخلها ويصبح من العدم ولا يعود ثانيةً، ظل هكذا حتى صدم بما قالته زيلدا في النهاية سقط شريف جاثيًا على ركبتيه.. وجهه يعلوه الصدمة.. لا يتحدث.. فقط جاثيًا.. عيناه تدوران كدوران الأرض حول الشمس.. عقله يحاول أن يعي ما قد قيل منذ قليل.. صرخات قلبه تعلو من الداخل.. تكاد تصم أذنيه.. مشاعر متداخلة ما بين أن العقاب كبير.. ولكن الذنب أكبر . ظلت زيلدا تشاهده وهي تشعر بنشوه بالنصر، ثم غادرت بدون كلمة واحدة، أما شمس فكانت في حالة صدمة شديدة.. كأنها تشاهد فيلمًا من أفلام الرعب التي لا تهواها.. وتتمنى أن ينتهي.. هل هذا شريف؟.. من هذا الشخص؟، إنها لا تعرفه، هل هذا رفيق العمر؟!، وشريك دربها، هل هو من نطق قلبها بحروف اسمه قبل أن ينطق بالكلام؟!، كيف أصبح هكذا؟، كيف خدعت فيه طوال سنوات عمره؟، كيف تحول من طفل وديع لشخصٍ وضيع؟، وكيف ستستطيع أن تثق في أحد مرة أخرى!، بعده.. لقد كان هو الثقة ذاتها . وقفت تراقبه في صمت وبداخلها حالة حرب لا تتوقف.. حتى سمعت صوته وهو يتمتم ويهذي: إيدز.. أنا .. أنا عندي إيدز؟!.. أنا؟!.. وصلت لكده ازاي؟!.. ايه اللي حصل لي؟!.. أنا انتهيت.. انتهيت.. حياتي ضاعت عشان كام ليلة.. مستقبلي كله انهار.. أعيش ازاي وسط الناس تاني؟!.. أقول ايه لأهلي.. للناس ... قبل ده كله أعمل ايه مع ربنا؟!.. أقابله ازاي؟!.. أكفر عن ذنبي ازاي؟!.. العقاب كبير اوي.. عقاب مفيش فيه رجوع.. أنا السبب.. أنا السبب . اقتربت شمس نحوه وجثت بجواره وربتت على كتفه قائلة: اهدى يا شريف.. أهدى واستغفر ربنا.. اطلب مغفرته وعفوه.. وعيد حساباتك تاني.. ربنا غفور رحيم يا شريف.. وأكيد حيسامحك.. بس أنت ترجع عن أي غلط وقعت فيه . لم يستطع أن يواجه نظراتها.. عيناه امتلئت بالدموع.. ظل منكسًا رأسه أرضًا.. يعلوه الندم على ما فعل.. والخجل مما ألحقه بها.. والخوف مما هو قادم: أنا غلطاتي كبيرة اوي.. معتقدش إن ربنا حيسامحني.. ربنا غضبان عليا اوي.. وانتقم مني أشد انتقام . هدأت قليلًا وأجابته: وليه متقولش إن ربنا بيعاقبك في الدنيا، عشان يهونها عليك في الأخرة، ليه متقولش إن ده ابتلاء عشان تفوق وترجع له.. اهدأ يا شريف واستغفر الله.. وربنا قادر على كل شيء . أجابها بحزن: ياااه يا شمس.. ربنا خدلك حقك مني بسرعة اوي.. أنتِ عندك حق، أنا ما استاهلش واحدة زيك، رغم اللي عملته فيكي لكن قاعدة بتواسيني . _ شريف أحنا قبل أي حاجة عيلة واحدة، مهما حصل ده مش حيمحي العشرة والعمر الطويل اللي بينا . لحظات وفجأة عّم المكان هرج ومرج.. أصوات صارخة.. طلقات نارية.. وأقدام تهرول في كل اتجاه.. كانت شمس وشريف في الغرفة المغلقة لا يستطيعان الهروب.. حتى انفرج الباب فجأة ودخلت زيلدا ومعها رجل يحمل رشاش وأشارت لهما بالإسراع للخارج، تقدما الاثنان وشريف يضمها نحو صدره كما لو كان هكذا يستطيع أن يحميها من أي شيء،خرج الجميع من باب الغرفة نحو باب أخر خلفي للبيت، ليجد شريف وشمس سيارة تقف في انتظارهما، وزيلدا ومن معها يدفعوهما للركوب . صرخت شمس رافضة فهي تعلم إن استقلت تلك السيارة لن ترى قصي أو أهلها ثانية، صرخت وحاولت الهروب، ولكن زيلدا استوقفتها قائلة: لو اتحركتي حركة واحدة الرشاش ده حيتفضى في جسمك أنتِ والبيه اللي معاكي . ارتعدت شمس من كلماتها وتوقفت في مكانها وهي لا تعلم ماذا تفعل، ولكنها عقدت العزم على أن لا تنصاع لهم مهما كلفها الامر فقالت: أنا مش حأركب وأعملي اللي أنتِ عايزاه. قبضت زيلدا علي الرشاش بيديها الاثنان وقالت بسخرية: متأكدة؟! فقابلتها شمس بنظرات تحدي وقالت: ايوه متأكدة، وأعلى ما في خيلك أركبيه . علمت زيلدا من داخلها أن أمرهم قد افتضح، وأنه لا يجب أن تترك شهود خلفها لذا اتخذت قرار التصفية، والانتهاء من الأمر حتى يتسنى لها الهروب سريعًا، رفعت الرشاش وصوبته نحو شمس وهي تقول: ماشي يا حلوة.. حتوحشينا.. ثم أطلقت عدة طلقات متتالية من الآلي الذي بيدها لتنطلق وتستقر في صدر شريف الذي قفز أمامها فجأة ليتلقى الرصاص بدلًا منها . صرخت شمس بشكل هستيري وهي ترى شريف يسقط صريعًا أمامها والدماء تتدفق من جسده.. انتابتها حالة من الذعر وهرعت نحوه وجثت على ركبتيها بجواره وعندما حاولت أن تقترب منه وتحتضنه، صرخ بها في ضعف ومع أخر رمق في حياته قال: لا متقربيش.. بلاش تلمسيني . لم تجد شيء سوى البكاء وهي تصرخ: ليه يا شريف؟.. ليه كده؟.. ليه؟! نظر لها بعينان تتصارعان مع الموت.. وأنفاس تحاول أن تستمر حتى للحظات الأخيرة، ثم قال بخفوت: أنا كده كده ميت.. خليني أعمل حاجة كويسة قبل ما أموت.. يمكن.. ربنا يسامحني.. بس أرجوكي سامحيني.. سامحيني يا شمس.. وبلاش تعرفي حد باللي حصل ليا.. بلاش أموت وهما حاسين بالعار.. أحفظي سري . _ حاضر يا شريف.. حاضر محدش حيعرف حاجة . اطمئن قلبه.. وهدأت أنفاسه المضطربة.. وتلاشت رغبته في البقاء.. ثم لفظ أنفاسه الأخيرة.. وسكنت روحه لبارئها.. وسط صرخات شمس وبكائها . لحظات ثم رفعت زيلدا الآلي مرة أخرى نحو شمس وهي متيقنة أن تلك المرة لن تخيب.. ليقاطعها صوت قصي الذي وصل إليهم وهو يهتف بها حاملًا سلاحه: غلطة واحدة بس.. وحتكون نهايتك . نظرت زيلدا نحوه وضحكت بسخرية وقالت: أهلًا بالباشا.. ده الحبايب كلهم هنا، بس حلو.. أنت أكتر واحد أنا محروقة منه، وأهو جيت لحد عندي عشان أخلص عليك، بتقولوها ازاي عندكم، اتشاهد يا حلو على روحك، وصوبت نحوه.. لتندفع رصاصة نحوها، وتخترق كتفها فتسقط أرضًا وهي تصرخ. نظر قصي خلفه.. فوجد وليد صديقه هو من أطلق تلك الطلقة التي أنقذت حياته.. لم يفكر كثيرًا يجب أن يهربوا جميعًا من وسط هذا الصراع القائم وخاصة أن الرجال الذين كانوا مع زيلدا، ذهبوا للاشتباك مع أقرانهم ضد الأمن.. هتف باسمها وهو يدنو منها قائلًا: شمس.. لازم نهرب حالًا.. لازم نمشي قبل ما حاجة تحصل . كانت شمس في صدمة.. لا تدرك ما يحدث حولها.. غير واعية لوجود قصي ووليد.. تجثو بجوار جثة شريف وهي تبكي، اقترب منها قصي أكثر وجذبها نحوه واحتضنها بقوة جعلتها تنتبه لوجوده.. تشبثت به وبأحزانها أكثر وهي تنهار من البكاء.. حملها قصي وهو ما زال يحتضنها ونهض ليتجه نحو السيارة حتى يغادروا هذا المكان . لا يعلم ماذا حدث؟، وكيف حدث هذا؟، لم يستوعب شيء إلا بعد عدة لحظات.. عندما شعر بدفعة من وليد قوية طرحته أرضًا هو وشمس.. ثم سمع صوت طلقات.. تبعه صوت ارتطام جسد في الأرض.. ليستدير مسرعًا نحو الصوت.. فيجد وليد ممددًا أمامه.. والملعونة قد استطاعت أن تصيبه بعد أن أنقذه للمرة الثانية ودفعه بعيدًا عن فوهة سلاحها.. هب مسرعًا نحو صديقه.. وفِي نفس اللحظة صوب سلاحه نحوها وأفرغه بها.. لتسقط صريعة في الحال.. وتنتهي أسطورة زيلدا (الشيطانة الحسناء). هرع قصي نحوه وهو يكاد أن يجن.. وظل يتفحصه وهو يقول: وليد.. وليد رد عليا.. أرجوك رد عليا . نظر وليد لصديقه وقال: خدني من هنا.. عايز أشوف شاهي.. مشيني من هنا بسرعة . استجاب قصي لصديقه، وخاصة بعد أن استطاع الأمن أن يقضي على أغلبية العصابة، وتم القبض على الأحياء منهم، ليسدل الستار على شبكة من شبكات المافيا الإسرائيلية المتوغلة في سيناء الحبيبة . حمل الرجال وليد إلى المقعد الخلفي بالسيارة، وجلس قصي خلف المقود وبجواره شمس.. ثم انطلق يسابق الرياح إلى أقرب مشفى حتى يصل بصديقه في الوقت المناسب.. وقبل فوات الأوان .