في إحدى القرى الريفية عام ١٩٧٥ استيقظت فتاة لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، وجدت نفسها مستلقية على الأرض في إحدى الشوارع المظلمة، وهذا الوقت لم تكن الكهرباء قد دخلت القرية. فتحت عيناها بفزع لتجد ظلام دامس تذكرت ذلك الشيء المخيف التي صدمت به فاسقطها مغشى عليها، لا تعلم ما هذا ولا تعلم سبب سقوطها. ما هذا الشيء أو الشخص الذي يفقدها الوعى بمجرد أن تصطدم به؟!، نظرت أمامها بخوف ومازالت مستلقية على الأرض وهي في صدمة تامة وجسدها يرتجف من البرد لترى بصيص نور يأتي من أمامها، وفي نهاية هذا النور يقف شخص غريب الهيئة لم ترى مثله في حياتها، شكله لا يوصف كل ما نستطيع قوله أنها لم ترى آدمياً مثله بالإضافة إلى هذا النور الذي يأتي منه، من أين هذا النور؟! ومن هذا الذي يقف أمامها؟!، ظلت مستلقية تكاد أن تمت خوفاً لسانها مربط بمعنى الكلمة، غير قادرة على التحكم بجسدها وكأن هناك أشياء تسرى بعروقها غير الدم، أغمضت عينيها وظلت تناجي ربها وتعاتب جدتها فهي من أجبرتها على القدوم لهذا الشارع فى مثل هذا الوقت لكي ترسل الطعام لشقيقة جدتها الكفيفة فتحت عينها مرة أخرى عندما شعرت بأنفاس تقترب منها، فنهضت فجأة وكأن جسدها أطلق له الصراح كي يهرول، فظلت تركض وتصرخ واعتقدت انها ركضت لمسافة طويلة وأوشكت على الاقتراب من منزل جدتها، وفي هذه اللحظة وهي تركض صارخة، لم تكن تتمنى من هذه الحياة سوى أن ترتمي بأحضان جدتها الدافئة الآمنة، فهي لم تستوعب ما تمر به، وكأنها بحلم، أو كأنها تستمع لحكاية من حكايات جدتها عما تدعى الجنيات وما شابه، قطع أفكارها وصراخها الهستيري يد تمسكها من الخلف، فألجمت لسانها وأسكتت صراخها فهي لم تكن يد بمعنى الكلمة، وكيف ليد أن تسرى بجسدها هذا الشعور!، وكيف ليد أن يصل تأثيرها للجسد من الداخل!، كانت تشعر وكأن تلك اليد انغرست بجسدها، فأصبحت بين اللحم والعظام، لا يوجد ألم ولكنها لا تشعر بجسدها ولا تشعر بروحها، وكأن أحد غيرها يتحكم بجسدها وحركاتها، ما هذا؟، وكيف أن يصر بها ذلك؟!، فالأمر في غاية البساطة، هي فقط كانت ذاهبة لترسل الطعام لشقيقة جدتها، يا ليتها لم تأتِ ولم تطهِ في هذه الليلة، لم يصر شيء لو لم تأتِ، فلن تمت شقيقة جدتها إذا لم تتناول طعامها في هذه الليلة، حسناً أيها القدر نعلم أن معك لا يوجد مفر. ظلت واقفة مغمضة العينان، ووصلت لأعلى درجات الخوف، ووصل جسدها لأعلى درجات الضعف، وكل ما تتمناه الآن أن يكن هذا حلماً، ولكن التمني درجة من درجات الاستحالة. استدارت ببطء، ويمكن القول بأنها أُديرت كالمغيبة، وشعرت أن أحداً يجذبها للوراء ويديرها إليه، فالتفتت لتجد نفس ذلك الشخص يقف في نفس المكان الذي كان مغشيٌ عليها به، ويده ممتدة بطول رهيب جعله يستطيع الإمساك بها وهو يقف مكانه دون حراك، ما هذا؟ وكيف له أن يمد يده بهذا الطول؟! وماذا يريد منها؟ وما هذا الضوء الممتد بامتداد يده؟!، كلها كانت أسئلة تدور بعقلها ولا تعلم لها اجابة، وكل ما كان يشغل فكرها، هل ستموت حتماً من كثرة الخوف أم ماذا، وكانت تتمنى أن يكن هذا حلم وتستيقظ على صوت جدتها وهي تأمرها بأن تذهب لتملأ لهم بعض المياه، ولكن أفاقت عليه وهو يرجعها لنفس النقطة التي كانت مغشيٌ عليها بها، ولكن بعدما قربها منه ورأته عيناها عن قرب، كان ذلك دافع قوي لكي يطلق لسانها العنان لتصرخ بكل ما بها من قوة، وبقدر ما تشعر به من خوف وما تراه عيناها من عجائب، صرخت وصرخت حتى شعرت بيده تتراخى عن جسدها، وكأن يده كانت تتحكم بها، وبعدما تراخت يده عنها شعرت وكأنه بانسحاب يده سُحبت قوتها وطاقتها، حاولت التحكم بجسدها ولكن هيهات، وكأنه ليس جسدها، وكأنها تحاول جر شيء ثقيل للغاية، ومع العديد من المحاولات والتي انتهت جميعها بالفشل سقطت مغشيٌ عليها للمرة الثانية، وفى نفس المكان الذى أغشى عليها به أول مرة، ولم تشعر بنفسها إلا وهي في أحضان جدتها وحرارتها في غاية الارتفاع والصداع يكاد أن يفتك برأسها وعيناها لا ترى سوى الموقف الذى مرت به وكأنه يتكرر أمامها كل ثانية وكانت مثل المغيبة لا تعي ما يدور حولها ولا تعلم من هذا الشخص وكيف نجت منه وكيف وصلت إلى منزل جدتها، ولكن لا يعنيها كيف، فكل ما يعنيها هو الوصول ذاته، فبعد ما صار وبعد ما شعرت به لا تريد إلا الشعور بالأمان، وكيف لها أن تشعر بهذا إلا وهي بين أحضان جدتها؟!، ظلت هكذا فاقدة الشعور بكل شيء، عقلها متوقف تماماً، فكل ما يدور به هو منظر جسدها وهو يخونها ويسقط أرضا للمرة الثانية بعد أن فقدت كل قواها، فكيف لا يخونها جسدها بعد ما رأته عيناها؟! وكيف لقلبها أن يظل على وتيرته؟! وكيف للسانها ألا يفقد قدرته على النطق بعد ما ألجمه ذلك الشيء مجهول النوع والهوية؟! ظلت آلاء مصاحبة للفراش لمدة يومان وحرارتها في غاية الارتفاع، وجدتها تكاد تجن عليها، فهي أنيسة وحدتها، ونور حياتها، فأمينة جدة آلاء من الأم، وهي من قامت بتربيتها منذ الطفولة وساعدها في ذلك زوجها الشيخ عبدالرحمن ولكنه توفي وآلاء في التاسعة من عمرها، كان رجل صالح يحفظ كتاب الله، هو من طلب من كمال والد آلاء أن يأخذها لتعيش معهم وتُوَنِّسْ وحدتهم، فوافق وكمال مباشرة فقط لأنها بنت، وأراد أن يرتاح من همها، وكان الشيح عبدالرحمن في غاية السعادة، فكان يحب آلاء بشدة وهو من سماها بهذا الاسم، فأثناء ولادتها كان ينتظر بالخارج قلقاً على ابنته وكان يشغل الراديو على القرآن وبالمصادفة سمع المقرأ يردد قوله-تعالى-: "فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ"، فقام بتسميتها آلاء، وهو من أدخلها المدرسة وعزم على تعليمها وكان أبوها يعارض ذلك بشدة، فأبوها رجعي بعض الشيء ويميز أبنائه الصبية عن البنات، وخصوصا آلاء فهي في هامش حياة والديها، وكأن حقاً كما يقولون: "ما هو بعيد عن العين بعيد عن القلب". في صباح يوم جديد استيقظت آلاء وأصبحت في حالة جيدة بعض الشيء. أمينة** صباح الخير يا حبيبتي عاملة ايه؟ آلاء** كويسة الحمدلله. أمينة** هروح أَمْلَى المية واجي احضرلك الفطار. آلاء وهي تسرع بالنهوض من الفراش** خليك انت هروح أنا. أمينة *** لا إنتي تعبانة. آلاء** أنا كويسة والله وعايزة اخرج. آمينة** طب مش هتقوليلي ايه اللي حصلك لما روحتي تودي الأكل لستك؟ آلاء بتهرب وتوتر وخوف** هقولك بس سيبيني دلوقت، مش قادرة اتكلم في الموضوع دا دلوقت. أمينة بحزن** براحتك، بس لازم تحكيلي لازم أعرف جرالك ايه انا مبنامش من القلق عليكِ. آلاء وهى تقبل جدتها وترسم ابتسامة مفتعلة على وجهها ** متقلقيش انا بقيت كويسة. آمينة**مستعجلة كدا ليه للدرجادي وحشك. آلاء**آلاء بلهفة قوى قوي فوق ما تتخيلي. ذهبت آلاء لتملأ المياه من محطة المياه العامة، فقريتهم كانت متطرفة بعض الشيء، وفي ذلك الوقت لم تكن المياه ولا الكهرباء قد دخلا هذه القرية، وكانت الفتيات يذهبن يومياً ليملأن المياه التي تكفي حاجتهم، وكانوا يتسامرون ويضحكون ويقضون وقتاً جميلاً. منى صديقة آلاء المقربة** بقالك يومين مبتجيش تملي ليه، سألت جدتك عليكِ قالتلي انك تعبانة. آلاء والدموع تترقرق في عينيها** معرفش حصلي ايه، معرفش! أنا بتعب اوي بالليل وحرارتي بتترفع وبخاف، أنا بقيت بخاف من الليل. منى وهي تترك الإناء الخاص بها وتحتضن صديقتها** ليه كل دا، حصل أيه؟ أنا سمعت إنك أغمي عليكِ في شارع ستك سعدية. آلاء *** مش عارفة حصلي ايه، انا شوفت حاجات غريبة اوي ومن وقتها وانا تعبانة وجسمي بيوجعني وبيحصلي حاجات غريبة اوي. منى بخوف** ليه يا بت حصل أيه إحكيلي متخوفنيش. قطع كلامهما قدوم حسن ابن عم آلاء وخطيبها وحبيبها وهي بالنسبة له معشوقته التي فاز بها وكسب قلبها بعد معاناة بدأت منذ الطفولة فهي صديقة طفولته ومحبوبته الأولى والأخيرة وأميرته الصغيرة الفاتنة رغم صغر سنها. وعندما لاحظت آلاء قدومه من بعيد شعرت بتصلب جسدها واضطراب أنفاسها وسرعة فائقة في ضربات قلبها، وكلما اقترب من الوصول إليهم كلما زاد تصلب جسدها وتوقف لسانها عن النطق. منى التي لاحظت تغير آلاء** مالك يا آلاء في أيه؟ وصل حسن إليهما وألقى السلام، فهو يأتي كل يوم في مثل هذا الوقت كي يرى محبوبته وهي تملأ المياه، لأن والدها يمنعه من مقابلتها في منزل جدتها إلا أثناء حضوره وعلى فترات متباعدة وكان يود زيارتها عندما علم أنها مريضة ولكن يخشى من سخط أبوها الذي لم يكلف خاطره ويذهب لزيارة ابنته. حسن بلهفة وحب** ازيك يا آلاء عاملة أيه، ألف سلامة عليكِ. ولكن لم يتلقى أي رد من قبل آلاء فوجهها يتصبب عرقا وعيناها مثبتة في مكان واحد وجسدها متصلب. اقترب منها حسن بقلق وبدأ يتفقدها** مالك يا آلاء إنت لسه تعبانة؟ ولكن بلا جدوى وبلا رد. منى ببكاء وخوف** آلاء مالك ردي عليا انت كنت كويسة؟! حسن بتساؤل* هي مالها يا منى.