الآلام شديدة في جسدها.. طنين يكاد يسحق رأسها.. تشعر أنها تسقط نحو القاع.. تحاول جاهدة أن تطفو ولكن أحمال ثقيلة تمنعها.. حتى جفناها لا تستطيع فتحهما.. الظلام يحيط بها.. حواسها جميعها معطلة.. عالمها مبهم لا تستطيع التعرف عليه.. فقط كل ما تدركه هو الألم.. والسقوط.. ظلت مستلقية تحاول أن تقاوم هذا الإحساس.. أضواء تلمع وتختفي تراها من بين رموش عيناها الشبه مغلقتان، أصوات بدأت تصل إلى مسامعها.. لا تستطيع الجزم ما هي.. عقلها يحاول أن ينتشلها من حالة الهذيان لتعود مرة أخرى إلى الواقع.. جسدها يرتج من الحركة الدائمة.. إذن هي في سيارة.. سيارة مسرعة جدًا.. والأصوات التي تصل إليها.. أصوات السيارات الأخرى.. حاولت جاهدة أن تتذكر أين هي؟ وماذا حدث؟، ولكن كل شيء يبدو مشوش لها . بدأت تقاوم رغبتها في الاستسلام.. وتفتح عيناها بصعوبة شديدة.. ولكن بحذر وحيطة.. تسلل ضوء النهار القوي إلى عيناها فأغشاها.. ثم رويدًا رويدًا بدأت الرؤية تتضح أمامها.. إنها في المقعد الخلفي بالسيارة وبجوارها رجل ضخم أشقر.. وفِي الأمام على المقود رجل أخر، وبجواره فتاة لا تستطيع تمييزها من الخلف، بدأت تستعيد وعيها بعض الشيء وتذكرت ما حدث.. لقد تم اختطافها في هذه السيارة.. ثم كتم أنفاسها بقطعة قماش لها رائحة نفاذة.. ولا تعرف ما حدث بعد ذلك؟، ولكنها في خطر ويجب عليها التصرف . صدمة أصابت الجميع، شلت تفكيرهم، سكون مطبق.. قطعه في النهاية صوت قصي وهو يحمل مفاتيح سيارته ويقول: بلغ اللواء أن الزفت مردوخ هو اللي خطف شمس، خليه يتابع سير العربية أكيد رايحين طابا وحيطلعوا بيها من هناك على فلسطين، لازم نلحقها قبل ما يعدوا بيها، لازم، خليه يبلغ كل الكمائن، لحد الحدود، ويتابعها ويبلغني بيها على طول . قبض وليد على ذراع صديقه وقال: أنت رايح فين؟ حدق به قصي في دهشة قائلًا: رايح وراها.. لو استنيت أكتر من كده، شمس مش حنشوفها تاني.. زمانهم دلوقتي خلاص داخلين على طابا.. أكيد حيستنوا ويعدوا بيها بالليل، لازم ألحق قبل ما تضيع مننا . أشار له وليد قائلًا: استنى.. ثم اتجه إلى الخزينة ووضع أرقام القفل الإلكتروني.. ثم أخرج منها سلاحان ناريان صغيران الحجم وصندوق صغير من الطلقات، وأضاف: يلا بينا . وقف قصي ينظر له ثم قال: لا يا وليد.. مينفعش، المشوار ده خطر، مقدرش أسيبك تيجي معايا . ضحك وليد وقال: خطر.. احنا مفيش حاجة تقف قصادنا، ولا نسيت يا صاحبي.. هاهاها أنا بضحك في وش المخاطر.. أنسى يا قصي أنا معاك للأخر.. مَش حتخلص مني، حنروح نجيبها ونرجع نعمل أكبر فرح لأحلى عرسان وعرايس.. أنا اتضحك عليا في الفرح اللي فات ولازم يتعوض . ثم التفت لزوجته واقترب منها وضمها إلى صدره وقال: متهيألي حأصغر أوي في عينيكي لو قعدت ومعملتش حاجة . تشبثت به واحتضنته بقوة كما لو كانت تتمنى أن تخترق صدره وترقد بجوار قلبه، ليحملها معه دائمًا، ثم قالت والدموع تخنق كلماتها: عارف لو جرالك حاجة، حأموتك، أوعى تسيبني بعد ما لقيتك، أوعى.. أنا كنت ميتة ورجوعك ليا حياني من جديد.. بلاش تموتني تاني . ضمها لصدره أكثر، ودفن وجهه في شعرها، واستنشق عبير خصلاتها المثيرة وقال: أسيبك وأروح فين؟ وأنا مجنون بعد ما لقيتك أضيعك مني، ولا أسيب حد تاني يقرب ليكي.. أنتِ حياتي وأغلى حاجة في دنيتي.. أنتِ اللي حتخليني أرجع.. عشان في حاجة أرجع عشانها . ابتعد عنها وقال لصديقه: يلا بينا، ولكنها استوقفته قائلة: استنى، ثم خلعت من رقبتها قلادة ووضعته حول رقبته، وقالت: فيها صورتنا عشان أفضل معاك على طول . أمسك وليد القلادة بيده يقلبها، سلسلة سميكة من المعدن بها سبيكة معدنية كبيرة وبداخلها صورتين واحدة لها والأخرى له، وضع يده على القلادة ولصقها نحو قلبه وقال في إشارة ناحية القلب: أنتِ دايمًا هنا معايا . غادر الإثنان الفندق، واختار قصي سيارة خاصة من أسطول سياراته، مجهزة خصيصًا للطرق الوعرة والسير في المناطق الجبلية، يستخدمها دائمًا في التخييم، وبها كل المعدات التي قد تلزمه، كما بها صندوقًا سحريًا استطاعا أن يضعا به الأسلحة النارية، حتى لا تصل ليد الشرطة في الكمائن المنتشرة في جميع أنحاء سيناء . استعادت شمس وعيها بالكامل، ولكنها لم تحاول أن تظهر للخاطفين ذلك، كانت تتحين الفرصة التي تسنح لها حتى تستغلها في الهروب، ظلت تتابع كل ما يدور حولها بعينان شبه مغمضتان، استطاعت خلال تلك الفترة أن تحدد هوية الرجلان، كانا يتحدثان العبرية بطلاقة، مع بعض الكلمات العربية، أما الفتاة فكان من الصعب أن تراها، ولكن من صوتها يبدو أنها روسية الجنسية، تساؤلات كثيرة تدور بذهنها الآن، من هولاء؟، ماذا يريدون مني؟، لماذا أنا بالتحديد؟، وأهم ما كان يقلقها، ماذا سيحدث لي؟، جالت العديد من الأمور في ذهنها وأهمها، أمها وأخواتها، ماذا سيحدث لهن؟ حاولت التماسك، والسيطرة على أعصابها، كان المخدر ينسحب من جسدها ببطء، ليحل محله الخوف والفزع، لا تعلم ما سيحدث لها؟، ولكن الخوف الأكبر هو ما سيحدث لأسرتها بعدها؟، حاولت الإنصات لأحاديثهم قدر المستطاع، ربما تستطيع فهم شيء، وأثناء ذلك سمعت الفتاة تقول بالإنجليزية أنه يوجد أمامهم كمين، وأنه يجب الحرص على ألا يتضح للشرطة أي شيء، فهذا هو أخر كمين قبل الحدود . بدأ الأمل يتسلل إليها، ورسمت في مخيلتها خطة أنه عند التوقف هناك ستصرخ وتستنجد بالضباط المتواجدين، ولكن الرجل الذي يقود السيارة قتل هذا الأمل قبل أن يولد وقال أنهم لن يمروا بالكمين، لأنهم سينحرفون قبل أن يدركوه وينطلقوا داخل الصحراء . انطلق قصي في الطريق وخلفه سيارة أخرى مشابهة لسيارته، بها عدد من رجال الأمن التابعين له (البودي جارد)، انطلقت السيارتان نحو طريق طابا.. وكان اللواء أحمد يتابعهم من خلال اللاسلكي والهواتف، استطاعوا من خلال كاميرات المراقبة أن يشاهدوا السيارة في عدة أكمنة، ومن اللوحة المعدنية اكتشفوا أنها جمرك طابا، أي أنها قادمة من فلسطين المحتلة . حاول قصي أن يسابق الرياح حتى يقلص المسافات ويستطيع أن يصل إليها بأقصى سرعة ممكنة، كان مرتعب من فكرة أن يعبروا بها الحدود قبل أن يدركها، فَلَو حدث هذا سينتهي أي أمل له في عودتها، شعور بالذنب كبير تملكه.. إحساس مرعب بأنه قد يكون هناك احتمال أن يفقدها للأبد.. هذا احتمال لن يستطيع التعايش معه . كان يضغط على دواسة البنزين بقوة، حتى كادت السيارة تطير في الهواء وتنقلب بهم عدة مرات، لم يستطع وليد تهدئته أو إقناعه بالتروي، فلا مجال لهذا، قطع طريق دهب ونويبع، وبدأ طريقه نحو طابا في أقل من الوقت المعتاد، حتى جاء إليه اتصال من اللواء يخطره فيه أن سيارات من الشرطة في طريقها إليهم وسينضم أيضا لهم شرطة نويبع وطابا ثم أضاف: أنا أسف يا قصي باشا، العربية اختفت، مظهرتش بعد آخر كمين عدت عليه، المفروض إنها كانت تظهر عند كمين الحدود من نص ساعة لكن مظهرتش . فأجابه قصي سريعًا: يبقي دخلوا الصحراء، بلغني آخر مرة العربية اتشافت في الكيلو كام، وبلغ كل الدوريات تدور على الطريق على إطارات عربية زي بتاعتهم دخلت في الصحراء . وفِي فندق هيلتون طابا، وبالتحديد في غرفة بالطابق الخامس، مطلة على البحر، استيقظ شريف من نومه متأخرًا كما اعتاد مؤخرًا، ظل يراقب وجهها وهي نائمة، يمرر يده على جسدها الذي أفقده عقله، فهو لم يعد يشغله شيء سوى ملذاته، وإرضاء تلك الحية التي ترقد بجواره، حتى والدته لم يعد يحدثها ولا يجيب على اتصالاتها المتكررة، فكيف يفعل؟، وماذا سيقول لها؟، لقد تركت شمس وركضت وراء عاهرة، لا تهتم سوى باحتياجات جسدها فقط، هل يخبرها أن ولدها الذي أحنت ظهرها عليه أصبح زانيًا؟، أم يروي لها كيف يقضي يومه في أحضان امرأة فاجرة، ألقت نفسها عليه بعد دقائق من تعارفهما، هو يعلم أنه ليس سوي رقم من ضمن عدد طويل مر على هذا الجسد من قبل، ويعلم أيضا أنها لن تبقي عليه طويلًا، فهو لا يملك ما يجعلها تطمع في قربه منها، بل هو على يقين بأنها تريده لأمر ما، ولكن لا يعلم ماهيته بعد، ولا يعبأ لذلك، لقد غاص عميقًا في هذا الوحل وأصبح من المستحيل الخروج منه، إنه الآن يدمن هذا الجسد بعد أن كان يدمن السجود على سجادة الصلاة، يعشق لياليهم الحمراء، بعد أن كان يذوب فقط من مجرد النظر في وجه شمس، يستقي من خمرها، ويشتعل من أنوثتها الطاغية، بعد أن كانت مجرد لمسة يد من شمس تجعله يغيب في عالم أخر، نعم هي تملك من الفسق والفجور ما يجعلها تحصل على لقب شيطانة بامتياز، ولكنها شيطانة استطاعت أن تسرق كل حواسه وتمنعه من مجرد التفكير في شيء سوى أن يظل معها . ظل هكذا يحاول التقرب منها، حتى استيقظت ونظرت له نظرة مختلفة رأى فيها احتقار وشعور بالزهد فيه، وعدم الرغبة، حاول أن يشعل رغبتها، ولكنها أدارت له ظهرها ونهرته بشدة قائلة: شيل ايديك عني.. بس بقا، أنت ايه مش بتزهق، أنا بقا زهقت وقرفت، سيبني بقا . إحساس بالغضب والكره زاد بداخله، لقد كره نفسه لما وصلت له، لقد أصبح مثل الحذاء في قدمها، والآن بات حذاءً باليًأ متسخًا لا ترغب به . لم يستطع تحمل هذا، لم يقوى على أن يشعر بالاحتقار لنفسه وباحتقارها له، لقد خسر كل شيء من أجلها، خسر دنياه كلها، اشتعل الغضب بداخله، ولَم يشعر سوى بالسوط الذي تضعه معها بحقيبتها في يديه، ليزيح الغطاء عنها ثم ينهال على جسدها الشبه عاري بالسوط في كل أنحاء جسدها، غير عابئ لما يحدث لها، وسط صرخاتها العالية وتوسلاتها أن يرحمها، ولكن إذا كانت هي الشيطانة، فهو الآن الشيطان بذاته، ظل يضربها بقوة وعندما انتهى منها، لم يتركها، بل قرر أن يذيقها من عذابها له قليلًا، فقام بالاعتداء عليها كما يحلو له، بدون أي مقاومة منها، وعندما انهارت تمامًا، ابتعد عنها وجلس على المقعد يبكي كالمجنون، لا يعلم كيف وصل لهذا؟ مرت ساعتين منذ أن انطلقتا السيارتان من الفندق حتى وصلتا إلى أخر مكان شوهدت فيه السيارة، وعند تلك النقطة، بلغ قصي الجميع أن تظل أعينهم على الطريق من الجانبين حتى يقتفوا أثر إطارات السيارة في الرمال، وبدأت السيارتان رحلتهما ببطء حتى يستطيع الجميع أن يدققوا النظر جيدًا، استمر الحال عشرون دقيقة، وقبل الكمين الأخير بعشرة كيلو مترات، صاح رجل من السيارة الأخرى بأنه رأى أثار سيارة رباعية الدفع تبدو مثل السيارة المطلوبة، توقفت السيارتان على قارعة الطريق، ونزل الرجال لمعاينة الموقف، ثم قرر قصي أن يترك رجل على الطريق ينتظر سيارات الشرطة، في حين تدخل السيارتان في الصحراء حتى تلاحق الخاطفين، ماذا سيحدث؟، وكيف ستنتهي تلك المطاردة؟