بعد مرور شهرا طرقات متلهفة فوق الباب الفاصل بين شقتهما يلعن اللحظة التي وافقها فيها لإقامة هذا الباب الفاصل بينهما، وعدم فتح الشقتين لتصبح شقة واحدة، ظل يطرق بفقدان صبر على بابه؟، لا يصدق ما تفعله به منذ ليلة أمس، ما هذا العقاب القاسي وردة فعلها العنيفة، أول مرة يختبر مشاعر الغيرة من قبلها، فراح ينادي عليها بصوت مزعج لها تزامنا مع طرقاته غير المتوقفة: -"نيروز"، افتحي الباب، نيروز ماتجننيش وتخليني أكسره، اعقلي وافتحي بقى. سارت بخطوات حثيثة تقترب من الباب الفاصل تستمع لرجائه وكلمات اعتذاره التي لم يكل من تقديمها منذ ليلة أمس، رفعت إصبع اللحم المشوي، تتذوقه باستمتاع وهي تستمع لنبرته النادمة، فقالت تنهره على إزعاجه المستمر لها: بطل شغل عيال يا "آسر" إنت معاقب، مش هفتحلك ولا هتشوفني لحد ما مدة العقاب تخلص. شعر ببعض الأمل يدب بأوصاله عندما وصله صوتها الرقيق، فقال يستعطفها ويرقق قلبها: أهون عليكي يا نيرو تعملي في "آسر" حبيبك كده مش كفاية شامم ريحة الكفتة يا مفترية من الصبح وأنا جعان، كفاية أمبارح نمت من غير عشا. ابتسمت على نبرته الطفولية، ولكنها استمرت في عنادها وتقول ساخرة: عندك أندومي في مطبخك. اسند وجنته فوق الباب يحاول استخدام جميع الوسائل معها، فأردف بتألم: طيب افتحي، أنا واقف بقالي كتير ورجلي وجعتني أهون عليكي. توسطت خصرها تقارعه بغيظ اتصل ب"سوسكا" تدلكلك رجليك وتعملك مساج يفك جسمك يا قلبي. كتم ضحته بقوة حتى لا تصلها، لا يصدق أنها تغار عليه بهذا الشكل والأعجب أنها تمارس معه وظيفة الزوجة الأصيلة المفتشة لجيوبه وهاتفه حتى وقعت أسفل يدها رسالة من صديقه على سبيل المرح يحدثه عن تلك ال "سوسكا"، كما اعتاد أن يفعل لينقلب السحر على الساحر ويقف في ذلك المأزق، كالتلميذ المعاقب من معلمته، فأراد تخفيف الأمر بينهما: افتحي طيب "بودي" وحشني أوي مالعبتش معاه من إمبارح، طيب افتحي أشوفه وما تكلمنيش زي ما أنتي عاوزة. اغتاظت من حديثه كيف له يفضل رؤية طفلها عن رؤيتها، فضربت الأرض بقدمها تقول: يعني أنا مش مهمة بالنسبة لك؟، اتفلق أنا؟!. یا "نيروز"، إنتي عارفة إنتي بالنسبة لي إيه إنتي روحي اللي ضاعت مني وأخيرا رجعتلي، أنا خسرت حاجات كتير عشان أبقى معاكي وبس، حتى أمي قاطعتني عشان أتجوزت من وراها ترجعي تقولي إنك مش مهمة بالنسبة لي. تأثرت من حديثه وكادت أن تعلن راية الاستسلام أمام كلماته الآسرة لقلبها الصغير، ولكنها نهرت ضعفها وتلبست روحها العنيدة مرة أخرى وقالت بصوت بدى له مهزوزا: هفتحلك بكرة، عشان نروح نبارك لمرات صاحبك على المولود الجديد تصبح على خير. وقف هو ذاهلا من موقفها لا يصدق أنه سيبيت ليلته الثانية بدون عشاء.. حتى قال لها متوعدا وتلمع بعينيه نظرة المكر: بتهربي يا "نيروز"، ماشي ده أنا" آسر البغدادي" بردو. أعلنت دقات الساعة عن ۱۲ منتصف الليل، وسط السكون المحيط بالمكان في مثل هذا الوقت، سار ذلك المجهول المتلفح بالسواد، يتحسس طريقه بخطوات حثيثة تحت الإضاءة الخافتة التي يكاد يرى من خلالها طريقه وسط عتمته، يتلفت حوله بريبة من أمره حاملا بين كفيه سلاحه، حتى اقترب من مرماه ليدلف ببطء شديد داخل حجرة نومها مقتربا من فراشها بخطوات صامتة حتى لا تكتشف أمره، استقر جوار فراشها بوجهه الملثم بالسواد كملابسه يرمقها بنظرات يملؤها الخبث والمكر معا، يشاهدها تغوص بأحلامها بضمير مطمئن راض عن أفعالها، لتزداد عينيه شراسة عن ذي قبل، قام برفع كفه الحر يكمم فمها، انتفضت هي فزعا عند شعورها بتلك القبضة الحديدية فوق فمها ؟ حاولت الصراخ والتحرر من ذلك المكمم لفمها ، وقد ازدادت درجة الأدرينالين بجسدها رعبا، وقد بدأ عقلها ينسج أبشع السيناريوهات حتى ازدادت انتفاضا بعد أن مد كفه الآخر يضئ مصباحها الجانبي ليضربها الضوء فجأة ويمنعها من استيضاح الرؤية، زاد صراخها المكتوم عندما تبينت هيئة الرجل الملثم المتلفح بالسواد، تصرخ بصوت مكتوم باسم منقذها تلعن اللحظة التي طاوعت فيها عنادها ليبت بعيدا عنها، توقفت فجأة عن المقاومة تزامنا مع جحوظ مقلتيها بشكل مخيف عندما شاهدته يحمل مسدسا مائيا برتقالي اللون فهمست لحالها باندهاش مسدس مايه ووصلها بعدها صوت ضحكاته الرجولية تزامنا مع كشف وجهه، نفضت كفه عنها بعنف، تصرخ غير مصدقة: -إنت أتجننت إزاي تعمل فيا كده؟ وقف أمامها لا يستطيع كبح نوبة ضحكه على هيئتها المرتعبة، حتى انتفضت تستقيم في وقفتها فوق فراشها بغيظ منه: إنت بتضحك ؟، إنت كنت هتموتني من الرعب. أشار لها محذرا تستاهلي عشان تبقي تسيبي جوزك الغلبان نايم لوحده، افرضي بقى كان حرامي غيري كنتي عملتي إيه وقتها يا هانم؟. تجاهلت حديثه عمدا، فهو محق بكل كلمة يخبرها بها، ألم تتمن منذ دقيقة وجوده لينقذها من لصها المجهول، فأسرعت تهاجمه بأسئلتها: -ممكن أفهم دخلت إزاي ؟، وأنا قفلت كل الأبواب؟ وقف متخصرا يراقب انفعالاتها بحاجب مرفوع وابتسامة تزين ثغره تزيدها اشتعالا، حتى سألها بمكر واضح: متأكدة؟ لم تفهم مقصده في بادئ الأمر ولكن سرعان ما صدرت منها شهقة عالية عندما وصلها مقصده، لتسرع تنهره بغضب: شبابيك تاني؟، تاني يا "آسر" بتنط على الشبابيك زي الحرامية، مافيش فايدة. تاني وتالت لحد ما تتعلمي الأدب، وأنا جاي انهاردة أعلمك الأدب يا "نيروز" هانم. قفزت من فوق فراشها عندما باغتها بالانقضاض عليها، تراوغه كالفريسة الهاربة من صيادها، تحذره بإصبعها أعقل يا "آسر"، خلينا نتكلم بعقل. صرخت بقوة عندما ضرب وجهها بمسدسه المائي، ظلت تمسح وجهها بغضب لتكتشف تصبغ كفيها باللون الأحمر، لم يمهلها وقتا للتفكير ليباغتها مرة أخرى بضرب السائل بوجهها وملابسها، فرت صارخة من الحجرة وصولا لمطبخها تدور حول نفسها كالفأر المرتعب، لم تجد كعادتها إلا سلاحها المنزلي المتمثل في طاسة القلي المقدسة، وقفت تتحصن بها منه، لتقول له بلهجة مضحكة: تريدها حربا، إذن إنها الحرب يا ابن البغدادي. ظل يضربها بماء مسدسه الطفولي حتى تلطخ جسدها ووجها وشعرها باللون الأحمر فصرخت مستسلمة: كفاااية، أنا بقيت شبه الطماطم الحمرا. احتضنها بقوة يدفن أنفه بجانب عنقها باستمتاع كبير، يهمس لها بعذاب من حالته: وحشتيني أوي أوي أوي، ما قدرتش أنام بعيد عنك ليلة تانية. شددت من احتضانه لصدرها تستمتع بأنفاسه الساخنة فوق بشرتها، متعجبة من تلك الأحاسيس والمشاعر التي لم تتذوقها إلا على يديه هو فقط، فطلبت منه بدلال ظاهر: -بلاش تنط من الشباك تاني خايفة عليك لا تقع. لثم جانب عنقها بقبلة حارة يطلب منها بدوره وإنتي أوعي تبعديني عن حضنك تاني. هزت رأسها بطاعة لطلبه كالتلميذ المذنب طالبا السماح والعفو عن أخطائه الصغيرة، فسمعته يستفسر بفضول جعله تلك المرة كالطفل المنتظر جائزته: رسمتي، عامله إيه؟، موجودة ولا اتمسحت. طبعت هي قبلة فوق كتفه بحنان تمازحه قائلة بدلالها: يا خسارة، أتمسحت، شوفت بقى إهمالك. أبعدت وجهها تواجهه بنظرات ولهة، ليبادرها بقبلة مشتاقة يختلطان فيها ويمتزجان حتى تلاشت هي فيه وذاب فيها، ابتعد عنها يلتقط أنفاسه المتلاحقة اشتياقا، فسألته بحرص: عاوزني أعمل "تاتو" فوق كتفي ؟ أجابها بدون تفكير: وتضيعي عليا فرصة الرسم فوق كتفك وتخسريني إبداعي الخرافي، لا طبعا، مستحيل تقفي قدام مستقبلي الفني، "نيروز" هانم. لا تصدق ما هي عليه الآن بين أحضان سارقها ، لصها الصغير، الذي امتلك روحها وجميع جوارحها منذ اللحظات الأولى التي جمعتهما، امتلكها قبل أن يمتلك جسدها، وهو متقبل عيوبها قبل مميزاتها فانطلقت تهمس بكلماتها العذبة: عارف ؟، إنت ما سرقتش قلبي وبس يا "آسر"، إنت سرقت روحي وعيوني وقلبي حتى أنفاسي سرقتها، إنت كنت لص شاطر أوي، عارف قيمة إللي بتسرقه عشان تحافظ عليه بعدين، عارف إنت أحلى لص ممكن أقابله في حياتي كلها، بحبك يا لص قلبي يا لص البغدادية يا اللي هتجنني. أشرقت ابتسامته على لقبه الجديد الذي انطلق من بين شفتيها وسط اعترافها الثمين بعشقها له، ليخبرها بصوته الساحرة بثقته الرجولية مش أي لص يتحب، "لص البغدادية"، وبس. تم وبحمد الله