داخل شقة بسيطة بحي شعبي كان معتز يحمل أريكة ضخمة ويحاول العبور من الباب فتوقفه أميرة قائلة: انتظر ستجرح دهان الحوائط وأنا لم أفرح بها بعد، أنزلها أرضًا. أنزل معتز الأريكة وهو يلهث ويقول: متى سننتهي من هذا؟ لقد قاربت روحي على الخروج من جسدي من قلة النوم. قالت أميرة بسعادة وهي تقترب منه: وهل ننتقل لشقة أوسع كل يوم، دعنا نفرح يا معتز، فالفرح غالي. نظر لها معتز بنظرة يدعي بها التمنع، وهو يقول: ظنتكِ ستظلين عمركِ نادمة على الفقر الذي ألقيتِ إليه نفسكِ. التصقت به أميرة أكثر وأحاطت عنقه، وهي تقول: مازلت لم تنسَ، رغم أنك يومها عدت لتجدني في المنزل أنتظرك وأعتذر منك على لحظات طيش لم أكن واعية لها صدقني، لقد عدت إليك أعتذر وكلي ندم على ما صدر مني. قال لها معتز وهو يحيط خصرها: وما كان سببه؟ حتى الآن لا أعلم يا أميرة. ابتسمت أميرة وقالت: لا شيء سوى أني وقعت فريسة الكلمات، خدعت يا حبيبي ونسيت أنه رغم ما نسمعه هناك ما لم نعلمه. قال معتز: ما زلت لا أفهم، لكن ما رأيك في الشقة؟ هل تستحق أن أمضي على نفسي إيصالات لثلاثة سنوات قادمة؟ قالت له أميرة بسعادة: ما دامت تجمعنا سويًا إذًا تستحق، إنها نعمة وعليّ أن أحمد الله عليها دومًا، وأن أتذكر الصفعة لكي لا أنسى الدرس. اقتربت أميرة من محل المنظفات، تراجع الطلبات وهي تحاول أن تتخلى عن الأشياء الغير مهمة حاليًا؛ لأن المبلغ الزهيد الذي تحمله لن يأتي بكل النواقص، توقفت قدميها أكثر من مرة وهي تحدث نفسها من شدة التفكير قبل أن تتنهد بتعب وتدخل المحل قائلة: السلام عليكم. وصلها صوت من غرفة جانبية يقول: وعليكم السلام. قبل أن تظهر إمرأة بسيطة ترتدي عباءة سوداء وتقول: أأمريني. قالت لها أميرة: أريد صابون سائل، وكلور و مسحوق لغسيل الملابس، لكن أولًا ما هي الأسعار لديكم؟ لم يأتِ أميرة رد، فرفعت عينيها عن المبلغ الذي لا تتوقف عن عده رغم أنها تعلم عدده، فوجدت المرأة أمامها ترمقها بنظرات لم تفهمها، وبدت ملامحها مألوفة بشكل ما، حاولت أميرة التذكر، ولكن عقلها لم يساعدها مطلقًا، لذلك سألت المرأة البسيطة أمامها بشكل مباشر: هل تقابلنا سابقًا؟ أشعر أن وجهكِ مألوف بالنسبة لي. أسبلت المرأة التي أمامها أهدابها وقالت: أنا سدن والدة آسر، التقينا في مركز التأهيل الخاص بالأطفال منذ ثلاثة سنوات. هبط الإدراك على عقل أميرة كما النيزك الذي يهبط على سطح الأرض مخلفًا زوبعة عنيفة، لتقول أميرة: سدن والدة آسر؟! زوجة الطيار؟! قالت سدن بهدوء: طليقته. قالت أميرة بحرج: نعم أتذكر، كيف حالك وكيف حال آسر؟ قالت لها سدن التي كانت كأخرى زال عنها كل شيء سرق نظرها بالماضي، زالت طلتها المترفة، وضوئها الساحر، وجمالها الملفت ولم يتبق سوى أخرى مكسورة.. مهجورة.. مثقلة.. متعرية الروح. "بخير، نحن بخير" سألتها أميرة محاولة فتح مجال للحديث معها: هل ما زلتِ على تواصل مع سحر؟ لقد كانت تجمعكما علاقة قوية على ما أذكر. ابتسمت سدن وقالت: كانت، حين كان لها مصلحة لدي تجعلها تتسلق عقلي بنعومة الكلمات، لكن حين انتهت المصلحة وتبدلت الأوضاع واحتجت إليها ظهرت المعادن وانفضحت النوايا. قالت أميرة: لا أفهم. قالت لها سدن وهي تتنهد بِهَم: لقد قصدتها مرارًا لكي تساعدني وتجعل زوجها يبلغ والد آسر باحتياجنا للمال فقد صارا صديقين، كنت أناشد روح الأم بداخلها ظنًا مني أنها تشعر بي وقد مرت بمثل ظروفي من قبل، لكنها صارت تتهرب مني ووضعت رقمي على القائمة السوداء، وحين ذهبت لها بنفسي بدت منفعلة وهي تقول لي أنها ما عادت تحتمل إلحاحي، وأعطتني مبلغ وطلبت مني ألا ترى وجهي مجددًا، فتركت المال وغادرت محاولة جمع ما تبقى من كرامتي التي أهينت. قالت أميرة بحزن: سحر منذ فتح الله عليها ورزقها تغيرت كثيرًا، لكن هل لي أن أسألكِ سؤالا يلح عليّ منذ سنوات؟ قالت لها سدن وهي تبتلع غصتها: تفضلي. نظرت لها أميرة بتوتر وقالت: لمَ حين تعرفنا لم أشعر يومًا أن هناك ما ينغص عليكِ حياتكِ؟ لقد كنتِ دومًا سعيدة هادئة، كل شيء فيكِ باذخ بشكل يعكس أنه لا ينقصكِ شيء حتى حديثكِ عن زواجكِ كان يشعر كل من حولكِ أنكِ تحظين بعلاقة زوجية مثالية. ابتسمت سدن وقالت: كلماتي كانت إدعاء يخفي حقيقة مخزية، كان ساترًا أخفي به بشاعة الحقيقة على أن أتقبلها، عليّ من فرط الإدعاء أصدقه، لكن كأني تركت الكلمات تتكوم حتى صارت مقصلة والتفت حول عنقي. ابتسمت أميرة بحزن وقالت: لستِ بمفردكِ من تلاعب بالكلمات، فسحر كانت تستغلكِ بالكلمات، وكانت تكسرني بالكلمات.. فإن كان للكلمات مقصلة فكلنا وقعنا تحت طائلته.. كلنا ما بين مدعي ومخدوع ومستغل، دفعنا الثمن. قالت سدن بحرقة: لا أظن أحدًا دفع الثمن غيري. ابتسمت أميرة وقالت: دعيني أقص عليكي إذًا ما حدث لي، أما سحر فلنجعل أمرها في خانة ما لا نعلمه. انتهت القصة مع وعد بقصة جديدة أخرى تحت عنوان (مقصلة الكلمات)